موسوعة الفقه الاسلامی المقارن المجلد 1

اشارة

سرشناسه:مکارم شیرازی، ناصر، 1305 -

عنوان و نام پدیدآور:موسوعه الفقه الاسلامی المقارن / تحت اشراف مکارم الشیرازی.

مشخصات نشر:قم: دارالنشرالامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.؛ 21×29 س م.

شابک:دوره 978-964-533-150-2 : ؛ ج. 1: 978-964-533-164-1

یادداشت:عربی.

موضوع:فقه تطبیقی

رده بندی کنگره:BP169/7/م73م8 1390

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:3235439

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

الغایة من تألیف هذا الکتاب

الإتّساع المدهش للعلوم:

کانت العلوم البشریة فی البدایة محدودة جدّاً بحیث کانت تندرج جمیعها فی کتاب صغیر واحد. ولکن مع امتداد الزمن وتلاقح أفکار العلماء وانضمام التجارب البشریة إلیها، ثمّ انتقالها من جیل إلی جیل آخر، اتّسعت وتنوّعت هذه العلوم، واستمرّت بالاتّساع المطّرد یوماً بعد آخر.

إنّ الحاجات المتزایدة للمجتمع البشری، بسبب التقدّم الثقافی وازدیاد العلاقات وتنوّع الرغبات البشریة علی المستوی المادّی والمعنوی، وتکامل هذه الرغبات والمیول، کلّ ذلک أدّی إلی تشدید عملیة التسریع فی هذه الحرکة المتصاعدة، بحیث نشهد فی هذا العصر عالماً واسعاً ومتنوّعاً جدّاً من العلوم والمعارف البشریة، وقد تشکّلت مکتبات عامة فی جمیع نقاط العالم لحفظ هذه العلوم بحیث یحتاج الإنسان أحیاناً للإنتقال من قسم إلی آخر فی هذه المکتبات لاستخدام العجلات، بل إنّ مجرّد مطالعة فهرست لها یحتاج لسنوات عدیدة.

إنّ هذا الاتّساع والنموّ فی العلوم والمعارف البشریة شهد فی القرون الأخیرة تسارعاً مذهلًا بحیث أنّ جمیع العلوم والمعارف السابقة فی مقابل علوم هذا القرن تشغل حیّزاً صغیراً من هذا الحجم الهائل من العلوم والمعارف البشریة، إنّ هذا النموّ والاتّساع بدوره معلول لعوامل کثیرة، منها اتّساع الحاجات، وتقارب العلاقات بین الشعوب، التطوّر المذهل لصناعة الطباعة، وجود المختبرات الواسعة والمدارس والجامعات، المنافسة العلمیة بین العلماء، وأخیراً استخدام الاینترنیت والکامبیوتر فی میدان العلوم.

ص: 6

إنّ أول نتیجة من معطیات هذا النموّ والاتّساع للعلوم هو ظاهرة التخصّص واستقلال العلوم وانشعابها إلی فروع کثیرة جدّاً، وکلّ فرع منها یتفرّع بدوره إلی فروع کثیرة أخری.

ومن البدیهی أنّ کلّ شخص فی مثل هذه الظروف لا یتمکن أن یکون متخصّصاً ومن أصحاب النظر إلّافی بعض هذه الفروع العلمیة الخاصّة، وبالتالی فإنّ النتیجة الطبیعیة لهذه الظاهرة هی الحاجة المتقابلة بین العلماء والمفکّرین.

العلوم الإنسانیة والدینیة:

ربّما یتصوّر البعض أنّ ما ذکر یصدق فقط بالنسبة للعلوم التجریبیة، وأمّا بالنسبة للعلوم الإنسانیة وخاصّة العلوم الدینیة والإلهیّة فإنّها لم تشهد مثل هذا التحوّل والنموّ.

ولکنّ هذا التصوّر خطأ کبیر ومجانب للصواب، لأنّ قافلة العلوم والمعارف لا تتوقّف فی أیّ فرع من الفروع، فالعلوم الإنسانیة، وخاصّة العلوم الإلهیّة، وبالأخصّ العلوم الإسلامیة، شهدت تطوّراً سریعاً بموازاة العلوم الأخری، لأنّ العلماء فی منابع هذه العلوم «الکتاب والسنّة ودلیل العقل» أنّ مهما تحرّکوا علی مستوی التدبّر والتحقیق فیها، فإنّهم سیتوصّلون لحقائق جدیدة.

ألم یقل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی الحدیث المعروف عن القرآن الکریم: « (القرآن) بَحْرٌ لا تُحْصی عَجائِبُهُ ولا یَشْبَعُ مِنْهُ عُلَماؤه وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ المَتِینُ وهو الصِّراطُ المُسْتَقِیمٌ فیه مَصابِیحُ الهُدی وَمَنارُ الحِکْمَةِ»(1).

ألم یقل علیّ بن أبی طالب علیه السلام: «فِیهِ رَبیعُ القُلوبِ وَینابیعُ العِلْم، وَما لِلْقَلْبِ جَلاءٌ غَیْرُه»(2).

إنّ مفهوم «لا تُحصی عَجائِبُه» هو أنّنا کلّما تدبّرنا أکثر فی بحر القرآن المتلاطم، فسوف نحصل علی حقائق جدیدة، ومفهوم «فیه ینابیع العلم» هو أننا کلّما انتهلنا من منهل هذه العین الصافیة فإنّنا لا نرتوی من معین مائها.

الواقع أنّ کتاب اللَّه هو المصداق البارز للشجرة المبارکة التی «أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُها فِی السَّماء* تُؤتِی أُکُلَهَا کُلَّ حِینٍ بِإذْنِ رَبِّها»(3).

أجل، فإنّ الإنسان کلّما مدّ یده لأغصان هذه الشجرة المبارکة فإنّه سیقطف ثماراً جدیدة.


1- کنز العمال، ج 2، ص 288 و 289، ح 4027.
2- نهج البلاغة، الخطبة 176.
3- سورة إبراهیم، الآیة 24 و 25.

ص: 7

مضافاً إلی أنّ الخطابات القرآنیة عامّة، وتستوعب جمیع أفراد البشر علی امتداد الزمان والمکان ولابدّ أنّ تتمتّع بالقدرة علی الاستجابة لمتطلّبات کلّ عصر.

السنّة النبویة الشریفة بدورها مقتبسة من القرآن والوحی السماوی، وهی العلم المتّصل بالعلم الإلهی اللامحدود.

وکذلک بالنسبة لعلوم أئمّة الدین المعصومین علیهم السلام المتّصلة بمصباح علم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله المتوهّج فإنّ لها هذا الحکم أیضاً، حیث لا تتوقّف ولا تحدّد بمجال خاصّ.

ومن الواضح أنّ دلیل العقل لا یعرف التوقّف أیضاً، ومع الاتّصال بالعقول الأخری وتلاقح أفکار العلماء والمفکّرین عصراً بعد عصر وجیلًا بعد جیل فإنّ ذلک من شأنه خلق أمواج متلاطمة من المعارف تحتضن فی طیّاتها جواهر ثمینة من هذه العلوم. مضافاً إلی ذلک، الظمأ المتزاید الذی یشهده ویعیشه الإنسان المعاصر تجاه الثقافات الإلهیّة بسبب التوجّه المادّی للحضارة البشریة المعاصرة، بکلّ ما تفرزه من معطیات سلبیّة ونقاط ضعف، والتی تساهم بدورها فی تکریس هذه الظاهرة وتدعو المحقّقین فی العلوم الدینیة إلی التعمّق أکثر فی میدان المعارف الإلهیّة وإیقاظ روح الإبداع فی آفاق هذه العلوم.

الدور البنّاء للمسائل المستحدثة فی اتّساع دائرة الفقه الإسلامی:

نحن نعتقد من جهة بأنّ الإسلام لا یختصّ بعصر معیّن ولا بمکان محدود ولا بقوم دون قوم، بل یستوعب جمیع مساحات الزمان والمکان فی واقع المجتمعات البشریة. ومن جهة أخری فإنّ کلّ یوم یشهد موضوعات جدیدة فی حیاة الإنسان، حیث تتطلّب أحکاماً جدیدة ویجب علی الفقه الإسلامی أن یکون بمستوی التحدّی ویجیب عن هذه المسائل من موقع العمق الفکری والحضاری.

هذا الأمر یمثّل ظاهرة مبارکة تدعو فقهاء الإسلام کلّ یوم لمزید من البحث والتحقیق فی مجال التعمّق فی المبانی الفقهیة والأصولیة والقواعد الفقهیة وفروع الأحکام واستخراج مسائل جدیدة.

ومن هنا نشهد هذه الأیّام صدور کتب ومقالات کثیرة تتحدّث فی مجال المسائل المستحدثة فی ما یعکسه من عمق وأصالة ومعاصرة.

التخصّص فی أبواب الفقه:

إنّ اتساع مجالات الفقه الإسلامی یدعو- کما هو الحال فی سائر العلوم- إلی تکریس ظاهرة

ص: 8

التخصّص فی هذا العلم. وبالطبع فإنّ العلوم الإسلامیة الأخری مثل «علم الکلام» و «التفسیر» و «الحدیث» و «علم الرجال» و «الفلسفة الإسلامیة» قد برزت فیها ظاهرة التخصّص منذ سنوات، ونشهد حضور مئات المحقّقین فی هذه العلوم فی الحوزات العلمیة الموجودة فی العالم الإسلامی.

ومن جهة علم الفقه أیضاً نشهد بوادر التخصّص فی الأبواب المختلفة من هذا العلم.

وفی هذا العصر أیضاً نجد بعض الفقهاء متضلّعین فی بعض أقسام الفقه الإسلامی کالعبادات أو المعاملات أو القضاء والشهادات والحدود والدیات، ویتمتّعون بمعلومات ورؤی عمیقة، ویجری الحدیث أحیاناً عن مسألة التجزّؤ فی التقلید، وهذه الظاهرة بدورها تمثّل طلیعة مبارکة تدعو لتعمیق وتطویر علم الفقه فی واقع الحیاة الفکریة المعاصرة.

دور الموسوعات ودوائر المعارف:

إنّ انفصال العلوم وظاهرة التخصّص فی هذه العلوم تعتبر من اللوازم الحتمیة وغیر القابلة للاجتناب لمسألة اتّساع ونموّ العلوم والمعارف، ولکنّ هذا لا یعنی الاستقلال والانفصال التام بین العلوم البشریة. مثلًا بالنسبة لعلم الطبّ، فبالرغم من وجود مئات الفروع التخصّصیة لهذا العلم، ولکنّ هذا لا یعنی أنّ فرع طبّ العیون مثلًا مستقلّ ومنفصل تماماً عن طبّ الأعصاب والنفس والقلب والعروق والدم، فمن البدیهی أنّ القلب والعروق والأعصاب لیست منفصلة تماماً عن العین، ولا أنّ العلوم المتعلّقة بهذه الفروع یمکنها أن تکون مستقلّة تماماً عن بعضها. وهذا هو الذی دعا بعض العلماء لأن یتحرّکوا، ولمدّة سنوات مدیدة، فی عملیة تدوین الموسوعات ودوائر المعارف من أجل توفیر اطلاع إجمالی علی العلوم المختلفة للراغبین فی ذلک.

إنّ هذا الأمر یعدّ نوعاً من العودة للماضی العلمی البعید فی تاریخ المعرفة البشریة، أی مرحلة وحدةالعلوم، ولکن لیس بتلک المرتبة الساذجة، بل بمرتبة أعلی بکثیر. وبالنسبة لعلم الفقه وبشکل مقطعی فنحن نهدف لتدوین العدید من دوائر المعارف حیث تتضمّن معلومات موجزة ومضغوطة لجمیع أبواب الفقه، وتارة تکون بشکل المنهج الموضوعی، وأخری بشکل المنهج الترتیبی.

ضرورة الفقه المقارن:

إنّ الارتباط الوثیق بین الفرق والمذاهب الإسلامیة وعملیة نشر آراء ونظرات کلّ واحد من

ص: 9

هذه المذاهب من خلال الکتب والانترنیت وأمثال ذلک من جهة، والروابط التاریخیة فی فقه المذاهب من جهة أخری، یوجب علی أتباع کلّ مذهب من هذه المذاهب الإسلامیة مطالعة الفقه الخاص بمذهبه إلی جانب الانفتاح علی فقه المذاهب الأخری من موقع الحوار الفکری.

إنّ هذه المعرفة بالآراء الفقهیة تؤدّی من جهة إلی حلّ الکثیر من تعقیدات المسائل الفقهیة، لأنّ الفقه المقارن یساهم مساهمة جدّیة لإزالة الغموض والإبهام عن المسائل الفقهیة المختلفة والامتداد فی عمق هذه المسائل. ومن جهة أخری یؤدّی إلی تعمیق وتوثیق وشائج التقارب بین المذاهب الإسلامیة وعلماء هذه المذاهب فی واقع الحیاة.

ومن الجهة الثالثة، الوقوف أمام النعرات المذهبیة وتحکیم العقلانیة علی الفقه والفتاوی، مضافاً إلی تعبید أقرب الطرق للفقه من أجل الوصول إلی الواقع.

ومن هنا برزت الضرورة لتدوین (الفقه المقارن)، ولذلک فقد صنّف فقهاء الشیعة الکبار منذ زمنٍ بعید کتباً وتصانیف عدیدة فی مجال الفقه المقارن، ومنهم الشیخ الطوسی صاحب کتاب «الخلاف»، والمحقّق الحلّی صاحب کتاب «المعتبر» والعلّامة الحلّی صاحب کتاب «تذکرة الفقهاء»، وأمّا من علماء أهل السنّة فیمکن الإشارة لموسوعة عبدالناصر فی مصر، وهی للأسف ناقصة، وموسوعة الکویتی، والفقه الإسلامی للدکتور وهبة الزحیلی، ولکن مع الأسف فإنّ أکثر هذه الکتب لا تبحث فی فقه المذهب الإمامی.

ولکن من الواضح أنّ ضرورة تدوین الکتب الفقهیة الجدیدة فی دائرة الفقه المقارن، مع الالتفات إلی المسائل الجدیدة فی هذا العصر وخاصة علی شکل دائرة معارف، تمثّل ضرورة بارزة فی أجواء عصرنا الحاضر، بل من اللازم أن یقوم فقهاء المذاهب الإسلامیة بدراسة المسائل الفقهیة المشترکة من موقع المسؤولیة والانفتاح الفکری، ومن خلال إقامة جلسات مشترکة فیما بینهم لتجسیر العلاقة بین الشریعة والحیاة المعاصرة وبالرغم من أنّ هذا الأمر قد ترجم علی أرض الواقع حالیاً حیث نجد نموذجاً من ذلک فی جلسات مجمع الفقه الإسلامی فی جدّة، إلّاأنّه غیر کافٍ قطعاً.

تعریف الفقه المقارن:

«الفقه المقارن» کما یظهر من عنوانه علم یقوم بدراسة المذاهب الفقهیة المختلفة، ومع الالتفات

ص: 10

للروابط الموجودة بین المذاهب، ونظراً إلی هذه المقارنة تحلّ الکثیر من المسائل وتفتح فی وجه الإنسان آفاق واسعة من البحوث الفقهیة، والجدیر بالذکر أنّ الذی یقوم بدراسة المسائل الفقهیة من هذا المنظار یتمکّن من تقدیم أدقّ الآراء الفقهیة، ونحن بدورنا سلکنا هذا الطریق فی نقد الآراء الفقهیة(1).

قلّة الاهتمام بفقه أهل البیت علیهم السلام:

إنّ من عجائب التاریخ الإسلامی هو أنّه بالرغم من التوصیات المؤکّدة لنبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله فیمایخصّ اتّباع أهل بیته علیهم السلام کما هو الوارد فی حدیث الثقلین المتّفق علیه حیث قال: «إنّی تَارِکٌ فیکُمُ الثَّقَلَیْنِ کِتابَ اللَّهِ وعِتْرَتی، ما إنْ تَمَسَّکْتُم بِهِما لَنْ تَضِلّوا أبَداً»(2) وبالرغم من قوله: «وإنّهُما لَنْ یَفْتَرِقا حتّی یَرِدا علیَّ الحَوْضَ»(3) وأنّ النبیَّ قال صراحةً أیضاً: «عَلِیٌّ مَعَ الْحَقّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلَیّ یَدُورُ مَعهُ حَیثُما دارَ»(4) علی الرغم من کلّ ذلک نری أنّ أهل البیت علیهم السلام قد عاشوا بعد رحیل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وخاصّة فی عصر بنی أمیة، المظلومیة والإقصاء بشکل غیر قابل للتصوّر! هذه المظلومیة قد وصلت إلی حدٍّ أنّ أکبر شخصیة من أهل البیت علیهم السلام أی الإمام علیّ علیه السلام الذی یمثّل جبل العلم والأسوة الحسنة للتقوی، وأکبر مدافع عن الإسلام؛ یواجه السبّ والإهانة وهتک الحرمة بدرجة غریبة جدّاً، ویعیش أصحابه وأتباعه مختلف أشکال الضغوط والأذی ممّا لا سابق له فی التاریخ!!

لقد مرّت سبعون عاماً فی التاریخ الإسلامی والإمام علیّ علیه السلام یسبّ علی المنابر وخاصة فی صلاة الجمعة(5)، وقد کتب معاویة فی کتبه إلی عمّاله: «أن برئت الذمّة ممّن روی شیئاً فی فضل أبی تراب وأهل بیته» وبعد إعلانه هذا أخذ الخطباء یسبّون الإمام علیه السلام ویتبرّؤون منه بصورة علنیة علی منابرهم فی جمیع البلاد الإسلامیة(6).


1- لمزید من الاطلاع انظر:« مکانة الفقه الإسلامی فی میدان الامم وتعامل المذاهب فیما بینها» من هذا الجزء.
2- عیون أخبار الرضا، ج 2، ص 34؛ إرشاد المفید، ج 1، ص 233؛ مستدرک الحاکم، ج 3، ص 148؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 163.
3- تحف العقول، ص 459؛ بحارالأنوار، ج 22، ص 104 ومابعدها؛ مستدرک الحاکم، ج 3، ص 148؛ مجمع الزوائد، ج 9، ص 163.
4- من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 498؛ الاحتجاج للطبرسی، ج 1، ص 97؛ بحار الأنوار، ج 29، ص 343؛ مجمع الزوائد، ج 7، ص 235؛ شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 2، ص 297.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 11، ص 44.
6- النصائح الکافیة، ص 72.

ص: 11

ونقرأ فی «سیر أعلام النبلاء»: بنو أمیة إذا سمعوا بمولود إسمه علیّ قتلوه (1).

وینقل الزمخشری والسیوطی أنّه فی أیّام بنی أُمیّة کان الإمام علیّ علیه السلام یسبّ علی أکثر من سبعین ألف منبر، وهذه السُنّة قد ترکها معاویة فی طیّات التاریخ الإسلامی (2).

وممّا یدعو للأسف أکثر أنّه عندما أمر عمر بن عبدالعزیز بترک هذه البدعة القبیحة، صاح بعض أهل المسجد: «ترکت السنّة، ترکت السنّة!»(3).

کلّ هذه کانت بالرغم من أنّ رواة الأخبار نقلوا للناس حدیثاً عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«مَنْ سَبَّ عَلِیّاً فَقَدْ سَبَّنِی وَمَنْ سَبَّنِی فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ»(4).

وأمّا فی عصر بنی العباس فإنّ حالة أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام لم تکن بأفضل من حالتهم فی زمان بنی أمیة، بل إنّ البعض یعتقد بأنّها کانت أسوأ، وبالرغم من أنّ بنی العباس جاؤوا إلی سدّة الحکم بشعار الحکومة العلویة «الرضا لآل محمّد» ولکنّهم لم یکونوا مستعدّین لتفویض السلطة للعلویین.

ومن المعلوم فی مثل هذه الظروف أنّ الإمام علیّاً علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام لا یعیشون تحت أشدّ الضغوط والتحدّیات فحسب، بل إنّ فقه أهل البیت علیهم السلام قد واجه أشکالًا عجیبة من الإقصاء والتهمیش، بحیث أنّ شخصاً کالبخاری، الذی یعدّ من أشهر المحدّثین لأهل السنّة، ینقل فی صحیحه أحادیث کثیرة عن رواة ضعفاء ترتسم علیهم علامات الاستفهام، ولکنّه لا ینقل ولا حدیثاً واحداً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام الذی اشتهر بالصدق والاستقامة بین جمیع المسلمین.

ویعتبر ابن حجر العسقلانی فی کتابه «فتح الباری فی شرح أحادیث البخاری» أنّ 80 نفراً من الرواة الذین ینقل عنهم البخاری هم رواة ضعفاء رغم أنّ ابن حجر قد سعی لتوثیقهم (5).

أمّا فی عصر خلفاء بنی أمیة وبنی العباس فقلّما کان یتجرّأ أحد علی الحدیث عن فقه أهل البیت علیهم السلام.

والیوم حیث ذابت ثلوج المواقع السلبیة والرؤیة المجحفة بحقّ أهل البیت علیهم السلام فمع ذلک عندما نراجع المکتبات فی الحوزات العلمیة الشیعیة نجدها زاخرة بکتب أهل السنّة والفرق والمذاهب


1- سیر أعلام النبلاء، ج 5، ص 102.
2- ربیع الأبرار لزمخشری، ج 2، ص 186( طبقاً لنقل الغدیر، ج 10، 266).
3- النصائح الکافیة لمحمّد بن عقیل، ص 116؛ العتب الجمیل، ص 74 وکتب أخری.
4- أورد الحاکم النیسابوری هذا الحدیث فی مستدرک الصحیحین، ج 3، ص 12، واعتبره حدیثاً صحیحاً.
5- مقدمة فتح الباری، ص 1. واعتبر« الهرساوی» صاحب کتاب الإمام البخاری أکثر دفاعیات ابن حجر وأدلته لا أساس لها( الإمام البخاری، ص 513).

ص: 12

الإسلامیة الأخری، فی حین أننا لا نجد فی الکثیر من مکتبات إخواننا أهل السنّة ولا کتاباً فقهیاً أوتاریخیاً أو تفسیریاً للشیعة، مع أنّ علماء الشیعة قد صنّفوا فی جمیع هذه المجالات کتباً وتصانیف معتبرة ومهمّة. أجل، لنعرض عن هذا صفحاً لئلّا نبتعد عن غرضنا الأصلی.

علی أیّة حال فنحن نری- بحمد اللَّه- فی هذا العصر ازدیاد ظاهرة التفاهم والتقارب بین المذاهب الإسلامیة بالنسبة للسابق، وأحد الشواهد علی ذلک، حضور فقهاء الشیعة وأهل السنّة فی الجلسات الفقهیة فی العالم الإسلامی کما هو الحال فی «مجمع الفقه الإسلامی» ولهذا السبب فکّرنا فی العمل علی إنشاء دائرة معارف فقهیة واسعة تبحث فی الفقه المقارن ومع الأخذ بنظر الاعتبار المسائل المستحدثة فی هذا العصر بحیث تضمّ آراء جمیع فقهاء الإسلام وأدلّتهم لیتمکّن المحقّقون من الطرفین من الاطّلاع والإفتاء بما یرونه صحیحاً بعیداً عن حسّاسیّة المسائل الکلامیة والعقائدیة. ونأمل أن یحالفنا التوفیق الإلهی لإنجاز هذا المشروع المهم وإیصاله إلی نهایته حیث نعلم یقیناً أنّه سوف یقدّم خدمة کبیرة فی مجال تطویر علم الفقه ویساهم مساهمة فعّالة فی عملیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة فی واقع المجتمع الإسلامی.

مقدّمات الموضوع:

بعد أن عقدنا العزم علی إنجاز هذا المشروع، تمّ تقدیم الدعوة لجماعة من المحقّقین والفضلاء فی الحوزة العلمیة للمشارکة فی هذا الأمر المهم وهو (تألیف دائرة المعارف الفقهیة علی أساس الفقه المقارن) لیتمّ إنجاز هذا المشروع بشکل جماعی. ثمّ قرّرنا طرح سلسلة من البحوث الضروریة قبل الدخول فی البحوث الفقهیة وبعنوان «مقدمات الموضوع» فی الجزء الأول الذی یعتبر المدخل لبحوث الفقه المقارن.

إنّ مجموعة هذه البحوث، التی ینبغی عدّها مقدّمات ضروریة للبحوث الفقهیة، تمثّل بحدّ ذاتها کتاباً مستقلًا ونعتقد بأنّ کلّ فقیه لا یستغنی عن هذه البحوث ولاسیّما فی مجال دراسة الفقه المقارن، وأدرجناها تحت عشرین عنواناً فی هذا الکتاب الذی بین یدیک أیّها القاری ء الکریم:

1. تعریف الفقه فی اللغة واصطلاح الفقهاء.

2. أهمیّة الفقه فی دائرة الآیات والروایات الإسلامیة.

3. مساحة دائرة الفقه الإسلامی وشمول أحکامه لجمیع أبعاد ومجالات الحیاة الفردیة والاجتماعیة.

4. أفضلیة الفقه الإسلامی علی «القوانین الوضعیة والعرفیة».

ص: 13

5. مکانة الفقه الإسلامی فی المیادین العالمیة وتعامل المذاهب الفقهیة فیما بینها.

6. المراحل التأریخیّة للفقه الإسلامی (فقه الشیعة، وفقه أهل السنّة).

7. مصادر الاستنباط فی نظر فقهاء الإسلام (ونظر کل واحد من المذهبین بشکل مستقل).

8. عدم وجود فراغ قانونی فی الفقه الإسلامی.

9. انفتاح وانسداد باب الاجتهاد فی کل عصر وزمان وآراء علماء الإسلام فی هذا المجال.

10. دور الزمان والمکان فی استنباط الأحکام وتأثیرهما علی الآراء الفقهیة.

11. العلوم التی تعتبر مقدّمة لعملیة الاستنباط الفقهی، وهی تشکل بمجموعها أربعة عشر علماً.

12. عوامل اختلاف آراء الفقهاء، وهو الأمر الذی یقع مورد استفهام الکثیر من الباحثین.

13. فلسفة الأحکام ومجالات هذه الفلسفة فی فهم الأحکام ودائرة شمول الحکم.

14. الاصطلاحات المتداولة بین الفقهاء.

15. نسق البحوث الفقهیة وکیفیة تقسیم أبواب الفقه.

16. الأصول الحاکمة علی المسائل المستحدثة، وهی الاصول والقواعد التی یتمّ من خلالها استنباط الحکم فی هذه المسائل.

17. أدلّة جواز التقلید لغیر المجتهد ودفع الشبهات فی هذا المجال.

18. العلاقة بین الفقه والحکومة، وکیفیة تشکیل الحکومة الإسلامیة فی رؤیة فقهیة.

19. الأحکام الإمضائیة والتأسیسیة والفرق بینهما.

20. منابع التشریع فی الدیانة الیهودیة.

21. منابع التشریع فی الدیانة المسیحیة.

22. مصادر التشریع فی الحقوق العرفیة المعاصرة.

وتکمن أهمیة الأقسام الثلاثة الأخیرة عندما نجری مقارنة منصفة وحیادیة حیث تبرز بجلاء ظاهرة ثراء وعمق وسعة الفقه الإسلامی بالنسبة لمصادر التشریع فی الأدیان والمدارس الأخری.

خصوصیات هذه الموسوعة:

إنّ هذه الموسوعة أو دائرة المعارف، تتمتّع بالخصوصیات والسمات التالیة:

1. إنّها تقوم علی أساس الفقه الترتیبی (لا منهج الف باء) وتبدأ من بحوث الاقتصاد الإسلامی الذی یتمیز فی الظروف الراهنة بأهمیة کبیرة.

ص: 14

2. هناک فهرسة مرتبة علی منهج ألف باء فی نهایة کلّ جزء یتّصل بموضوعات ذلک الجزء، وفی ختام جمیع هذه الأجزاء یوجد فهرست مرتّب حسب ألف باء لجمیع دائرة المعارف هذه إن شاء اللَّه، وبذلک سیضمن فاعلیة دائرة المعارف المرتّبة حسب ألف باء أیضاً.

3. إنّ المنهج المتّبع فی اختیار الفتوی هنا هو منهج الفقه المقارن ومذهب المشهور من أتباع أهل البیت علیهم السلام وأهل السنّة، وأحیاناً یمکن اختیار فتاوی وآراء لمذاهب إسلامیة أخری.

4. ومن خصوصیات هذا المشروع هو الاهتمام الخاص بالمسائل المستحدثة.

5. طرح القواعد الأصولیة والفقهیة والرجالیة بالتناسب مع المسائل المختلفة.

6. الاهتمام بذکر الفروع المبتلی بها وحذف الفروع النادرة أو غیر المبتلی بها.

7. الإجابة عن الشبهات الواردة علی الأحکام الإسلامیة فی الموارد المختلفة (من قبیل البحوث المتعلّقة بالارتداد والحدود والدیات، أو حقوق المرأة، الجهاد، الرقّ، اللوث والقسامة، والعاقلة وأنواع الحریات و ...».

8. استعراض فلسفة الأحکام (بالاستیحاء من الآیات والروایات الإسلامیة طبعاً) وبهدف الاهتمام أکثر بواقع هذه الأحکام.

9. الاهتمام التام بآیات الأحکام فی جمیع المواضیع والبحوث.

10. الإشارة للقوانین والمقررات الوضعیة والعلمانیة فی المسائل المختلفة وبیان نقاط الضعف فیها.

11. استخدام اسلوب الإیجاز غیر المخلّ وحذف الإضافات.

والجدیر بالذکر أنّه بالرغم من أنّ تدوین دوائر المعارف یستلزم بعض الضوابط والأمور التی لابدّ من مراعاتها لضمان الحدّ المطلوب من الدقّة والفائدة، ولکن دائرة المعارف هذه لم تقنع بذکر الآراء والأقوال لعلماء الإسلام، بل علاوة علی ذلک تضمّنت نقد وتحقیق هذه الأقوال واختیار الرأی الأرجح منها.

نأمل إکمال هذه المجموعة بعون اللَّه ولطفه علی أیدینا، وإن لم یمتدّ بنا العمر فبواسطة المحقّقین اللاحقین لتکون مصباحاً زاهراً للمحافل العلمیة وذخیرتنا لیوم المعاد إن شاء اللَّه.

قم- الحوزة العلمیة

ناصر مکارم الشیرازی

ربیع الأول 1427 ه- 2006 م

ص: 15

1

القسم الأوّل: الفقه فی اللّغة و الإصطلاح

اشارة

الفقه فی اللغة

مفردة الفقه فی الثقافة القرآنیة

مفردة الفقه فی لسان الروایات

الفقه فی اصطلاح الفقهاء والاصولیّین

الاجتهاد فی مقابل النصّ

المصطلحات المتعلّقة بالموضوع

هل أنّ تشخیص الموضوعات بعهدة الفقیه؟

ص: 16

ص: 17

الفقه فی اللّغة و الإصطلاح

الفقه فی اللغة:

یبدو فی الوهلة الأولی ولدی الرجوع لکلمات وعبارات الکثیر من أهل اللغة أنّ «الفقه» یراد به مطلق الفهم، وهذا المعنی یستفاد من عبارات نظیر ما قیل من:

«الفقه: الفهم. قال أعرابیّ لعیسی بن عمر: شهدتُ علیک بالفقه ...»(1).

«الفقه، بالکسر: العلم بالشی ء والفهم له والفطنة له»(2).

«الفقه: فهم الشی ء»(3).

ولکن بالتدبّر والنظر من جدید إلی المعنی المراد وخاصّة فی عبارات اللغویین فی مقام تعیین التفاوت الدقیق بین المفردات المتشابهة والفروق اللغویة، نصل إلی هذه النتیجة وهی أنّ «الفقه» فی اللغة لا یعنی مطلق الفهم، بل هو الفهم الدقیق والفحص عن التفاصیل، وإذا توخّینا الدقّة فی الکلام فینبغی أن نستخدم مصطلح «الإدراک الدقیق» بدل «الفهم الدقیق» ونقول: إنّ الرجوع لفروق اللغة یقودنا إلی هذه النتیجة وهی أنّ الفقه فی اللغة، لیس هو مطلق العلم بالشی ء وإدراکه، بل هو الإدراک الدقیق والتفصیلی للشی ء، لأنّه:

أوّلًا: رغم أنّ العبارات المذکورة لمعنی الفقه تقرر أنّه «مطلق الفهم»، لکن بمراجعة بعض کتب اللغة نصل إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ مفردة «فهم» لا تساوق مطلق العلم والإدراک بل عبارة عن الإدراک الخفی والدقیق (4) واقترانه مع الاستنتاج والتعقّل: «إدراک أمرٍ عن تعقّلٍ وهو الاستنتاج العلمی»(5) کما أنّ کلمة «تفهیم» فی مثل قوله تعالی: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَیْمَانَ ...»(6) تتضمّن فی مطاویها أکثر من مطلق مفهوم التعلیم، وعندما نقول: «فهّمته» فالمراد أنّنی أوصلته لعمق باطن المطلب، وعندما نری أنّ «ابن فارس» فی «مقاییس اللغة» یفسّر الفقه بأنّه مطلق العلم:

«وکلّ علمٍ لشی ء فهو فقه»(7)

فهو من أجل أنّ الهدف من هذه العبارة هو بیان هذه النقطة فحسب، وهی أنّ مفردة «فقه» کانت فی البدایة عامة وتشمل کلّ علم، ولکن بعد ذلک اختصّت بعلم الشریعة:

«کلّ علم


1- صحاح اللغة، مادّة« فقه».
2- قاموس اللغة، مادّة« فقه».
3- المصباح المنیر، مادّة« فقه».
4- فروق اللّغات، ص 176.
5- التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مادّة« فهم».
6- سورة الأنبیاء، الآیة 79.
7- مقاییس اللغة، مادّة« فقه».

ص: 18

لشی ءٍ فهو فقه، ثمّ اختصّ ذلک بعلم الشریعة»

لا أنّه فی مقام بیان المعنی الدقیق للفقه واختلاف هذه الکلمة مع العلم. والشاهد علی هذا المدّعی ما ورد فی الجملة الثالثة من کلامه حیث یقول:

«و أفهمتک الشی ء: بیّنته لک»

یعنی أنّه أراد بکلمة «إفهام» معنی «التبیین» ومن الواضح أنّ تبیین مسألة معیّنة أکثر مضموناً من مطلق التعلیم لهذه المسألة.

ثانیاً: صرّح بعض اللغویین فی تفسیرهم لمفردة «فقه» بأنّه لیس مطلق العلم والإدراک، بل إدراک مقترن بنوع من الاستنتاج، والتعمّق، والتأمّل والتدبّر فی الکلام:

ألف) یقول الراغب الاصفهانی (م 425): «إنّ الفقه هو التوصّل إلی علم غائب بعلم شاهد»(1).

ب) وکتب أبوهلال العسکری (م 395): «إنّ الفقه هو العلم بمقتضی الکلام علی تأمّله وتقول «

تفقّهْ ما أقوله

» أی تأمّله لتعرفه»(2).

ج) ویقول ابن الأثیر (م 606) فی «النهایة»: «والفقه فی الأصل: الفهم، واشتقاقه من الشقِّ والفتح»(3).

د) ویقول الهروی (م 401): «الفقه حقیقته الشقّ والفتح، والفقیه الذی یشتقّ الکلام»(4).

ویبدو علی أساس هذه العبارات أنّ أبا إسحاق المروزی (م 340) یری فی تعریف الفقه أنّه

«فهم الشی ء الدقیق»(5)

ومن خلال ما تقدّم من توضیح العلاقة بین المعنی اللغوی «فهم» یتّضح أنّ إشکال «الزرکشی» (م 794) الذی قال:

«إنّ مختار المروزی مع کلام أرباب اللغة وهو أنّ الفقه یعنی مطلق الفهم، مردود»،(6) غیر وارد.

وأیضاً علی هذا الأساس صرّح بعض المحقّقین اللغویین المعاصرین:

«إنّ الأصل فی المادّة (فقه) هو فهم علی دقّةٍ وتأمّل»(7).

وبالرغم من أنّ الأنسب فی هذه الموارد هو استخدام مفردة إدراک أو علم بدل مفردة فهم لأنّه کما تقدّم فإنّ مادة «فهم» تستبطن فی ذاتها نوعاً من الدقّة والتأمّل، وهذه النقطة هی ما أشار إلیها أو صرّح بها هذا المحقق فی مادة «فهم»(8).

مفردة الفقه فی الثقافة القرآنیة:

من خلال ملاحظة مجموع الآیات التی وردت فیها مفردة الفقه ومشتقّاتها نحصل علی عدّة أمور:

أ) إنّ الفقه فی الثقافة القرآنیة جاء بنفس المعنی اللغوی، أی بمعنی البصیرة والدقّة والإدراک الدقیق رغم أنّ البعض (9) تصوّر أنّ کلمة الفقه فی بعض الآیات القرآنیة من قبیل: «قَالُوا یَا شُعَیْبُ مَا نَفْقَهُ کَثِیراً مِّمَّا تَقُولُ»(10) جاءت بمعنی مطلق العلم، فی حین أنّه فی مثل هذه الموارد جاءت کلمة الفقه أیضاً بمعنی الفهم الدقیق، لأنّ هؤلاء القوم لم یکونوا بحیث لم یفهموا کلام شعیب، بل إنّهم بالرغم من فهمهم لظاهر کلامه فی مسائل المبدأ والمعاد والقیم الأخلاقیة وغیرها، إلّاأنّهم بسبب سیطرة الشهوات والنوازع النفسانیة لم یتمکّنوا


1- مفردات الراغب، مادّة« فقه».
2- الفروق اللغویة، الفرق بین العلم و الفقه، ص 412.
3- النهایة، مادّة« فقه».
4- الغریبین،( المخطوط) ج 2، ص 126( نقلًا عن موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، ج 1، ص 18).
5- المنثور فی القواعد، ج 1، ص 1.
6- المصدر السابق.
7- التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مادّة« فقه».
8- المصدر السابق، مادّة« فهم».
9- کان هذاالنقض من قِبل الزرکشی فی المنثور فی القواعد، ج 1، ص 2.
10- سورة هود، الآیة 91.

ص: 19

من فهم حقیقة کلماته، ولم یصدّقوا بتعالیمه فکانوا یقولون له: «مَا نَفْقَهُ کَثِیراً مِّمَّا تَقُولُ».

وکذلک ما ورد فی الآیة: «وَإِنْ مِّنْ شَیْ ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَکِنْ لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ»(1) فإنّه لیس المراد من ذلک أنّنا لانفهم شیئاً من خضوع و خشوع جمیع الموجودات فی مقابل اللَّه تعالی أو من تنزیه وتسبیح المخلوقات بالمقدار اللسانی علی الأقل، ولکنّ ما هو غیر معلوم وغیر مفهوم بالنسبة لنا، حقیقة وکنه تسبیح الموجودات الذی یعود بدوره إلی عدم الفقه وعدم الفهم الدقیق.

ومن هذا القبیل ما ورد فی الآیة الکریمة فی شأن الکفّار: «فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَایَکَادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثاً»(2) حیث یری «الزرکشی» أنّ هذه الآیة تنقض المدّعی المذکور(3)؛ ولکنه غیر صحیح یقیناً لأنّهم لم یکونوا بمستوی لا یفهمون معنی أیّ کلام وحدیث.

إنّ ما تقدّم من معنی أدقّ فی دائرة المفاهیم القرآنیة یتطابق مع سیاق العدید من الآیات الکریمة من قبیل:

«... لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ ...»(4) و «انظُرْ کَیْفَ نُصَرِّفُ الْآیَاتِ لَعَلَّهُمْ یَفْقَهُونَ»(5) و «طُبِعَ عَلَی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا یَفْقَهُونَ»(6) و «رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی ... یَفْقَهُوا قَوْلِی»(7) وغیرها، ولا سیّما عندما نقارن بین الآیتین 97 و 98 من سورة الأنعام فإنّ فی الآیة 97 التی تتحدّث عن النجوم والأوضاع السماویة، لا تتطلّب مؤونة کثیرة وعنایة لفهمها کما یقول العلّامة الطباطبائی فی «المیزان»(8) ولذلک ورد التعبیر ب «قَدْ فَصَّلْنَا الْآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ» وفی قوله تعالی: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِی ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ» أمّا فی الآیة 98 التی تتحدّث عن النفس الإنسانیة وتدعو للتعمّق فی فهم أسرارها فی قوله تعالی: «وَهُوَ الَّذِی أَنشَأَکُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ...» فمضافاً إلی البحوث النظریة، فإنّها تحتاج لمراقبة باطنیة وتعمّق شدید وتثبّت بلیغ، ولذلک ورد التعبیر ب «قَدْ فَصَّلْنَا الْآیَاتِ لِقَوْمٍ یَفْقَهُونَ» فی قوله تعالی: «وَهُوَ الَّذِی أَنشَأَکُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآیَاتِ لِقَوْمٍ یَفْقَهُونَ».

ب) إنّ دائرة استعمال هذه المفردة فی الآیات، لا یختصّ بالأحکام الفرعیة، بل إنّ الفقیه القرآنیّ هو الذی یملک بصیرة لازمة وفهماً دقیقاً لمجموع قضایا الدین، سواء فی المسائل العقائدیة أو القضایا الأخلاقیة أو المسائل الفرعیة والعملیة.

ویمکن استیحاء هذه الحقیقة من قوله تعالی فی الآیة 122 من سورة التوبة: «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ»؛ حیث یتجلّی هذا المعنی بوضوح، لأنّه أوّلًا: إنّ «الدین» الذی تعلّق به التفقّه فی الآیة الکریمة، عبارة عن مجموع المسائل والقضایا الإسلامیة: «إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...»(9).

ثانیاً: إنّ صریح أو ظاهر الآیة هو أنّ التفقّه فی الدین یعدّ علّة لإنذار القوم، وبالتالی قبولهم للدین، وقطعاً فإنّ هذه الغایة المهمّة لاتتحقّق بمجرّد التعرّف علی مسائل الحلال والحرام بدون معرفة المبدأ والمعاد والمسائل الأخلاقیة.


1- سورة الإسراء، الآیة 44.
2- سورة النساء، الآیة 78.
3- المنثور فی القواعد، ج 1، ص 2.
4- سورة التوبة، الآیة 122.
5- سورة الأنعام، الآیة 65.
6- سورة التوبة، الآیة 87.
7- سورة طه، الآیة 28.
8- تفسیر المیزان، ج 7، ص 290.
9- سورة آل عمران، الآیة 19.

ص: 20

وفی موارد أخری من استعمالات القرآن لهذه المفردة (19 مورداً آخر تقریباً) فإنّ شمول مفردة الفقه لغیر المسائل الفرعیة یتجلّی بشکل أوضح؛ لأنّه فی جمیع تلک الموارد وبدون استثناء نری أنّ هذه المفردة استعملت فی المسائل الاعتقادیة والأخلاقیة، نظیر الآیة 13 من سورة الحشر حیث تقرّر الآیة أنّ قلّة الرهبة من اللَّه فی مقابل الرهبة والرعب من الخلق إنّما هو لقلّة الفقه: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِی صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّایَفْقَهُونَ».

ومن الجدیر بالذکر أنّ هذه المحدودیة «محدودیة مفردة الفقه فی المسائل الدینیة» لیست محدودیة فی دائرة المفهوم، وبعبارة أخری: إنّ هذه المفردة لا تتحدّد بمورد خاصّ فی الآیات الکریمة بالنسبة لمعناها اللغوی، وعندما نری بعض التحدید فی المراد من قبیل «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ» حیث یفهم من هذه المفردة اختصاصها بالمسائل الدینیة؛ فذلک ببرکة وجود کلمة «الدین» بعد جملة «لیتفقّهوا» أو لقرائن أخری. وببیان ثالث: إذا کان الفقه فی اللغة بمعنی البصیرة والإدراک الدقیق سواءً اتّصل بالمسائل الدینیة أم لا، فإنّ هذه المفردة وردت فی القرآن أیضاً بهذا المعنی بدون أیّ تغییر، رغم أنّ موارد استعمالها وردت کثیراً فی القرآن الکریم وما یتّصل بالمسائل الدینیة.

مفردة الفقه فی لسان الروایات:

ومن خلال التأمّل فی مجموع الروایات التی وردت فیها مفردة «الفقه» نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام استخدموا هذه المفردة- بالاقتباس من الآیات الکریمة وبالاستیحاء من استعمالات القرآن- سواءً ما ورد فی قسم «ألف» من مفهوم هذه المفردة، أم ما ورد فی قسم «باء» من حدود هذه الکلمة، بمعنی البصیرة والفهم الدقیق من جهة، وکذلک استخدمت فی مجموعة الدین لا فی خصوص الأحکام الفرعیة من جهة أخری، وأنّ الفقیه هو الذی یتمتّع بفهم دقیق وبصیرة نافذة لمجموع المسائل والمفاهیم الدینیة سواء فی مجال العقائد أو الأخلاق أو الأحکام، وکما یعبّر عنه فی الاصطلاح أنّه عالم بالإسلام من جمیع الجهات.

إنّ هذه النقطة تتجلّی أکثر بملاحظة روایات الفریقین التی تذکر بعض الخصائص لعنوان «الفقیه» وتعدّها من علائم وآثار الفقه، فإنّ الخصائص والعلائم المذکورة لا تترتّب قطعاً علی معرفة أحکام الحلال والحرام وتفریعات الطلاق واللعان والبیع والإجارة بدون استیعاب المعارف والمعاییر الأخلاقیة من قبیل:

أ) جعل الناس والمخاطبین فی حال من الخوف والرجاء وعدم السماح للیأس من رحمة اللَّه ولا للأمن من مکر اللَّه أن یجدا طریقهما إلی قلوبهم:

«الفَقِیهُ کُلُّ الفَقِیهِ مَنْ لَمْ یُقَنِّطِ النّاسَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ یُؤْیِسْهُم مِن رَوْح اللَّهِ عزَّوجَلّ ولم یُؤْمِنْهُم مِن مَکْرِ اللَّهِ»(1).

ب) الزهد فی الدنیا والرغبة فی الآخرة مع الالتزام بسنّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إنَّ الفَقِیهَ حَقَّ الفَقیهِ الزاهِدُ فی الدُّنیا، الراغِبُ فی الآخِرَةِ، المُتَمَسِّکُ بِسُنَّةِ النَّبیِّ صلی الله علیه و آله»(2)

. أو ما ورد من صفة الزهد فی الدنیا والرغبة فی الآخرة بالاقتران مع البصیرة فی الدین:

«إنَّما الفَقِیهُ، الزاهِدُ فی الدُّنیا، الراغِبُ فی الآخِرَةِ، البَصِیرُ بأمْرِ دِیْنِه المُداوِمُ علی


1- نهج البلاغة، الحکمة 90؛ کنزالعمال، ج 10، ص 181، ح 28943؛ سنن الدارمی، ج 1، ص 89 عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام.
2- الکافی، ج 1، ص 70، ح 8 عن الإمام الباقر علیه السلام.

ص: 21

عِبادَةِ رَبِّه»(1).

ج) مخالفة الأشرار فی سبیل اللَّه ومعرفة حیل النفس وآفاتها:

«لا یَفْقَهُ العَبْدُ کُلَّ الفِقْهِ حَتّی یَمْقُتَ النّاسَ فِی ذاتِ اللَّهِ وحَتّی لا یَکونَ أحَدٌ أمْقَتُ إلَیه مِن نَفْسِه»(2).

د) الحلم والصمت:

«مِنْ عَلاماتِ الفِقْهِ، الحِلْمُ، ...

والصَّمْتُ»(3)

؛ «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ کَلامِه فیما لا یَعْنِیه»(4).

ویتبیّن ممّا تقدّم أنّ «فقیه أهل البیت» فی ثقافة الأئمة المعصومین علیهم السلام تطلق علی من کان یتمتّع- مضافاً للبصیرة فی مسائل الحلال والحرام- بفهم دقیق وبصیرة فی مسائل التفسیر، والکلام، والعقائد والأخلاق أیضاً، وفی الحقیقة یجب أن یکون مصداقاً ل «العالِم بالإسلام» و «العالِم بالدین».

وهکذا یتبیّن أنّ هذا العموم والشمول المفهومیّ لا یختصّ بمجال روایات الفریقین، بل بشکل عام کان هذا المعنی هو الشائع فی أدبیات واستعمالات المتشرّعین من السلف الصالح وعصر الصحابة والتابعین أیضاً، وهذه الحقیقة هی التی صرّح بها بعض الأکابرکالشهید الثانی فی «منیة المرید»(5) وأبوحامد الغزالی فی «احیاء العلوم»(6) أیضاً.

وببیان آخر: کما أنّ کلمة الفقه وردت فی لسان روایات الأئمّة المعصومین علیهم السلام فی المعنی القرآنی الذی هو المعنی اللغوی أیضاً، فإنّ هذه الکلمة وردت فی محاورات المتدینین والمتشرّعین بهذا المعنی أیضاً، بل ورد فی بعض الکتب أنّ استعمال هذه الکلمة بهذه الصورة استمرّ حتی عصر الإمام الصادق علیه السلام والشافعی وأبی حنیفة؛ لأنّ العلوم الشرعیة، أی علم الکلام وعلم الأخلاق وعلم الأحکام لم تکن إلی ذلک الزمان منفصلة عن بعضها، والعالِم والفقیه إنّما یقال للشخص المطّلع علی العقائد والأخلاق والفروع الفقهیة فی وقت واحد، وعلی هذا الأساس یری أبوحنیفة، أنّ الفقه هو «مطلق معرفة النفس وما ینفعها ویضرّها» وبالطبع فإنّ هذا التعریف یستوعب المحاور الثلاثة المذکورة(7).

وأیضاً علی هذا الأساس سمّی کتابه فی العقائد «الفقه الأکبر» وبقید «الأکبر» فصل العقائد عن الأخلاق والأحکام (8) کما أنّ الأحکام تمتاز عن الأمور الاعتقادیة والأخلاقیة بذکر قید «عملًا»(9).

فی مثل هذا العصر استقلّت العلوم الإسلامیة بعضها عن البعض الآخر بسبب اتّساع وتکامل هذه العلوم، وقد تحرّک الإمام الصادق علیه السلام لتربیة طلّاب متخصّصین فی کل علم من العلوم الدینیة، فقد تخرّج من مدرسته فی علم الأحکام خاصّة، طلّاب بارزون مثل زرارة و محمّد بن مسلم ومن هنا فإنّ کلمة «الفقه» تحوّلت بالتدریج، سواء فی لسان الروایات أم فی لسان المتشرّعة، وبسبب کثرة الاستعمال فی خصوص الأحکام الفرعیة، بحیث أنّ الشافعی یذکر فی تعریفه للفقه التعریف الذی اشتهر بین علماء الفریقین فیما بعد ویقول: «الفقه، علم بالأحکام الشرعیّة العملیّة عن طریق أدلّتها التفصیلیّة»(10).


1- سنن الدارمی، ج 1، ص 89 عن الحسن البصری.
2- کنزالعمّال، ج 10، ص 182، ح 28950 عن شدّاد بن أوس.
3- الاختصاص، ص 232، عن الإمام الرضا علیه السلام.
4- بحار الأنوار، ج 2، ص 55، ح 28 عن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.
5- منیة المرید، ص 157.
6- المحجّة البیضاء، ج 1، ص 81- 83.
7- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 29؛ مرآة الاصول، ج 1، ص 44.
8- موسوعة جمال عبد الناصر، ج 1، ص 9.
9- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 30.
10- شرح جمع الجامع للمحلی، ج 1، ص 32.

ص: 22

وبالطبع فإنّ المدّعی هو أنّ ما حدث فی هذا العصر یعکس أنّ کثرة استعمال کلمة «الفقه» حوّلت مصداقاً خاصّاً إلی حقیقة فی المعنی، بحیث لا یحتاج إلی ضمّ قرینة لإرادة ذلک المصداق من هذه الکلمة، لا أنّ أصل استعمال کلمة الفقه تحقّق کذلک فی خصوص الأحکام الفرعیة فی هذا العصر، بل کان هذا المعنی یستعمل قبل هذا العصر أیضاً فی الأحکام الفرعیة.

والشاهد علی هذا المدّعی هو الروایات الواردة فی العصر الأول، حیث استخدمت کلمة «الفقه» و «التفقّه» مع القرینة فی خصوص الأحکام الفرعیة، منها الروایة التی أوردها الفتّال النیسابوری فی «روضة الواعظین» عن علیّ علیه السلام حیث قال:

«مَنْ لَمْ یَتَفَقَّهْ فِی دِیْنِهِ ثُمَّ اتَّجَرَ، ارْتَطَمَ فِی الرِّبا»(1)

. والروایة الأخری الواردة فی «دعائم الاسلام» عن الإمام علیّ علیه السلام أیضاً أنّه قال:

«الفِقْهُ ثُمَّ المَتْجَرُ، فإنَّ مَنْ باعَ واشْتَری وَلَمْ یَسْأَلْ عن حَلالٍ وحَرامٍ ارْتَطَمَ فی الرِّبا»(2)

. والروایة الواردة فی «الکافی» عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال علی المنبر:

«یا مَعْشَرَ التُّجَّارٍ! الفِقْهُ ثُمَّ المَتْجَرُ، الفِقْهُ ثُمَّ المَتْجَرُ، الفِقْهِ ثُمَّ المَتْجَرُ، واللَّهِ لَلرِّبا فی هذِهِ الامَّةِ أخْفی مِنْ دَبِیبِ النَّمْلِ علی الصَّفا»(3).

ظاهر هذه الروایات بقرینة أنّها تتحدّث عن مسألة الربا وهی من الأحکام الفرعیة، هو أنّ المقصود من «الفقه» ما یتعلّق بالمسائل الشرعیة والأحکام الفرعیة المرتبطة بأبواب المعاملات.

الفقه فی اصطلاح الفقهاء والاصولیّین:

یتبیّن ممّا تقدّم آنفاً أنّ استعمال کلمة «فقه» فی إحدی الآیات القرآنیة فی خصوص البصیرة والفهم الدقیق فی مسائل الدین: «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ» أدّی إلی أن تستخدم هذه الکلمة فی الروایات بمعنی البصیرة والفهم الدقیق فی الأمور الدینیة، أی أنّ هذه الکلمة وردت فی الروایات وعلی لسان المتشرعین أیضاً بذلک المعنی اللغوی، والتغییر الحاصل هنا هو أنّ هذه الکلمة استخدمت فی المسائل الدینیة فقط، وهذه المحدودیة التطبیقیة استمرّت إلی عصر تفکیک العلوم الدینیة، ففی ذلک العصر وهو عصر الإمام الصادق علیه السلام نشاهد استقلال وتفکیک العلوم والمعارف الدینیة کعلم التوحید أو علم الکلام، علم الأخلاق «معرفة النفس» علم التفسیر و ...

من جسد الفقه، وبذلک اختصّ الفقه بالأحکام الفرعیة، وفی هذه الفترة بالضبط بدأ اصطلاح جدید بالظهور لدی الفقهاء والمتشرّعة من حیث محدودیة التطبیق لهذه الکلمة «لا فی أصل المعنی وهو الإدراک الدقیق» فی هذا العصر نجد أنّ مثل الشافعی یعرّف الفقه بأنّه:

«العلم بالأحکام الشرعیّة العملیّة من طریق الأدلّة التفصیلیّة»(4) وهذا التعریف نجده کذلک بهذا التعبیر فی کلمات الفقهاء والأصولیین لدی الفریقین (5)، والفرق الوحید هو وجود کلمة «فرعیة» فی کلمات فقهاء الشیعة کالشیخ الطوسی وصاحب المعالم بدل کلمة «عملیّة»، وقد جاء کلا التعبیرین «عملیّة وفرعیّة» فی عصرنا الحاضر فی بعض کتب أهل السنّة.

وبدیهی أنّه مع قید «فرعیّة» تخرج اصول الدین وأصول الفقه، ومع قید «عملیّة» تخرج المسائل


1- شرح جمع الجامع للمحلی، ج 1، ص 32.
2- عدّة الأصول، ج 1، ص 21؛ معالم الدین، ص 33؛ الأصول العامةللفقه المقارن، ص 15.
3- روضة الواعظین، ج 2، ص 465.
4- دعائم الإسلام، ج 2، ص 16، ح 12.
5- الکافی، ج 5، ص 150، ح 1.

ص: 23

المرتبطة بأعمال القلب التی تبحث فی علم الأخلاق نظیر حرمة الریاء، الحسد، الکبر وغیر ذلک (1)، کما أنّه مع قید «الأدلّة التفصیلیّة» تخرج معرفة المقلّد بالأحکام الفرعیة وبالتالی فإنّ علم المقلِّد بفتاوی مرجع تقلیده لا یحسب من «الفقه الاصطلاحی» وبذلک تکون کلمة الفقه فی الاصطلاح شاملة لموارد «المعرفة الاجتهادیة»؛ کما أنّ «الفقیه الاصطلاحی» یراد به المجتهد فقط ولا یشمل المقلِّد.

علی أیّة حال فإنّ الفقه فی اصطلاح الأصولیین والفقهاء عبارة عن: مجموعة من القوانین والأوامر والنواهی الذی یستنبطها الفقیه من منابعها وأدلّتها التفصیلیة ویبیّن الموقف العملی للمکلّفین أمام الخالق تعالی، ویعلِّمه الموقف الذی ینبغی اتّخاذه أمام مولاه الحقیقی.

وببیان آخر: إذا کان الغرض من خلق الإنسان هو العبودیة: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ»(2) فإنّ الفقه یبیّن للإنسان طریق العبودیة فی مقام العمل والسلوک، وعلی هذا الأساس تطلق علیه کلمة شریعة، ومنهاج، ویراد بها الطریق.

تذکیر ضروری:

یتبیّن من خلال دراسة مجموع الروایات الواردة فی مسألة الفقه والفقاهة أنّ الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام وفقهاء الإسلام کانوا یؤکدون علی لزوم التمییز بین الفقیه الواقعی والحقیقی من غیر الواقعی، وقد بیّنوا لنا المعیار للفقه الواقعی بعبارات شتّی من قبیل:

«أَلا إنَّ الفَقِیهَ مَنْ أَفَاضَ عَلَی النَّاسَ خَیْرَه ...»(3).

«ألا أُخْبِرُکُم بِالفَقِیهِ حَقّاً؟»(4).

«ألا أُخْبِرُکُم بِالفَقِیهِ حَقّ الفَقِیهِ؟»(5).

«الفَقیهُ کُلُّ الفَقیهِ مَن لَم یُقَنِّط النّاسَ ...»(6).

«فإنّا لانَعُدُّ الفَقِیهَ مِنْهُم فَقِیهاً حتّی یَکونَ مُحَدِّثاً»(7).

«لَا یکونُ الرَّجُلُ مِنکُم فَقِیهاً حتّی یَعرِف ...»(8).

وهذا الموقف من مفهوم کلمة الفقه یشیر إلی شیوع نوع من الانحراف فی الفهم لدی عرف المتشرّعة فی ذلک الزمان فی مجال الفقه والفقاهة، وهذا الانحراف مشهود مع کمال الأسف فی عصرنا الحاضر أیضاً.

إنّ مصطلح «فقه»، «فقیه» و «تفقّه» ودراسة معناه اللغوی وتمییزه عن معناه الاصطلاحی وکذلک فهم هذا المعنی والمراد من هذه المفردة فی ثقافة القرآن والحدیث، یمکنها أن تقف فی مواجهة هذا الانحراف وتؤدّی إلی منع إساءة استغلال البرکات والمعطیات الجلیلة للفقه والفقاهة الواردة فی الکتاب والسنّة، وعدم إیجاد نوع من سوء الفهم والانحراف وفی تطبیق مصادیق المتفقّه القرآنی الوارد فی الآیة «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ» و «فقیه الکتاب والسنّة» أو «فقیه أهل البیت» علی الأفراد، إنّ فضائل وبرکات الفقیه الواردة فی الروایات کثیرة، منها:

«فَضْلُ الفَقیهِ علی العابِد کفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَی الکَواکِب»(9).

«إذا أرادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَیْراً فَقَّهَهُ فِی الدِّینِ ...»(10).


1- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 1، ص 13.
2- سورة الذاریات، الآیة 56.
3- بحار الأنوار، ج 2، ص 5، ح 10.
4- المصدر السابق، ص 48، ح 8.
5- المصدر السابق، ص 49، ح 6.
6- المصدر السابق، ص 56، ح 34.
7- المصدر السابق، ص 82، ح 1.
8- المصدر السابق، ص 184، ح 5.
9- المصدر السابق، ج 78، ص 321، ح 19.
10- غرر الحکم، ح 4076.

ص: 24

«ما عُبِد اللَّهُ تَعالی بِشَی ءٍ أفْضَلَ مِن الفِقْهِ فی الدِّین»(1).

«إنَّ لِکُلِّ شَی ءٍ دِعامةً ودِعامَةُ هذا الدِّین الفِقْهُ»(2).

«إذا ماتَ المُؤمِنُ الفَقِیهُ ثُلِمَ فی الإسلامِ ثُلمَةٌ لایَسُدُّها شَی ءٌ»(3).

«ما مِن أحَدٍ یَموتُ مِن المُؤمِنینَ أحَبُّ إلی إبْلِیس مِن مَوتِ فَقِیهٍ»(4).

علی أیّة حال، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم بیانه من أنّ المصطلح المذکور لا یختص بالأحکام والمسائل الفرعیة کالطهارة والصلاة وتفریعات الطلاق واللعان والبیع والإجارة، بل إنّ کلمة «فقه» و «تفقّه» فی الآیات والروایات الشریفة، تساوق مفهوم «العالم بالدین» و «العارف بالإسلام» وکلمة «الفقیه» تطلق علی من یتمتّع ببصیرة وفهم ثاقب فی مجمل قضایا الدین، سواءً المعارف أم الأخلاق أم الأحکام، ویتبیّن من ذلک عمق الفاصلة الموجودة فی الذهنیة المسلمة مع حقیقة هذه المسألة، والغفلة التی یعیشها بعض طلّاب العلوم الدینیة وعلماء الدین، وهی غفلة عن المعارف الّتی تتّصل بجوهر الدین وتمثّل معراج الصعود فی مرقاة الکمال: «إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ»(5) والغفلة عن القیم الأخلاقیة والتهذیب النفسی الذی یعدّ معیار الصلاح والفلاح: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکَّاهَا»(6).

لا یخفی علی جمیع المحقّقین والمفکّرین فی الحوزات العلمیة ومن لهم عقلیة منفتحة علی حرکة المعارف الدینیة الجدیدة الذین یسعون إلی بیان هذه الحقیقة، أنّ «الفقیه» لا یطلق علی من تعمّق فی مجال الفروع والأحکام الفرعیة فحسب، بل إنّ «فقیه الکتاب والسنّة» أو «فقیه أهل البیت» لا یطلق علی من لیست له معرفة واطّلاع علی المعارف الحقّة وحقائق القرآن والتفسیر ودقائق الآفاق النفسانیة، بل «الفقیه کلّ الفقیه» هوالذی یری تقدیم دراسة وتعلّم المعارف القرآنیة علی کلّ شی ء ولا یضحّی بها من أجل اکتساب غیرها من العلوم و

«الفَقِیهُ کُلُّ الفَقیهِ مَن .... وَلم یَدَعِ القُرآنَ رغبةً عنهُ إلی ما سِواه»(7)

ویعتقد من موقع الإیمان والإذعان بأنّ العلوم النابعة من الکتاب والسنّة فیها «آیة محکمة» و «فریضة عادلة» و «سنّة قائمة»(8).

وتقتضی الضرورة الإمساک بزمام القلم والذهن فی هذا المجال حتی لا یتوغّل أکثر فی بحث هذه المسألة بما یفضی إلی التفریط، وبالتالی وقوع طالب العلوم الدینیة فی منزلق الإفراط من جهة أخری، ویؤدّی هذا التکریم علی مستوی أرجحیة المعارف والأخلاق إلی تهمیش قیمة الفقه والمعرفة الدقیقة بالحلال والحرام والتقلیل من أهمیتها فی أنظار وأذهان الناس، ولأنّ «أحکام الحلال والحرام» وردت من خلال النصوص القرآنیة المتعدّدة «تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ»(9) حیث عبّر عنها القرآن بأنّها حدود اللَّه التی یستوجب متجاوزها عذاب جهنّم: «... وَمَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُ یُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِیهَا ...»(10) وخاصّة مع الالتفات إلی هذه


1- اصول السرخسی، ج 1، ص 10 عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
2- الکامل لعبداللَّه بن عدی، ج 1، ص 378، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
3- الکافی، ج 1، ص 38، ح 2.
4- المصدر السابق، ح 1.
5- سورة فاطر، الآیة 10.
6- سورة الشمس، الآیة 9.
7- سنن الدارمی، ج 1، ص 89 عن علی بن أبی طالب علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؛ الدرّ المنثور، ج 5، ص 332 عن علی علیه السلام.
8- الکافی، ج 1، ص 32، ح 1 عن النبی صلی الله علیه و آله:« إنّما العُلومُ ثَلاثةٌ: آیَةٌ مُحْکَمَةٌ وفَرِیضَةٌ عادِلَةٌ وسُنَّةٌ قائمةٌ».
9- سورة النساء، الآیة 13.
10- سورة النساء، الآیة 14.

ص: 25

الحقیقة، وهی أنّ شریعتنا لا تنفّک ولا تنفصل عن طریقتنا، ولایمکن الوصول إلی مستویات عالیة من التهذیب النفسانی والشهود العرفانی والصلاح والفلاح من دون معرفة دقیقة بهذه الأحکام والعمل بها من خلال ترک المحرّمات وأداء الواجبات، وکذلک لا ینال الإنسان بدونها معرفة کاملة فی مجال العقائد والمعارف الإلهیّة.

الاجتهاد فی مقابل النصّ:

إنّ البعض لا یری أنّ «الاجتهاد فی مقابل النصّ» جزءً من «الفقه». وقد ورد فی الموسوعة المصریة «عبدالناصر» تحت عنوان «ما لیس فقهاً» کما یلی:

«والأفهام والآراء التی یتوصّل إلیها فی طریق النظر فی الأحکام الشرعیة لا تسمّی فقهاً، إذا ما وقعت موقعها وصدرت عمّن هو أهل لها، وإلّا کانت مهدّدة لیس لأحد أن یعوِّل علیها، ولا أن یدخلها فی باب اختلاف الفقهاء ویعتبرها فقهاً، ومن القضایا المشهورة المسلمة، أنّ الاجتهاد فی مقابل النصّ لا یقبل، وقال الفقهاء: إنّ الاجتهاد إذا کان مخالفاً للکتاب أو السنّة أو الإجماع، أو کان قولًا بلا دلیل لا یکون معتبراً، ویکون خلافاً، ولا یکون من قبیل اختلاف الفقهاء، وإذا قضی به القاضی وقع قضاؤه باطلًا».

ثم إنّه ورد فی هذه الموسوعة أیضاً مثال لکلّ مورد من الموارد الأربعة المذکورة (مخالفة کتاب اللَّه، مخالفة السنّة، مخالفة الإجماع والکلام بدون دلیل) ومن جملة الأمثلة المذکورة للإجتهاد فی مقابل کتاب اللَّه هو أنّ البعض یری حلّیّة الربا فی بعض الظروف فی حین أنّ ذلک مخالف للآیة الشریفة: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»، وذهب البعض إلی أنّ المرأة المطلّقة ثلاثاً تحلّ لزوجها الأوّل بمجرّد الزواج من شخص آخر ولو بدون دخول، فی حین أنّ ذلک مخالف لصریح الحدیث النبویّ الذی یقول:

«... لا، حتّی یَذوقَ العُسَیْلَةَ»(1).

وقد کتب بعض علماء الإسلام أیضاً کتاباً أو کتباً تحت عنوان «النصّ والاجتهاد» وذکروا موارد مختلفة من «الاجتهاد فی مقابل النصّ»(2) وللأسف فإنّ هذه الموارد لیست بقلیلة، وعلی سبیل المثال ورد فی «صحیح البخاری» و «صحیح مسلم» فی أبواب التیمّم: «إنّ رجلًا أتی عمر وقال: إنّی أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تصلّ.

فقال عمّار: أما تذکر یا أمیرالمؤمنین إذ أنا وأنت فی سریّة فأجنبنا ولم نجد ماءً فأمّا أنت فلم تصلّ وأمّا أنا فتمعّکت فی التراب وصلّیت، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: إنّما کان یکفیک أن تضرب بیدیک الأرض ثمّ تنفخ ثمّ تمسح بهما وجهک وکفّیک. فقال عمر: إتّق اللَّه یا عمّار. قال: إن شئت لم أحدّث به. فقال عمر: نولّیک ما تولّیت»(3).

وهناک موارد أخری لا نطیل الکلام باستعراضها.

وممّا لا یحتاج إلی بیان أنّ الشخص الذی یجتهد فی مقابل النصّ إمّا أن یکون غیر مطّلع علی النصّ، أو یکون قد نسیه، کما فی المورد المذکور والمخالف للنصّ الصریح للقرآن الکریم الذی یقول: «وَإِنْ کُنتُمْ مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْکُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً ...»(4) أو


1- موسوعة الفقه الإسلامی( المشهورة بموسوعة جمال عبدالناصر)، ج 1، ص 13.
2- مثل کتاب« النص والاجتهاد» لشرف الدّین الموسوی.
3- نقل هذا الحدیث کتاب« المفهم لما اشکل من تلخیص کتاب مسلم» عن صحیح البخاری برقم 338؛ وصحیح مسلم برقم 368؛ سنن ابن داود برقم 318 و 328 و سنن النسائی( ج 1، ص 165- 170)( کتاب المفهم لما اشکل من تلخیص کتاب مسلم، ج 1، ص 616).
4- سورة المائدة، الآیة 6.

ص: 26

بسبب أنّه یظنّ أنّ مفهوم النصّ منحصر بزمان معیّن أو موارد خاصّة، فی حین أنّ النصّ مطلق، وعلیه فإنّ العبارة المذکورة بأنّ الاجتهاد فی مقابل النصّ یقع تحت عنوان «ما لیس فقهاً» غیر سدید، بل هو إظهار نظر فقهی، ولکنّ القائل به قد أهمل إعمال الموازین الفقهیة وأصدر حکمه تبعاً لظنّه.

ولا شکّ فی أنّ الاجتهاد فی مقابل النصّ عمل غیر صحیح ومجانب للصواب ویجب التحرّک فی عملیة استنباط الأحکام من خلال الالتزام بالضوابط الفقهیة والأصول المعروفة فی الفقه، فإذا فتح هذا الباب وکان لکلّ شخص أن یتّخذ موقفاً بوحی من أهوائه ومیوله فی مقابل النصوص والأدلّة الشرعیة، فلا تنقضی مدّة حتی لا یبقی شی ء من معالم الفقه الإسلامی الأصیل.

المصطلحات المتعلّقة بالموضوع:

أ) «دین»

إنّ مفردة «دین» وردت فی اللغة، وفی الأصل بمعنی الطاعة والانقیاد والخضوع فی مقابل الأوامر والمقرّرات المعیّنة(1)، وکذلک وردت بمعنی الجزاء والثواب (2)، ذلک من باب أنّ الجزاء والثواب من لوازم الطاعة والانقیاد(3).

ویبدو أنّ الآیات الشریفة نظیر: «وَأَخْلَصُوا دِینَهُمْ للَّهِ»(4) و «مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ»(5) و «حَتَّی لَاتَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ للَّهِ»(6) ناظرة إلی المعنی الأول للدین. کما أنّ مشتقّات هذه المفردة من قبیل «متدیّن» یراد بها هذا المعنی أیضاً، لأنّها تصدق علی من یتعامل مع الأوامر الإلهیّة من موقع الطاعة والانقیاد. أمّا المعنی الثانی فقد ورد کذلک فی آیات من قبیل: «مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ»(7).

أمّا فی اصطلاح القرآن وفی مفهوم المتشرّعة وعرف العقلاء أیضاً فإنّ المراد من «الدین» عبارة عن منظومة قضایا دینیة أعمّ من العقائد والأخلاق والأحکام، ومن هذا القبیل قوله تعالی: «هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَدِینِ الْحَقِّ»(8) وقوله: «لَایَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ ...»(9) وکذلک قوله: «شَرَعَ لَکُمْ مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّی بِهِ نُوحاً وَالَّذِی أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ»(10) وذلک بقرینة ما ذکر فی ذیل هذه الآیة: «کَبُرَ عَلَی الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ» الناظرة إلی مسألة التوحید. وبالرغم من أنّ البعض ظنّ المراد من الدین فی هذه الآیة والآیة الثانیة هو خصوص القوانین والمقرّرات (11)، لکنّ أغلب المفسّرین ذهبوا إلی عمومیة وشمولیة هذه المفردة فی کلا هاتین الآیتین (12).

وهکذا ما نراه فی الاستعمالات السائدة بین المتشرّعة والعرف والعقلاء هی من هذا القبیل، کقولهم «دین الإسلام» أو «دین الیهود» أو «دین النصاری».

وبالطبع فإنّ هذا المعنی یرتبط کذلک بالمعنی اللغوی أیضاً (الطاعة والخضوع) لأنّ قبول مجموعة العقائد والأخلاق والأحکام الدینیة یفضی بدوره إلی تجسید هذه المفاهیم علی مستوی العمل والطاعة


1- مفردات الراغب والتحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مادّة« دین».
2- المصدر السابق.
3- تفسیر المنار، ج 3، ص 257.
4- سورة النساء، الآیة 146.
5- سورة البیّنة، الآیة 5.
6- سورة الأنفال، الآیة 39.
7- سورة الحمد، الآیة 4.
8- سورة التوبة، الآیة 33.
9- سورة التوبة، الآیة 29.
10- سورة الشوری، الآیة 13.
11- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 1، ص 16.
12- تفسیر المراغی، ج 25، ص 23 و ج 10، ص 92؛ تفسیر ابن عاشور، ج 25، ص 118؛ التفسیر المنیر، ج 10، ص 174 و ج 25، ص 38.

ص: 27

والانقیاد فی مقابل أوامر الشارع المقدّسة.

وممّا تقدّم ذکره یتبیّن اتّساق وانسجام هذه المفردة مع کلمة «فقه»، لأنّه کما ذکر سابقاً أنّ هذه المفردة، سواءً فی المفهوم القرآنی أم فی ثقافة الروایات أم فی عرف المتشرّعة فی الصدر الأول، جاءت بمعنی المعرفة العمیقة بمجموعة القضایا الدینیة من العقائد والأخلاق والأحکام، والفقیه القرآنی وفقیه أهل البیت یتساوق مع مفهوم «العالم بالدین» و «العارف بمجموعة القضایا الدینیة».

ب) «شَرْع»، «شِرْعة» و «شریعة»

«شَرْع»: إذا استعملت فی معانٍ متعدّدة فتأتی بمعنی وضع الشی ء وتقریره، مثل: «أَمْ لَهُمْ شُرَکَاؤُا شَرَعُوا لَهُمْ مِّنَ الدِّینِ مَا لَمْ یَأْذَنْ بِهِ اللَّه»(1) و «شَرَعَ لَکُمْ مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّی ...».(2)

وأحیاناً تخرج من معناها المصدری وتأتی بمعنی (الطریق والنَّهْج)(3) وقد وردت هذه الکلمة بمعنی الوضوح فی قوله تعالی: «إِذْ تَأْتِیهِمْ حِیتَانُهُمْ یَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً»(4) بصیغة الجمع (شرّع/ الشارع) وعندما یقال للجادة «شارع» فذلک بسبب وضوح الطریق وبیانه.

وقد وردت هذه المفردة فی استعمالات العرف (وعبارات من قبیل: «الشرع المقدّس») بمعنی «ما شرعه اللَّه»(5) أی ما وضعه وقرره اللَّه تعالی أو بیّنه للناس من العقائد والأخلاق والأحکام.

«شریعة»: فی اللغة بمعنی «العتبة»، وبذلک تطلق علی مکان شرب الماء من الشاطی ء کما یقول اللغویون

«مورد الماء الّذی یستقی منه بلا رِشاء»(6)

وتطلق أیضاً علی مجموعة القضایا والمسائل الدینیة من العقائد والأخلاق والأحکام أیضاً، وذلک بسبب أنّ هذه الأمور تبعث علی حیاة وطهارة الأشخاص الذین یسلکون هذا الطریق ویعملون بهذه الشریعة(7)، والمراد من «شریعة» فی الآیة 18 من سورة الجاثیة هذا المعنی أیضاً حیث تقول الآیة: «ثُمَّ جَعَلْنَاکَ عَلَی شَرِیعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ»(8). وبالطبع فإنّ هذه الکلمة یراد بها فی اصطلاح الفقهاء والکتب الفقهیة وعناوین مثل «شرائع الأحکام» خصوص الأحکام الفرعیة العملیة، وفی هذه الصورة تقریباً تکون هذه الکلمة مرادفة تماماً للمعنی الاصطلاحی لکلمة «فقه».

«شِرْعة»: وردت أیضاً فی اللغة بمعنی الطریق المستقیم (9). وبما أنّها علی وزن «فِعْلة» فإنّه یراد منها نوع خاصّ من الطریق المستقیم (10). وعلی هذا الأساس ورد التعبیر القرآن الکریم عن الطرق والمذاهب المختلفة التی تشترک فیما بینها ببعض العقائد والأصول والقوانین ب «شِرعة»: «لِکُلٍّ جَعَلْنَا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(11)، ومن الواضح أنّ «ما به الامتیاز» فی الشرائع السماویة هو الأمور الفرعیة العملیة، ومن هذه النقطة بالذات یمکن استنتاج أنّ المراد من «شِرعة»، خصوص الأحکام والفروع العملیة، وبالتالی فهی أخصّ دائرة من المصطلحین السابقین «شریعة» و «دین».


1- سورة الشوری، الآیة 21.
2- سورة الشوری، الآیة 13.
3- مفردات الراغب، مادّة« شرع».
4- سورة الأعراف، الآیة 163.
5- المعجم الوسیط، مادّة« شرع».
6- المصدر السابق.
7- مفردات الراغب، مادّة« شرع».
8- انظر: تفسیر المیزان؛ تفسیر ابن عاشور؛ التفسیر المنیر، ذیل الآیة 18 سورة الجاثیة.
9- المعجم الوسیط، مادّة« شرع».
10- التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مادّة« شرع».
11- سورة المائدة، الآیة 48.

ص: 28

هل أنّ تشخیص الموضوعات بعهدة الفقیه؟

المعروف أنّ تشخیص الموضوعات الفقهیة لیست بعهدة الفقیه، ومن الطبیعی أن لا یقال له «فقه» فی حین أنّ هذا الکلام یختصّ ببعض موضوعات الأحکام، بینما یخضع قسم مهمّ آخر من الموضوعات فی تشخیص جزئیاتها بعهدة الفقیه، ولهذا السبب نری الکثیر من هذه الموضوعات طرحت فی الکتب الفقهیة علی أساس أنّها من المسائل الفقهیة.

وتوضیح ذلک: أنّه لا شکّ فی أنّ تشخیص الموضوعات بشکل عام وبیان الخصوصیات والأجزاء والشروط والموانع کلّها بعهدة الفقیه، أی أنّه ینبغی علی الفقیه أن یبیّن أنّ هذا الحکم المستوحی من الأدلّة علی أیّ موضع یرد، وإذا کان الموضوع عبارة عن عنوان مرکّب کالصلاة، فعلی الفقیه بیان الأجزاء والشرائط والموانع فی هذه المسألة. إذن یجب علی الفقیه أن یشخّص مثلًا أنّ حکم وجوب التیمّم فی صورة عدم وجود الماء هل أنّه ورد علی عنوان «الصعید» أو علی عنوان «التراب»؟ أو حکم وجوب الخمس فی آیة الخمس هل أنّ موضوعه مطلق عنوان «الغنیمة» أم یختصّ بالغنائم الحربیة فقط؟ أو فیما یتعلّق بموضوع وجوب الصلاة الذی یعتبر عمل مرکّب من أجزاء وشرائط خاصّة مع فقدان الموانع، فما هی هذه الأجزاء والشرائط والموانع فی الصلاة؟

ولا فرق فی هذه الجهة بین موضوعات من قبیل «صعید» و «غنیمة» الموجودة فی العرف العام، وبین الموضوعات المخترعة من قِبل الشارع نظیر «صلاة» و «صیام» و «حج»؛ فإنّ استنباط هذه الموضوعات من مطاوی الأدلّة الشرعیة من شأن الفقیه فحسب.

ولکن عندما نصل إلی مصادیق هذه الموضوعات وندخل فی دائرة البحث التطبیقی، من قبیل أنّه هل یطلق علی غیر التراب عنوان «صعید» أم لا؟ أو هل یصدق علی أرباح المکاسب عنوان «غنیمة» أم لا، أو بالنسبة للاستقبال المقارن للانحراف عشر درجات هل یصدق علیه «استقبال القبلة» أم لا؟ أو الضحک بدون صوت والذی یثیر فی الإنسان الحرکة، فهل هو من مصادیق «القهقهة» التی هی من مبطلات الصلاة أم لا؟

وهکذا نلاحظ أنّ الموارد علی ثلاثة أنحاء:

1. الموضوعات التی یحتاج تطبیقها وتشخیص مصادیقها لنحو من أنحاء التخصّص، وینبغی علی المتخصّصین بیان هذا الموضوع، مثلًا، یقول الفقیه: لا یجب الصوم علی المریض الذی یضرّه الصیام. فهنا نجد أحیاناً أنّ الشخص المریض یمکنه تشخیص الضرر بنفسه ویدرک أنّ الصیام مضرّ بحاله، وأحیاناً أخری یستعین بالطبیب فی ذلک. أو مثلًا هل یعتبر الموت بالسکتة الدماغیة مصداقاً للموت الحیوانی بحیث تبقی الحیاة النباتیة فی بدن الإنسان أم لا؟ أو هل المیّت بالسکتة الدماغیة بشکل خاصّ قابل للعودة للحیاة أم لا؟ کلّ هذه الموارد هی من شأن الطبیب المتخصّص.

2. الموضوعات التی ینبغی الرجوع فیها للعرف لتطبیق مصداقها، ولکنّ تشخیص ما یقوله العرف فی هذه المسألة وما هی المرتکزات لدی العرف بالنسبة لتفاصیل هذه المواضیع، لا یدرکه سوی الفقیه، وفی مثل هذه الموارد فإنّ الفقیه یعمل عمل المتخصّص فی ذلک، لأنّه منشغل دائماً بالمسائل الفقهیة وموضوعاتها وما یشخّصه العرف فی هذا المورد وما هی مرتکزاته، لأنّ الفقیه یتمتع بالقدرة الفائقة علی تحدید تفاصیل المورد

ص: 29

بدقّة، مثلًا: هل أنّ التغییر التقدیری للماء بلون النجس هو مصداق «التغییر» الوارد فی الروایات مثل:

«خَلَق اللَّهُ الماءَ طَهوراً لا یُنَجِّسُه شَی ءٌ إلّاما غَیَّر لَونَه أو طَعْمَه أو رِیحَه»(1)

أم لا؟ فالفقیه هنا یتمکّن من إبراز رأیه فی هذا الموضوع (2). ومعلوم أنّه لو أردنا منح أفراد الناس تشخیص الموضوع، فإنّهم سیعیشون الحیرة والتخبّط.

أو ما ورد من حرمة النظر إلی النساء الأجنبیات غیر المحجّبات فی الآیات والروایات الشریفة، ولکن هل یشمل هذا الحکم النظر إلی النساء غیر المحجّبات فی التلفزیون بشکل بثّ مباشر أو غیر مباشر؟، فإنّ تشخیص هذا الموضوع لا یمکن تفویضه للناس والعرف، بل إنّ الفقیه هو الذی یقول: إنّ هذا النظر لیس من مصادیق موضوع الحرمة الشرعیة لأنّ الموضوع الکلّی للنظر منصرف لما یکون وجهاً لوجه أو فی المرآة علی الأقلّ، وعلیه فإنّ المورد المذکور آنفاً لو لم یترتب علیه مفسدة خاصّة، فلا تجری علیه أحکام النظر إلی غیر المحارم.

ومن هذا القبیل، الأمثلة الأربعة المذکورة (صعید، الغنیمة، استقبال القبلة، القهقهة) والأمثلة علی ذلک کثیرة فی جمیع أبواب الفقه.

3. الموضوعات التی لا یشکّل تشخیصها مشکلة معقّدة بالنسبة للعرف العام، مثلًا: هل أنّ هذا السائل الملوّن دم أم لا؟ أو هل أنّ ذلک الماء الملوّث مضاف أم مطلق؟ وهل أنّ رؤیة الهلال حصلت بالعین المجرّدة العادیة أم لا؟ فتشخیص مثل هذه الموضوعات ممکن لعامّة الأفراد ولا یحتاج المکلّف فی ذلک إتباع نظر المجتهد والمتخصّص.

ولا شکّ فی أنّ القسم الثانی من الأقسام الثلاثة المذکورة یعدّ أیضاً من «الفقه» کما هو الحال فی بحث العناوین الکلیّة للموضوعات، وتقع مسؤولیته علی عهدة الفقیه (3).

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الاختصاص، الشیخ المفید، جماعة المدرسین، قم.

4. اصول السرخسی، محمّد بن أحمد السرخسی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1414 ق.

5. الأصول العامة للفقه المقارن، السیّد محمّد تقی الحکیم، مؤسسة آل البیت، الطبعة الثانیة، 1390 ق.

6. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الأولی، 1403 ق.

7. التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، حسن المصطفوی، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، الطبعة الأولی، 1371 ش.

8. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی، دار الفکر المعاصر، الطبعة الأولی، 1411 ق.

9. تفسیر ابن عاشور، محمّد الطاهر ابن عاشور، مؤسسة التاریخ، الطبعة الأولی، بیروت.

10. تفسیر المراغی، أحمد مصطفی المراغی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

11. الدرّ المنثور، جلال الدین السیوطی، دار المعرفة، الطبعة


1- وسائل الشیعة، ج 1، ص 101، ح 9.
2- ( المراد من التغییر التقدیری هو أنّ الماء الملوّث قلیلًا بالطین وقد اختلطبه مقدار من الدم بحیث لو کان الماء صافیاً سیتغیر لونه. ولکن بما أنّ هذا الماء ملوّث فإنّ آثار النجس لا تظهر علیه فعلًا).
3- سیأتی فی بحث الموضوعات المخترعة والمستنبطة، أنّ تشخیص هذه الموضوعات علی عهدة الفقیه.

ص: 30

الأولی، 1365 ق.

12. دعائم الإسلام، النعمان بن محمّد، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولی، 1385 ق.

13. روضة الواعظین، محمّد بن الفتال النیسابوری، منشورات الشریف الرضی، قم.

14. سنن الدارمی، عبداللَّه بن بهرام الدارمی، مطبعة الاعتدال، دمشق.

15. سنن أبی داود، سلیمان بن أشعث السجستانی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الأولی، 1410 ق.

16. سنن النسائی، أحمد بن شعیب النسائی، دار الفکر بیروت، الطبعة الأولی، 1348 ق.

17. شرح جمع الجامع، جلال الدین محمّد بن أحمد المحلّی.

18. صحیح البخاری، محمّد بن اسماعیل البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ق.

19. صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج النیسابوری، دار الفکر، بیروت.

20. صحاح اللغة، اسماعیل بن حمّاد الجوهری، دار العلم، بیروت، الطبعة الرابعة، 1407 ق.

21. عدّة الأصول، شیخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسی، مؤسّسة آل البیت، 1403 ق.

22. غرر الحکم، کلام أمیرالمؤمنین، الآمدی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1366 ش.

23. الفروق اللغویة، أبو هلال العسکری، جماعة المدرسین، قم، الطبعة الأولی، 1412 ق.

24. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، دار الفکر، دمشق 1406 ق.

25. الکافی، الشیخ الکلینی، دارالکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة، 1388 ق.

26. الکامل، عبداللَّه بن عدی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثالثة، 1409 ق.

27. کنزالعمّال، المتّقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت.

28. المحجّة البیضاء، محسن الکاشانی، مکتب الإعلام الإسلامی التابع لجماعة المدرسین، قم، الطبعة الثانیة.

29. مرآة الأصول فی شرح مرقاة الوصول، العلّامة ملاخسرو، المکتبة الأزهریة للتراث.

30. المصباح المنیر، الفیّومی.

31. معالم الدین، حسن بن الشهید الثانی، دار الفکر، قم، 1374 ش.

32. المعجم الوسیط، مجمع اللغة العربیة، دارالدعوة، اسطنبول.

33. مقاییس اللغة، ابن فارس.

34. المفردات، الراغب الاصفهانی، مکتبة نشر الکتاب، الطبعة الأولی، 1404 ق.

35. موسوعة الفقه الإسلامی (المعروفة بموسوعة جمال عبدالناصر)، وزارة الأوقاف مصر، القاهرة، 1410 ق.

36. موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1423 ق.

37. الموسوعة الفقهیّة الکویتیة، وزارة الأوقاف الکویتیة، الطبعة الرابعة، 1414 ق.

38. منیة المرید، الشهید الثانی، مکتب الأعلام الإسلامی، الطبعة الأولی، 1409 ق.

39. المنار، محمّد رشید رضا، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة.

40. المنثور فی القواعد، بدر الدین الکشی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، 1421 ق.

41. المیزان، العلّامة الطباطبائی، مؤسسة النشر الإسلامی.

42. النصّ والاجتهاد، السیّد عبدالحسین شرف الدین، مطبعة سیّد الشهداء، الطبعة الأولی، 1404 ق.

43. النهایة، ابن الأثیر.

44. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 31

2

القسم الثانی: أهمیة الفقه الإسلامی فی سیاق الآیات و الروایات

اشارة

«الفقه» منهج العبودیة المدوّن

الفقه مبیّن للحدود الإلهیّة

أهمیّة الفقه فی دائرة الروایات

الإخلال بالفقه یلازم الإخلال بالرکنین الآخرین للدّین

تأثیر العقائد والأخلاق فی المسائل الفقهیة

تأثیر الاعتقاد والأخلاق فی الإستنباط

تأثیر التفقّه والاجتهاد فی العلوم الإسلامیة الأخری

ص: 32

ص: 33

أهمیة الفقه الإسلامی فی سیاق الآیات و الروایات

«الفقه» منهج العبودیة المدوّن:

إذا کنّا عبیداً للباری تعالی وکان اللَّه هو المولی، وأردنا التحرّک فی واقع الحیاة من موقع التسلیم لأوامر المولی کما هو المطلوب من العبد، وأردنا الصعود فی مدارج الرقیّ والکمال المعنوی بتطبیق إرادة اللَّه علی مستوی الممارسة العملیة فی جمیع الأبعاد والشؤون المختلفة فی حرکة الحیاة، فیجب أوّلًا: معرفة الحلال والحرام وأوامر اللَّه تعالی ونواهیه، ثانیاً: أن نتحرّک علی مستوی تجسید هذه المعرفة فی الواقع العملی، ومن الواضح أنّ ما یحقّق لنا هذا الغرض هو «الفقه». الفقه المقتبس والمستوحی من الآیات أو الروایات وسنّة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله أو مستوحاة من روایات وسیرة ورثة النبیّ صلی الله علیه و آله هؤلاء الورثة الصادقون الذین قرّروا أنّ جمیع روایاتهم مستقاة من میراث ذلک النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله وأنّ جمیع کلماتهم وتعالیمهم مستوحاة من سنّة ذلک النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله (1).

وإذا کانت الغایة من خلق الإنسان هی معرفة اللَّه فی المرتبة الأولی:

«إنّ اللَّه عزّوجلّ ما خَلَق العِبادَ إلّا لِیَعرِفوه ...»(2)

وفی المرتبة الثانیة التوجّه نحو التحرّک فی خطّ العبودیة والطاعة والخضوع «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ»(3) ومن خلال الإذعان لعبودیته والسیر فی طریق الطاعة والعبادة یتخلّص الإنسان من عبادة وعبودیة غیر اللَّه تعالی:

«... فإذا عَرَفوهُ عَبَدوه فإذا عَبَدوه استَغْنَوا بِعبادَتِه عن عِبادةِ مَن سِواه»(4)

وإذا کانت العبادة والعبودیة بمثابة منهج عمل فی حیاة الإنسان یعجز العقل عن تنظیمها وترتیبها للإنسان ولا یستطیع سوی خالق الإنسان والعالم بمصالحه ومفاسده من وضع القوانین والمقرّرات العملیة، إذا کانت کلّ هذه الأمور مقبولة، فینبغی أن نعلم أنّ الفقه لیس شیئاً غیر بیان منهج العبودیة والطاعة للباری تعالی. وهو المنهج السماوی الذی وصل إلینا بواسطة أنبیاء اللَّه ورسله، والذی قام علماء الإسلام بتنظیمه وتدوینه من خلال


1- یقول الإمام الباقر علیه السلام فی خطابه لجابر:« یا جابر لو کنّا نُفتی النّاس برأینا وهَوانا لکُنّا من الهالکین ولکنّا نُفتیهم بآثار من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله واصول عِلمٍ عندنا نَتَوارثها کابِراً عن کابِر، نکنِزُها کما یَکنِز هؤلاء ذَهبَهم وفِضَّتَهم»( بصائر الدّرجات، ص 320، ح 4، باب 14؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 172، ح 3).
2- علل الشرائع، باب 9، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 5، ص 312، ح 1.
3- سورة الذاریات، الآیة 56.
4- علل الشرائع، باب 9، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 5، ص 312، ح 1.

ص: 34

التحقیق والتدبّر فی الآیات القرآنیة ومطالعة سنّة وسیرة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأوصیائه الطاهرین، هذا المنهج الإلهی هو الحقیقة التی تجلّت فی کلام الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام عندما سئل عن علّة وجوب معرفة الأنبیاء والإیمان بهم ووجوب طاعتهم، فقال فی جوابه:

«لأنَّهُ لمّا لَم یَکُنْ فی خلقِهم وقولِهم وقِواهُم ما یکملون لمَصالِحهم وکان الصانِعُ مُتَعالیاً عن أن یُری، وکان ضَعفُهم وعَجزُهم عن إدراکه ظاهراً، لم یَکُن بُدٌّ مِن رَسولٍ بینَه وبینَهُم مَعصوم یؤدِّی إلیهم أمْرَه ونَهْیَه وأدبَه ویَقِفُهم علی ما یکون به إحرازُ مَنافِعهم ودَفعُ مَضارّهم إذ لم یَکُن فی خلقِهم ما یعرِفون به مایَحتاجون إلیه من مَنافعِهم ومَضارّهم»(1).

الواقع أنّ الغایة الأسمی من «الفقه» وفلسفة جعل الأحکام الشرعیة والمسائل الفقهیة، هی الوصول إلی مرتبة عبودیة الحقّ تعالی:

«کفی بالمَرءِ فِقْهاً إذا عَبدَ اللَّه»(2)

هذه العبودیّة التی لا تعنی سوی السیر فی خطّ طاعةاللَّه تعالی والعمل بالواجبات والابتعاد عن المحرّمات

«أفضَلُ الفِقْه الوَرَعُ فِی دینِ اللَّه والعَملُ بِطاعتِه»(3).

إنّ تحقیق حالة العبودیة للَّه تعالی فی واقع الإنسان لا تتیسّر بدون الابتعاد عن القبائح والرذائل واجتناب حالات الکبر والغرور والریاء، وتثبیت التوحید والإخلاص فی واقع العمل والممارسة، ومن هنا کان کتاب «الصلاة» الذی یمثّل أصلًا مهمّاً فی الفقه قد ضمن للإنسان الابتعاد عن القبائح والمنکرات: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ»(4) وضمن له إنقاذه من حالة الکبر والغرور

«فَجَعَلَ اللَّهُ ... الصَّلاةَ تَنزِیهاً لکُم عن الکِبْر»(5)

وکتاب «الصیام» الذی یمثّل قسماً مهمّاً آخر من «الفقه» یکرّس فی الإنسان حالة الابتعاد عن الریاء ویعمّق فیه الإخلاص والعبودیة فی مقام العمل

«... والصِّیامَ تثبیتاً للإخلاصِ»(6).

ولمّا کانت العبودیة للحقّ تعالی لا تتیسّر بدون إنذار وتوقّی الذنوب والمحرّمات، فإنّ «التفقّه فی الدّین» یمکنه أن یمهّد الأرضیة اللازمة ل «إنذار الناس» وبالتالی یثیر فیهم «الحذر» فی مقابل المحرّمات الإلهیّة: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(7) ومن الواضح أنّ الحذر والتنبّه فی مقابل المحرّمات والحدود الإلهیّة لا یتیسّر بدون معرفة المحرّمات ذاتها والتی یتکفّل «الفقه» بیانها، کما أنّ «الرضوان» الإلهی الذی یعدّ نهایة آمال العارفین «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَکْبَرُ»(8) لا یتیسّر بدون تحقیق عنصر «الخشیة» من اللَّه فی واقع الإنسان وروحه «رَّضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِکَ لِمَنْ خَشِیَ رَبَّهُ»(9) والخشیة من اللَّه تعالی لا تتحقّق بدون کسب المعارف اللازمة عن المبدأ والمعاد، وأیضاً بدون معرفة الأوامر والنواهی الصادرة من قِبل الحقّ تعالی:

«إِنَّمَا یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(10).

«الفقه» مبیّن للحدود الإلهیّة:

إذا کان للحرم الإلهی حدود معینة کما فی سائر


1- عیون أخبار الرضا، ج 2، ص 99؛ بحار الأنوار، ج 6، ص 59 و 60.
2- کنز العمّال، ج 10، ص 155، ح 28794.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 6، ص 71.
4- سورة العنکبوت، الآیة 45.
5- الاحتجاج، ج 1، ص 133، خطبة فاطمة الزهراء علیها السلام.
6- المصدر السابق.
7- سورة التوبة، الآیة 122.
8- سورة التوبة، الآیة 72.
9- سورة البیّنة، الآیة 8.
10- سورة فاطر، الآیة 28.

ص: 35

موارد الحرم، فإنّ أحکام الحلال والحرام التی یبیّنها الفقه تعدّ حدوداً إلهیّة لهذا الحریم المقدّس، وإذا أراد الإنسان معرفة الحدود الإلهیّة والتعرّف علی «الخطوط الحمراء» والنواهی الإلهیّة فیجب علیه تعلّم «الفقه».

واللافت للنظر أنّ القرآن الکریم فی العدید من الآیات بعد أن یتحدّث عن الأحکام المتعلّقة بأبواب من قبیل الصیام (1)، الطلاق (2)، الإرث (3)، الجهاد(4) والظهار(5)، فإنّه یذکر عبارتین فی هذا الصدد. الأولی « «تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ»(6)؛ أی أنّ ما ذکرناه من الأحکام هی حدود إلهیّة، والأخری التهدید لمن یتعدّی ویتجاوز هذه الحدود والخطوط الحمراء أنّ عاقبته هی الخلود فی نار جهنّم لأنّه یمثّل الظلم «وَمَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»(7) «وَمَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُ یُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِیهَا»(8).

وقد ورد التعبیر ب «الحدّ» للأحکام الإلهیّة فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام حیث یقول:

«إنّ اللَّه تَبارَک وتَعالی لَم یَدَع شَیئاً تَحتاجُ إلیه الأمَّةُ إلّاأنزَلَه فی کتابهِ وبَیَّنهُ لِرَسولِه وجَعَل لِکُلِّ شَی ءٍ حَدّاً وجَعَل علیه دَلیلًا یَدُلُّ علیه وجَعَل علی مَن تَعدّی ذلِک الحَدّ حَدّاً»(9).

أهمیّة «الفقه» فی دائرة الروایات:

نظراً لما تقدّم آنفاً من أنّ «الفقه» عبارة عن منهج حیاة للناس یتضمّن فی طیّاته أبعاد حیاة الإنسان الشخصیة والإجتماعیة والسیاسیة المختلفة، فإنّنا نری أنّ الفقه یحظی بأهمیّة کبیرة فی الروایات الشریفة بما یمثّله من علم بالمسائل الشرعیة وأحکام الحلال والحرام، ومن ذلک:

أ) ما ورد فی بعض الروایات أنّ «الفقه» یمثّل «عمود الدین»:

«إنّ لِکُلِّ شَی ءٍ دِعامةً ودِعامةُ هذا الدِّین الفِقه»(10)

و

«أَفْضَلُ العِبادَةِ الفِقهُ»(11)

و

«ما عُبِد اللَّه تعالی

بشَی ءٍ أفْضَل مِن الفِقه فی الدّین»(12)

فإنّ التعبیر «بالفقه» فی مثل هذه الموارد أو بقرینة الروایات التی ورد فیها التعبیر بالحلال الحرام

«و هَل یسأل النّاسُ عن شَی ءٍ أفضَل من الحَلال والحَرام»(13)

فإنّ هذاالمعنی یختصّ بالأحکام الفرعیة أو یراد به معنیً عامّاً بحیث یشمل الأحکام الدینیة الفرعیة أیضاً.

ب) ورد فی روایات أخری أنّ الفقه والبصیرة فی الدین التی تشمل البصیرة فی أمور الحلال والحرام، قطعاً یمثّل الخیر الذی یهبه اللَّه تعالی لعبده

«إذا أرادَ اللَّهُ بعَبدٍ خَیراً فقَّهَه فی الدّین»(14).

ج) ورد فی بعض الروایات أنّ تعلّم

«مَعالِم الحَلالِ والحَرام»

» یعدّ فریضة علی کلّ مسلم، حیث یجب علیه اکتسابه من أهله، هذه الفریضة التی یعتبر تعلیمها فی سبیل اللَّه «حسنة» وطلب هذا العلم «عبادة» والبحث


1- سورة البقرة، الآیة 187.
2- سورة البقرة الآیة 229 و 230؛ سورة الطلاق، الآیة 1.
3- سورة النساء، الآیة 13 و 14.
4- سورة التوبة، الآیة 97.
5- سورة المجادلة، الآیة 4.
6- سورة الطلاق، الآیة 1.
7- سورة الطلاق، الآیة 1.
8- سورة النساء، الآیة 14.
9- الکافی، ج 1، ص 59، ح 2.
10- الکامل لعبداللَّه بن عدی، ج 1، ص 378، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
11- الخصال، ج 1، ص 29، ح 10؛ المعجم الصغیر للطبرانی، ج 2، ص 124؛ روضة الواعظین، ص 6.
12- اصول السرخسی، ج 1، ص 10، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
13- بحار الأنوار، ج 1، ص 213، ح 9.
14- الکافی، ج 1، ص 32، ح 3؛ مسند أحمد، ج 4، ص 92 عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

ص: 36

والمذاکرة فیه «تسبیح» والعمل به «جهاد» وتعلیمه من لا یعلمه «صدقة» وبذله لأهله «تقرّب إلی اللَّه» وهو قول الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله:

«طَلَبُ العِلْمِ فرِیضَةٌ علی کُلِّ مُسلمٍ فاطْلُبوا العِلمَ مِن مَظانِّه واقتَبِسوه من أهله فَإنّ تَعلُّمَه للّهِ حَسَنةٌ وطَلَبَه عِبادَةٌ والمُذاکرَةَ بهِ تَسبیحٌ والعَملَ بِه جِهادٌ وتَعلیمَهُ مَن لا یَعلَمُه صَدَقةٌ وبَذْلَه لأهلِهِ قُربةٌ إلی اللَّه تعالی، لأنّه معالِمُ الحَلال والحَرام وَمنارُ سُبُلِ الجَنّةِ»(1).

ویشیر التعلیل بقوله

«لأنَّهُ مَعالِمُ الحَلالِ والحَرام ...»

إلی الأحکام الفقهیة فی الاصطلاح.

د) وقد ورد فی روایات أخری أنّ الإنسان غیر المبالی بتعلّم الفقه وأحکام الحلال والحرام یستحقّ التأدیب (2).

ه) وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«افٍّ لکُلِّ مُسلمٍ لا یَجعَل فی کُلِّ جُمُعةٍ یَوماً یتَفقَّهُ فیهِ أمْرَ دِینه، ویَسأل عن دِینه»(3).

و) ونقرأ فی روایة أخری عن زرارة و محمّد بن مسلم وبرید قالوا: قال رجل لأبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام): إنّ لی إبناً قد أحبّ أن یسألک عن حلال وحرام لا یسألک عمّا لا یعنیه، قال: فقال علیه السلام:

«وهل یَسألُ النّاسُ عن شَی ءٍ أفضَل من الحَلالِ والحَرام»(4).

ز) ورد فی بعض الروایات أنّ من لم یهتمّ بتعلّم المسائل الفقهیة، فهو بمنزلة أعراب الجاهلیة

«تفقَّهوا فی الحلالِ والحَرامِ وإلّا فأنْتُم أعرابٌ»(5)

وبمثابة جفاة الجاهلیة

«لا تَکونُوا کَجُفاةِ الجاهِلیّةِ لا فِی الدّین یَتَفَقَّهونَ ولا مِن اللَّه یَعقِلون»(6)

. ح) وردت عبارات ملفتة للنظر فی الروایات الشریفة فیما یتّصل ب «الفقیه» (أی صاحب البصیرة فی الدین الذی یتضمّن قطعاً معرفة الحلال والحرام والحدود الإلهیة) نکتفی بذکر بعضها:

1.

«إذا ماتَ المُؤمِنُ الفَقِیهُ ثُلِمَ فی الإسلامِ ثُلْمَةٌ لا یَسُدُّها شَی ءٌ»(7).

2.

«إنّ المُؤمِنین الفُقهاءَ حُصونُ الإسلامِ کَحِصْنِ سُورِ المدینةِ لَها»(8).

3.

«فَقیهٌ واحِدٌ أشَدُّ علی إبلیسَ من ألفِ عابدٍ»(9).

4.

«ما مِن أحدٍ یَموتُ مِن المُؤمنین أحَبُّ إلی إبلِیسَ مِن مَوتِ فقیهٍ»(10).

5.

«الفُقَهاءُ قادَةٌ والجُلوسُ إلیهِم عِبادَةٌ»(11).

نحن لا ننکر أنّ کلمة الفقه فی اللغة لها معنیً عامّ یشمل جمیع المعارف والأحکام الدینیة، ولکن من المعلوم قطعاً أنّ قسماً مهمّاً منها بالفقه المصطلح، مضافاً إلی أنّ بعض الروایات صرّحت بالأحکام التی تتصل بالحلال والحرام.

ط) ومن جملة الروایات التی تحدّثت عن الأهمیّة الکبیرة للفقه وأحکام الحلال والحرام، هی الروایات التی تدعو المؤمنین لحفظ الأحادیث الفقهیة من قبیل الروایة التی تقول:

«حَدیثٌ فی حَلالٍ وحَرامٍ تأخُذُه مِن صادقٍ خیرٌ من الدُّنیا وما فیها من ذهَبٍ أو


1- امالی الطوسی، ص 569، ح 2، عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
2- « لو أتیت بشاب من شباب الشیعة لا یتفقّه لأدّبته» عن الإمام الباقروالإمام الصادق علیهما السلام( بحار الأنوار، ج 1، ص 216، ح 16).
3- بحار الأنوار، ج 1، ص 176، ح 44.
4- المصدر السابق، ص 213، ح 9.
5- المصدر السابق، ص 214، ح 14، عن الإمام الباقر علیه السلام.
6- نهج البلاغة، الخطبة 166.
7- الکافی، ج 1، ص 38، ح 2، عن الإمام الصادق علیه السلام.
8- المصدر السابق، ح 3، عن موسی بن جعفر علیه السلام.
9- بحار الأنوار، ج 1، ص 177، ح 48 عن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.
10- الکافی، ج 1، ص 38، ح 1.
11- بحار الأنوار، ج 1، ص 201، ح 9.

ص: 37

فِضَّة»(1)

والروایات ربّما تصل إلی حدّ التواتر فی مورد حفظ أربعین حدیثاً، ورد فی بعضها بصراحة الکلام عن حفظ أربعین حدیثاً فیما یتّصل بالحلال والحرام، کالروایة التی وردت عن الإمام الصادق علیه السلام حیث یقول:

«مَن حَفِظ عنّی أربعینَ حَدِیثاً من أحادِیثنا فی الحَلال والحرامِ بعثَهُ اللَّهُ یومَ القِیامَةِ فَقیهاً عالِماً ولم یُعَذِّبْهُ»(2)

. وخاصّة الروایة التی یرویها الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه الطاهرین عن علی علیه السلام عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله حیث ورد فیها: «

مَن حَفِظ مِن أُمّتی أربعینَ حَدِیثاً یَطلُب بذلِک وَجْهَ اللَّهِ عزّوجَلّ والدارَ الآخِرةَ، حَشرهُ اللَّهُ یومَ القِیامةِ مَع النبیِّینَ والصِّدِّیقین والشُّهداءِ والصّالحین وحَسُنَ أُولئِک رفقاً»(3)

وعندما سأل أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عن محتوی هذه الأحادیث فذکر له رسول اللَّه بعد الإیمان باللَّه والتوحید مسائل تتعلّق فی الغالب بالأحکام الفرعیة ومسائل الحلال والحرام.

الإخلال بالفقه یلازم الإخلال بالرکنین الآخرین للدّین:

بالرغم من أنّ أسمی وأهمّ قسم من أقسام الدین یتمثّل فی المسائل العقائدیة، أی الإیمان بالمبدأ والمعاد ورسالة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله، ومن بین النظم الثلاثة للدین: العقیدة والأخلاق والتشریع، فإنّ نظام العقائد یشکّل المحور لمجمل قضایا الدین، ولا شکّ فی أنّ تثبیت وتقویة عنصر العقیدة یرتبط بشکل وثیق بالالتزام بالنظامین الآخرین، الأخلاقی والتشریعی، ودور «الفقه» هو ضمان النظام التشریعی.

وببیان آخر: بالرغم من أنّ «الفقه» لا یمثّل مرآة تنعکس علیها جمیع قضایا الدین، بل یأخذ علی عاتقه بیان الشرائع والأحکام والمقرّرات، ولکنّ الأرکان الثلاثة للدین تشکّل فیما بینها حقیقة واحدة مترابطة بشکل منظّم بحیث أنّ الإخلال بواحدةٍ منها یؤدّی إلی الإخلال بالرکنین الآخرین. علی هذا الأساس یتبیّن:

أ) إنّ القرآن الکریم قد صرّح بأنّ فلسفة بعض الأحکام الفقهیة هی الابتعاد عن الفحشاء والمنکر وإصلاح النظام الأخلاقی «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَی عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ»(4) ویقرّر أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام أنّ الهدف النهائی «للفقه» إصلاح النظام الأخلاقی أیضاً

«فَرَض اللَّه ... الصَّلاة تَنزِیهاً عن الکِبْر ... والصِّیامَ ابتلاءً لإخلاصِ الخَلْق ... والأمرَ بالمعروفِ مصلحةً للعَوامِّ والنَّهیَ عن المُنکرِ رَدْعاً للسُّفهاءِ ... وإقامَةَ الحُدودِ إعظاماً للمَحارِم، وتَرْکَ شُربِ الخَمْرِ تَحصِیناً للعَقلِ ومُجانَبةَ السّرقةِ إیجاباً للعفّة ...»(5).

ب) إنّ القرآن الکریم یقرّر أنّ العمل الصالح، الذی یتحقّق من خلال العلم بالفقه والعمل به مع اقترانه بإخلاص النیّة، یؤدّی إلی تقویة وترشید الإیمان والعقیدة فی واقع الإنسان، «إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ یَرْفَعُهُ»(6). وعلیه فإنّ الضمیر فی «یرفعه» یعود إلی

«الکلم الطیّب»

(کما ذهب إلی ذلک جماعة من المفسّرین (7)) وعلی هذا الأساس فإنّ المقصود ب

«الکلم

الطیّب»

هو الإیمان والعقائد القلبیة التی تتکامل وتسمو


1- بحارالأنوار، ص 214، ح 13، عن الإمام الصادق علیه السلام.
2- المصدر السابق، ج 2، ص 154، ح 6.
3- المصدر السابق، ح 7.
4- سورة العنکبوت، الآیة 45.
5- نهج البلاغة، الحکمة 252.
6- سورة فاطر، الآیة 10.
7- نظیر: العلّامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان، ج 17، ص 23؛ وهبةالزحیلی عن التفسیر المنیر، ج 22، ص 236.

ص: 38

وتشتدّ باقترانها بالعمل الصالح (1).

وقد ورد فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أو الإمام الباقر علیه السلام:

«مَن قال: لا إله إلّااللَّه فَلَن یَلِجَ مَلکوتَ السَّماء حتّی یُتِمَّ قولَه بعَملٍ صالِح»(2).

ومن الممکن أن تکون هذه الروایة وتلک الآیة إشعاراً بهذه الحقیقة، وهی أنّ الأدوات والعناصر الباطنیة للإیمان والمعرفة والشعور الفطری فی الإنسان ربّما تصطدم بموانع ویتراکم علیها غبار النوازع الدنیویة وبالتالی تضعف قوّتها أو تدفن تماماً تحت أنقاض هذه النوازع والأهواء: «وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» وتتجمّد عن العمل، ولذلک فإنّها تحتاج إلی عنصری العمل والأخلاق لتأمین عنصر «العمل الصالح» الذی یظهر بقالب «التقوی» کما یستفاد ذلک من هاتین الآیتین: «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ یَجْعَلْ لَّکُمْ فُرْقَاناً»(3) و «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَیُعَلِّمُکُمْ اللَّهُ»(4) فالتقوی سبب لزیادة قدرة الإنسان علی تشخیص الحقّ من الباطل وزیادة العلم المفید.

وببیان آخر: بالرغم من 1. أنّ النظام الاعتقادی یمثّل المحور الأصلی فی منظومة الدین المتشکّلة من ثلاثة أنظمة: عقائدیة، أخلاقیة، تشریعیة. 2. أنّ النظام الاعتقادی نفسه یملک فی باطنه محوراً أساسیاً وهو الإیمان بالغیب. 3. والإیمان بالغیب هو فی الحقیقة إیمان بالحقائق الماورائیة الخفیة بسبب لطافتها، ولذلک فهی بعیدة عن دائرة الإحساس والإدراک المعروف لدی البشر، ولا یمکن التوصّل إلیها والاتّصال بها إلّابأدوات خاصّة مغروسة فی وجدان الإنسان، أی أنّ الإنسان یکشفها بأدوات الشعور الباطنی والفطری (ولعلّه لهذا السبب فإنّ المطلوب من الإنسان هو الإیمان بتلک الحقائق لا مجرّد العلم والمعرفة بها، ولذلک ورد التعبیر ب

«الَّذِیْنَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ»

لا

«الذین یعلمون الغَیب»

) ولا شکّ فی أنّ هذه الأدوات والعناصر الباطنیة تصطدم أحیاناً ببعض الموانع، وینبغی علی الإنسان، لتفعیل هذه العناصر وإزالة تلک الموانع، الاستفادة من النظامین الآخرین (الأخلاقی والتشریعی) والفقه یوفّر للإنسان النظام التشریعی فی حرکة الحیاة.

ج) ورد فی القرآن الکریم فی أکثر من خمسین مورداً اقتران الإیمان بالعمل الصالح (الذی لا یمکن تحقیقه بدون تعلّم «الفقه») وأنّ ذلک هو معیار الصلاح والفلاح والأجر والثواب الأُخروی، من قبیل الآیة الشریفة التی تقرّر وعدَ اللَّه تعالی بالثواب العظیم للأشخاص الذین یملکون الإیمان والعمل الصالح معاً:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِیمٌ»(5) وکذلک ما ورد فی الآیة التی تقرّر أنّ محبوبیة الأشخاص لدی الناس یرتبط بالإیمان والعمل الصالح: «إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَیَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً»(6).

وقد ورد فی بعض الآیات اقتران التقوی مع الإیمان، وأنّ المؤمن المتّقی له أجر عظیم: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَکُمْ أَجْرٌ عَظِیمٌ»(7) وبدیهیّ أنّ التقوی لا تتحقّق فی واقع الإنسان بدون أداء الواجبات وترک المحرّمات التی یتکفّل بیانها «الفقه».


1- کما صرّح به العلّامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان، ج 17، ص 23.
2- بحار الأنوار، ج 66، ص 402، ح 102.
3- سورة الأنفال، الآیة 29.
4- سورة البقرة، الآیة 282.
5- سورة المائدة، الآیة 9.
6- سورة مریم، الآیة 96.
7- سورة آل عمران، الآیة 179.

ص: 39

د) ونقرأ فی روایات عدیدة أنّها تستنکر علی قوم یدعون ب «المرجئة» الذین یزعمون کفایة الإیمان للنجاة والفلاح بدون العمل، کما فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام فی جوابهم:

«والإیمانُ دَعوی لا یَجوزُ إلّا بِبَیِّنَةٍ وبیِّنَتُه عَملُه ونِیَّتُه»(1).

کما ورد فی العدید من الروایات الأخری ذمّ الأشخاص الذین یدّعون محبّة أهل البیت علیهم السلام ویظنّون أنّ هذه المحبّة لوحدها کافیة لنجاتهم، نظیر ما ورد فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام فی خطابه لجابر: «

یا جابِرُ أیَکْتَفِی مَن ینتَحِلُ التشیُّعَ أن یقولَ بحُبِّنا أهلَ البَیتِ؟ فَوَاللَّهِ ما شیعَتُنا إلّامَنِ اتّقی اللَّه وأطاعَهُ وما کانوا یُعرَفون- یا جابر- إلّابالتّواضُعِ والتخَشُّعِ والأمانَةِ وکَثْرةِ ذِکرِ اللَّه والصَّومِ والصَّلاةِ وبِرّ الوالِدَین والتّعاهُدِ للجِیرانِ مِن الفُقَراءِ وأهلِ المَسْکَنةِ والغارِمین والأیتامِ وَصِدقِ الحَدیثِ وتِلاوَةِ القُرآنِ وکَفِّ الألسُنِ عن النّاس إلّامن خَیرٍ وکانوا أمناءَ عشائِرهم فی الأشیاء ... فاتَّقوا اللَّهَ واعمَلوا لِما عِنداللَّهِ، لیسَ بینَ اللَّهِ وبینَ أحَدٍ قَرابةٌ، أحَبُّ العِبادِ إلی اللَّه عزّوجلّ وأکْرَمُهم علیه أتْقاهُم وأعْمَلهُم بِطاعتِه، یا جابِر واللَّهِ ما یُتَقَرَّبُ إلی اللَّه تبارک وتعالی إلّابالطاعةِ وما مَعَنا براءةٌ مِن النّار ولا علی اللَّهِ لأحَدٍ مِن حُجَّةٍ، مَن کان للَّهِ مُطِیعاً فهُو لَنا ولیٌّ ومَن کان للَّهِ عاصِیاً فهو لنَا عَدوٌّ وما تُنالُ وِلایتُنا إلّا بالعَمَلِ والوَرَعِ»(2).

ومن الواضح أنّ العمل والورع والطاعة، بدون معرفة الفقه ومسائل الحلال والحرام، لا تتحقق فی واقع الإنسان وسلوکه، کما أنّ التقوی التی تعدّ معیار الکرامة عند اللَّه کما فی قوله تعالی: «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ»(3) لا تتحّقق بدون تعلّم الواجبات والمحرمات التی تکفّل بیانها «الفقه». وعلی هذا الأساس فإنّ حبّ اللَّه والنبیّ صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام الذی هو من لوازم الإیمان، لا یکمل بدون عمل وتحصیل المعرفة بالفقه.

تأثیر العقائد والأخلاق فی المسائل الفقهیة:

تبیّن فیما سبق التأثیر العمیق «للفقه» فی العقائد والأخلاق، واتّضح بجَلاء أنّ الإخلال «بالفقه» الذی یعدّ ثلث الدین، أی فیما یستنبطه الفقیه من الشریعة یؤدّی بالإخلال بالثلثین الآخرین، ولکنّ الملاحظة الجدیرة بالاهتمام هو أنّ العکس صحیح أیضاً، فالإخلال بالعقائد والأخلاق یؤدّی أیضاً إلی الإخلال بالعمل بالشریعة والشاهد البیّن علی المدّعی هو وجود أمور أخلاقیة وقضایا عقائدیة کثیرة فی أبواب الفقه وفیما یلی إشارة إلی بعضها:

أ) إنّ القسم الأهمّ من الفقه یبحث فی الأمور العبادیة التی ترتکز علی النیّة الخالصة وقصد القربة، وهذه بدورها ترتبط بالمسائل الأخلاقیة والعقائدیة، حتّی بالنسبة للأعمال التوصّلیة بالرغم من أنّ قصد القربة فیها لیس شرطاً فی صحّة العمل ولکن لا شکّ فی أنّ قصد القربة فیها سبب فی کمالها.

ویتّفق جمیع الفقهاء علی أنّ تزکیة العبادة من الریاء شرط فی مطلق العبادات، فلو أنّ المکلّف قصد من عبادته الریاء فإنّ عمله باطل ویرتکب بذلک معصیة کبیرة، لأنّه قد أشرک باللَّه تعالی، وحتّی أنّه لو قصد الریاء ببعض أجزاء الواجب أو المستحبّ فی الأعمال العبادیة أو کان أصل عمله للَّه تعالی ولکنّ أداءَه فی


1- الکافی، ج 2، ص 39، ح 8.
2- المصدر السابق، ص 74، ح 3.
3- سورة الحجرات، الآیة 13.

ص: 40

مکان خاصّ کالمسجد، أو فی زمان معیّن کأوّل الوقت کان بقصد الریاء، فعمله باطل (1).

ورد فی الروایات عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام:

قال اللَّه عزّ وجلّ: «أنا خَیرُ شریکٍ، مَن أشْرَکَ مَعِی غَیْری فی عَمَلٍ عَمِلَه لم أقْبَلْهُ إلّاما کان لی خالِصاً»(2)

. وکذلک ورد:

«إنّک لن یُتَقَبَّلَ مِن عَملِک إلّاما أخْلَصْتَ فِیه»(3).

ب) جاء فی بعض الروایات:

«إنّ حُسْنَ الخُلُقِ یُذِیبُ الخَطِیئةَ ... وإنّ سُوءَ الخُلُقِ لَیُفْسِدُ العَمَل ...»(4).

ج) إنّ الصدقات المستحبّة التی تختلط وتقترن بالمنّ والأذی فی جزئیاتها وخصوصیاتها طبقاً للآیة الشریفة: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَی (5) تقع باطلة لا یثاب علیها الإنسان، فالمنّ والأذی من الرذائل الأخلاقیة ..

د) ورد فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ الأعمال العبادیة التی یتکفّل بها علم «الفقه» إذا اختلطت بالرذائل الأخلاقیة کالعجب ونسیان الذنب مثلًا فإنّها ستحبط:

«قال إبلیسُ: إذا استَمْکَنتُ من ابنِ آدَمَ فی ثلاثٍ لم أُبالِ ما عَمِل، فإنَّه غَیرُ مَقبولٍ منه: إذا استَکْثَر عَملَه ونَسِیَ ذَنْبَه ودَخَله العُجْب»(6).

ه) ورد فی حدیث عن الرسول الإکرم صلی الله علیه و آله التصریح بأنّ الأعمال الصالحة لا ثمرة فیها بدون ورع وحسن الخلق:

«ثَلاثةٌ من لم تَکُن فیه لَم یَقُم له عَمَل: وَرَعٌ یَحجُزه عن مَعاصی اللَّه عزّوجلّ، وخُلُق یُدارِی به الناس، وحِلمٌ یَرُدُّ بهِ جَهْل الجاهِل»(7).

تأثیر العقائد والأخلاق فی عملیة الاستنباط:

مضافاً إلی ما ذکر، فإنّه لا ینبغی الغفلة عن تأثیر العقائد والمکارم الأخلاقیة التی تمثّل (روح الشریعة وغایة الدین النهائیة) فی شفافیة استنباط المسائل الفقهیة أیضاً، لأنّ الفقیه الذی یملک الإیمان القویّ ویتمتّع بالعدالة الأخلاقیة فإنّه: أوّلًا: عندما یتحرّک فی مقام استنباط الأحکام فإنّه یتوخّی غایة الدقّة فی ذلک لئلّا یکون مسؤولًا أمام اللَّه تعالی، وثانیاً: إنّ أشکال الحبّ والبغض والمنافع الشخصیة والفئویة لا یمکنها أن تکون مانعاً وحاجزاً فی عملیة استنباط الأحکام، ولهذا السبب فإنّه یستنبط فی الغالب ما هو أقرب للحقّ والعدل، وما یوافق نظر الشارع المقدّس ویضعه موضع استفادة الناس علی شکل مسائل فقهیة.

والشکل الآخر من التأثیر المتقابل بین الفقه والمسائل الأخلاقیة والعقائدیة هو أنّ أهمّ مقولة أخلاقیة هی «العدالة» وتعدّ فی ذات الوقت من المقاصد العلیا للدین، وکذلک ملاحظة سائر غایات ومقاصد الدین بعنوانها أصل من أصول الاستنباط التی ینبغی أن یأخذها الفقهاء بنظر الاعتبار.

وتوضیح ذلک: إنّ «الفقه» مسؤول عن جمیع تفاصیل منظومة الدین، والفقیه لا یمکنه إصدار رأی لا ینسجم مع أحد أهداف ومقاصد الدین، مثلًا إذا کانت الفتوی تتقاطع وتتعارض مع إقامة القسط والعدالة الاجتماعیة فی الأرض، فإنّه ینبغی للمسلم أن یتدبّر


1- العروة الوثقی، کتاب الصّلاة، فصل النیّة، المسألة 8.
2- الکافی، ج 2، ص 295، ح 9؛ کنز العمّال، ج 3، ص 479، ح 7512.
3- غرر الحکم، ح 2913.
4- بحار الأنوار، ج 68، ص 395، ح 74.
5- سورة البقرة، الآیة 264.
6- الخصال، ص 112، ح 86.
7- بحار الأنوار، ج 67، ص 305، ح 21.

ص: 41

فیها أکثر ویراجع مرّة أخری خفایا وتفاصیل هذه الفتوی ویکشف بعض خصوصیاتها المتعلّقة بالموضوع الواقعی للحکم لیتمکّن بالتالی من رفع هذا التعارض، وعلی أیّة حال فمن اللازم رعایة أصل «الانسجام مع غایات ومقاصد الدین وروح الشریعة» ولأنّها بمثابة أصل من أصول الاستنباط.

علی هذا الأساس فإنّ الکثیر من الآیات التی تتناول المسائل الفقهیة وتتحدّث عن بعض أحکام الفقه تقترن بالإشارة إلی رعایة العدالة واجتناب الظلم والجور، من قبیل الآیة التی تتحدّث فی مضمونها عن أحکام الطلاق وتنهی عن الإضرار والظلم «وَلَا تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ یَفْعَلْ ذَلِکَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»(1).

وتتحدّث الآیات أیضاً عن النهی عن الاستهزاء بآیات اللَّه، وتدعو لتذکّر نِعَم اللَّه تعالی: «وَلَا تَتَّخِذُوا آیَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَیْکُمْ مِنَ الْکِتَابِ وَالْحِکْمَةِ یَعِظُکُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِکُلِّ شَی ءٍ عَلِیمٌ»(2).

کما أنّ العلّامة الطباطبائی فی ذیل مثل هذه الآیات یصرّح (3) بأنّه یستفاد من مثل هذه الآیات عدم جواز التفریق بین الأحکام الفقهیة والأصول الأخلاقیة بأن یکتفی الإنسان بخصوص الأحکام الفقهیة ویجمد علی ظواهر العبارات، لأنّ فی مثل ذلک إبطال مصالح التشریع وزوال الغایة من الدین وزوال السعادة من حیاة الإنسان.

ویقول «الغزالی عن فقیه من فقهاء أهل السنّة هو القاضی «أبویوسف یعقوب بن إبراهیم بن حبیب الأنصاری» تلمیذ أبی حنیفة وأوّل قاضی القضاة، ویعدّ من کبار فقهاء القرن الثانی: «وقد حکی أنّ أبا یوسف کان یهب ماله لزوجته فی آخر الحول ویستوهب مالها لإسقاط الزکاة، فحکی ذلک لأبی حنیفة فقال:

«ذلک من فقهه»

. ثمّ قال الغزالی: صدق (أبوحنیفة)، فإنّ ذلک من فقه الدنیا ولکن مضرّته فی الآخرة أعظم من کلّ جنایة ومثل هذا العلم هو الضّارّ»(4).

ومن هذا القبیل ما نراه فی کلام الفقیه المعروف صاحب کتاب الجواهر فی مقابل فقیه من فقهاء الشیعة الذی أفتی فیما یخصّ رجل محبوس فی دار غصبیة أنّه یجب علیه أن یأتی بصلاته بتلک الکیفیة التی دخل فیها لهذه الدار المغصوبة، فإن کان واقفاً فیصلّی واقفاً وإن کان جالساً فیصلّی من جلوس، بل إنّه لا یمکنه أن یتّخذ حالة أخری غیر حالة الصلاة، لأنّ ذلک یعدّ تصرّفاً فی ملک الغیر بدون إذنه، ویقول صاحب الجواهر: «ولم یفطن أنّ البقاء علی الکون الأول أیضاً لا دلیل علی ترجیحه علی ذلک التصرّف، کما أنّه لم یفطن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشدّ ما عامله الظالم، بل حَبسُه ما حَبَسه أحدٌ لأحد ... وکلّ ذلک یأتی عن عدم التأمّل فی أول الأمر ولأنفة عن الرجوع بعد ذلک، أعاذاللَّه الفقه من أمثال هذه الخرافات»(5).

تأثیر التفقّه و الاجتهاد فی العلوم الإسلامیة الأخری:

ممّا لا شک فیه أنّ الکتاب والسنّة یمثّلان الرکن الأساس لجمیع العلوم الإسلامیة، ویحتاج إلیهما کلّ من الفقیه والمفسّر، وحتّی المتکلّم والفیلسوف، وهکذا سائر العلوم الإنسانیة فی الإسلام (کعلم النفس


1- سورة البقرة، الآیة 231.
2- سورة البقرة، الآیة 231.
3- المیزان، ج 2، ص 234.
4- المحجّة البیضاء، ج 1، ص 57، کتاب العلم.
5- جواهرالکلام، ج 8، ص 300.

ص: 42

الإسلامی، وعلم الاجتماع الإسلامی، الأخلاق الإسلامیة، والفلسفة وعلم الکلام الإسلامیین، وعلم الحقوق الإسلامی)، کلّها تحتاج فی دراساتها إلی الکتاب والسنّة.

ومن جهة أخری فإنّ من المعلوم أنّ أحد الأرکان والدعائم الأساسیة للفقه والتفقّه هو علم الأصول، ونعلم أنّ قسماً مهمّاً من علم الأصول یتمثّل فی بحث الألفاط، یعنی المباحثة التی لا غنی عنها لکلّ حکم فقهی وغیر فقهی، فمباحث العامّ والخاص المطلق والمقیّد، المفهوم والمنطوق، الأوامر والنواهی، بحث المشتقّات، وعلائم الحقیقة والمجاز، والأحکام المتعلّقة بالمشترک والمجاز، کلّها تنظوی فی هذه الدائرة.

وکذلک بالنسبة لعلم الرجال ومعرفة أسناد الروایات التی تعدّ ضروریة (سواء فی مرتبة الاجتهاد أو بالاقتباس من أهل الخبرة) فی عملیة التفقّه والاجتهاد، وبالطبع فإنّ جمیع العلوم المستوحاة من النصوص والروایات التی تملک سلسلة من الرواة فی سندها، فإنّ معرفة هذه الأسناد ضروریة.

علی هذ الأساس یمکن القول: إنّ الإطّلاع علی قسم مهمّ من علم الرجال والقسم الأعظم من علم الأصول، هو لازمٌ وضروریٌّ فی علمیة الاجتهاد والاستنباط فی العلوم الإسلامیة الأخری.

وعلی هذا الأساس فإنّ المحقّق الذی لا یملک ملکة الاجتهاد فإنّه لا یملک النصاب اللازم لأمر التحقیق فی المجالات المختلفة للعلوم الإسلامیة، وعلی سبیل المثال:

1. لقد استعان المتکلّمون فی علم الکلام لحلّ التعارض الظاهری بین الآیات والروایات المتربطة بمسألة علم النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام، والجبر، والتفویض، والشفاعة، بالقواعد الأصولیة، وبالإحاطة بالقواعد المذکورة لاستجلاء المسائل واستعراضها.

2. واستعانة علماء الأخلاق لحلّ التعارض البدوی بین الآیات والروایات الواردة فی تیسیر معرفة الدنیا المذمومة وتمییزها عن الدنیا الممدوحة، وکذلک بالنسبة لمسألة الفقر والغنی، والزهد، والعزلة والمعاشرة ومن خلال الاطّلاع والإحاطة بقواعد علم الأصول نجد أنّ التعارض سینحلّ بسهولة.

3. توجد مسائل کثیرة جدّاً فی علم الحقوق الإسلامی تتّخذ لها أحیاناً سمة فقهیة وأخری غیر فقهیة، ولکن کلّها تستوحی مقوّماتها من الأصول والقواعد المذکورة فی علم أصول الفقه، وعلیه فإنّ الحقوقیین یجب علیهم- مضافاً إلی الاحاطة بعلوم أخری التی تمثّل رکیزة لعلم الحقوق- أن یطّلعوا علی هذا القسم من علم الأصول أیضاً بمستوی الاجتهاد لکی یتسنّی لهم الکشف عن المسائل الحقوقیة الإسلامیة المقتبسة من الکتاب والسنّة.

وهکذا فیما یتعلّق بالمسائل التی تتّصل بالإدارة الإسلامیة والحکومة، وعلم النفس الإسلامی، وأمثال ذلک فإنّ هذا الحکم جارٍ فیها أیضاً.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الاحتجاج، أحمد بن علی الطبرسی، منشورات دارالنعمان.

ص: 43

4. أصول السرخسی، محمّد بن أحمد السرخسی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی 1414 ق.

5. الأمالی، محمّد بن الحسن الطوسی، دار الثّقافة، قم، الطبعة الأولی 1414 ق.

6. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، الطبعة الأولی بیروت، 1403 ق.

7. بصائر الدّرجات الکبری محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار، مؤسسة الأعلمی، طهران، 1362 ش.

8. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی، دار الفکر المعاصر، بیروت، الطبعة الأولی 1411 ق.

9. جواهر الکلام، محمّد حسن النجفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة، 1981 م.

10. الخصال، الشیخ الصدوق، جماعة المدرسین، قم.

11. روضة الواعظین، محمّد بن الفتّال النیسابوری، منشورات الرضی، قم.

12. شرح نهج البلاغه، ابن أبی الحدید المعتزلی، انتشارات دارالکتب العلمیّة، قم، الطبعة الأولی 1378 ق.

13. العروة الوثقی، محمّد کاظم الطباطبائی الیزدی، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الأولی 1420 ق.

14. علل الشرائع، الشیخ الصدوق، المکتبة الحیدریة، النجف، 1386 ق.

15. عیون أخبار الرضا علیه السلام، الشیخ الصدوق، مؤسسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الأولی 1404 ق.

16. غرر الحکم، کلمات أمیرالمؤمنین، الآمدی، انتشارات مکتبة الأعلام، قم، الطبعة الأولی 1366 ش.

17. الفصول المهمّة فی أصول الأئمّة، الشیخ الحرّ العاملی، مؤسسة المعارف الإسلامیة، قم، الطبعة الأولی 1418 ق.

18. الکافی، أبوجعفر محمد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ش.

19. الکامل، عبداللَّه بن عدی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الأولی 1409 ق.

20. کنزالعمال، المتّقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت.

21. المحجّة البیضاء، محسن الکاشانی، مکتب الإعلام الإسلامی التابع لجماعة المدرسین، الطبعة الثانیة.

22. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

23. المعجم الصغیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی، دار الکتب العلمیّة، بیروت.

24. المیزان، العلّامة الطباطبائی، مؤسسة النشر الإسلامی، قم.

ص: 44

ص: 45

3

القسم الثالث: سعة دائرةالفقه

اشارة

حدود الفقه، تابعة لحدود الشریعة

قبول القوانین الإمضائیة

الأصل الأوّلی هو الشمولیة والدوام

الإفراط والتفریط فی تعیین حدود الفقه

ص: 46

ص: 47

سعة دائرةالفقه

هناک عبارة معروفة تقول: «إنّ الفقه یمثّل نظریة ورؤیة واقعیة وکاملة لإدارة أمور الإنسان والمجتمع من المهد إلی اللحد» وهذه العبارة التی قالها أحد الفقهاء المعاصرین الکبار(1)، لیست أمراً اعتباطیاً، لأنّ «الفقه» کما تقدّم فی بحث «الفقه فی اللغة والاصطلاح» یتکفّل ضمان النظام التشریعی للدین فی فضاء الحیاة، وهو علم معرفة الشریعة، الشریعة التی تمثّل نظاماً منسجماً ومتّسقاً، هذه المنظومة التشریعیة- مع الأخذ بنظر الاعتبار خاتمیة الدین الإسلامی- قد نظّمت بشکل إنّها تتمکّن من رفد الإنسان والمجتمع البشری فی مختلف ظروفه ومراحله وإلی یوم القیامة، بالقوانین والمقرّرات اللازمة، بالاعتماد علی الأصول الکلّیة لهذه الشریعة.

إذا اهتمّ الفقهاء- بدلًا من التدقیق فی المسائل والموضوعات المعروفة- بالبحث والتحقیق فی المسائل والموضوعات التی تتناول أبعاداً جدیدة من حیاة الإنسان المعاصر، وعلی حدّ تعبیر الشهید المحقّق، محمّد باقر الصدر: «إنّ السیر العمودی للحرکة الفکریة لهؤلاء الفقهاء، الذی یتمیز بالحدّ الأعلی من الدقّة، لواستبدل بالسیر الافقی فی مسائل الحیاة المعاصرة»(2) فسوف یتّضح أنّ حدود دائرة الفقه تستوعب جمیع میادین الحیاة البشریة.

إنّ تبیین وتحلیل هذه المسألة یقتضی الإشارة إلی عدّة نقاط:

1. حدود الفقه، تابعة لحدود الشریعة

اشارة

إذا کانت الشریعة الدینیة تتکفّل وضع قوانین فی جمیع مساحات الحیاة البشریة، فإنّ علم الفقه الذی هو علم معرفة الشریعة، أیضاً یمکنه الدخول فی جمیع میادین الحیاة، وتکون الرسالة العملیة والفتوائیة للفقهاء بمثابة رسالة الحیاة فی جمیع أبعادها.

وعلی هذا الأساس، ومن أجل تعیین دائرة علم الفقه، لابدّ فی البدایة من معرفة دائرة وحدود الشریعة الإسلامیة، وذلک من خلال استعراض ثلاث نقاط فی هذا الصدد:

1. ما هو المقصود من الشریعة؟


1- الإمام الخمینی مؤسس الحکومة الفقهیة والجمهوریة الإسلامیة( صحیفة النور، ج 21، ص 98).
2- مجلة فقه أهل البیت، السنة الأولی، ربیع 1374، العدد 1، ص 41( مقالة الحرکة المستقبلیة للاجتهاد، عن الشهید الصدر).

ص: 48

2. ما هو هدف الدین؟

3. ما هی الموارد التی یحتاج الإنسان فیها للدین؟

أ) ما المقصود من الشریعة؟

إنّ «الشریعة» عبارة عن القوانین العملیة التی وضعها الدین لتنظیم وهدایة أعمال وسلوکیات الناس باتّجاه المقاصد والأغراض العلیا التی یریدها الدین، بالطبع فإنّ هذه الشریعة تمتاز بأمرین أساسیین:

الأوّل: إنّها تشکّل الجانب الملموس والعینی من الدین، لأنّ العقائد الدینیة مع شدّة أهمّیتها فإنّها تتّصل بروح الإنسان وفکره، بجهة باطنیة، بینما العمل بالأوامر والأحکام الشرعیة یتمیّز بجهة ظاهریة، بمعنی أنّها ترتبط مباشرة بالجانب العملی والسلوکی فی حیاة الإنسان والمجتمع البشری وتعمل علی تنظیم أمور معیشتهم وحلّ التعقیدات الحقوقیة فی المجتمع البشری.

والآخر: إنّ الشریعة تمثّل أوسع قسم من أقسام الدین، لأنّه من الممکن أن یترتّب علی أصل واحد من الأصول العقائدیة آلاف الأعمال والسلوکیات، والإنسان قد یجد نفسه مکلّفاً وملزماً بآلاف الأعمال والتکالیف فی مقابل ذلک الأصل الواحد.

ب) ما هو هدف الدین؟

لا شکّ فی أنّ الغایة الأساسیة للدین غرس الإیمان فی واقع الإنسان بأصلین مهمّین هما: المبدأ والمعاد، وهذا الإیمان یمنح الحیاة بعداً جدیداً وتوجّهاً خاصّاً، ویرسم لحیاة الإنسان نمطاً من المعیشة یتطلّب أحکاماً وقوانین وواجبات ومحرّمات، وهذه القوانین هی التی تقود الإنسان بسلام فی ممرّات الحیاة، وتنقذه من منزلقات هذه الحیاة والمآزق الخطرة التی تنبع أحیاناً من وساوس الإنسان الباطنیة، وأحیاناً أخری من العلاقات الإجتماعیة المنحرفة، والتی بدورها تمدّ جذورها نحو الرغبات النفسانیة السلبیة فی واقع الإنسان، فالغایة إنقاذ الإنسان من جمیع هذه المنزلقات وإیصاله إلی ساحل الأمن والأمان، وهذا الأمر یتحقّق من خلال وضع مجموعة من القوانین والمقرّرات والواجبات والمحرّمات التی تقوم علی أسس وقواعد عقائدیة فی المنظومة الدینیة.

وفیما یتعلّق بالسؤال الثالث متی یحتاج الإنسان لهدایة الدین، وبالتالی یحتاج لوضع قوانین وتکالیف دینیة؟ فینبغی القول کمقدّمة: إنّ الإنسان فی مسیرة حیاته یملک حاجات متنوعة، وبما أنّه بإمکانه- من أجل إشباع هذه الحاجات- سلوک طرق مختلفة والتحرّک بسلوکیات متفاوتة، فإنّ الشریعة والفقه یرسمان له أحسن وأنفع ما یمکن أن یسلکه الإنسان لإشباع هذه الحاجات، بصورة صحیحة.

ج) موارد الحاجة للدین

اشارة

فی البدایة ومن أجل أن نتعرّف علی الموارد والدوائر التی یحتاج الإنسان فیها للهدایة الدینیة، وبالتالی یحتاج لوضع القوانین والمقرّرات، وما ینبغی له وما لا ینبغی فی واقع الحیاة، وبما أنّ الإنسان فی حرکة حیاته یحتاج إلی أمور مختلفة وکلّ حاجة یمکن أن تکون لها حلول متعدّدة، فإنّ الشریعة وکذلک الفقه الإسلامی یعتبر أفضل الحلول، ویمنح الإنسان أحسن الاستجابات لهذه الحاجات، ویقرّر فی أحکامه السلوک السلیم والصحیح لرفع هذه الحاجات وحلّ تلکم المشکلات.

ص: 49

أمّا ما هی الحاجات والمشاکل التی یواجهها الإنسان فی واقع الحیاة وفی أیّ موارد؟ فی مقام الجواب ینبغی القول: إنّ الإنسان یملک ثلاثة أنواع من الحاجات:

الحاجات الطبیعیة:

إنّ أوّل نوع من حاجة الإنسان ما یتّصل بدائرة الحیاة الطبیعیة، من قبیل الحاجة للغذاء، المسکن، الدفاع عن النفس، الانتقال من مکان إلی آخر.

وربّما یقال إنّه ومن أجل إشباع هذا النوع من الحاجات، لا یحتاج الإنسان إلی الفقه، لأنّ الحاجات موجودة ومتوفّرة بشکل مباشر فی المحیط الطبیعی الذی یعیش فیه، ویکفی لرفعها أن یقوم الإنسان لإشباع هذا النوع من الحاجات بالسعی المتواصل لاستغلال عناصر الطبیعة ویستثمرها لصالحه ویعمل علی تسخیر موارد الطبیعة حوله فی تحقیق هذا المطلوب، ویکفی للإنسان أن یستخدم العقل والعلم وقدرة الإبداع فیه للوصول إلی هذا الهدف، ولا یحتاج حینئذٍ لتدخّل الدین، لأنّ تطویع قوی الطبیعة والعمل علی إعمار الحیاة فی بُعدها المادّی لا یرتبط بهدایة أو ضلالة الإنسان، لیکون مشمولًا لمقرّرات الشریعة وقوانین الفقه. وببیان آخر: إنّ رسالة الدین لا تقوم علی أساس تعلیم العلوم والفنون لتسخیر الطبیعة للإنسان، لأنّ ارتکاب الخطأ فی هذه المساحة لا یؤدّی إطلاقاً إلی انحراف الإنسان عن خطّ الهدایة والسقوط من أُفق الإنسانیة، مثلًا اکتشف الإنسان بعد ألفی عام من عمر نظریة بطلیموس حول الأرض والکرات السماویة، خطأ هذه النظریة واستبدلها بنظریة جدیدة، وهی نظریة کبرنیک وغالیلو، ومثل هذا الخطأ لا یتقاطع مع وصول الإنسان إلی آفاق السعادة ولا یؤثّر علی مسیرة الإنسان والغایة من خلقته (1).

وفی مقام الجواب یمکن القول: إنّ هذا الکلام صحیح ومقبول من جهة، وهی أنّ رسالة الدین لاتتمثّل فی تعلیم الإنسان العلوم والفنون والأسالیب المختصّة بتسخیر الطبیعة، ولکنّ هذا المعنی لا یعنی أنّ الإسلام لم یقرّر أیّ حکم من الأحکام لهذه النشاطات والفعالیات التی یقوم بها الإنسان فی حرکة حیاته الطبیعیة، لأنّ من الممکن أن تؤدّی بعض أسالیب تسخیر الطبیعة إلی مفاسد أخلاقیة واجتماعیة، وبالتالی تقف حاجزاً أمام مسیرة الإنسان التکاملیة، فلابدّ من نهیه عن اتّخاذ مثل هذه الأسالیب والأعمال السلبیة، علی سبیل المثال فإنّ الإسلام فی المسائل الاقتصادیة وما یتعلّق بالمصارف قد حرّم الأسالیب التی تفضی إلی الربا، وکذلک حرّم بیع وشراء المخدّرات والمشروبات الکحولیة وجمیع الأمور المضرّة للإنسان فی بدنه وروحه وأخلاقه.

کان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یعلم عن طریق الوحی بأنّ النوع الفلانی من اللحم مفید للإنسان والنوع الآخر مضرّ، وقد أحلّ الأول بحکم إلهی وحرّم الثانی، وهکذا بالنسبة لسائر الأنواع من المشروبات والأمور المتعلقة بحیاة الإنسان المادیة.

وبعبارة أخری: إنّ عدم تدّخل الشریعة فی مجالات العلوم والفنون المرتبطة بتسخیر الطبیعة، لیس بمعنی عدم وضع أحکام کلیّة لهذه الأسالیب ووضعها فی إطار


1- مجلّة فقه أهل البیت، السنة الثانیة، العدد 1، ص 215 و 216،( مقالة مکانة الفقه فی الفکر الإسلامی).

ص: 50

هادف لخدمة الإنسان فی طریق سعادته وتکامله (ولعلّ قائل هذا الکلام لا ینکر هذا المطلب) لأنّه بالرغم من أنّ الإنسان یتمکّن من خلال السعی الجادّ واستخدام العقل والعلم من إشباع حاجاته الطبیعیة بواسطة تسخیر الأشیاء الموجودة فی عالم الطبیعة، ولکن لا شکّ فی أنّ هذه العناصر تتزاحم عادة مع عناصر أخری من شأنها تهدید حیاة الإنسان وبقائه، ولابدّ من مواجهتها والتصدّی لها وإبعادها عن حیاة الإنسان، ومن جهة أخری فإنّ الکثیر من أفراد البشر لا یعیشون القناعة، بل یطلبون المزید حتّی بعد إشباع حاجاتهم الطبیعیة، فبعد أن یحرزوا أصل بقائهم ووجودهم، یتحرّکون لإشباع رغباتهم ومیولهم النفسانیة من حیاة الترف واللذائذ، وفی ظلّ هذا التزاحم والصراع وطلب المزید ومع عدم الالتزام الدینی، فإنّ احتمالات الانحراف والزیغ ستزداد قطعاً، هذه الإنحرافات تؤدّی إلی تکریس ظواهر الفقر والفساد والتمییز فی أجواء المجتمع البشری، ومن الطبیعی أنّ حالات الفقرو الفساد و التمییز العنصری والعرقی تؤثّر تأثیراً مباشراً علی روح الإنسان ونفسه وتسبّب بدورها مزیداً من حالات الیأس والجنوح الأخلاقی.

ولهذا السبب نری وجود واجبات ومحرّمات کثیرة فی الفقه الإسلامی فی مجال المسائل التی تتّصل بحیاة الإنسان الطبیعیة، لحفظه من خطر النفس الأمّارة بالسوء.

والشاهد علی هذا الکلام وجود کتاب الطهارة والنجاسة فی الفقه لحفظ الإنسان فی مجال الصحّة ورعایة الأمور الصحیّة، وکتاب الأطعمة والأشربة لإبعاد الإنسان عن الأطعمة المضرّة فی بدنه أو المضرّة بحاله المعنوی والأخلاقی، وکذلک تحریم بعض أشکال السلوکیات والأعمال المضرّة تجاه الطبیعة حیث تشکّل خطراً علی البیئة، وبشکل عام فهناک أحکام تقرّر حرمة الإضرار بالنفس وما یشکل خطراً علی سلامة جسم الإنسان وروحه (وربّما لا یدرک الإنسان نفسه خطر هذه الأمور).

الحاجات الروحیة والمعنویة:

النوع الثانی من الحاجات، هی الحاجات الروحیة والمعنویة والتی تتّصل بدائرة النفس الإنسانیة وتکون منشأ المیول الخیّرة أو الشریرة فی واقع الإنسان وتؤدّی إلی صدور سلوکیات تتّسم بالقیمة الأخلاقیة أو ما یخالف القیم فی حیاة الإنسان، مثل الحاجة للهدوء النفسی والروحی والحاجة للعبادة، ومعرفة سرّ الوجود وعلّة خلق الإنسان والعالم، والحاجة إلی الحبّ والإحسان، وأمثال ذلک.

ولا شکّ فی أنّ الاستجابة الصحیحة والإشباع السلیم لهذه الحاجات فی الإنسان یؤدّی إلی تصحیح مسیرته فی خطّ العدالة والفضیلة، وعلی العکس من ذلک فإنّ الاستجابة السقیمة والإشباع غیر الصحیح یورثه حالات الکفر والظلم والکراهیة.

إنّ حاجة الإنسان للفقه لإشباع هذه الحاجات أمر واضح جدّاً، لأنّه بالرغم من أنّ عقل الإنسان وفطرته یدرکان الخیر والشرّ والحقّ والباطل فی حدود معینة ویقودان الإنسان إلی ما فیه صلاحه وخیره فی هذا المجال، إلّاأنّنا نعتقد بأنّ تعقید المسائل النفسیة والروحیة وتدخّل النوازع والأهواء النفسانیة فی هذه العملیة کبیر جدّاً إلی حدّ أنّه لو لم یتدخّل الوحی فی عملیة إرشاد الإنسان وهدایته وتفویض زمام أمره إلی العقل والتجربة البشریة، فإنّ الإنسان سیتحرّک قطعاً فی

ص: 51

خطّ الانحراف والخطیئة.

علی هذا الأساس فإنّ قسماً مهمّاً من الشریعة المقدّسة اختصّت بأمر العبادات لتدارک هذه الحاجات المعنویة، والفقه الإسلامی تکفّل إرشاد الإنسان إلی طریق العبودیة والإیمان والتحلّی بمکارم الأخلاق بالاستعانة بالرکنین الآخرین: الأخلاق والعقیدة.

الحاجات الاجتماعیة:

النوع الثالث هو الحاجات الاجتماعیة، أی الحاجات التی أفرزتها ضرورة الإرتباط مع الآخرین والحیاة إلی جانب أفراد المجتمع، سواءً کانت هذه الضرورة تمتدّ إلی باطن النفس البشریة والفطرة الإنسانیة والحاجات الروحیة، أم تمتدّ بجذورها إلی الحاجات الطبیعیة.

إنّ الاستجابة لهذا القسم من الحاجات، وبشکل عام تنظیم العلاقات الاجتماعیة لأفراد البشر، یتسبّب فی إیجاد الأنظمة والمؤسسات المدنیة والاجتماعیة من قبیل نظام الأُسرةو الملکیة و الاقتصاد و السیاسة و الحکومة.

إنّ حاجة المتدینین للفقه فی مجال رفع مشکلات هذا القسم من الحاجات، أمر بیّن أیضاً، لأنّه:

أوّلًا: إنّ اتّساق وانسجام النظم المذکورة مع الغایة الکلّیة للدین وهی هدایة الإنسان وحرکته فی خطّ الکمال المعنوی، یعدّ أمراً ضروریاً، لأنّه من الواضح فی صورة عدم تحقّق الانسجام بین هذه الأمور، فإنّ ذلک من شأنه أن یقود الإنسان نحو وادی الانحراف والسقوط والابتعاد عن مسیر الهدایة والصلاح.

ثانیاً: إنّ هذا الانسجام یتطلّب وجود واجبات ومحرّمات ومقرّرات وقوانین لا یستطیع العقل البشریّ لوحده ولا التجربة البشریة من ضمان وتأمین هذه الأمور، بل یجب التوجّه فی ذلک إلی الفقه والاقتباس من منهله، الفقه الّذی یستوحی أحکامه من الوحی الإلهی، وعلی هذا الأساس نری وجود أحکام کثیرة فی أبواب المعاملات والأحوال الشخصیة فی الفقه تتکفّل منح الإنسان الطهر والصفاء والطمأنینة فی حرکته الاجتماعیة.

وببیان آخر: إنّ الإنسان بعقله وفهمه لا یمکنه وضع قوانین ومقرّرات صحیحة فی هذا المجال، حیث إنّه کما یملک القدرة علی الصلاح والفلاح، فهو یملک القدرة أیضاً علی الفساد والطغیان: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَی أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَی» حیث یعیش الإنسان فی نوازعه النفسانیة حالات الظلم والجهل والحرص والطمع بأموال وحقوق الآخرین وعدم القناعة بحقّه وماله، ومع هذا الحال کیف یعقل أنّ الدین الذی جاء لهدایة الإنسان إلی سعادة الدنیا والآخرة، یترک الإنسان لوحده لیقوم بتنظیم حیاته الاجتماعیة من خلال الاستعانة بعقله وتجاربه ویقرر الدین صحة هذه التجارب والمعطیات البشریة فی حرکة الحیاة الاجتماعیة؟

2. قبول القوانین الإمضائیة

ومن جملة الأمور التی سبّبت اتّساع مساحة الفقه الإسلامی هو أنّ الإسلام أمضی الکثیر من القوانین الاجتماعیة التی کانت مرسومة بین العقلاء، مع بعض الإصلاحات فیها وقد أقرّها الإسلام بشکل عام سوی بعض الموارد المخالفة للأصول الأخلاقیة والعدالة الاجتماعیة.

وفی هذا المجال یمکننا ذکر نماذج من القوانین

ص: 52

المتعلّقة بالمعاملات والبیع والشراء والإجارة والمضاربة والمزارعة والهبة والوصیة والوقف وأمثال ذلک والتی تستفاد من الأصل الکلّی فی الوفاء بالعهد والإلتزام بالعقد کما تقول الآیة الشریفة: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1)، والحدیث النبوی:

«المؤمِنونَ عِندَ شُروطِهم»(2)

فقد أقرّها الإسلام باستثناء بعض الموارد المحدودة، والأهمّ من ذلک أقرّ ما یسمی ب «سیرة العقلاء» حیث تعتبر فی الفقه دلیلًا شرعیاً مع عدم ردع الشارع ونهیه.

علی هذا الأساس فإنّ جمیع القوانین العرفیة والعقلائیة تدخل، مع بعض الاصلاحات، فی دائرة الفقه الإسلامی، والدلیل الأساس فیها هو ما تقدّم من سیرة العقلاء التی أمضاها الإسلام بسکوت الشارع وعدم ردعه، والکثیر من الکتب الفقهیة تتضمن مثل هذه الموارد. وکذلک أمضی الإسلام مؤسسات اجتماعیة مهمّة مثل: الأُسرة، أنواع الشرکات، والأهم من ذلک نظام السلطة والحکومة والجهاز القضائی الذی کان متداولًا فی عرف العقلاء من قدیم الزمان مع إجراء بعض الإصلاحات علیه، حیث یندرج فی قسم السیاسات فی الفقه الإسلامی.

3. الأصل الأوّلی هو الشمولیة والدوام

لا شکّ فی أنّ الروایات الصادرة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام لیست علی وتیرة واحدة بل تتضمّن أنحاء وأقساماً مختلفة:

القسم الأعظم- إن لم یکن جمیع هذه الروایات- ناظر لبیان الأحکام الدائمیة والشاملة فی الإسلام والتی لا تقبل التغییر، فهی دائمیة وباقیة إلی یوم القیامة والتی هی من قبیل «القضیة الحقیقیة» بمقتضی

«حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أبَداً إلی یَومِ القِیامَةِ وحَرامُهُ حَرامٌ أبَداً إلی یَومِ القِیامةِ»(3).

والقسم الآخر من هذه الروایات، وهی محدودة جدّاً، ناظر- من خلال بعض القرائن- لأحکام مؤقّتة وتتّصل بمقطع زمنی خاص أو مکان خاص وهی کما فی الاصطلاح من قبیل «القضیة الخارجیة» ومن هذا القبیل الروایة الواردة فی کیفیة تقسیم ماء المدینة بین المزارعین، والنهی عن منع میاه الآبار (ووضعه تحت اختیار المزارعین والمحتاجین)(4) أو ما ورد فی «نهج البلاغة» عن أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام فی شرحه لحدیث النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله الذی یقول:

«غیِّروا الشَّیْبَ ولَا تَشَبَّهُوا بالیهود»

فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام:

«إنّما قال صلی الله علیه و آله ذلِکَ والدِّینُ قُلٌّ وأمّا الآنَ وقَدِ اتَّسَع نِطاقُه وضَرَب بِجِرانِه فَامرؤٌ وما اختارَ»(5).

القسم الثالث من روایات وکلمات أئمّة الدین العظام، ناظر- مع بعض القرائن أیضاً- إلی تعلیمات وإرشادات عادیة، والإمام هنا بعنوانه شخص مطّلع علی الأمور یجیب بعض الأشخاص ویرشدهم لبعض المسائل المختلفة فی حیاتهم ومعیشتهم من قبیل بعض التعلیمات الصحّیة والغذائیة.

وهنا یثار هذا السؤال: ما هو مقتضی الأصل الأوّلی فی صورة الشکّ؟ ربّما یقال إنّ الأصل الأوّلی: أ) الشمول وعدم اختصاص الحکم بفرد خاص أو جماعة معیّنة.

ب) الأصل أن یکون ما قاله المعصوم هو حکم اللَّه


1- سورة المائدة، الآیة 1.
2- وسائل الشیعة، ج 15، ص 30، الباب 20 من أبواب المهور، ح 4.
3- الکافی، ج 1، ص 58، ح 19.
4- وسائل الشیعة، ج 17، ص 333، ح 32241.
5- نهج البلاغة، الحکمة 17.

ص: 53

لا أنّه إرشاد فی قضایا عادیة.

ج) الأصل بقاء واستمرار هذه الأحکام إلی یوم القیامة وعدم اختصاصها بزمان معیّن أو منطقة خاصة.

إنّ جمیع هذه الجهات والأبعاد الثلاثة تعتمد فی الأساس علی ظهور مقام ومنصب المعصوم فی واقع المجتمع البشری، «أی ظهور الحال» الذی هو حجّة کما فی حجیّة کلامه، لأنّ المسؤولیة الأصلیة للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله (وسائر المعصومین علیهم السلام) هی تبلیغ دین اللَّه تعالی: «وَمَا عَلَی الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِینُ»(1) وتبیین المفاهیم القرآنیة: «وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ»(2) «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِیُبَیِّنَ لَهُمْ»(3) وکذلک حفظ الشریعة من عناصر التحریف والخلل، وظاهر هذا المقام هو أنّ ما یصدر عن هؤلاء المعصومین یمثّل بیان حکم من أحکام اللَّه ومفهوم من المفاهیم القرآنیة الخالدة والشاملة، کما أنّ المفاهیم القرآنیة تتمتّع بهذه المیزة، أی الشمول والخلود «أُوحِیَ إِلَیَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِانذِرَکُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»(4)،

«... لأنّ اللَّه تبارک وتعالی

لم یجعَله لزمانٍ دونَ زمانٍ ولا لِناسٍ دونَ ناسٍ ...»(5)

. فإنّ ذلک یصحّ فی حالة عدم ثبوت خلافه، یعنی عدم وجود قرائن وشواهد تشیر إلی أنّ الکلام المذکور کان قد صدر عن النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام بما أنّه حاکم أو بما هو ناصح وعالم وأمثال ذلک، وعلیه فإنّ مقتضی الأصل «ظهور الحال» هو أنّ هذه الأحکام إلهیّة شاملة.

4. الإفراط والتفریط فی تعیین دائرة الفقه وحدوده

«الإفراط» فی تعیین دائرة الفقه هو أن نقول بوجود أحکام فقهیة حتی فی جزئیات الحیاة الیومیة وأنّ الأحکام الخمسة فی الفقه جاریة فی جمیع أنحاء سلوکیات الإنسان وفی جمیع میادین الحیاة من قبیل ما نقل عن بعض مشایخ الصوفیّة أنّه قال: إنّی لم آکل الثمرة الفلانیة لأننی لحدّ الآن لا أعلم أنّ رسول اللَّه أکل منها أم لا؟ وإذا کان قد أکل منها فکیف آکلها؟

هذا النمط من الفهم للفقه یقوم علی أساس تصوّر أنّ الإنسان لیس له أی شأن واعتبار فی إدارة أمور حیاته، وأنّه یحتاج فی کلّ حرکة وعمل لإرشاد الشریعة وبیان حکمها فی هذا الخصوص.

إنّ هذا القبیل من الفهم الإفراطی یمکن الوقوف علیه الیوم لدی جماعة السلفیین حیث إنّهم ینکرون کلّ جدید فی حرکة الحیاة الیومیة تحت عنوان (البدعة) ویخالفون مظاهر التطوّر الصناعی والتکنولوجی بشکل مطلق (6).

وبدیهی أنّ هذه الرؤیة بالرغم من أنّها تری للفقه شمولیة وسعة أکثر، ولکنّها فی الحقیقة تعمل علی تجمید حرکة الفقه وفعالیته، وبالتالی عدم قدرة الفقه علی حلّ مشاکل المجتمعات الإنسانیة.

وکما تقدّم فإنّ الفقه والقوانین الفقهیة لا تستوعب أعمال وسلوکیات الإنسان سوی ما له تأثیر فی هدایة الإنسان فی خطّ الصلاح والإیمان، وأمّا المجالات العادیة فی حیاة الإنسان التی لا تأثیر لها فی هدایة أو إضلال الإنسان، فإنّها لا تدخل فی دائرة الفقه والشریعة.

وهذه النقطة تتّضح أکثر عندما نعتقد بأنّ المباحات


1- سورة النور، الآیة 54.
2- سورة النحل، الآیة 44.
3- سورة إبراهیم، الآیة 4.
4- سورة الأنعام، الآیة 19.
5- بحار الأنوار، ج 17، ص 213، ح 18 عن الإمام الصادق علیه السلام.
6- کشف الإرتیاب، ص 83- / 90.

ص: 54

لا حکم لها وقد فوّض إلی الإنسان ترک وفعل المباحات، وأساساً فإنّ الإباحة لا تعدّ من الأحکام التکلیفیة بل هی عدم الحکم، لأنّ حقیقة «الحکم التکلیفی» هو ما یوجب التکلیف علی المخاطب وأنّ الحاکم یرید بهذا الخطاب التکلیفی أن یقوم المخاطب بعمل شی ء معیّن أو ترکه (حتّی لو لم یکن هناک إلزام فی البین کالاستحباب والکراهة) والإباحة هنا بمعنی رفع التکلیف وتقع فی مقابله.

«أمّا التفریط» فی تعیین حدود مساحة الفقه فهو ما یراه بعض المسلمین المتجدّدین الذین یقولون: إنّ الدین یتکفّل بیان الموازین و القیم الکلّیة التی تتّصل بهدایة الإنسان، وأمّا عملیة التنفیذ فهی موکلة للإنسان نفسه. وببیان آخر:

إنّ الدین لایتدخّل فی أسالیب بناء حیاة الإنسان والمجتمع البشری بل یتکفّل هدایة الإنسان المعنویة والأخلاقیة.

هذه النظریة المتأثّرة بالمسیحیة الحالیة تری أنّ الدین یتعهّد بإیجاد العلاقة بین الخلق والخالق (العبادات) أو بین الإنسان ونفسه (المسائل الأخلاقیة الفردیة)، وأمّا الأمور الأخری کالحکومة والمسائل الحقوقیة، فهی خارجة عن دائرة الدین واهتماماته، وداخلة فی دائرة العرف، بمعنی أنّ هذه الأحکام والقوانین ینبغی أن تقرّر من خلال تشخیص علماء کلّ عصر وبملاحظة عرف الزمان والفهم المتناسب مع آفاق الثقافة البشریة، و «أمّا ما یهتمّ به الکتاب والسنّة فهو الحیاة المعنویة للإنسان (اجتناب الذنب والتقرّب إلی اللَّه تعالی) ومن هنا فالإنسان حرّ فی کیفیة إیجاد التمدّن البشری والثقافة الاجتماعیة والعلاقات بین أفراد البشر، وقد فوّض إلی الإنسان تشخیص أسالیب ومناهج الحیاة فی هذا العالم»(1).

هذا فی حین أنّ الفقهاء وعلماء الإسلام یخالفون ذلک بالإجماع، ویقولون أنّ الدین، مضافاً إلی اهتمامه بالأمور العبادیة والأخلاقیة، یستوعب فی أحکامه جمیع المسائل الحقوقیة وما یتعلّق بالروابط بین أفراد البشر، وکذلک ما یتّصل بمسألة الحکومة والأمور السیاسیة، ومن هنا فإنّ القوانین والأحکام الإسلامیة ناظرة إلی جمیع حاجات البشر وتطلّعاتهم، وأمّا تشخیص علماء کلّ عصر وملاحظة العرف الفعلی والمسائل الکلّیة فی حرکة المجتمعات البشریة، فإنّها تختصّ بدائرة تشخیص موضوعات الأحکام، حیث تقدّم تفصیل الکلام عن ذلک فی بحث «الفقه فی اللغة والاصطلاح» من هذا الکتاب.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. صحیفة النور، الإمام الخمینی، مؤسسة نشر آثار الإمام الخمینی.

4. الکافی، الشیخ الکلینی، دارالکتب الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1388 ق.

5. کشف الارتیاب فی اتباع محمّد بن عبدالوهاب، السیّد محسن الأمین، بیروت، الطبعة الثانیة، 1382 ق.

6. مجلة الفقه، السنة الأولی، العدد 1.

7. مجلة فقه أهل البیت، السنة الثانیة، العدد 1.

8. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.


1- مجلّة فقه أهل البیت، السنة الأولی، العدد 1، ص 26 و 27.

ص: 55

4

القسم الرابع: إمتیازات الفقه الإسلامی

اشارة

الفقه یعکس أفضلیة خالق العقل علی العقل

الاتّساق مع الفطرة

شموله لجمیع الحاجات البشریة

شموله لدائرة الفرد والمجتمع

اقترانه مع «الأخلاق»

توفّر الضمانة الباطنیة لإجراء القانون

حرکیة قوانین الإسلام فی دائرة التطبیق

السهل والممتنع

التوازن والتعادل

المرونة

ص: 56

ص: 57

إمتیازات الفقه الإسلامی

إنّ القوانین الإسلامیة لها الأفضلیّة بالنسبة للقوانین البشریة والحقوق الوضعیة والعرفیة، وتمتاز عنها بخصائص کثیرة منها:

1. «الفقه» یعکس أفضلیة خالق العقل علی العقل

إنّ المقنّن فی القوانین الإلهیّة هو اللَّه تعالی، وهو خالق الإنسان وخالق عقل الإنسان، أی أنّه ذلک المنبع اللامحدود الذی یُعتبر العقل مجرّد شعاع من وجوده ویملک معرفة وافیة بالنسبة لما یصلح الإنسان ویفسده، ومن جهة أخری فإنّ الجواذب النفسانیة والشهوانیة التی یمکن أن تعرقل عمل المقنّن البشری وتمنعه من وضع قوانین متناغمة مع تلک المصالح والمفاسد، لا مفهوم لها فی حقّه تعالی، فی حین أنّ المقنّن فی دائرة القوانین البشریة لا یملک سوی معرفة ناقصة ومحدودة للمصالح والمفاسد، مضافاً إلی إمکان وقوع أفکاره ورؤاه تحت تأثیر العوامل النفسانیة والشهوانیة، وبدیهیّ أنّ من یحتاج لمن یأخذ بیده ویهدیه سواء السبیل، لایمکنه وضع سلسلة من القوانین والمقرّرات لهدایة الآخرین: «قُلِ اللَّهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لَّایَهِدِّی إِلَّا أَنْ یُهْدَی (1).

وببیان آخر: إنّ امتیاز الفقه الإسلامی علی القوانین الوضعیة فی العالم هو فی کونه تجلّیاً لأفضلیة خالق العقل علی العقل، وفیما یعکسه من تفاوت بین مبدأ الوحی وبین إفرازات الفکر البشری، لأنّ واضع القوانین فی الفقه الإسلامی هو اللَّه تعالی، وهو: أوّلًا: عالم ومطّلع علی جمیع حاجات البشر ومیوله، ولذلک لا یمکن مشاهدة أیّ نقص وتناقض وتضادّ فی قوانینه.

ثانیاً: لا معنی لتأثیر الأهواء والمیول فی شأنه تعالی، فی حین أنّ عقل الإنسان- حتّی فی صورة ظهوره بالعقل الجمعی- فإنّه فی کثیر من الموارد محکوم للمیول النفسانیة ومتأثّر بالنوازع الدنیویة، وربّما تورّط بأمور مستهجنة جدّاً (من قبیل مشروعیة المثلیة)(2).

ثالثاً: إنّه تعالی لا یمنعه من بیان الحقّ الخجل والحیاء «وَاللَّهُ لَایَسْتَحْیِ مِنَ الْحَقِّ»(3).

رابعاً: إنّه لا یسلک طریق الإفراط فی بیان الأحکام،


1- سورة یونس، الآیة 35.
2- نذکر فی نهایة هذا الفصل احصائیات رسمیة عن بعض القوانین البشریة القبیحة جدّاً وما خلفتها من آثار وعواقب مدمرة ومخزیة.
3- سورة الأحزاب، الآیة 53.

ص: 58

وعلی هذا الأساس فإنّ مقدار العقوبات یتناغم مع مقدار وکیفیة الجرم، وبالتالی فإنّه لا یمکن أن یضیع حقّ أیّ شخص فی قوانینه ولا یقع أحد مورد الظلم والعدوان، لأنّه تعالی لا یقرّر قانوناً أو حکماً أکثر من طاقة الإنسان ووسعه «لَایُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا»(1) ونظراً لوجود قاعدتین فی الشریعة باسم «نفی الحرج» و «لا ضرر» فلا یوجد أیّ مشقّة أو ضرر فی أحکامه وقوانینه علی الناس.

خامساً: إنّه تعالی مطّلع بصورة کاملة علی روحیة الإنسان وعواطفه الحاکمة علی أعماله وأفعاله، ولذلک فإنّه یراعی التدریج والتدرج فی کیفیة جعل القانون وکذلک فی کیفیة وأسلوب إبلاغه للناس لئلّا یواجه الإنسان صعوبة وحرجاً فی عملیة الامتثال أو أنّه تعالی یراعی أصل التشویق إلی جانب العقوبة والثواب إلی جانب العقاب حتی یتحرک الناس فی قبولهم للقانون من موقع الرغبة والرضا وطیب النفس، مثلًا فی بیان قانون الزکاة الذی یقترن مع ردع النفس عن التمتعات الدنیویة فإنّه أشار إلی تأثیر الزکاة فی علمیة التزکیة والتطهیر النفسی للإنسان «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِها»(2) وفی قانون الجهاد الذی یطلب من الإنسان الإغماض عن النفس والمال، فإنّه یذکّره بالثواب الأخروی والجنّة «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(3).

هذه الموارد کلّها یمتاز بها خالق العقل وهو المقنّن للقوانین الإسلامیة، ولکنّها بأجمعها أو علی الأقلّ العمدة منها، یفقدها العقل الجمعی وهو المقنّن للقوانین البشریة وبالتالی نشاهد تغیرات وتبدّلات مضرّة ومکلّفة فی القوانین البشریة بین الفینة والأخری.

2. الاتّساق مع الفطرة

2. الاتّساق مع الفطرة(4)

ومن جملة امتیازات الفقه الإسلامی هو اتّساقه وانسجامه مع الفطرة التوحیدیة الصافیة والشفّافة، فعلی أساس ما تقرره الآیة الشریفة: «فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا»(5) فإنّ جمیع أفراد البشر یتّصلون بأصلٍ مشترک واحد فی منظومة «الدین» وهو الفطرة الإلهیة والتوحیدیة، وبما أنّ الفقه یمثّل رکناً من الأرکان الثلاثة للدین، فهو فطری أیضاً، ولذلک ورد فی تفسیر کلمة «معروف» التی أمرت به الشریعة دائماً ونهت عن ضدّه (المنکر) هذا المعنی:

«وحیث بنی الإسلام شریعته علی أساس الفطرة والخلقة کان «المعروف» عنده هو الذی یعرفه الناس إذا سلکوا مسلک الفطرة ولا یتعدّوا طور الخلقة ...»(6) وبتعبیر آخر: إنّ «المعروف» و «المنکر» إشارة واضحة إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الأعمال الصالحة معروفة لروح الإنسان وفطرته، والأعمال القبیحة غیر مفهومة لدی روح الإنسان وفطرته، وببیان آخر: إنّ کون الدین فطریاً، خلافاً لما یتوهّم البعض، لا ینحصر فی أصل


1- سورة البقرة، الآیة 286.
2- سورة التوبة، الآیة 103.
3- سورة التوبة، الآیة 111.
4- الفطرة فی الأصل بمعنی شقّ الشی ء من جهة الطول ثمّ اطلقت علی أی شقّ، وبما أنّ الخلقة بمنزلة شقّ ستار العدم، فإنّ أحد المعانی المهمّة لهذه المفردة هو الخلق( مفردات الراغب، لسان العرب، ذیل کملة فطر) وأحیاناً تأتی کلمة فطرة إلی جانب: طبیعة، وغریزة، ولکنّها تختلف عنها فی أنّ« الطبیعة» تعنی الخصوصیات الذاتیة والمشترکة بین الموجودات الحیة وغیر الحیة، ولکن« غریزة» تختص بالأحیاء من الإنسان والحیوان ویقصد بها الدوافع والمثیرات غیر الواعیة التی تؤثر بدون تدخل عنصر الإرادة، أمّا الفطرة» فتختص بالإنسان وتمتاز باقترانها بالوعی.
5- سورة الروم، الآیة 30.
6- تفسیر المیزان، ج 2، ص 232.

ص: 59

التوحید وعبادة اللَّه، بل یستوعب جمیع أصول الدین وفروعه، وبالطبع فإنّ المراد من الکلیات هی الفروع، علی سبیل المثال فإنّ «الجهاد» یعتبر أمراً فطریاً لأنّ کلّ إنسان یدرک بفطرته لزوم الدفاع فی مقابل الأعداء والتصدّی لهجومهم، و «الحجّ» عبارة عن عبادة جماعیة تنسجم مع فطرة الإنسان الاجتماعیة، و «الزواج» إشباع الغریزة الجنسیة إشباعاً سلیماً، فهو ینبثق من أعماق فطرة الإنسان، وهکذا «حسن العدل وقبح الظلم» من الأمور الفطریة. ومن برکات هذه الخصوصیة فی الفقه الإسلامی هی أنّه کما أنّ الفطرة الإنسانیة أمر ثابت وشمولی ولا تختص بزمان ومکان، کذلک القوانین والمقرّرات الدینیة لا تتبدّل ولا یصیبها القِدم بل هی جاریة فی جمیع الأعصار والأمصار، وعلی هذا الأساس نقرأ فی ذیل الآیة المذکورة قوله تعالی: «لَا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ».

وبالطبع فإنّ دوام واستمرار الفقه هو من لوازم خاتمیة الدین الإسلامی أیضاً، وأنّ خاتمیة الإسلام تقتضی أن تکون قوانین الإسلام ومقرّراته وأحکامه قد بلغت حدّ التمام والکمال، وبإمکانها التطبیق والتجسید علی أرض الواقع فی کلّ زمان ومکان ومع جمیع الظروف والمقتضیات.

وسیأتی فی فصل آخر من هذا الکتاب تفاصیل وأسرار هذا البیان وعنصر الخلود لأحکام الشریعة مع اختلاف الزمان والمکان تحت عنوان: «دور الزمان والمکان فی الاجتهاد».

3. شموله لجمیع الحاجات البشریة

تقدّم أنّ من لوازم الدین الفطری وکونه خاتماً، شمولیة أحکام الفقه الإسلامی واستیعابها لجمیع الأعصار والأمصار، وبالتالی القدرة علی الاستجابة لجمیع الحاجات البشریة علی امتداد الزمان، وهذا المعنی یستفاد من آیات وروایات عدیدة، فمن الآیات الشریفة، مضافاً إلی الآیات الدالّة علی فطریة الدین وخاتمیة الإسلام وعمومیة رسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله إلی البشریة کافّة فی قوله تعالی: «وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا کَافَّةً لِّلنَّاسِ»(1) وآیة الإکمال: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ ...»(2)- مضافاً لکلّ ذلک- ورد التصریح بهذا المعنی فی الآیة الشریفة: «نَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِّکُلِّ شَیْ ءٍ»(3).

ومن الروایات، هناک نصوص کثیرة تدلّ علی شمولیة الأحکام، حیث أشرنا فی عدّة فصول من هذا الکتاب إلی هذا المعنی، وهنا نکتفی ببیان ثلاث روایات، منها:

1. ما أورده الحاکم النیسابوری فی کتابه «المستدرک» فی الحدیث النبویّ المعروف فی حجّة الوداع أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال::

«لیسَ مِن عَملٍ یُقَرِّبُ إلی الجنّةِ إلّاقد أمَرْتُکُم به ولا عَملٍ یُقَرِّبُ إلی النّار إلّاقد نَهَیتُکم عنه»(4).

2. وینقل حمّاد عن الإمام الصادق علیه السلام: «

ما من شی ءٍ إلّا وفیه کِتابٌ أو سُنَّة»(5).

3. عن سماعة، عن، الإمام أبی الحسن موسی علیه السلام قال: قلت له: أکلُّ شی ءٍ فی کتاب اللَّه وسنّة نبیّه صلی الله علیه و آله،


1- سورة سبأ، الآیة 28.
2- سورة المائدة، الآیة 3.
3- سورة النحل، الآیة 89.
4- المستدرک للحاکم، ج 2، ص 4. وورد هذا الحدیث فی کنز العمّال للمتّقی الهندی، ج 4، ص 24، ح 9317 أیضاً.
5- الکافی، ج 1، ص 59، ح 4.

ص: 60

أوتقولون فیه؟ قال:

«بَل کُلُّ شَی ءٍ فی کتابِ اللَّه وسُنَّةِ نبیِّه»(1).

فقد تقدّم بیان سرّ هذه الشمولیة فی أبحاث متعدّدة من هذا الکتاب من قبیل «تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد» و «المسائل المستحدثة» و «عدم الفراغ القانونی» وهو عبارة أخری عن «انفتاح باب الاجتهاد» و «تقسیم الأحکام إلی أحکام ثابتة ومتغیّرة وإلی أحکام أوّلیة وثانویة» وأیضاً وجود اصول وإطلاقات وعمومات قابلة للتطبیق علی الموضوعات المستحدثة، أی الموضوعات الحادثة علی امتداد الزمان.

وربّما یقال: «إنّ حلّ هذه المسائل بالقواعد الثانویة من قبیل العسر والحرج والاضطرار، لا یدلّ علی ثراء الفقه، لأنّه أوّلًا: إنّ مثل هذا الأمر وارد ومیسور لجمیع مقنِّنی البشر. ثانیاً: إذا استطعنا تطبیق موازین وأسالیب الفقه القدیم علی خمسمائة مسألة جدیدة علی أساس قواعد العسر والحرج والاضطرار، واستطعنا استنباط أحکام أخری، فإنّ ذلک لا یعنی کمالًا للفقه»(2).

ولکن من خلال الالتفات إلی هذه الحقیقة یتبیّن الجواب عن هذه الشبهة، وذلک أنّنا لا ندّعی إطلاقاً أنّ أکثر الأحکام الفقهیة مبنیّة علی أساس العسر والحرج وأمثالها من العناوین الثانویة الاضطراریة، بل إنّ الأحکام المبتنیة علی مثل هذه العناوین تتعلّق بموارد محدودة، وأکثر مباحث الفقه الإسلامی ومنها الکثیر من المسائل المستحدثة یمکن إثباتها بالعناوین الأولیة، وأمّا استفادة الحقوقیین من هذه العناوین فإنّها تواجه المشکلة التی سبق ذکرها، وهی أنّ الإنسان وبحکم عواطفه وإحساساته البشریة ربّما یقع فی ورطة التحیّز للمصالح الشخصیة والفئویة أو یتأثّر فی إصداره للقوانین بالعواطف والمیول فی ما یعکسه من أشکال التسامح أو التشدد وأمثال ذلک.

4. شموله لدائرة الفرد والمجتمع

إنّ القوانین الوضعیة فی العالم لا تتحدّث عادة عن العلاقات الفردیة للأشخاص وعلاقة الإنسان مع نفسه ولا تتدخل فی حریم الشؤون الشخصیة والعوامل الروحیة للأفراد، بل تختصّ بمجال العلاقات الاجتماعیة للإنسان، وکأنّ الإنسان لا یحتاج إلی ضوابط ومقرّرات إلّافی حالة اتّصاله مع الآخرین، فی حین أنّ الکثیر من فعالیات الإنسان الاجتماعیة تنبع من کیانه الفردی الذی یبنیه الإنسان لنفسه فی عالم الوحدة والانفراد.

إنّ الإسلام والفقه الإسلامی وضعا القوانین فی دائرة العلاقات الاجتماعیة وما یتّصل بالمصلحة العامّة، نظیر الجهاد، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، القصاص، الحدود، والدیات وبشکل عام فیما یخصّ العدالة الاجتماعیة من جهة، ومن جهة أخری وضعا روابط وقوانین فی دائرة الحیاة الفردیة للإنسان وفیما یتعلّق برابطة الإنسان مع نفسه ومع خالقه، من قبیل تحریم المشروبات الکحولیة لحفظ عقل الإنسان، ومن أجل سلامة بدنه ونقاء روحه وتقویة إرادته فقد أوجب علیه الصیام، وکذلک حرمة الإضرار بالنفس من أجل دوام الصحة والسلامة للإنسان فی حرکة الحیاة و ....

عندما ینطلق أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام من موقع بیان فلسفة بعض الأحکام الفقهیة فإنّه یذکر عدداً من مسائل


1- الکافی، ج 1، ص 62، ح 10.
2- کیهان فرهنگی،( صحیفة کیهان الثقافیّة) السنة الأولی، العدد 6، ص 15( بالفارسیّة).

ص: 61

الفقه الاجتماعی إلی جانب عدد من مسائل الفقه الفردی ویقول:

«فَرَض اللَّهُ .. الصَّلاةَ تَنْزِیهاً عن الکِبْرِ والزَّکاةَ تَسْبِیباً للرِّزقِ والصِّیامَ ابتِلاءً لإخلاصِ الخَلقِ والحَجَّ تقربةً (تقویةً) للدِّینِ والجِهادَ عِزّاً للإسلامِ والأمَر بالمَعروفِ مصلحةً للعَوامّ، والنّهیَ عن المُنکرِ رَدْعاً للسُّفَهاءِ، وصِلَةَ الرَّحِم مَنْماةً للعَددِ والقِصاصَ حَقْناً للدِّماء وإقامَةَ الحُدودِ إعظاماً للمَحارِم وتَرْکَ شُربِ الخَمرِ تَحصِیناً للعَقلِ ومُجانَبةَ السَّرِقةِ إیجاباً للعِفَّةِ وتَرْکَ الزِّنا تَحصِیناً للنَّسبِ وتَرْکَ اللُّواطِ تکثیراً للنَّسلِ والشّهادات استظهاراً علی المُجاحَدات وترکَ الکَذِب تَشریفاً للصِّدقِ والسَّلامَ أماناً من المَخاوِف والإمامةَ نِظاماً للأُمّةِ»(1).

علی أیّة حال فإنّ نظرة خاطفة لموضوعات الفقه الإسلامی المختلفة تثبت جامعیّة وشمول هذا الفقه لکلتا المساحتین الفردیة والاجتماعیة؛ ففی الدائرة الفردیة نجد أبواباً ومسائل، کباب الصلاة، الصوم، الإعتکاف، المسائل المتعلّقة بالنظافة الظاهریة والسلامة البدنیة (أحکام الطهارات والنجاسات، الأطعمة والأشربة و ...) أمّا فی الدائرة الاجتماعیة فنری مسائل تتعلّق بالعلاقات الاجتماعیة للإنسان ووظائف الإنسان لحقوقه فی مقابل الآخرین تحت عناوین من قبیل: المعاملات، الأحوال الشخصیة (النکاح والطلاق وأمثال ذلک) العقوبات الجزائیة (الحدود، القصاص والدیات) والقضاء وغیر ذلک.

إنّ الفقه الإسلامی لم یغفل العلاقة الوثیقة بین الفقه والأخلاق (کما سیأتی لاحقاً فی هذا الفصل) ولا العلاقة بین الفرد والمجتمع. فإذا أردنا تحقیق مجتمع سالم، فینبغی أن یکون الأفراد سالمین، وأساساً فإنّ المجتمع البشری یتشکّل من أفراد البشر، وبدیهی أنّ تمتّع أفراد البشر بالسلامة الروحیة والأخلاقیة بحاجة لوضع بعض القوانین والمقرّرات الفردیة فی قوالب الواجب والحرام والمستحبّ والمکروه وهی التی یتحرّک الفقه الإسلامی للإستجابة لها من موقع الاهتمام، والجواب عن التفاصیل.

5. اقترانه مع «الأخلاق»

وهناک امتیاز مهمّ آخر للفقه الإسلامی، وهو اقترانه بالأخلاق والقیم الأخلاقیة، فالعبادات، التی تشکّل قسماً مهمّاً من أقسام الفقه، لها غایة أخلاقیة، مثلًا، الصلاة، تصعد بالإنسان إلی عالم الملکوت والقرب من الحق تعالی

«الصَّلاةُ قُربانُ کُلِّ تَقیِّ»(2)

وتبعده عن الفحشاء والمنکر: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ»(3) ویعدّ «الریاء» أحد الرذائل الأخلاقیة، ولذلک فإنّ الفقه الإسلامی یمتاز عن القانون الوضعی بموقفه الخاص من الریاء ویقرّر بطلان العمل العبادی المقترن بالریاء. وهکذا الحال فی بحوث الإقتصاد الإسلامی وأنواع المعاملات والتی تقترن بالمسائل الأخلاقیة، من قبیل بحث «إقالة النادم»(4)، «عدم الدخول فی سَوم المؤمن»(5)، «عدم تلقّی الرکبان»(6)،


1- نهج البلاغة، الحکمة 252.
2- الکافی، ج 3، ص 265، ح 6.
3- سورة العنکبوت، الآیة 45.
4- وهو إشارة للشخص النادم من معاملة قطعیة، والذی لا مجال لدیه لفسخ المعاملة، فالحکم الشرعی، فی هذه الصورة أن یسعی حدّ الإمکان لإقناع الطرف المقابل لفسخ المعاملة.
5- وهذا إشارة إلی الشخص الذی یدخل فی معاملة ولم تصبح قطعیة، ثم یأتی شخص آخر ویدخل علی الخط ویطرح ثمناً أعلی لشراء البضاعة، وهذه الحالة مذمومة فی التعالیم الإسلامیة.
6- وهذا إشارة إلی الأشخاص الذین یحملون بضاعة للسوق ویکون ثمن هذه البضاعة مرتفعاً فی ذلک السوق، ولکن بعض الأشخاص النفعیین یستقبلون هؤلا التجار قبل وصولهم إلی السوق لیشتروا منهم البضاعة بقیمة أدنی من قیمتها الحقیقیة، فمثل هذا العمل وقع منهیاً عنه فی الإسلام.

ص: 62

«الاکتفاء بالربح المقبول مورد الحاجة فی الحیاة»، «عدم الاحتکار» وأمثال ذلک.

وکما تقدّم فإنّ نجاة الإنسان من النفس الأمّارة بالسوء ومن أشکال الطغیان والعناد والتمرّد، وکذلک تصفیة باطنه من الوساوس الشیطانیة، وتحقیق التکامل المعنوی لروحه، کلّ ذلک بحاجة إلی معرفة القابلیات والملاکات فی واقع الإنسان والتعرّف علی أشکال العلاج والوقایة من الانحرافات وأنحاء الجنوح النفسی، وعلم الأخلاق- وهو المتصدّی لبیان هذه الأمور- بدوره یحتاج لمجموعة من المقرّرات والقوانین التی یرفدها به الفقه.

إن مسائل الفقه الإسلامی ممتزجة بالمسائل الأخلاقیة بحیث لا یمکن أن نشاهد شخصاً متدیّناً ومتعبّداً بالواجبات والمحرّمات الدینیة ولکنّه غیر متحلٍّ بالفضائل الأخلاقیة وغیر مبتعد عن الرذائل الأخلاقیة، فی حین أنّه نقل عن المدّعی العام فی الولایات المتّحدة الأمریکیة «رابُرت هوگوت جاکسون» أنّه قال: «إنّ القانون فی أمریکا یتّصل بشکل محدود وطفیف بالوظائف الأخلاقیة، وفی الواقع أنّ الشخص الإمریکی بإمکانه أن یکون مطیعاً للقانون وفی الوقت نفسه یکون من حیث الأخلاق شخصاً دنیئاً وفاسداً»(1).

إنّ أشدّ قانون فقهی، بحسب الظاهر هو قانون القصاص، ومع ذلک فهو مقترن بملاحظات أخلاقیة وهی عبارة عن «الاخوّة الدینیة» ویقترن کذلک بتوصیة أخلاقیة، أی التشویق للعفو: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَی ... فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِکَ تَخْفِیفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ»(2) وتقرّر آیة أخری أنّ هذا العفو بعنوان صدقة للشخص وهی کفارة له عن ذنوبه: «وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفَّارَةٌ لَهُ»(3).

وهکذا ما نراه فی أغلظ المقرّرات الفقهیة کالطلاق فإنّه مقرون أیضاً بالعفو وهو من الحالات اللطیفة فی المسائل الأخلاقیة: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِیضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ...

وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَیْنَکُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ»(4).

وربّما تأثر المشرّعون الغربیون عند وضع القوانین بالأمور والمسائل الأخلاقیة بالدیانة المسیحیة أو أی دیانة أخری، ولکن الکلام فی ضمانة التنفیذ حیث إنّ العالم المادّی فی الثقافة الغربیة لا یعرف سوی الضمانات القانونیة والمادّیة لتنفیذ القوانین، وبعبارة أخری: الشخص الذی یعرض عن قوانین الإسلام ولا یعمل علی طبقها، فإنّه مضافاً إلی المسؤولیة الظاهریة فی مقابل القانون والقضاء، فإنّه مسؤول أیضاً فی مقابل الباری تعالی.

6. توفّر الضمانة الباطنیة لإجراء القانون

ومن امتیازات الفقه والقوانین الإسلامیة هی أنّها تتمتع (کسائر الأدیان الإلهیّة) بضمانات للتنفیذ لا تنحصر بالسلطة وأدوات القهر الرسمی، بل تملک


1- حقوق در اسلام( الحقوق فی الإسلام)، ص جیم، المقدّمة( بالفارسیّة).
2- سورة البقرة، الآیة 178.
3- سورة المائدة، الآیة 45.
4- سورة البقرة، الآیة 237.

ص: 63

نوعین أخرین من الضمانات التنفیذیة: أحدهما أنّ آحاد المسلمین وجمیع المؤمنین مأمورون بذلک علی أساس:

«کُلُّکم راعٍ وکلُّکم مَسؤولٌ عن رعِیّتِه»(1)

وبفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. والآخر: التصدیقات الاعتقادیة والأخلاقیة التی یعتقد بها الشخص العامل، لأنّ العمل بالقانون بالنسبة للإنسان المعتقد والمؤمن یکون بدافع إیمانه واعتقاده بلزوم العمل بالتکلیف الإلهی بعنوان أداء «وظیفة» شرعیة، فالعمل بالقانون یتمیّز بالقداسة ویتّصل بالوظیفة الإلهیة لا بعنوان کونه سلسلة «من المقررات الجافّة» ولا سیّما مع الأخذ بنظر الاعتبار، الاعتقاد بفطریة الأحکام الدینیة وانسجامها مع الدوافع الباطنیة والمیول الوجدانیة واقترانها بالجوانب الأخلاقیة، ومن هنا فإنّ الإنسان المکلّف یتحرّک فی امتثال هذه القوانین من موقع «طیب الخاطر» غالباً، لا من موقع الإکراه والتکلّف.

وبعبارة أخری: إنّ القوانین البشریة وبسبب افتقادها لأساس الإیمان المذهبی والاعتقاد الدینی فإنّها لا تتمتّع بضمانات تنفیذیة للحدّ من الجرائم سوی ما تقرّره من عقوبات مادیة کالسجن وأمثال ذلک، وأمّا ما یخفی علی الأجهرة القضائیة والقوی الأمنیة فإنّه خارج عملًا عن دائرة الضمانة التنفیذیة، فی حین أنّ القوانین الدینیة کقوانین الإسلام تتمتّع من جهة بسعة دائرة الإشراف وهی التی تتمثّل بحضور اللَّه تعالی فی کلّ مکان وحضور الکتبة لأعمال الإنسان حسب ما یعتقده المتدیّنون، مضافاً إلی شهادة الشهود من أعضاء بدن الإنسان وما تخلّفه أفعال الإنسان من آثار فی دائرة الزمان والمکان وغیر ذلک، ومن جهة أخری فإنّ مسألة الثواب والعقاب لا تنحصر بهذا العالم الذی نعیشه ولا بالجانب المادّی، بل تشغل هذه العقوبات وأشکال الثواب مساحة واسعة من حیاة الإنسان المادیة والمعنویة.

واللافت أنّ الضمانة التنفیذیة فی القوانین البشریّة تفتقد عادة لمسألة الثواب والتشویق سوی فی بعض الموارد الاستثنائیة وهی بدورها غیر ملزمة، ولکن الضمانة التنفیذیة الدینیة تمتاز باهتمامها بدور الثواب والتشویق بنفس مقدار اهتمامها بالعقوبات، وهذه المثوبات قد تکون فی الدنیا کما نقرأه فی هذه الآیات الشریفة: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(2) و «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً* یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِّدْرَاراً* وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَیَجْعَلْ لَّکُمْ جَنَّاتٍ وَیَجْعَلْ لَکُمْ أَنْهَاراً»(3) وکذلک المثوبات الأخرویة نظیر ما ورد فی قوله تعالی:

«وَسَارِعُوا إِلَی مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّکُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِینَ»(4).

ویکفی لبیان عمق تأثیر الاعتقادات الدینیة فی عملیة تنفیذ القوانین، الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّه طبقاً لما ورد فی الروایات الإسلامیة فإنّ بعض المذنبین والجانحین یقومون بتقدیم أنفسهم للحکومة الإسلامیة فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله أو فی عصر الإمام علیّ علیه السلام ویطلبون إجراء الحدّ الشرعیّ فی حقّهم لیتطهّروا من الإثم والخجل بین یدی اللَّه تعالی، بل فی بعض الموارد التی لا یکفی لإقامة الحدّ فیها إقرار واحد وبالرغم من منح المعترف وقتاً آخر، والتلویح له أنّه إذا لم یراجع المحکمة مرّة أخری فإنّ الحدّ لا یجری علیه وأنّ توبته


1- صحیح البخاری، ج 1، ص 215؛ بحار الأنوار، ج 72، ص 38.
2- سورة الأعراف، الآیة 96.
3- سورة نوح، الآیات 10- / 12.
4- سورة آل عمران، الآیة 133.

ص: 64

مقبولة عند اللَّه تعالی ولکن فی ذات الوقت فإنّه یعود لیقدّم نفسه للمحکمة الإسلامیة ویعترف مرّة أخری عند رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام ویطلب تطهیره من خلال إجراء الحدّ الشرعیّ علیه (1).

7. حرکیة قوانین الإسلام فی دائرة التطبیق

إنّ کون القانون صالحاً للتطبیق یعنی أنّه فی عین الدقّة والشمولیة، فإنّه فی مقام الإجراء والتنفیذ لا یواجه المعوّقات وأشکال التعقیدات والمسائل الإداریة ولا یتطلّب تنفیذه استخدام قوی وأجهزة کثیرة.

علی سبیل المثال ما نراه فی القوانین القضائیة فی العالم المعاصر حیث توجد مقرّرات مزاحمة ومعیقة فی عملیة القضاء وإجراء القوانین بحیث تتأخر أحیاناً محاکمة المتّهم لسنوات مدیدة، فهذه المقرّرات القضائیة رغم أنّها وضعت لغرض إحراز الدقّة وإحقائق الحقّ إلّا أنّها تتسبّب من جهة أخری فی تضییع الکثیر من الحقوق، فی حین أنّ الفقه الإسلامی مع أخذه بنظر الاعتبار شروطاً خاصة للقاضی واشتراطه الحدّ الأعلی من التقوی وعدالة القاضی، فإنّه بذلک خلّص المحکمة من الکثیر من التشریفات والمعوّقات، فالشروط المعتبرة فی القاضی الإسلامی من العدالة والاجتهاد، بمعنی توفّر الصلاحیة الأخلاقیة والعلمیة فی القاضی من شأنها أن تقلّل من احتمال انحرافه عن جادّة الحقّ والعدالة بمقدار کبیر.

مضافاًإلی أنّ القوانین الإسلامیة تمتاز باعتمادها علی إیمان الأفراد وعقائدهم الدینیة بما له تأثیر مهم فی التقلیل من التشریفات القضائیة، مثلًا نری أنّ الشخص المؤمن لا یجد فی نفسه میلًا للقسم الکاذب فی المحکمة بسهولة، فی حین أنّ القوانین البشریة التی لا تعتمد علی الثقافة الدینیة فإنّ الشخص بإمکانه أن یتقدّم للمحکمة بقسم کاذب بدون أیّة شائبة أو توجّس.

والیوم تعیش بعض البلدان الإسلامیة مثل إیران تجربة خاصّة من هذا القبیل، وهی أنّها وضعت، إلی جانب المحاکم، شوری حلّ الاختلاف حیث تتکفّل حلّ مسائل وشکاوی کثیرة قبل تقدیمها للمحکمة، وهذه الشوری تعتمد فی منهجها بالأساس علی إیمان الناس وتدعوهم للعفو والصفح وترغّبهم بالثواب الإلهی، وذلک من شأنه أن یقلّل حجم ملفّات المحاکم والنزاعات المقدّمة للقضاء إلی حدّ کبیر، وطبعاً ربّما توجد بعض النواقص والإشکالات أیضاً حیث ینبغی رفعها بمرور الزمان.

8. السهل والممتنع

إنّ کون القوانین الإسلامیة سهلة وممتنعة فی عملیة وضع مقرّرات معینة لإثبات بعض الجرائم نظیر القذف، والسرقة، والأعمال المنافیة للعفّة، لأنّ العقوبات المقرّرة لهذا القسم من الجرائم فی نفس کونها شدیدة، فإنّ طرق إثباتها عسیرة ومعقّدة جدّاً، وبالتالی فإن شدّة العقوبة تعتبر مانعاً قویاً یحدّ من ارتکاب الجرم بدون أن یتمّ تطبیقه علی أفراد کثیرین فی مقام العمل.

علی سبیل المثال، فإنّ الفقه الإسلامی یشترط لإثبات العمل المنافی للعفّة الإقرار به أربع مرّات، فلو أنّ المتّهم اعترف بجرمه ثلاث مرّات فإنّه غیر کافٍ


1- انظر: الکافی، ج 7، ص 184 و 185 باب صفة الرجم وباب آخر منه وکذلک المجموع فی شرح المهذّب تألیف محیی الدّین بن شرف النووی، ج 20، ص 47 و 48 وکذلک صحیح مسلم، ج 5، ص 117 و 119 کتاب الحدود، باب من اعترف علی نفسه بالزنا.

ص: 65

لإجراء الحدّ علیه، کما أنّه لو تقرّر إثبات هذا الجرم من خلال شهادة الشهود، فیجب أن یشهد أربعة شهود بشرط أن یکونوا قد شاهدوا العمل المنکر بعینهم وأیضاً بشرط أن تکون شهادة هؤلاء الشهود الأربعة متناغمة ومتّسقة ومتطابقة.

النتیجة هی أنّ عقوبة مثل هذه الجرائم فی حین کونها ثقیلة وشدیدة، وبالتالی فهی تتمتّع بقوّة وقائیة شدیدة کما تقدّم، فإنّها فی مقام الإثبات لا تشمل سوی عددٍ قلیلٍ من الأفراد الذین تطبّق علیهم هذه العقوبات، وببیان آخر: إنّ الأشخاص الذین یقعون عملًا تحت طائلة هذه العقوبات هم الذین مزّقوا ستار الحیاء وتحرّکوا لارتکاب المنکر من موقع التمرّد والجرأة، وکلّ إنسان یتمتّع بوجدان سلیم یطالب لمثل هؤلاء الأشخاص أشدّ العقوبات لیکونوا عبرة للآخرین ویتطهّر جوّ المجتمع من التلوّث بهذا الذنب والإثم.

9. التوازن والتعادل

ومن الأمور الاخری فی أفضلیة الفقه الإسلامی وأرجحیّته علی سائر القوانین، التوازن والتعادل فی قوانینه وأحکامه المختلفة، بحیث إنّنا کلّما بحثنا فی أبعاد مسألة معینة، یتبیّن لنا أنّ هذا القانون راعی جمیع الزوایا والأبعاد المختلفة لهذه المسألة، مضافاً إلی وجود تناسب وتناغم مع مجموعة القوانین والأحکام الأخری.

هذا من جهة، ومن جهة أخری فإنّ القانون الإسلامی ینظر إلی جمیع الأبعاد الوجودیة للإنسان وأحاسیسه وعواطفه وغرائزه، وبالتالی یرید له سعادة الدنیا والآخرة.

ویمکن الإشارة إلی نماذج متعدّدة تشیر إلی رعایة التوازن والتناسب فی الأحکام الإلهیّة فی کافة الفقه المختلفة.

مثلًا نری فی المسائل الاقتصادیة أنّ بعض المذاهب الاقتصادیة السائدة فی العالم المعاصر قد ألغت الملکیة الخصوصیة، وبعضها الآخر لم تهتمّ بالملکیة العامة، ولکن الإسلام ومن خلال رؤیته الدقیقة لحاجات الإنسان الروحیة والجسمیة، قد اعترف بکلا هاتین الملکیتین ووضع لهما قوانین خاصة.

وهکذا مع ما نراه من بعض المذاهب الاقتصادیة التی أسست الملکیة علی عنصر «العمل» أو عنصر «الحاجة» فی حین نری أنّ الإسلام أسس أحکامه الاقتصادیة علی اسس متوازنة لکلا العنصرین ووضع أحکامه وقوانینه الاقتصادیة بما یتناسب مع هذا الموضوع.

وفی المسائل الاجتماعیة نری أنّ بعض علماء الاجتماع ذهبوا إلی «أصالة الفرد» وأنکروا بذلک حقیقة أصالةالمجتمع، والبعض الآخر ذهب إلی «أصالةالمجتمع» ولم یهتمّ بالفرد وحقوقه فی مقابل المجتمع، ولکن الإسلام یری الأصالة لکلا هذین الأصلین: الفردوالمجتمع، ووضع أحکامه فی إطار الواجبات العینیة والکفائیة علی مستوی الفرد والمجتمع واعتبر أنّ کلّاً من الفرد والمجتمع مسؤول ومکلّف بتکالیف معینة تجاه الآخر.

وفی موضوع الغرائز، نری أنّ البعض ذهب لکبت الغرائز، بینما ذهب البعض الآخر إلی لزوم إرضاء الغرائز وخاصّة الغریزة الجنسیة بشکل کامل، وضرورة منح الحریة المطلقة فی هذا المجال، فی حین أنّ الإسلام ومن خلال رؤیة واقعیة، لم یکبت الغرائز ولم یطلق العنان لها فی ذات الوقت، بل تحرّک علی مستوی تعدیلها وضبطها بالشکل المناسب وجعلها تسیر فی

ص: 66

مسارها الصحیح والطبیعی.

وفی موضوع المرأة والرجل والحقوق والمسؤولیات الملقاة علی عاتقهما، نری أنّ الإسلام اهتمّ بتقسیم المسؤولیات والحقوق بما یتناسب مع القوی والملکات الروحیة والجسمیة للمرأة والرجل فی أبواب مختلفة من الفقه، کالإرث، الدیة، تکالیف الاسرة، الحضانة وتولّی أُمور الصغار و ...

وعندما نلقی نظرة سریعة علی هذه الأبواب نری أنّ الإسلام فی توزیع الثروة «الملکیة الاعتباریة» أخذ جانب الرجال، ولکنّه فی دائرة «الاستهلاک» أخذ إلی حدّ کبیر جانب النساء.

وفی الحقیقة أنّ الإسلام بدلًا من أن یقیم هذه القوانین الخاصة بالمرأة والرجل علی أساس شعار «تساوی الحقوق بین المرأة والرجل» وهو شعار مجانب للعدالة، أقام قوانینه علی أصل «التوازن والتناسب بین حقوق المرأة والرجل».

وفی دائرة الحرب والصلح والأحکام المتعلّقة بهما نری أنّ الإسلام لم یجعل الحرب هدفاً للحیاة ولا الصلح والاستسلام، بل أخذ بنظر الاعتبار جمیع أطراف المسألة بشکل متوازن ووضع لها قوانینها الخاصة بها.

وفی دائرة الأحکام العبادیّة والسیاسیّة أخذ الإسلام بنظر الاعتبار الزوایا والأبعاد الخفیة والجلیة لهذه الأحکام بشکل دقیق، ووضع قوانینه بما یتناسب مع الظروف المختلفة للأشخاص والمکلّفین، من قبیل ملاحظة حال المرضی، المسافرین، المسنّین، المرضعات وما إلی ذلک، وکانت هذه الأحکام علی أعلی درجة من التناسب والتوازن.

وحتی فی المسائل العبادیة والمعنویة المحضة یمکننا ملاحظة الخطوط الأصلیة للتوازن فی الأحکام الإسلامیة بوضوح.

إنّ الإسلام أخذ بنظر الاعتبار فی أحکامه کلّ زوایا وتفاصیل المسائل، فنری أنّه لم یسمح أن یتغلّب طلب الآخرة علی حساب الدنیا أو بالعکس، لأنّه علیه السلام قال:

«لَیْسَ مِنّا مَنْ تَرَکَ دُنْیاهُ لآخِرَتِه وَلا آخِرَتَهُ لِدُنْیاهُ»(1).

وخلاصة الکلام أنّ الإسلام نظر فی أحکامه الشرعیة والفقهیة إلی کافّة أبعاد الإنسان، فأخذ بنظر الحسبان الفرح إلی جانب الحزن، والعبادة إلی جانب الترفیه، والزهد إلی جانب العمل، والمعاد إلی جانب المعاش، وأخیراً الروح إلی جانب الجسم.

ونختم هذا القسم بحدیث عن أمیرالمؤمنین علیّ ابن أبی طالب علیه السلام یبیّن فیه عنصر التوازن فی الأحکام والتعالیم الإسلامیة، یقول:

«للمُؤمِنِ ثَلاثُ سَاعاتٍ: فَساعَةٌ یُناجِی فِیها رَبَّهُ، وسَاعةٌ یَرُمُّ معاشَه، وساعةٌ یُخَلّی بین نَفسهِ وبَین لَذَّتِها فِیما یَحِلُّ ویَجْمُلُ»(2).

10. المرونة

اشارة

تعتبر المرونة إحدی خصائص الفقه الإسلامی، بمعنی أنّ الفقه الإسلامی یمنح الفقیه آلیات وعناصر تسمح له فی بعض الموارد التی یجد فیها المکلّف الطریق موصداً أمام العمل بالتکلیف الشرعی، فإنّ بإمکانه فتح أبواب ومساحات أخری لأداء ذلک


1- ورد هذا الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام.( من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 156، ح 3568).
2- نهج البلاغة، الحکمة 390.

ص: 67

التکلیف، ومن هذه الجهة لا یوصد الفقه الإسلامی الباب علی الفقیه والمکلّفین، بل یضع أمامهم خیارات متعدّدة لامتثال الحکم الشرعی وفق الظروف والإمکانات المتاحة، وطبعاً هذا لا یعنی أنّ الفقه الإسلامی ینحو نحو الأحکام العرفیة ویبیح للفقیه نقض الضوابط الفقهیة الأصیلة.

إنّ مسألة العناوین الثانویة فی الفقه تشکل مساحة واسعة لتجسید خصوصیة المرونة فی الأحکام الشرعیة، علی سبیل المثال مسألة العسر والحرج، وهی من العناوین الثانویة، تسمح للفقیه فی جمیع أبواب الفقه رفع الید عن الأحکام التی تستلزم العسر والحرج علی المکلّفین.

أو مسألة تقدیم الأهمّ علی المهمّ، وهی من العناوین الثانویة الأخری، حیث تسمح للفقیه فی موارد التعارض بین الموضوعات المختلفة بحسب الحکم الشرعی، انتخاب الأهمّ علی حساب الحکم المهمّ، وبذلک یرتفع التعارض المذکور.

ومن القواعد الثانویة قاعدة لا ضرر، حیث تجری فی جمیع أبواب الفقه، سواء فی أبواب العبادات أم المعاملات، وبذلک تمنح الأحکام الشرعیة المرونة اللازمة، وکذلک قاعدة «المیسور» التی تحلّ الکثیر من العقد فی المسائل المتعلّقة بالحجّ وأمثال ذلک.

کلام أخیر:

وفی نهایة هذا البحث، ومن أجل بیان نقاط الضعف والقصور الموجودة فی تفاصیل العقل الجمعی وعدم إحاطته بجمیع جوانب الأمور والمصالح والمفاسد الموجودة، وبالتالی عدم لیاقته لوضع قوانین تکفل السعادة والأمن للبشریة، فإنّه یکفی فی هذا المجال أن نستعرض أحد هذه القوانین وما یترتّب علیه من معطیات سلبیة وآثار مخرّبة کثیرة:

إنّ من جملة مقرّرات المجامع العالمیة التی یتمّ تقنینها بواسطة العقل الجمعی العالمی، أی هیئة الامم المتّحدة، وضع لائحة «رفع التمییز بالنسبة للنساء» التی تمّ إقرارها من قبل هیئة الأُمم المتّحدة بتاریخ 18 کانون الأول 1979 أوجبت علی الدول الأعضاء مهمّة تنفیذها فی عام 1981، وشکّلت لذلک لجنة رفع التمییز (سیدا/WADEC ) المتشکلة من 23 خبیراً من مختلف الدول الأعضاء فی هیئة الأمم المتحدة، وهذه اللجنة مسؤولة عن تنفیذ وتطبیق هذه اللائحة.

وتبدأ هذه اللائحة بمقدّمة طویلة ومن 36 مادّة فی ستة أقسام بهدف إزالة أیّ شکل من أشکال التمییز بین الرجال والنساء وضمان تساوی جمیع الحقوق بینهما فی مجالات مختلفة، وقد تمّت الموافقة فی نهایة نیسان 2003 علی هذه المعاهدة من قِبل 173 بلداً فی العالم ومن جملتها 65 بلداً إسلامیاً عضواً فی منظمة المؤتمر الإسلامی رغم أنّ 46 دولة وافقت تحت ضغوط سیاسیة علی هذه المعاهدة(1)، إنّ الروح الحاکمة علی هذه اللائحة، والمضمون الأصلی لها هو حریة الإنسان بشکل مطلق ومساواة الرجل والمرأة بشکل مطلق أیضاً، والمراد من «التمییز» الذی یجب أن یضع هذه اللائحة علی أساس المادة الأولی من القسم الأول لها، هو رفع أیّ شکل من أشکال التمییز والحرمان والمحدودیة علی أساس الجنس، وبالنتیجة إزالة جمیع


1- فصلنامه( فصلیة) کتاب نقد، العدد 29، ص 214، نقلًا عن منابع غربیة معتبرة( بالفارسیّة).

ص: 68

أشکال القیود التی تعیق المرأة أو تحدّد من حریتها فی المجالات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة والمدنیة وغیر ذلک.

إنّ هذه اللائحة أدّت إلی دخول النسوة عملًا إلی میادین الاقتصاد لتوکید فکرة «تشابه المرأة والرجل»، ومن أجل تقویة وترشید نشاط المرأة فی الجانب الاجتماعی والاقتصادی، أخذت بنظر الاعتبار تسهیلات خاصة بها، من قبیل رعایة أمور الحضانة والاستفادة من التطوّر العلمی فی مجال الطبّ لغرض تحدید النسل وتقنین الإجهاض وإسقاط الجنین مجّاناً وأمثال ذلک، وفی النهایة أدّی ذلک إلی خروج الأعمال البیتیة عن کونها مختصّة بالمرأة وإلغاء تقسیم المسؤولیات فی الأُسرة بین النساء والرجال وتبدیل النموذج السائد فی أجواء العوائل إلی علاقات حرّة، بحیث إنّ کاتبة غربیة وهی (السیدة تونی گرنت) تقول عن هذه الظاهرة الجدیدة: «إنّ النساء فی ظلّ هذه الظروف الجدیدة بدلًا من الارتباط برجل یدعی بالزوج فإنّها ترتبط بعملها»(1).

إنّ هذه اللائحة کان لها آثار وإفرازات أخلاقیة واجتماعیة کثیرة بصورة مباشرة وغیر مباشرة، ممّا أدی إلی تأثیر هذه اللائحة علی الدول التی رفضت العضویة فیها أیضاً، منها:

1. تزلزل نظام الأُسرة وارتفاع مستوی العنف والأذی الجنسی وأرقام الطلاق، لأنّ عدم الالتفات للاختلاف الطبیعی والفطری بین المرأة والرجل، وبالتالی تساوی المسؤولیات فی حرکة الحیاة الاجتماعیة والاقتصادیة بینهما أدّی إلی إشراک المرأة فی أعمال صعبة وثقیلة واتّخاذ النساء جبهة لهنّ فی مقابل الرجل وبالعکس، فصار الرجل یقول فی مقابل المرأة: یجب علیک المشارکة معی فی الأعمال الصعبة، وأنّ علیک تأمین نفقات حیاتک بنفسک، ونفقات الأطفال تکون بالمشارکة، وأن تقومی بالدفاع عن نفسک فی مقابل الأخطار، وکما أنّنی أنفق علی حاجات الأُسرة وحاجتک، فکذلک یجب علیک أن تنفقی من أموالک، مع أنّه من الطبیعی وطبقاً للتجارب الکثیرة، فإنّ قوة عمل وانتاج المرأة أقلّ من الرجل، وأنّ عملیة استهلاکها لثروتها أکثر، مضافاً لظاهرة حدوث الدورة الشهریة والآلام فی أیّام الحمل والصعوبات التی تواجهها المرأة فی الولادة ووضع الحمل وحضانة الطفل، کلّ ذلک یجعل المرأة فی حالة تحتاج فیها لحمایة الرجل أکثر وتکون لها حقوق أکثر ومسؤولیات أقلّ.

إنّ أصل ظاهرة مواجهة قیمومیة الرجل والتأکید علی استقلال المرأة، أدّی عملًا إلی اتّساع الهوّة واشتداد التضادّ بین الجنسین، وأدّی عدم الاهتمام بنظام الأُسرة وتبدّل العلاقات فی إطار الأسرة إلی تشدید ظاهرة الطلاق والإضرار بالزوجة وزیادة استخدام العنف معها وارتفاع مستوی الانتحار بین النساء وتفضیل العزوبة فی الحیاة، والضعف الشدید فی العواطف الأسریة وتشدید المشاکل الروحیة والنفسیة بین الأولاد وبالتالی توجّه الأطفال والمراهقین نحوالجنوح والانحراف وممارسة العنف، فظهرت أزمة جدیدة فی الغرب باسم أزمة الأسرة. والشاهد الحیّ علی هذا المدّعی، الإحصاءات المذهلة فی هذه المجالات، هذه


1- فصلنامه( فصیلة) کتاب نقد، العدد 29، ص 26، نقلًا عن کتاب« زن بودن»( بالفارسیّة).

ص: 69

الإحصاءات التی یخجل الإنسان من بیانها وینبغی الاعتذار من القرّاء الأعزّاء من نشرها وبیانها:

أ) تقول «باربارا روبرت» فی مقالة لها بعنوان «لا یوجد أیّ محیط آمن» من کتاب «الحرب ضدّ النساء»:

«طبقاً لما أورده علماء الاجتماع فإنّ ما یقارب من 8/ 1 ملیون من الأزواج الأمریکیین یمارسون العنف والأذی بشکل وحشی مع نسائهم»(1).

ب) یقول «آنتونی گیدنز»: «فی بریطانیا هناک سبع نساء من کلّ عشرة یواجهن الأذی الجنسی ولمدّة طویلة فی طیلة حیاتهنّ فی العمل»(2).

ج) جاء فی بعض الصحف المعروفة(3): «أنّ محکمة فی فرنسا حکمت علی جماعة فی هذا البلد یمثّلون رؤساء عصابة تعمل علی الاغتصاب الجنسی للأطفال والمراهقین، وهذه الجماعة، التی یقدّر عدد أعضائها 65 شخصاً، قد اعتدوا فی السنوات بین 1992 إلی 2000 م علی أطفال تتراوح أعمارهم بین 6 إلی 14 سنة. وأعلن قاضی هذه القضیة بأنّ ما یقرب من 45 طفلًا من الذین اعتدی علیهم جنسیاً کان بواسطة الوالدین والأقرباء أو الأجداد».

د) ورد فی إحصاءات ما بین 1900- 1910 (أی فی العقد الأول بعد تصویب لائحة رفع التمییز ضدّ النساء) أنّ ما یقارب 90 ألف أسرة تشکّلت فی بلاد السوید، ولکن فی مقابل ذلک هناک 85 ألف مورد طلاق طیلة هذه المدّة.

وطبقاً لخبر آخر صادر من مرکز إحصاء فی السوید فی عام 1987 (أی بعد ثمان سنوات من تصویب اللائحة المذکورة) فإنّ احتمال الانفصال فی الزیجات الرسمیة إزداد من ثلاثة أضعاف بالنسبة لعقود الزواج غیر الرسمیة و 50% من الأطفال یولدون فی أُسر غیر رسمیة(4).

ه) علی أساس ما ورد فی الإحصاءات فی أمریکا فی عام 1998 فإنّ من کلّ ثلاثة عقود زواج تقع علی امتداد السنة فإنّ واحداً منها ینتهی إلی الطلاق، وعلی أساس خبر آخر فإنّ ثلثی حالات الزواج فی أمریکا فی عام 1989 انتهی إلی الطلاق.

و) وعلی أساس تقریر آخر فی أمریکا فإنّ کلّ زواجین ینتهی أحدهما إلی الطلاق، وفی روسیا فإنّ من کلّ ثلاث حالات زواج ینتهی أحدها إلی الطلاق، وأیضاً فإنّ ربع الأطفال فی بعض البلدان الصناعیة یعیشون فی أُسر ذات والد واحد، وفی الولایات المتحدة الأمریکیة فإنّ 25% من الأطفال تحت سن 15 سنة یعیشون فی أُسر ذات قیّم واحد.

2. ومن الإفرازات الأخری للائحة المذکورة، الحریة الجنسیة التی تسبّبت فی:

أوّلًا: أنّ الفتیان والفتیات لم یقبلوا علی الزواج وبالتالی لوحظ ارتفاع معدّل سنّ الزواج، وفی مقابل ذلک انخفض سنّ بدایة العلاقات الجنسیة إلی الحدّ الأدنی، إنّ المنظمات العالمیة التی تعترض علی البلدان الإسلامیة فی خصوص انخفاض سنّ الزواج فیها فإنّها طرحت حریة العلاقات الجنسیة لإشباع الحاجات الجنسیة للإناث والذکور من طرق غیر مشروعة واعتبروا ذلک مصداق حریة الإنسان، ولم یعترفوا بعدم مشروعیة هذه العلاقات الجنسیة، غافلین عن أنّ هذه


1- فصلنامه( فصلیة) کتاب نقد، العدد 31، ص 139.
2- المصدر السابق، ص 140.
3- صحیفة کیهان، 11 مرداد، سنة 1384، ص 15( بالفارسیّة).
4- کتاب: در غرب چه می گذرد( دبیرسیاقی)، ص 13( بالفارسیة).

ص: 70

الاطروحة بما لها من تداعیات سلبیة، تعنی انخفاض سنّ الشروع فی العلاقات الجنسیة بطریقة غیر مشروعة وعدم وجود الأمن الجنسی حتّی للأبناء فی داخل الأُسرة، بحیث إنّه طبقاً للاحصاءات المذکورة فی أمریکا فی عام 1985 فإنّ ما یقارب 100 ألف مورد من موارد الاعتداء الجنسی قد تمّ بواسطة المحارم (1).

ثانیاً: تحویل المرأة إلی بضاعة وأداة إعلامیة فی دور السینما والحانات اللیلیة وزیادة تجارة الجنس، وهی التجارة التی تعدّ من أحدث وأعقد أنواع العبودیة للنساء. والیوم تعدّ بعض الدول الصناعیة- ومنها ألمانیا- مرکزاً لاستیراد وبیع البنات الصغیرات السنّ، وأغلبیة هذه البنات من البلدان الآسیویة وبعض البلدان النامیة حیث تشکّل تجارة الجنس العالمی قسماً مهمّا من اقتصاد هذه الدول. بحیث أنّ ملایین السیّاح یسافرون من مختلف بلدان العالم إلی هذه الدول سنویاً، والإحصاءات الرسمیة تشیر إلی وجود ملیون إمرأة عاهرة فی إحدی بلدان شرق آسیا والإحصاءات غیر الرسمیة تشیر إلی عدّة أضعاف هذا العدد.

وفی الولایات المتّحدة الأمریکیة فإنّ ما یقارب من 300 ألف بنت فی عمر أقلّ من 18 سنة تنحدر فی طریق الفساد والانحطاط الجنسی، ولازالت مشکلة الاستغلال الجنسی للأطفال ومشکلة الصحف والمجلّات الفاسدة تعدّ من أکبر مشاکل أمریکا، وأوروبا وروسیا فی العصر الحاضر(2).

وفی عام 1998 فإنّ الناتج الکلّی من تجارة الفحشاء فی ألمانیا بلغ 400 میلیون دولار حیث تأتی ألمانیا فی هذه التجارة بالمرتبة الثانیة بعد أمریکا فی العالم والتی بلغ معدّل أرباحها من هذه التجارة 4/ 7 میلیارد دولار(3).

وفی عام 2001 تمّ تهریب 120 ألف بنت وامرأة من أوروبا الشرقیة لغرض العبودیة الجنسیة إلی الغرب (4).

وقد أوردت صحیفة کیهان الصادرة فی 11 مرداد عام 2005 م، ص 15 أنّه: «سنویاً ما یقارب ملیونی بنت بین 5 إلی 15 سنة یتمّ تهریبهنّ فی الأسواق العالمیة ویجدن أنفسهنّ مجبورات علی سلوک طریق الفساد والفحشاء. وبین 1990 إلی 1997 فإنّ أکثر من 200 ألف امرأة بنغلادشیة تمّ بیعهنّ بهذه الصورة ومن بین 5 إلی 7 آلاف بنت وامرأة نیبالیة تمّ تهریبهنّ بشکل غیر قانونی إلی الهند».

ثالثاً: ارتفاع أرقام الإجهاض، لأنّ الحریة الجنسیة أدّت من جهة إلی أن تجد النساء المتعة الجنسیة من خلال العلاقات غیر المشروعة بسهولة ولا یجدن أی محدودیة فی العلاقات الجنسیة، وکذلک سهولة عملیة الإجهاض. ومن جهة أخری فإنّ هیئة الامم المتحدة واللجنة التنفیذیة سیدا (WADEC) قرّرت فی المادّة 1/ 12 من لائحة رفع أشکال التمییز (التی تؤکّد حقّ النّساء فی أمور الصحّة ومنها ما یتعلّق بتنظیم الأُسرة) بحیث فسّروا هذا المقطع بأنّه یشمل الأسالیب التی تتّخذ لمنع الحمل واستخدام الأدویة لإسقاط الجنین، وهذه النقطة هی التی أکّدت علیها اللجنة «سیدا» فی اعتراضها علی البلدان المختلفة، مثلًا عام 1999 ورد تقریر من شیلی إلی دولة شیلی: أنّ ما یثیر الأسف لدی


1- فصلنامه( فصلیة) کتاب نقد، العدد 17، ص 112( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، العدد 12، ص 72.
3- المصدر السابق، العدد 31، ص 99.
4- المصدر السابق، ص 64.

ص: 71

اللجنة فیما یخصّ منع قوانین الإجهاض الاختیاری ووضع عقوبة علی ذلک. أو بالنسبة لکرواتیان حیث تمّ تقدیم اعتراض من قِبل اللجنة فی عام 1998 م بأنّه:

لماذا لا تقبل بعض المستشفیات حالات الإجهاض، وهذه المسألة تعدّ مخالفة لحقوق النساء اللاتی یراجعن الطبیب أو المستشفی لإسقاط الجنین ولا یتمّ وضع إمکانات کافیة تحت اختیارهن، وفی عام 1999 م ورد تقریر من کولومبیا یقرّر الإعلان عن مشروعیة الإجهاض وإلّا ففی غیر هذه الصورة فإنّ ذلک یعنی نقض المادة 12 من اللائحة المذکورة، هذا وفی أمریکا تتمّ سنویاً 1370 ألف عملیة إجهاض (1).

وعلی أساس الإحصاءات الواردة من البلدان الغربیة وأمریکا فإنّ أکثر النسوة اللواتی یمارسن الإجهاض هنّ من الشابات و 55% منهنّ تحت سن 25 عاماً و 31% من المراهقات، أی تحت سن 19 عاماً حیث یندرجن طبقاً لتعریف اللائحة فی دائرة حقوق الأطفال. وفی أمریکا فإنّ 88% من عملیات الإجهاض الاختیاری تتمّ بین 6- 12 اسبوعاً من حمل الجنین- بحیث إنّ فی هذه الفترة فانّ قلب الجنین ینبض والدماغ یصدر أمواجاً کهربائیة- وأنّ 43% من النساء قد جرّبن الإجهاض مرّة واحدة طیلة حیاتهنّ (2).

هذا والحال أنّ الإحصائیات الدقیقة والواقعیة تظهر الکثیر من العوارض السلبیة للإجهاض علی الامهات (والغالب فی سبب الإجهاض لدیهنّ هو استخدام حقّهنّ فی الحریة) وفی الواقع هذه تضحیة بالجنین لحفظ سلامتهنّ، وکذلک علی الأطفال الذین سیولدون بعد ذلک:

فقد جاء فی دراسة علی 11057 امرأة حامل أنّ 752 امرأة منهنّ کانت قد أسقطت جنینها فی مرحلة سابقة، وتقرّر هذه الدراسة أنّ النسوة اللاتی جرّبن الإجهاض فیما قبل، یملکن استعداداً أکبر للنزف فی الثلاثة أشهر الأولی من الحمل اللاحق وقلّما یملکن القدرة علی الولادة الطبیعیة، حیث یحتجن للإشراف الدقیق من قِبل الطبیب، وکذلک فإنّ الأطفال المولودین لهذه النسوة یصابون بقلّة الوزن حین الولادة بنسبة 3-/ 4 أضعاف الحالات العادیة، وبالنسبة إلی معدّل الوفیات حین الولادة وزیادة العوارض الصحیة فی الجنین تلاحظ زیادة بالنسبة أیضاً.

ویقول الدکتور «بوهمیل سینبال» وزیر الصحة الجکوسلوفاکی أنّ 25% من النسوة اللواتی أسقطن حملهنّ الأول فإنّهنّ سوف یعشن بدون طفل بعد ذلک.

والدراسات التی تمّت علی النساء اللواتی جرّبن الإجهاض 10- 15 سنة وخضعن لإشراف طبّی دقیق طیلة هذه السنوات فإنّ هذه الدراسة تقرّر أنّ نصفاً من هذه النسوة استطعن الحمل بدون أیّة عوارض والنصف الباقی اللاتی حملن بعد ذلک فإنّ نصفهنّ قد ولدن أطفالهنّ قبل الموعد المحدّد، و 10% منهنّ أسقطن جنینهنّ تلقائیاً، و 20% من هؤلاء الموالید یشکون من نواقص صحّیة. وفی أمریکا فإنّ ترشید الحمل والجنین خارج الرحم قد ارتفع إلی 600% بعد تصویب القانون الاختیاری، والنساء اللواتی جرّبن الإسقاط فی حملهنّ الأول فإنّ احتمال أن یؤخذ جنینهنّ لترشیده خارج الرحم فی فترات الحمل اللاحقة یبلغ 500%.

کلّ ما تقدّم یعکس الإفرازات السلبیة فی بعد خاص


1- فصلنامه( فصلیة) کتاب نقد، العدد 31، ص 66( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 61.

ص: 72

غیر التأثیر النفسی والروحی الشدید والفوری لإسقاط الجنین علی الأمّ وکذلک علی الأب أیضاً(1).

رابعاً: إنّ إحدی معطیات قانون مساواة المرأة والرجل هی الزواج المبکر وبالتالی صیرورة البنت أُمّاً بسنّ مبکرة وکذلک ازدیاد ظاهرة الفقر وظاهرة الزنا، إنّ التعلیم المختلط وعدم التوجّه للخصوصیات النفسیة والبدنیة لکلّ من الجنسین، مع الغفلة عن أنّ هذا الاختلاط الإجباری بین البنات والأولاد الشبّان وخاصّة فی المدارس المتوسطة یفضی إلی الزواج المبکّر لهؤلاء، وفی هذا المجال کتبت صحیفة «ریدرز دایجست» الأمریکیة فی کانون الأول 1996 تقریراً حول بنات المدارس المختلطة الشابات بصورة عامة حیث إنّ الکثیر منهنّ أصبحن أُمهات مع متابعة الدرس أو بدون الدرس واستمرّت حیاتهنّ مع أطفالهنّ بصعوبة بالغة، وتقول هذه الصحیفة: «إنّ فی کلّ عام هناک 350 ألف بنت أمریکیة مراهقة فی ما بین 15- 19 سنة من العمر فی مرحلة الثانویة یلدن أطفالًا بشکل غیر قانونی، وقد ارتفعت هذه الأرقام فی العقود اللاحقة، وهؤلاء الفتیات قد جرّبن هذه الحالة من خلال أحلامهنّ فی الزواج مع أصدقائهنّ من الشباب بعد إکمال التحصیل الدراسی وأن یکون لهنّ حیاة مثالیة، فی حین أنّهنّ یشاهدن زوال هذا السراب وهذه الأوهام من أمام أعینهنّ ویواجهن واقع الحیاة وتحدّیاتها الصعبة فی مقام العمل»(2).

ویعتقد کابلان (1993): «أنّ امهات أمریکیات فی 15- 19 سنة من العمر یبقین إلی جانب أطفالهنّ غیر الشرعیین فی فقر اقتصادی شدید ویتّجهن نحو الفساد وبیع اللذّة لأنّ مثل هذه الامهات عادة لا یملکن مستویات علمیة لازمة لنیل فرص عمل مربحة»(3).

خامساً: الآثار النفسیة المدمّرة والاختلالات العاطفیة الشدیدة فی الأطفال بسبب الحرمان من الام، فإصرار المرأة الغربیة علی العمل خارج البیت والاشتراک فی النشاطات الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة علی أساس تساوی المرأة والرجل والتأکید العجیب للجنة الإشراف «سیدا» بالنسبة لهذا المورد (مثلًا فی عام 2000 طلبت اللجنة هذه من دولة أزبکستان حذف دور الأُم والزوجة من لائحة القوانین المدنیة لهذه الدولة، وفی سنة 2002 طلبت اللجنة من النمسا أن تقوم بتعدیل دور النساء «الامهات» التقلیدی فی ثقافة تلک الدولة، وکذلک فی عام 2000 قدّمت اللجنة تذکیراً لدولة «بلاروسیا» لحذف جائزة الأُم ویوم الأُم، وأظهر أنّ التوجّه لهذا الأمر یعدّ من بقایا وآثار النظام التقلیدی الذکوری القدیم، وأیضاً فی عام 2001 قدّمت اللجنّة تذکیراً لمصر بأنّ علیها أن تقوم بإعادة النظر بالقوانین الداخلیة لها وتهتمّ بالحضور الاجتماعی للمرأة بدلًا من دور المرأة فی أمور الأُسرة، وفی عام 1999 طلبت من اسپانیا أن تقوم بتغییر المعاییر الناظرة بشکل إیجابی لدور المرأة التقلیدی (الأمومة) فی الأسرة، حیث ینبغی إلغاء هذه الثقافة واستبدالها بمشارکة المرأة فی النشاطات الاجتماعیة والعمل الاقتصادی)(4) کلّ ذلک من الآثار والنتائج السلبیة والمخرّبة لهذه اللائحة.


1- فصلنامه( فصلیة) کتاب نقد، العدد 31، ص 59- 55( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 84 نقلًا عن العدد الخاص بالنساء؛ مجلة النساء والفکر الجدید، 1380، العدد 3، ص 40( بالفارسیّة).
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق، ص 81- / 83.

ص: 73

مرّة أخری نطلب من القرّاء الأعزّاء العذر بسبب بیان بعض الإحصاءات الصریحة المتعلّقة بالمفاسد الجنسیة وأمثالها ممّا یرتبط بنحو أو بآخر بمواد لائحة رفع التمییز وحقوق المرأة وسائر الحریات الغربیة، ولیس بأیدینا عمل شی ء آخر، فأحیاناً یضطرّ الإنسان من أجل بیان سلسلة من الحقائق المرّة أن یتّجه نحو هذه الإحصاءات ویکشف اللثام عنها.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

4. در غرب چه می گذرد، (بالفارسیة) (ماذا یجری فی الغرب) السیّد منوچهر دبیر السیاقی، انتشارات بحر العلوم، قزوین، الطبعة الثانیة الأولی، 1375 ش.

5. حقوق در اسلام (الحقوق فی الإسلام) (بالفارسیة)، مجیدی الخدوری وهربرت لیبسنی، ترجمة زین العابدین، ط رهنما، انتشارات فرانکلین، 1336 ش.

6. صحیح البخاری، دار الفکر، لبنان، 1401.

7. صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج النیسابوری، دار الفکر، بیروت.

8. فصلنامه (فصلیة) کتاب نقد، العدد 29 و 31.

9. الکافی، أبوجعفر محمد بن یعقوب الکلینی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الرابعة، 1365 ش.

10. کنز العمّال، المتقی الهندی، مؤسّسة الرسالة، بیروت.

11. صحیفه کیهان فرهنگی (صحیفة کیهان الثقافیّة)، (بالفارسیة) السنة الأولی العدد 6.

12. المجموع فی شرح المهذّب، محیی الدّین بن شرف النووی، دار الفکر، بیروت.

13. مستدرک الحاکم النیسابوری، دار المعرفه، بیروت، 1406 ق.

14. المیزان، العلّامة الطباطبائی، مؤسّسة النشر الإسلامی، قم.

ص: 74

ص: 75

5

القسم الخامس: مکانة الفقه الإسلامی

اشارة

فی الدائرة العالمیة والتعامل فیما بین المذاهب الفقهیة

التعریف، الغایة وتاریخ ظهور «علم الخلاف»

مرحلة انفصال المذاهب

إحیاء «فقه المقارن» من جدید

ثمرات «الفقه المقارن» فی المرحلة المعاصرة

ص: 76

ص: 77

مکانة الفقه الإسلامی

فی الدائرة العالمیة والتعامل فیما بین المذاهب الفقهیة

تمهید:

بالرغم من أنّ اصطلاح «الفقه المقارن» یعود ظهوره إلی العقود المتأخرة من العصر الحدیث، ولکن موضوع هذا العلم یعود إلی أکثر من ألف عام حیث کان یبحث تحت عنوان «علم الخلاف» أو «علم الخلافیات» أو «علم المناظرات»، وعلی حدّ قول الفخر الرازی أنّ هذا العلم یعتبر أحد العلوم الستین المتداولة فی الحوزات العلمیة القدیمة(1).

تعریف علم الخلاف:

یقول «ابن خلدون» فی تعریف هذا العلم:

«... وجرت بینهم (المتمسّکین بالمذاهب الأربعة) المناظرات فی تصحیح کلّ منهم مذهب إمامه، تجری علی اصول صحیحة وطرائق قویمة یحتجّ بها کلٌّ علی صحّة مذهبه الذی قلّده وتمسّک به ... وکان فی هذه المناظرات بیان مآخذ هؤلاء الائمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. کان هذا الصنف من العلم یسمّی بالخلافیّات»(2).

هدف «علم الخلاف»:

إنّ الهدف والغایة من هذا العلم منح فقهاء المذاهب معرفة بجمیع أقوال علماء الإسلام واختیار أفضل هذه الأقوال والآراء، مضافاً إلی التعرّف علی نقاط القوة الضعف فیها وبالتالی السعی لجبران الخلل ونقاط الضعف، وهذا یساهم فی ترشید الفقه والتماهی مع العصر والزمان، وأخیراً یتمّ من خلال ذلک رفع الکثیر من عناصر سوء الفهم وما تفرزه من نزاعات وعداوات بین أتباع المذاهب.

یقول «العلّامة الشاطبی» فی هذا الصدد:

«... مع أنّ الاعتیاد الاستدلال لمذهب واحد ربّما یکسب الطالب نفوراً وإنکاراً لمذهب غیر مذهبه من غیر إطلاع علی مأخذه فیورث ذلک حزازة فی الاعتقاد فی الأئمّة الذین أجمع الناس علی فضلهم و ...»(3).


1- جامع العلوم، ص 14- / 19.
2- مقدمة ابن خلدون، ج 2، ص 818 و 819.
3- الموافقات، ج 2، ص 273.

ص: 78

تاریخ ظهور «علم الخلاف»:

یعود تاریخ ظهور هذا العلم إلی أواخر القرن الأوّل الهجری حیث ظهر الخلاف بین مدرسة أهل الرأی وأهل الحدیث فی ذلک العصر(1).

وکان الإمام الصادق علیه السلام علی اطلاع کبیر بموارد الاختلاف بین فقهاء المدینة والشام والکوفة(2)، یقول أبوحنیفة: «لم أری أفقه من جعفر بن محمد، لأنّ أعلم الناس أعلمهم بموارد الاختلاف»(3).

أهم الکتب فی علم الخلاف:

1. الحجّة علی أهل المدینة، محمّد بن حسن الشیبانی (م 189 ق).

2. أسباب اختلاف الفقهاء، محمّد بن جریر الطبری (م 313 ق).

3. الإشراف علی مذهب العلماء، محمّد بن إبراهیم ابن المنذر النیسابوری (م 318 ق).

4. اختلاف الفقهاء، أحمد بن محمّد الطحاوی (م 321 ق).

5. المسائل الناصریات، السید المرتضی، (م 436 ق).

6. الحاوی، أبوالحسن علی بن محمّد بن حبیب الماوردی (م 450 ق).

7. الخلاف فی الأحکام، أبوجعفر بن محمّد بن حسن الطوسی (م 460 ق).

8. المؤتلف من المختلف، أبوالفضل بن حسن الطبرسی (م 548 ق).

9. بدایة المجتهد ونهایة المقتصد، ابن رشد القرطبی (م 595 ق).

10. تذکرة الفقهاء، أبومنصور الحسن بن یوسف الحلّی (م 726 ق).

11. مختلف الشیعة فی أحکام الشریعة، العلّامة الحلی (م 726 ق).

12. منتهی المطلب فی تحقیق المذهب، العلّامة الحلّی (م 726 ق).

13. مقارنة المذاهب فی الفقه، الشیخ محمود شلتوت.

14. الفقه علی المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزیری.

15. الفقه علی المذاهب الخمسة، الشیخ محمّد جواد معنیة.

ومن هؤلاء الفقهاء الذین وردت أسماؤهم وأسماء کتبهم أعلاه فقهاء من أهل السنّة، وبعضهم من کبار علماء الإمامیّة.

مرحلة انفصال المذاهب:

بالرغم من أنّ الآراء الفقهیة المختلفة کانت تطرح فی القرون الاولی فی الحوزات العلمیة الإسلامیة بدون أیّة شائبة أو هاجس ویتمّ البحث والتدقیق فیها، ولکن منذ القرن الثامن حصل انفصال بین المذاهب الفقهیّة المختلفة بسبب بروز التعصبات وتزمت جماعة وفئة من کل مذهب، وبالتالی تمّ اقصاء «علم الخلاف» ووضعه فی زاویة النسیان، حیث حلّ محلّه ذکر المطاعن وبرزت عناصر الخصومة والعداوة بین المذاهب الإسلامیة، حتی أننا نقرأ فی التاریخ الإسلامی:

«یذکر التاریخ أنّ الحنابلة من أهل جیلان کانوا إذا دخل علیهم حنفی قتلوه وجعلوا ماله فیئاً، حکمهم


1- مرجع العلوم الإسلامی، ص 736.
2- الإمام الصادق علیه السلام، ص 162.
3- المصدر السابق.

ص: 79

فی الکفّار»(1).

وکذلک نقرأ: «کانت بلاد ماوراء النهر أرض للأحناف، وکان للشافعیة مسجد واحد هناک، وکان والی المدینة یخرج لصلاة الصبح ویمر علی ذلک المسجد ویقول: «أما آن لهذه الکنیسة أن تُغلق»(2).

والأنکی من ذلک حالات العداوة مع أتباع أهل البیت علیهم السلام، فالأتراک العثمانیون کانوا یتهمونهم بأنّهم یحجّون إلی کربلاء والنجف بدلًا من مکةالمکرمة، وعندما یحجّ الشیعة إلی مکة فغرضهم من ذلک تلویث الکعبة.

وجاء فی کتاب «امراء البلد الحرام»: «عندما اجتمع الناس لصلاة الصبح فی الیوم الثانی من شوال عام 1088 للهجرة حول الکعبة، شاهدوا جوانب الکعبة ملوثة وملیئة بالقاذورات، فنسب بعضهم (جماعة من المتعصبین) هذا العمل إلی الشیعة، ووجدوا خمسة أشخاص من غیر العرب فی المسجد الحرام فانهالوا علیهم بالضرب إلی أن أخرجوهم من المسجد وقتلوهم ولم یدفع عنهم القتل»(3).

ومثل هذه الحالة وقعت فی موسم الحج فی عام 1322 ه ش، وفی هذه الواقعة حکم قاضی القضاة فی الحجاز علی رجل یدعی «أبوطالب الیزدی» بقطع عنقه بالسیف کان هذا الرجل مریضاً وقد أصابته حالة من الغثیان والتهوع إلی جانب الکعبة، فأخذه بعض المتعصبین وادعوا أنّه تقیّأ عمداً فی المسجد الحرام بهدف تلویثه، فی حین أنّ هذا الرجل کان قد وضع ثوبه علی فمه وأسرع بترک المسجد الحرام ولکنّه وقع فی براثن المتعصبین وأخیراً تمّ إعدامه (4).

إحیاء «فقه المقارن» من جدید:

إنّ الوقائع المثیرة التی ذکرناها آنفاً تحکی عن عمق جهل المسلمین، بل عن جهل علماء المذاهب الإسلامیة فیما یتصل بالمذاهب الأخری، وهذا الأمر بمثابة ناقوس الخطر لعلماء الإسلام الواعین والمخلصین، وقد أدی ذلک إلی یقظة کبار علماء المذاهب ممّا دعاهم لتأسیس مراکز التقریب بین المذاهب، وقد أرسل آیة اللَّه البروجردی إلی ملک العربیة السعودیة رسالة ذکر فیها روایة عن الإمام الباقر علیه السلام یصف فیها حج النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث یتفق علیه جمیع المذاهب الإسلامیة، لیعلم الجمیع من الشیعة وأهل السنّة أنّ مصدر أحکام الحج للمسلمین واحد وأنّهم مشترکون فی غالبیة الموارد، وقد تأسست «دار التقریب» فی القاهرة بهمة بعض علماء المذاهب الإسلامیة وتمّ تدوین مناسک الحج للشیعة والسنّة بشکل مقارن، وقد تحرک «حسن البنا» زعیم حرکة الإخوان المسلمین وأحد أعضاء جماعة التقریب لنشر هذه المناسک فی صحیفة «الإخوان» وهی الصحیفة الوحیدة التی یسمح لها بالانتشار فی المملکة العربیة السعودیة، وذلک فی موسم الحج (5).

وکانت هناک ولادة جدیدة علی وشک الحدوث لهذا العلم، حیث أدرک فقهاء المذاهب الإسلامیة ضرورة إحیاء «علم الخلاف» من جدید وفتح باب الاجتهاد، وبدأت نشاطات واسعة فی مصر، تونس، دمشق، ایران من أجل إحیاء وتفعیل هذا العلم بعد أن أطلق علیه «الفقه المقارن».


1- مجلة رسالة الإسلام، العدد 28، ص 382.
2- المصدر السابق.
3- امراء البلد الحرام، ص 832.
4- الوهابیون، ص 344.
5- همبستگی مذاهب اسلامی،( ائتلاف المذاهب الإسلامیة)، ص 10( بالفارسیّة).

ص: 80

وکان زعیم هذه الحرکة المبارکة فی ایران المرجع الکبیر آیة اللَّه البروجردی رحمه الله زعیم الحوزة العلمیة فی قم المقدسة، حیث کان یقول:

«ینبغی أن یکون الفقه الشیعی مقترن مع آراء وأفکار الآخرین ویخرج عن حالته الخاصة ویتبدل إلی فقه مقارن، ویجب علی الفقیه الرجوع إلی آراء القدماء، سواء کانوا من فقهاء الشیعة أم أهل السنّة، ثم یطرحوا رأیهم فی المسألة»(1).

فی مصر ابتدأت هذه الحرکة علی ید شیخ الأزهر الکبیر «محمد المراغی الکبیر»، حیث بحث مسألة فتح باب الاجتهاد فی مقالته العلمیة واقترح تخصیص کرسی لتدریس الفقه المقارن فی جامعة الأزهر، وشکّل أیضاً لجنة برئاسته فی دراسة قانون الاسرة تحت عنوان «الأحوال الشخصیة» بدون التقید بمذهب من المذاهب الأربعة(2).

ثم جاء «الشیخ عبدالمجید سلیم» الفقیه الکبیر وشیخ الأزهر ووکیل دار التقریب، وعمل علی تهیئة مقدمات صدور الفتوی التاریخیة التی قررت جواز اتباع المذهب الشیعی والزیدی، إلی وصل الدور إلی شیخ الأزهر الکبیر «محمود شلتوت»، فی زمان رئاسته فی تاریخ 17/ ربیع الأول من عام 1380 للهجرة فی یوم میلاد الإمام الصادق علیه السلام أصدر تلک الفتوی التاریخیة رسمیاً وعمل بمساعدة الاستاذ علی سایس علی تدوین کتاب الفقه المقارن تحت عنوان «مقارنة المذاهب فی الفقه»(3).

وبعده جاء الشیخ محمّد محمّد المدنی رئیس قسم الشریعة فی جامعة الأزهر وأدخل الفقه الشیعی فی دورة «الفقه المقارن» فی جامعة الأزهر وبذلک برز تحول جدید وانفتحت آفاق واسعة علی المحققین الإسلامیین وکتبت فی هذا الصدد سلسلة مقالات قیمة تحت عنوان «أسباب اختلاف الفقهاء» ونشرت (4) فی «مجلة رسالة الإسلام»(5).

ثمرات «الفقه المقارن» فی المرحلة المعاصرة:

اشارة

إنّ «الفقه المقارن» وبعد تجدید حیاته منذ زمان الشیخ محمّد محمّد المدنی ولحدّ الآن یدرّس بوصفه مادة علمیة فی جامعة الأزهر، وترتبت علیه آثار معطیات إیجابیة کثیرة، وهنا نشیر إلی أهم تلکم المعطیات والثمرات:

أ. رفع الحواجز والحدود الموجودة بین المذاهب الإسلامیة

إنّ التحرر الفکری والخروج من دائرة التعصبات المذهبیة الضیقة واجتناب الحصریة الدینیة، تعتبر الحجر الإساس لبدایة التحوّل والابتکار والتجدید، وإحدی برکات الفقه المقارن هو تهیئة مساحات جدیدة لکسر الاطر الضیقة والقیود المذهبیة، فقد جاء ذلک العصر الذی خرج فیه الناس عن اطار التقیید بمذهب معین، فعلماء الإسلام وبدلًا من التعصب لمذهب فقهی خاص، تحرکوا علی مستوی البحث عن الدلیل الأقوی فی الفقه، وهذا الإقدام المبارک امتدت آثاره بسرعة فی القوانین المدنیة فی مصر وسائر البلدان الإسلامیة،


1- مجله حوزه،( مجلة الحوزة)، العدد 43 و 44، ص 176( بالفارسیّة).
2- مقارنة المذاهب فی الفقه، ص 5 و 6.
3- شیخ محمود شلتوت طلایه دار تقریب، بی آزر الشیرازی، ص 191 وما بعد( بالفارسیّة).
4- المصدر السابق، ص 161.
5- تطبع وتنشر هذه المجلة فی مصر بهمة علماء دار التقریب.

ص: 81

بحیث إنّ حکومة مصر فی عام 1920 للمیلاد أخرجت القانون الشرعی المرقم 25 والذی یشتمل علی الأحوال الشخصیة «قوانین الاسرة» من حصر المذهب الحنفی، (وهو المذهب الرسمی لمصر) واستفادت الحکومة من سائر مذاهب أهل السنّة، وفی عام 1929 م أی بعد تسع سنوات، امتدت دائرة هذه الحریة والانفتاح لتشمل الفقه الشیعی أیضاً، حیث تمّت الاستفادة فی القوانین المدنیة من المذهب الشیعی.

وقد أقدمت حکومة سوریة أیضاً فی عام 1951 م، علی تدوین قوانین الاسرة علی هذا الأساس، وهذا الانفتاح والتحرر من اطر الأحکام الفقهیة لمذهب خاص امتد أیضاً فی السنوات اللاحقة لیشمل بلدان إسلامیة أخری کالاردن، قطر، الامارات، السودان.

ب. ورود الفقه الإسلامی فی المیادین العالمیة

بعد انیهار الحدود الموجودة بین المذاهب الإسلامیة وخروج الفقه من الجمود والانحصار، جاءت المرحلة اللاحقة، والتی تمثلت فی حضور وازدهار الفقه الإسلامی فی المیادین العالمیة والدولیة، فبعد أن تحرک الفقه فی خطوته الاولی لفت نظر الحقوقیین فی العالم وتشکلت مؤتمرات عالمیة للحقوق والقانون بشکل غیر مسبوق، بحیث إنّ الفقه الإسلامی اعتبر فی مؤتمر هولندا المنعقد فی عام 1932 م بوصفه أحد القوانین المقارنة فی العالم، وفی عام 1937 م وفی مؤتمر القانون المقارن فی لاهای اعتبرت الشریعة الإسلامیة أحد مصادر التقنین فی اوربا، وفی عام 1948 م أقرّ الحقوقیون المشترکون فی مؤتمر لاهای العالمی بالاجماع بأنّ الفقه الإسلامی یعتبر منبع القانون المقارن (1).

وفی عام 1951 م أعلن المجمع العالمی للحقوق المقارنة اسبوعاً تحت عنوان «اسبوع الفقه الإسلامی» وأعلن أنّ الفقه الإسلامی یمثّل تراثاً عظیماً زاخراً بالمفاهیم والمعلومات الحقوقیة ویملک الصلاحیة للإستجابة لجمیع حاجات الإنسان فی حرکة الحیاة المعاصرة.

وفی عام 1972 م وفی مؤتمر دمشق العالمی تمّ تقدیم مقترح یبیح للدول الاوربیة الاستفادة من القوانین الإسلامیة فی تشریعاتهم (2).

یقول العالم السویسری «مارس بوازار» فی کتابه:

«إنّ أهل الخبرة والنظر فی القرون الوسطی کانوا کلّما یشهدون رکوداً فی القوانین المسیحیة، یستفیدون من الفقه الإسلامی وأحکامه الحقوقیة، وفی القرن الثالث عشر للمیلاد کانت مبانی الفقه الإسلامی مورد البحث والدراسة والتحقیق فی عدّة جامعات علمیة فی اوربا»(3).

ویضیف کذلک:

«والآن فی عالمنا المسیحی نشهد میلًا باتجاه القوانین الإلهیّة ونقترب بذلک من موضع المسلمین، لأنّهم أدرکوا بالتجربة أنّ الأحکام الإلهیّة الثابتة هی الأحکام الوحیدة المصونة عن تدخل الأهواء وقوی الظلم والثروة والنفوذ»(4).

ج. نفوذ فقه أهل البیت علیهم السلام إلی جامعة الأزهر

إنّ بدایة نفوذ فقه أهل البیت علیهم السلام کان علی ید آیة اللَّه


1- مقدمة کتاب شرح کتاب النیل، ج 1، ص 30.
2- موسوعة فقه إبراهیم النخعی، مقدمة، ج 1، ص 5 و 6.
3- اسلام در جهان امروز،( الإسلام المعاصر)، ص 244( بالفارسیّة).
4- المصدر السابق، ص 247.

ص: 82

البروجردی رحمه الله وذلک عندما أرسل کتاب المبسوط للشیخ الطوسی والمختصر النافع للمحقق الحلی إلی علماء الأزهر، وکان اهتمام علماء الأزهر بهذین الکتابین إلی درجة أنّ وزارة الأوقاف المصریة أمرت بطبع کتاب «المختصر النافع» وتوزیعه علی المسلمین مجاناً(1).

وهذه الحرکة أدت بالتالی إلی اعلان الشیخ محمود شلتوت (شیخ الأزهر الکبیر) رسمیّاً وفی مقابلة صحفیة، أرجحیة الفقه الشیعی فی موارد عدیدة، حیث قال:

«وقد استطعت أنا وکثیر من إخوانی فی التقریب وفی الأزهر وفی الفتوی وفی لجان الأحوال الشخصیة وغیر ذلک أن نرجّح أقوالًا وآراءً من غیر مذهب السنّة مع أننا سنیّون، ومن ذلک ما أخذ به قانون الأحوال الشخصیة المصری فی شؤون الطلاق الثلاث والطلاق المعلّق وغیر ذلک، فإنّ هذا مستمد من مذهب الشیعة الإمامیّة والعمل الآن قائم علیه دون سواه»(2).

د. صدور الفتوی التاریخیة لشیخ الأزهر المبنیة علی جواز اتباع مذهب الشیعة

لا شک أنّ صدور مثل هذه الفتوی من قِبل أحد رموز الأزهر العلمیة والحقوقیة، یشیر إلی حدوث تحوّل عظیم فی حرکة الفقه الإسلامی والتی مهّد لها قبل ذلک علماء کبار کآیة اللَّه البروجردی والشیخ عبدالمجید سلیم وآخرون، وهذه الفتوی بمثابة اعلان ولادة جدیدة فی فتح باب الاجتهاد، الذی أخرج العالم الإسلامی من دائرة المذاهب الفقهیة المعروفة.

وفی سفره إلی مصر التقی آیة اللَّه المیرزا خلیل الکمره ای بشیخ جامع الأزهر الشیخ محمود شلتوت وسأله عن الباعث علی اصداره هذه الفتوی، ویقول المیرزا خلیل نقلًا عن قول الشیخ شلتوت مفتی مصر الأکبر:

«منذ مدّة من الزمان وتقریباً قبل ثلاثین عاماً تحرکت لدراسة فقه الإمامیّة وطلبت الکتب الفقهیة لعلماء الإمامیّة من العراق وایران، ولکن لم تصلنی هذه الکتب إلی فترة متأخرة حیث کانت مصر تقبع تحت طائلة الاستعمار وکانت الرقابة شدیدة علی الکتب، وقد وصلتنی کتبکم بعد فتح قناة السویس وقرأتها واطلعت علی مضامینها وقد تمّت الحجّة علیِّ فأصدرت تلک الفتوی (بجواز اتباع المذهب الفقهی للشیعة بوصفه أحد المذاهب الإسلامیة) دون أن أقع تحت تأثیر أی مقام أو کلام»(3).

ویقول الشیخ محمّد جواد مغنیة:

التقیت فی أحد أسفاری إلی مصر بالعلّامة شلتوت وکان معه جماعة من کبار علماء الأزهر أیضاً وسألت عن الباعث علی فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفری، فأجابنی قائلًا:

«اللَّه یعلم بأننی لم یکن لدیّ لإصدار هذه الفتوی أیة دوافع سیاسیة واجتماعیة وغیرها، وقد کنت فی مقام استنباط الأحکام الفقهیة، وعندما کنت أری بعض أدلة الفقه الشیعی وادقق النظر فیها وأری أنّها تملک القوة والمتانة والدقّة، فهذا الأمر دفعنی إلی إصدار الفتوی بجواز اتباع المذهب الشیعی، وأنا بنفسی افتی فی بعض المسائل الفقهیة علی أساس فقه المذهب الجعفری».


1- شیخ محمود شلتوت طلایه دار تقریب، ص 182( بالفارسیّة).
2- مجلة رسالة الإسلام، لسنة 11، ص 220.
3- کتاب حج وقبله( کتاب الحج والقبلة)، ص 130- 132( بالفارسیّة).

ص: 83

ثم إنّ الشیخ محمود شلتوت التفت إلی الحاضرین وقال:

«علیکم مطالعة کتب الشیعة بدقّة»(1).

ه. تأثیر فقه أهل البیت علیهم السلام فی فتوی علماء أهل السنّة والقوانین المدنیة للبلدان الإسلامیة

اشارة

إنّ حرکة «الفقه المقارن» المطرد وطرح فقه أهل البیت علیهم السلام إلی جانب المذاهب الفقهیة الأخری، أثمرت ثمارها وبرزت آثارها یوماً بعد آخر، فقد أدرک الفقهاء والحقوقیون للمذاهب الأخری عظمة فقه أهل البیت علیهم السلام، فمضافاً إلی إقدامهم علی تصحیح بعض فتاواهم الفقهیة، أقدموا کذلک علی تدوین دائرة المعارف الفقهیّة المشتملة علی فقه أهل البیت علیهم السلام، ومن جملة هذه الموسوعات الفقهیة: «موسوعة جمال عبدالناصر فی مصر، موسوعة فقه الإمام علی بن أبی طالب علی ید الدکتور رواس طلعچی فی سوریة، ومعجم فقه السلف، عترة وصحابة، والتابعین، علی ید أساتذة جامعة ام القری فی العربیة السعودیة.

وقد أثر هذا المنهج الجدید بسرعة فی العالم الإسلامی بحیث إنّ بعض البلدان الإسلامیة غیّرت من قوانینها المدنیة وفقاً لفقه مذهب أهل البیت علیهم السلام، وکنموذج علی ذلک نشیر إلی ما یلی:

1. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الالتزام بالشرط ضمن العقد

من المعلوم أنّ رأی جمهور فقهاء أهل السنّة أنّ الشرط ضمن العقد غیر ملزم، ولکن فی نظر المذهب الجعفری وبعض الحنابلة فالعمل بالشرط ضمن العقد لازم فیما لو لم یکن حراماً أو مغایراً لمقتضی العقد، علی سبیل المثال: إذا اشترط المرأة ضمن عقد الزواج (وهو من العقود اللازمة) أنّ زوجها لا یخرجها من المدینة الفلانیة، فالزوج لا یحق له إخراجها من تلک المدینة إلّابرضاها(2)، ولکن إذا اشترطت الخیار فی عقد الزواج فذلک شرط باطل (3).

ونقرأ فی المادة 19 من قانون الاسرة فی الأردن المرقم 61 لعام 1976 م، أنّه اختار رأی المذهب الجعفری، یقول:

«إذا اشترط الطرفان ضمن العقد شرطاً نافعاً لأحد الطرفین ولم یکن ذلک الشرط منافیاً لمقاصد الزواج، ولم یکن ملزماً بشی ء محرّم فی الشرع، فإنّ مراعاته واجبة»(4).

وکذلک ورد فی المادة 28 من القانون المدنی للُاسرة فی دولة الإمارات هذا الرأی أیضاً(5).

2. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الرضاع

وفی مسألة الرضاع، الموجب للحرمة، أی حرمة الزواج بین الطفلین الرضیعین، فهناک خلاف بین فقهاء الإسلام فی تفسیر الآیة الشریفة والروایات الواردة فی هذه الموضوع، حیث ذهب بعض فقهاء المذاهب الأربعة کالحنفیة والمالکیة وأحمد فی روایة إلی الحرمة حتی لو کان الرضاع بمقدار قطرة من اللبن، وذلک


1- مجله تقریب مذاهب اسلامی( مجلة تقریب المذاهب الإسلامیة)، العدد 5، ص 44( بالفارسیّة).
2- زبدة الأحکام، لآیة اللَّه مکارم الشیرازی، ص 216، المسألة 853.
3- تحریر الوسیلة للإمام الخمینی، ج 2، ص 239، المسألة 18( فی عقد النکاح وأحکامه).
4- دراسات فی الفقه المقارن لعلی ابوالبصل، ص 169.
5- الأحوال الشخصیة لمحمّد الطنطاوی، ص 57.

ص: 84

بسبب روایة لدیهم (1).

ولکن فی نظر الشافعیة والرأی الراجح للحنابلة فإنّ الحدّ الأدنی للحرمة هو الرضاع خمس مرات وفی کل مرّة یرتضع فیه الطفل رضعة کاملة بحیث یترک ثدی امّه لوحده، ودلیلهم علی هذا القول روایة عائشة قالت:

«لقد ورد فی القرآن الرضاع عشر مرات، ثم نسخت بعدها إلی خمس»، ویری ابن عربی أن هذا الدلیل من أضعف الأدلة لاثبات المطلوب، لأنّ هذه الروایة استندت لآیة لا یعلم کونها من القرآن، ویقول: إذا عملنا بهذه الروایة ینفتح أمامنا باب الطعن بالقرآن الکریم وأنّ التحریف واقع فیه (2).

أمّا فی الفقه الجعفری فإنّ مقدار الرضاع ینبغی أن یکون باعثاً علی إنبات اللحم وانشداد العظیم للطفل، أو من حیث المدّة یکون الرضاع یوماً ولیلة متوالیة، أو یکون من حیث العدد خمسة عشر رضعة کاملة(3).

وهنا نری أن الشیخ شلتوت یختار رأی الشیعة ویقول:

«أنا شخصیاً أری أنّ دلیل الشیعة أقوی، وبذلک افتی فی هذا الموضوع وفقاً لرأی الشیعة»(4).

یستنبط الشیخ شلتوت من قوله تعالی: «وَأُمَّهَاتُکُمْ اللَّاتِی أَرْضَعْنَکُمْ ...»(5). أنّ عنوان «الامهات من الرضاعة» إنّما یصدق فیما إذا رضع الطفل مدّة معتبرة من هذه المرأة، وبدیهی أنّ تناول قطرة من لبن المرأة أو رضاع خمس مرات لا یکفی لصدق هذا العنوان ولا یثیر عاطفة الامومة والعلاقة بین الام وابنها»(6).

3. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الطلاق المعلّق

وفقاً لفقه المذاهب الأربعة لأهل السنّة، فإنّ الطلاق المعلّق مع تحقق الشرط، «المعلّق علیه» واقع ومنجز، وکان هذا هو قانون البلدان الإسلامیة ومنها مصر إلی سنة 1929 م ولکن طبقاً للمذهب الشیعی فإنّ الطلاق المعلّق وغیر المنجز باطل بشکل عام ولا یقع، بمعنی أن صیغة الطلاق یجب أن تکون غیر مقیدة بأی قید، حتی لو کان الطلاق معلّقاً بشرط معلوم وقطعی، فمع ذلک فهو فی نظر الفقه الشیعی باطل وغیر صحیح.

وقد اختار هذا الرأی الشیخ شلتوت المفتی الأعظم لمصر ورجحه علی غیره، وقد أدی ذلک إلی تغییر القانون المدنی لمصر فی هذه المسألة وفقاً للفقه الشیعی، ومنذ عام 1929 م تم إصلاح هذا القانون فی المادة ثلاثة، القانون رقم 25 إلی ما یلی:

«لا یقع الطلاق المعلّق وغیر المنجز»(7).

4. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الطلاق بالثلاث

ومن جملة المسائل الفقهیة التی نهج فقه أهل البیت علیهم السلام منذ البدایة خلافاً لسائر المذاهب الأربعة، ما یتعلق بالطلاق ثلاثاً وجملة واحدة، ففی رأی جمهور المذاهب الأربعة ذا قال الرجل لزوجته: أنتِ، طالق ثلاث مرات، فإنّه یحسب طلاقاً لثلاث مرات فلا یحق له الرجوع إلیها بعد ذلک، ولکن فی نظر الفقه الشیعی فإنّه یحسب طلاق واحد، فیحق للزوج الرجوع لزوجته


1- أحکام الاسرة للشلبی، ص 194.
2- المصدر السابق.
3- المختصر النافع، ص 175؛ تحریر الوسیلة، ج 2، ص 253( القول فی الرضاع).
4- مجلة رسالة الإسلام، السنة 11، ص 220؛ حدیث الشیخ شلتوت لجریدة الاطلاعات( بالفارسیّة).
5- سورة النساء، الآیة 23.
6- الفتاوی الشیخ محمّد شلتوت، ص 283.
7- أحکام الاسرة للشلبی، ص 497.

ص: 85

فی أیّام العدّة.

وقد أدی ترجیح الشیخ محمود شلتوت لرأی الشیعة إلی تغییر الکثیر من القوانین المدنیة فی البلدان الإسلامیة التی رأت أنّ هذا الرأی یتوافق مع مصلحة الاسرة، کما نری فی المادة ثلاثة من القانون المرقم 25 من العام 1929 فی مصر حیث یصرح: «إنّ الطلاق بالثلاث سواء کان باللفظ أو بالاشارة لا یحسب إلّا طلاق واحد»(1).

وقد ذکروا فی سبب هذا العدول من مذهبهم إلی المذهب الجعفری أنّ هذا الرأی یتفق مع مصلحة الاسرة وفی التیسیر علی الأشخاص الذین یطلقون زوجاتهم مثل هذا الطلاق (2).

وقد أیدت البلدان الاخری أیضاً هذا التغییر فی الحکم الشرعی، وعلی سبیل المثال نقرأ فی المادة 90 من قانون الاسرة فی الاردن:

«إن الطلاق بالثلاث لفظاً أو إشارة وکذلک الطلاق المتکرر فی مجلس واحد یحسب طلاقاً واحداً»(3).

وجاء فی المادة 10 من قانو الإمارات: «إنّ الطلاق المتعدد لفظاً أو إشارة لا یحسب سوی طلاق واحد، وکذلک الطلاق المتکرر فی مجلس واحد»(4).

5. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی طلاق السکران

ذهب جمهور فقهاء أهل السنّة إلی أنّ طلاق السکران إذا وقع منه فی حالة السکر وباختیاره وبدون ضرورة فإنّه صحیح، ولکن طلاق السکران فی رأی الإمامیة باطل مطلقاً.

یقول «الدکتور بدران أبوالعینین»: «وإلی هذا (عدم طلاق السکران) مال الإمامیة، وهو الرأی المتفق مع للعقل، الموافق للُاصول، وإذا ... أنّ عقوبة ایقاع الطلاق لا تقتصر علی من ارتکب المعصیة بل تتعداه إلی زوجته وأولاده»(5).

وحالیاً نری تغییر القانون فی مصر ولبنان وفقاً لمذهب الإمامیّة، حیث یصرح القانون رقم 25 لعام 1929 م فی أول مادة منه، وکذلک فی قانون الاسرة فی المادة 104 أنّ: «لا یعتبر طلاق السکران»(6).

6. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الشاهدین علی الطلاق

یشترط لوقوع الطلاق فی مذهب الإمامیة حضور شاهدین عدلین، لأنّ القرآن الکریم یقول: «وَأَشْهِدُوا ذَوَی عَدْلٍ مِنْکُمْ ...»(7). وعلی هذا الأساس لا یکفی فی وقوع الطلاق شهادة رجلین غیر عادلین أو عادل واحد وامرأة.

ولکن فی نظر أکثر فقهاء المذاهب الأربعة لا یشترط حضور الشهود للطلاق بل یستحب.

یقول عالم الأزهر الکبیر «الشیخ أبو زهرة»: «لو کان لنا أن نختار للمعمول به فی مصر، لاخترنا ذلک الرأی»(8).

ویقول «الدکتور بدران» فی هذا الصدد:


1- أحکام الأسرة للشلبی، ص 489- 491.
2- المصدر السابق.
3- دراسات فی الفقه المقارن لعلی أبوالبصل، ص 78.
4- الأحوال الشخصیة فی الشریعة للطنطاوی، ص 321.
5- الفقه المقارن للأحوال الشخصیة لأبو العینین، ص 315.
6- أحکام الاسرة، الشلبی، 482؛ الفقه المقارن للأحوال الشخصیة، أبوالعینین، ص 315 و 316.
7- سورة الطلاق، الآیة 2.
8- الأحوال الشخصیة لأبوزهرة، ص 369.

ص: 86

«ورأی الشیعة الإمامیة هو الراجح، إذ أنّه یضیّق دائرة الطلاق التی اتسعت الآن کثیراً کما یسهل إثباته فیما لو وقع خلاف بین الزوجین فی الطلاق»(1).

إنّ کلمات هؤلاء الفقهاء الکبار المبنیة علی ترجیح رأی الشیعة إمتدت تدریجیاً إلی قوانین سائر البلدان الإسلامیة وأحدثت فیها تغییر مهماً، وأخیراً نری فی القوانین المدنیة لمصر أنّهم رجحوا هذا الرأی أنّ الطلاق یجب أن یکون بحضور شاهدین عدلین (2).

7. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة عدم سقوط المهر والنفقة فی طلاق الخلع

فی صورة وقوع طلاق الخلع، فعلی أساس رأی الحنفیة أنّ جمیع حقوق الطرفین بین الزوج والزوجة الحاصلة بعقد الزواج تسقط من الاعتبار، بمعنی أنّ المهر مثلًا إذا کان مؤجلًا ووقع طلاق الخلع قبل حلول الأجل، فلا یجب علی الزوج شی ء تجاه الزوجة، ومن جهة أخری إذا کانت النفقة واجبة علی الزوج تجاه زوجته وقد دفع لها نفقتها لتأمین مستقبلها ووقع الطلاق وقد بقی مبلغ من هذه النفقة لعدم حلول وقتها فلا ینبغی للزوج یستعید أن هذا المبلغ منها.

ولکن علی رأی الإمامیة إذا تقرر أن تدفع الزوجة مالًا آخر غیر المهر علی أساس أنّه مال الخلع، فالزوجة یحق لها المطالبة بالمهر والنفقات السابقة، کما أنّ الزوج یحق له استعادة النفقات التی دفعها لها مقدماً وقد بقیت المدّة المذکورة.

ویصرّح القانون 25 من العام 1920 م فی مصر بترجیح رأی مذهب الإمامیة فی هذا الشأن، ویقول:

«إنّ النفقات المجمدة لا تسقط بطلاق الخلع بل تستطیع الزوجة المطالبة بتلک النفقات من الزوج»(3).

8. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الرجوع فی الطلاق الرجعی

علی أساس المذهب الجعفری والحنفی لا یشترط فی الرجوع فی الطلاق الرجعی أی شرط من فعل أو قول، بل یقع صحیحاً إذا وقع بأحدهما، ولکن فی المذهب المالکی یشترط فی فعل الرجوع أن یقترن بالنیّة(4).

أمّا فی نظر الفقه الشافعی فالرجوع لا یتحقق بالقول أو بالفعل أبداً.

یقول «الدکتور بدران» فی ترجیحه لفقه الإمامیة والحنفیة:

«فکان الراجح ما ذهب إلیه الحنفیة والإمامیة من صحّة الرجعة بالقول والفعل»(5).

ونری هذا الحکم فی قانون الاسرة فی مصر فی الفقرة الثانیة من المادة 12:

«یحقّ للزوج الرجوع لزوجته بالقول أو بالفعل»(6).

9. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة تحوّل عدّة المرأة من نوع إلی نوع آخر

إذا طلق الزوج وهو فی مرض موته زوجته بدون رضاً منها لغرض حرمانها من المیراث ومات الزوج فی


1- الفقه المقارن للأحوال الشخصیة لأبوالعینین، ص 379.
2- المصدر السابق، ص 380.
3- المصدر السابق، ص 405- 407.
4- بدایة المجتهد، ج 2، ص 7.
5- الفقه المقارن للأحوال الشخصیة لأبوالعینین، ص 371.
6- المصدر السابق، ص 370.

ص: 87

زمان عدّة الطلاق لزوجته، ففی نظر الفقه الجعفری والحنفی ترث الزوجة من مال الزوج (1)، ولکن عندما تتحوّل عدّة الطلاق إلی عدّة الوفاة ففی نظر الفقه الحنفی تکون عدّة المرأة إلی أبعد الأجلین، یعنی یأخذ بالعدّة أطول مدّة من عدّة الوفاة وعدّة الطلاق، ولکن فی نظر الفقه الإمامی أنّ تلک المرأة تعتد بعدّة الطلاق فقط، لأنّها حسب الفرض أنّها مطلقة طلاقاً بائناً، لأنّ الطلاق وقع فی حال وفاة الزوج، وحینئذٍ لا تحسب هذه المرأة زوجة له لتعتد عدّة الوفاة، أمّا سبب حصولها علی الإرث من مال زوجها السابق فذلک بسبب وجود دلیل خاص ورد من الشارع، وهذا الدلیل لا یسری إلی العدّة.

ونقرأ فی قانون حقوق الاسرة فی لبنان المادة 147 أنّه یصرح بترجیح رأی الإمامیة فی الطلاق البائن وأنّ عدّة الطلاق لا تتحوّل إلی عدّة الوفاة(2).

10. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة مدّة الحمل

فی رأی أکثر فقهاء الإمامیة فإنّ الحد الأقصی لمدّة الحمل تسعة أشهر، وفی رأی البعض عشرة أشهر، بینما ذهب آخرون إلی أنّها تمتد سنة کاملة(3).

ولکن فی رأی الفقه الحنفی فإنّ الحدّ الأقصی للحمل سنتان، وفی نظر المذهب المالکی والشافعی والحبنلی أربع سنوات، وفی نظر لیث بن سعد وعبّاد بن عوام خمس سنوات، وعلی قول الزهری والقول الثانی لمالک سبع سنوات (4).

وقد تبنت المحاکم القضائیة فی مصر مذهب أبی حنیفة إلی عام 1929 م، ولذلک کانت النسوة الفاسدات واستناداً لرأی فقهاء المذهب الحنفی ینسبن أولادهنّ غیر الشرعیین إلی أزواجهنّ الأثریاء بعد موتهم حتی إذا تمّت الولادة لما یقارب السنتین من وفاة الزوج، وقد أدی هذا الأمر إلی مفاسد کثیرة إلی أن أرجعت وزارة العدل فی مصر هذه المسألة إلی الطب القانونی، وقد أیدوا فی هذه المسألة الفقه الإمامی، ومنذ ذلک الحین تقرر فی المادة 15 من القانون المرقم 25 لعام 1929 م أنّ الحدّ الأقصی للحمل مدّة سنة کاملة لا أکثر، وذلک وفقاً لفقه المذهب الإمامی (5).

11. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة جواز الوصیّة للوارث

لا تجوز الوصیّة للوارث بدون الإذن من سائر الورثة فی رأی المذاهب الأربعة لأهل السنّة، ولکن فی نظر فقه أهل البیت علیهم السلام تجوز مثل هذه الوصیّة بدون إحراز رضا سائر الورثة.

یقول استاذ الشریعة فی جامعة القاهرة «الشیخ محمّد زکریا البردیسی»:

«وقد أخذنا فی القوانین الجدیدة للأحوال الشخصیة فی جواز الوصیّة لوارث بمذهب الشیعة وترکنا المذاهب الأربعة التی لا تجیز الوصیّة للوارث، وذلک مسایرة لمصالح الناس والعمل علی کلّ ما فیه مصلحة المسلمین ما دمنا لا نخرج عمّا رسمه الکتاب وما رسمته السنّة النبوّیة»(6).


1- فی نظر جماعة من فقهاء الشیعة أنّها ترث إلی مدّة سنة( جواهر الکلام، ج 39، ص 197).
2- الفقه المقارن للأحوال الشخصیة لأوالعینین، ص 464؛ أحکام الاسرة للشلبی، ص 646.
3- جواهر الکلام، ج 39، ص 197.
4- المصدر السابق، 490.
5- الأحوال الشخصیة لمحمّد محیی الدین، ص 342.
6- مجلة رسالة الإسلام، السنة 15، ش 58، ص 220.

ص: 88

وفی عام 1946 م تمّ العدول فی قانون الوصیّة من رأی المذاهب الأربعة إلی فقه أهل البیت علیهم السلام فی هذه المسألة وقالوا بجواز الوصیّة للوارث فی حدود الثلث بدون الإذن من سائر الورثة(1).

12. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة إرث البنت

إذا مات الرجل ولیس له سوی بنت واحدة، ففی نظر الفقه الشیعی فإنّ جمیع ترکة الأب تعود لهذه البنت، وکذلک لو کان له ابن واحد فإنّ جمیع الترکة تعود إلیه، ولکن المذاهب الأربعة لأهل السنّة لاتری فی مسألة إرث البنت هذا الرأی.

وقد اقترحت السیدة «نائلة علوبة» فی مقالتها العلمیة ومن خلال بیان مستندات وأدلة إلی مؤتمر لجنة الاسرة لوزارة الأمور الاجتماعیة فی مصر، أن یتغیر قانون الإرث فی مسألة میراث البنت فی مصر وفقاً للفقه الشیعی.

تقول هذه السیدة:

«ربّما یعترض البعض أننا لسنا من أتباع المذهب الشیعی لنحکم بهذه الحکم، ولکن ینبغی أن نعلم أنّ المذهب الشیعی هو مذهب إسلامی أصیل، وقد اعترفت وزارة الأوقاف فی مصر بهذا المذهب رسماً وقد أشرفت علی طبع بعض مؤلفات علماء هذا المذهب التی تبیّن أصالة هذا المذهب، وامتاز هذا المذهب بأنّ فقهه یعتمد علی أصل التشریع کما ورد فی القرآن الکریم، وعلی أساس حکم هذا المذهب فإنّ البنت إذا کانت واحدة للمتوفی فإنّها ترث جمیع ترکة الأب»(2).

وتضیف قائلة:

«ولقد اتفق المذهب الشیعی فی کثیر من أحکامه مع باقی المذاهب الإسلامیة الأربعة المعروفة ولا یضیرنا أن نأخذ بالأصلح من هذا المذهب الإسلامی فی شأن میرات البنات»(3).

وأخیراً قبلت لجنة الاسرة فی مصر هذا الاقتراح (4).

13. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة وقت رمی الجمرات

إنّ وقت رمی الجمرات فی أیّام التشریق فی نظر جمهور فقهاء المذاهب الأربعة یتعین بعد الزوال من أیّام التشریق، وهذا الأمر أدی إلی مقتل الکثیر من الحجاج فی کل عام بسبب الزحام الشدید علی الجمرات، وقد دفعت هذه المشکلة بفقهاء العربیة السعودیة لاجراء بعض التوسعة فی منطقة الرمی من حیث الزمان والمکان.

وقد ذهب معظم الفقهاء فی العصر الحاضر واستناداً لفقه الإمام الباقر علیه السلام أنّ وقت رمی الجمرات یبدأ منذ الصباح، وقد صرّحوا فی کتبهم بهذا الرأی ومنهم «العلّامة الشیخ مصطفی الزرقاء» و «العلّامة الدکتور یوسف القرضاوی» و «العلّامة الشیخ عبداللَّه زید محمود» و «الدکتور عبدالوهاب أبوسلیمان» وهم من أکابر علماء العربیة السعودیة.

یقول العلّامة الشیخ مصطفی الزرقاء:

«ذهب جمهور الفقهاء إلی أنّ وقت الرمی یبدأ من الزوال من الیوم الثانی من أیّام العید وأنّ الرمی قبل


1- الفقه الإسلامی وأدلّته لوهبة الزحیلی، ج 1، ص 7477 و 7478.
2- مجلة رسالة الإسلام، السنة 15، ش 58، ص 220 و 221( بالفارسیّة).
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق، ص 221.

ص: 89

الظهر غیر صحیح، ولکن خالف فی هذه المسألة الإمام الباقر محمّد بن علی من أهل البیت علیهم السلام کما ورد فی کتاب بدایة المجتهد، وعلی هذا الأساس یمکن للحاج الرمی فی هذه الأیّام الأربعة منذ الصباح وقبل الظهر ویجوز للمکلّف أن یتبع أحد المذاهب المعتبرة فإنّه مقبول عند اللَّه»(1).

ویقول العلّامة القرضاوی:

«إنّ علاج مشکلة الوفیات الناشئة من ازدحام الحجاج فی وقت معین لرمی الجمرات فی منی هو القول بالتوسعة الزمانیة، حیث إنّ الشرع أجاز لنا فیما إذا کان عدد الحجاج کثیراً ومکان الرمی محدوداً أن نتوسع فی زمان الرمی ونقول بجواز الرمی من الصباح إلی اللیل (2)، ولا معنی للتشدد فی رمی الجمرات حتی لو أدی ذلک إلی مقتل مئات الحجاج بسبب الزحام الشدید، فلا یمکن ارجاع ذلک إلی الشرع، لأنّ الغرض هو ذکر اللَّه، والمطلوب الیسر ورفع الحرج»(3).

أمّا «الدکتور عبدالوهاب أبوسلیمان» وهو عضو لکبار علماء السعودیة فیقول:

«إنّ المذهب الشیعی الزیدی والإمامی یری وفقاً لرأی الإمام أبوجعفر الباقر علیه السلام أنّ رمی الجمرات یبدأ من الصباح وهذا الرأی منسجم مع مقاصد الشریعة المطهرة فی رفع الحرج واجتناب سفک الدماء وحفظ النفوس»(4).

14. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة تغییر العدّة من ثلاثة أقراء إلی سنة کاملة

بما أنّ عدّة النساء لها أشکال متعددة، ففی بعض الحالات لأسباب متعددة یتمّ تغییر العدّة من حالة إلی أخری، مثلًا تتغیر أحیاناً العدّة لثلاث قروء من هذا النوع إلی نوع آخر، کأن تکون العدّة مدّة الحمل.

ومن جملة الموارد القابلة للتغییر فیما إذا طلقت المرأة ذات العادة، وبعد رؤیتها الحیض لمرتین ینقطع عنها الحیض فلا تری الحیض مرّة ثالثة، فی هذه الصورة وعلی أساس رأی الإمامیة یجب علیها الصبر مدّة سنة کاملة، فلو لم تر دم الحیض طیلة هذه المدّة فإنّ عدّتها تنتهی بعد مرور سنة واحدة(5)، ولکن عند فقهاء أهل السنّة تمتد هذه مدّة إلی زمان الیأس، وفی هذه المسألة مشکلات کثیرة تبتلی بها النسوة فی البلدان الإسلامیة، ومن ذلک أنّ الزوج فی هذه المدّة یجب علیه دفع نفقة هذه المرأة المطلقة.

یقول «الدکتور بدران» فی هذا الصدد:

«إنّ هذا الحکم أدی إلی تقدیم شکاوی کثیرة من قِبل الرجال، لأنّهم مجبرون علی دفع نفقة الزوجة المطلقة لعدّة سنوات دون الاستمتاع بها، ویکفی أن تدّعی المرأة کذباً أنّها لم تر الحیض ثلاث مرات متوالیة، إلی أن اختاروا فی عام 1929 م رأی فقهاء الإمامیة وصرّحوا بذلک فی المادة 17 من قانون 25 لمصر، وذلک لدفع هذا الضرر العظیم وقرروا أنّ نفقة هذه المرأة تستمر لمدّة سنة واحدة من تاریخ الطلاق، وبعد هذا التاریخ لا یُقبل ادعاؤها».

ویضیف «الدکتور بدران»:


1- الفتاوی لمصطفی الزرقاء، ص 196.
2- مجلة المجتمع، العدد 1343، ص 46.
3- فی فقه الأولویات، للدکتور القرضاوی، ص 39.
4- مجلة البحوث الفقهیة المعاصرة، السنة 13، العدد 49، ص 122.
5- یمکن مطالعة جزئیات هذة المسألة فی کتاب جواهر الکلام، ج 22، ص 237.

ص: 90

«هذا الذی ذهب إلیه القانون المصری هو مذهب الإمامیة»(1).

15. ترجیح فقه أهل البیت علیهم السلام فی مسألة الزواج من الکتابیة

یقول «محمّد رشید رضا» صاحب تفسیر المنار فی تفسیر الآیة 221 من سورة البقرة: «وَلَا تَنکِحُوا الْمُشْرِکَاتِ حَتَّی یُؤْمِنَّ»، فی باب عدم جواز نکاح المرأة المشرکة وجوازه من المرأة الکتابیة (الیهودیة والنصرانیة):

«ونقول فی الجواب: لو اتحدت لمصرّح الکتاب بجواز الزواج بالکتابیة المحصنة، ولما اتفق سلف الامّة وخلفها علی ذلک، ما عدا هذا الشرذمة من الشیعة»(2).

ولکنّه بعد صفحة أو صفحتین یبرر هذا الرأی مع الاعتذار من هذه الفتوی والعودة إلی رأی علماء الشیعة ویقول:

«هذا ما کتبته عند طبع التفسیر للمرّة الاولی (من الفتوی بجواز نکاح المرأة الیهودیة والنصرانیة) وقد حدث بعد ذلک أن فتن کثیر من شبّان مصر بنساء الافرنج وتزوجوا بهنّ فأفسدن علیهم أمورهم الدینیة والوطنیة، واضطر بعضهم إلی الطلاق وغرم کثیر من المال، ومن رجل غنی قتلته امرأته الفرنسیة وجاءت تطالب بمیراثها منه، وقلیل منهم من اهتدت به زوجه وأسلمت.

وقد سرت العدوی إلی المسلمات فمن الغنیات منهنّ من تزوجن بمن عشقن من رجال الافرنج بدون مبالاة بالدین الذی لا تعرف منه غیر اللقب الوراثی وقد عظمت الفتنة وقی البلاد من شرّها»(3).

وفی الحقیقة أنّ «محمّد رشید رضا» أدرک عمق نظر فقهاء الشیعة ورجع من فتواه السابقة.

الخلاصة:

إنّ الحرکة التکاملیة والتدریجیة للفقه المقارن فی مرحلته المعاصرة، أدت- مضافاً إلی تقلیل الفاصلة بین المذاهب الإسلامیة- إلی أن ینظر العالم الإسلامی بنظرة إیجابیة لفقه أهل البیت علیهم السلام، هذا من جهة، ومن جهة أخری فإنّ نظام الهیمنة الاستکباری والصهیونیة العالمیة الذین یخشون من التقریب بین المسلمین وازدهار فقه أهل البیت علیهم السلام فی العالم الإسلامی بذلوا کل جهودهم لتکریس الفرقة بین المسلمین وإثارة الأشخاص المتطرّفین والجاهلین ضد الشیعة، وبذلک عملوا من جهة علی اعاقة هذه النهضة المبارکة للتقریب بین المذاهب الإسلامیة ومنعوا اهتمام العالم الإسلامی بمذهب أهل البیت علیهم السلام، ومن جهة أخری دفعوا بالشیعة إلی اتخاذ موقف مماثل لمواجهة هذا العداء من قِبل الآخرین، وبذلک استطاعوا تعمیق الهوة وإثارة الفتنة بین المسلمین وزیادة الخلافات والنزاعات الداخلیة.

وحالیاً نری أنّ الکثیر من البلدان الإسلامیة قد اعترفت بمذهب أهل البیت علیهم السلام رسمیّاً، وأدرک علماء هذه البلدان عظمة فقه هذا المذهب الأصیل وتحرکوا علی مستوی الاستفادة منه فی دائرة الفقه المقارن، فینبغی علی العلماء السعی وبذل الجهد فی تعریف


1- الفقه المقارن للأحوال الشخصیة لأبوالعینین، ص 466.
2- المنار، ج 2، ص 355.
3- المصدر السابق، ص 357.

ص: 91

الناس بهذا المذهب وکشف محاسن کلام أهل البیت علیهم السلام إلی العالمین ولایسمحوا لبعض المنحرفین والمتشددین أو العملاء الانتهازیین أن یبدلوا هذا التوجه العالمی لمذهب أهل البیت علیهم السلام إلی حالة من النفور والانزجار.

وکذلک یجب علیهم عرض الفقه الإسلامی بصورة کاملة مقارنة وبمنهج واسلوب جدید إلی العالم لیطلع الحقوقیون والعلماء فی العالم المعاصر علی معطیات وثمرات هذا الفقه المبارک وینتفعوا من برکاته.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. أحکام الاسرة فی الإسلام، محمّد مصطفی الشلبی، دار النهضة العربیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1397 ق.

3. الأحوال الشخصیة فی الشریعة الإسلامیة، محمّد محیی الدین عبدالحمید، دار الکتب العربی، بیروت 1404 ق.

4. الأحوال الشخصیة، محمّد أبوزهرة، دار الفکر العربی، القاهرة.

5. اسلام در جهان امروز، (الإسلام المعاصر) مارسل بواراز، ترجمة الدکتور علی المؤیدی، طهران، مکتب نشر الثقافة الإسلامیة، 1361 ش.

6. الإمام الصادق علیه السلام، عبدالحلیم الجندی، المجلس الأعلی للشؤون الإسلامیة، القاهرة، 1397 ق.

7. امراء البلد الحرام، الدحلان.

8. البحوث الفقهیة المعاصرة (مجلة).

9. بدایة المجتهد، ابن رشد.

10. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی (ره)، 1379 ش.

11. تقریب المذاهب الإسلامیة (مجلة).

12. حوزة (مجلة).

13. جامع العلوم، الفخر الرازی، اسلامی، طهران.

14. جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الثالثة، 1367 ش.

15. دراسات فی الفقه المقارن، علی أبوالبصل، دار القلم الإمارات 2001 م.

16. رسالة الإسلام «مجلة» دار التقریب القاهرة.

17. زبدة الأحکام، مکارم الشیرازی.

18. شرح کتاب النبیل وشفاء العلیل، علی علی منصور.

19. شیخ محمود شلتوت طلایه دار تقریب، عبدالکریم بی آزار، مجمع جهانی تقریب مذاهب اسلامی، طهران، 1379 ش.

20. الفتاوی، الشیخ محمود شلتوت، دار الشرق، القاهرة.

21. الفتاوی، مصطفی الزرقاء، مجدی أحمد المکی، دار القلم دمشق، الطبعة الاولی، 1420 ق.

22. الفقه الإسلامی وأدلّته، وهبة الزحیلی، دار الفکر، دمشق، الطبعة التاسعة، 1427 ق.

23. الفقه المقارن للأحوال الشخصیة، بدران أبوالعینین، دار النهضة العربیة، بیروت.

24. فی فقه الآیات، الدکتور القرضاوی، مؤسسة الرسالة، 1421 ق.

25. کتاب حج وقبله، (الحج والقبلة)، المیرزا خلیل الکمره ای.

26. المجتمع (مجلة).

27. المختصر النافع، العلّامة الحلی، مؤسسة المطبوعات الدینیة، قم، 1376 ش.

ص: 92

28. مرجع العلوم الإسلامی، محمّد الزحیلی، دار المعرفة، دمشق.

29. مقارنة المذاهب فی الفقه، الشیخ محمود شلتوت والشیخ علی سایس، مصر، مطبعة محمد علی صبیح، 1935 م.

30. مقدمة ابن خلدون، دار الکتب اللبنانی، بیروت.

31. المنار، محمد رشید رضا، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة.

32. الموافقات فی أصول الأحکام، أبوإسحاق الشاطبی، دار الرشاد الحدیثة.

33. موسوعة فقه إبراهیم النخعی، الدکتور روّاس قلعه جی، دار النفائس، بیروت، الطبعة الثانیة، 1406 ق.

34. همبستگی مذاهب اسلامی، عبدالکریم بی آزار، سازمان فرهنگ وارتباطات، طهران، 1377 ش.

35. وهابیان، علی أصغر الفقیهی، انتشارات صبا، الطبعة الرابعة، 1377 ش.

ص: 93

6

القسم السادس: الماکل التأریخیّة للفقه الإسلامی

اشارة

المراحل التسع لفقه أهل البیت علیهم السلام

- عصر حضور أئمّة اهل البیت علیهم السلام

- عصر تشکیل وتبویب الفقه

- عصر التحوّل فی میدان التفقّه والإجتهاد

- عصر الرکود والتقلید

- عصر تجدید حیاة الفقه لمدرسة أهل البیت علیهم السلام

- عصر ظهور الحرکة الأخباریّة

- عصر تجدید حیاة الاجتهاد فی میدان التفقّه

- عصر الإبداع الفقهیّة

- عصر ورود الفقه للمیادین الإجتهادیّة المختلفة

المراحل الستّة لفقه أهل السنّة

- عصر الصحابة والتابعین

- عصر ظهور المذاهب الفقهیّة

- عصر توقّف حرکة الإجتهاد

- عصر الرکود الفقهی

- عصر عودة الحرکة الفقهیّة

- عصر الیقظة وإحیاء باب الاجتهاد من جدید

ص: 94

ص: 95

الماکل التأریخیّة للفقه الإسلامی

مقدّمة:

إنّ کلّ علم یملک سلسلة من المقدّمات، وهی عبارة عن: التعریف، الموضوع، مسائل ذلک العلم والغایة منه، وهناک بحث آخر أیضاً یبحث فی کلّ علم وهو عبارة عن: تاریخ ذلک العلم.

إنّ تاریخ کلّ علم عبارة عن الاطّلاع علی ظهور ونموّ وتکامل مسائل وقضایا ذلک العلم علی امتداد الزمان.

مثلًا، أحیاناً یبحث عن علم الطبّ وتعریفه، وموضوعه، ثمراته ونتائجه، وأحیاناً أخری یبحث ما وراء هذه المسائل، من تاریخ هذا العلم والمراحل التی مرّ بها فی عملیة التکامل العلمی لقضایا هذا العلم، فتارة یواجه مرحلة التوقّف والرکود أو یعیش الحرکة والانطلاق فی تحقیقاته ودراساته، وهذا هو ما یدعی ب «تاریخ علم الطب» أو «تطوّر علم الطب».

وبالنسبة لعلم الفقه فهو أیضاً غیر مستثنی من هذه القاعدة، ومن هنا فإنّ علماء العلوم الإسلامیة بحثوا فی القرون الأخیرة «مسیرة تطوّر الفقه» أو «المراحل التاریخیة للفقه» وتحرّکوا علی مستوی التحقیق بجدّیة فی هذا المورد.

علی أیّة حال فإنّ التعرّف علی المراحل التاریخیة المختلفة للفقه الإسلامی سیمنحنا معرفة واطّلاع واسع علی الجذور العمیقة لهذا العلم وحرکة الفقهاء وسعیهم البالغ فی ترشید مسیرة هذا العلم، ونتعرّف کذلک علی أسباب الرکود أو الحرکة والإبداع العلمی لفقهاء الإسلام فی بعض العصور والمراحل التاریخیة، وتأثیر الزمان والمکان والحوادث الواقعة علی امتداد التاریخ الإسلامی فی خلق فهم جدید للفقهاء وأمثال ذلک.

وفی هذه المقالة نسعی لدراسة المراحل التاریخیة الفقهیة لفقه أهل البیت علیهم السلام، وکذلک فقه أهل السنّة.

وفی البدایة نشرع من فقه أهل البیت علیهم السلام وقبل الورود نذکّر القاری ء بهذه الحقیقة، وهی أنّ مرحلة التشریع وعصر نزول الوحی التی بدأت منذ بعثة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله إلی رحلته، تعدّ مرحلة مشترکة بین جمیع المذاهب الإسلامیة، وهذه المرحلة نطلق علیها مرحلة التشریع وتأسیس العلوم الإسلامیة، ومنها «الفقه». ورائد هذه المرحلة هو الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله نفسه حیث قام- بالاقتباس من الوحی- ببیان کلّیات الفقه وفروعه للناس، وقد أخذ المسلمون أحکامهم

ص: 96

ومسائلهم من النبیّ صلی الله علیه و آله کلّ علی أساس قدرته واستعداده (1).

فی هذه المرحلة تمّ إبلاغ القرآن الکریم للناس بشکل کامل وصدر الأمر بجمعه وتدوینه أیضاً، وقام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بتعلیم سنّته للناس أیضاً، وهذه السنّة انتقلت بشکل کامل بواسطة الإمام علیّ علیه السلام إلی الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام.

إنّ جمیع المذاهب الإسلامیة، تری أنّ أول مرحلة من المراحل الفقهیة لتلک المذاهب هی ما یتّصل بعصر الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله ومن هنا نحن نشرع باستعراض المراحل الفقهیة المختلفة بعد هذه المرحلة حیث شرعت الفرق والمذاهب الإسلامیة المختلفة بالظهور، ونبدأ بالمراحل التاریخیة لفقه الإمامیة.

المراحل التسع لفقه أهل البیت علیهم السلام:

خصائص فقه أهل البیت علیهم السلام:

اشارة

إنّ فقه الشیعة، الذی هو فقه أهل البیت علیهم السلام، انطلق من رحاب الرسالة المحمّدیة، ثمّ خاض فی تفریع مسائله أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله الطاهرین فنال الرعایة الکافیة من قِبلهم.

وقد واجه المذهب الفقهی لفقهاء الشیعة تحوّلات کبثیرة علی امتداد تاریخه، وخاصّة فی عصر أئمّة أهل البیت علیهم السلام، فأحیاناً وبسبب الضغوط والتحدّیات التی یفرضها الواقع السیاسی یواجه هذا الفقه رکوداً، وأحیاناً أخری یعیش فرصاً جیّدة وظروفاً مناسبة بسبب صراع السلطة السیاسیة مع القوی المناهضة، وهی فترة انتقال القدرة وتغییر الحکومة، فیشهد الفقه حرکة ونشاطاً متزایداً. وفی المراحل اللاحقة بعد مرحلة أئمّة أهل البیت علیهم السلام، فإنّ الفقه الشیعی واجه أیضاً حوادث مختلفة أدّت أحیاناً إلی رکود علم الفقه، وأحیاناً أخری أدّت إلی زیادة حرکته ونشاطه فی عملیة الابداع الفقهی والتعمّق العلمی.

والنتیجة، فإنّ فقه الشیعة- منذ العصر الأول وإلی عصرنا الحاضر وبسبب انفتاح باب الاجتهاد- مازال یشهد حرکة تصاعدیة نحو التطوّر والانتشار وبشکل ملحوظ.

وقبل دراسة المراحل الفقهیة للشیعة الإمامیة، نری من الضرورة بیان الخصائص الأساسیة لفقه أهل البیت علیهم السلام:

1. العمل بفقه أهل البیت علیهم السلام مجزٍ

من البدیهیّ أنّ العمل بفقه أهل البیت علیهم السلام مجزٍ للمکلّف وسبب لنجاته، وأوضح دلیل علی ذلک هو ما ورد فی حدیث «الثقلین»(2) المتواتر والمعروف، ومحتوی هذا الحدیث یدلل بوضوح علی أنّ التمسّک بأهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله یساوق التمسّک بکتاب اللَّه، وسبب للهدایة والنجاة.


1- واختلف الأصحاب أیضاً فی الأخذ من الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله حسب استیعابهم واستعدادهم، یقول مسروق( وهو من التابعین): لقد جالست أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فوجدتهم کالاخاذ فالاخاذ یروی الرجل والاخاذ یروی الرجلین والاخاذ یروی العشرة والاخاذ یروی المائة والاخاذ لو نزل به أهل الأرض لاصدرهم.( الطبقات الکبری لابن سعد، ج 2، ص 343)
2- ورد هذا الحدیث بتعابیر مختلفة فی کتب الشیعة والسنّة؛ من کتب الشیعة: الکافی، ج 1، ص 294؛ وسائل الشیعة، ج 18، ص 19؛ بصائر الدّرجات، ص 433؛ الإرشاد للشیخ المفید، ج 1، ص 233؛ الأمالی للشیخ الطوسی، ص 162؛ الإحتجاج للطبرسی، ج 1، ص 146 وبحارالأنوار، ج 23، ص 106- / 147. ومن مصادر أهل السنّة أیضاً یمکن الإشارة إلی هذه الکتب: صحیح مسلم، ج 4، ص 1873؛ سنن الترمذی، ج 5، ص 328؛ مسند أحمد، ج 3، ص 59؛ سنن البیهقی، ج 10، ص 114؛ مستدرک الصحیحین، ج 3، ص 110 وکنز العمّال، ج 14، ص 435. وللمزید انظر: نفحات القرآن، ج 9، ص 62- / 71.

ص: 97

واللافت أن نعلم أنّه فی الآونة الأخیرة صدرت مجموعة تحمل اسم «فقه السلف عترة وصحابة وتابعین» بقلم محمّد المنتصر الکتانی نشرته جامعة «أم القری» فی مکّة، یقول هذا الکاتب فی بدایة تعریفه ل «فقه العترة»:

«إنّ فقه العترة یشمل الفقه الذی وصل إلینا عن طریق فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین الإمام علیّ، والإمام الحسن، الإمام الحسین، إلی الإمام الصادق علیهم السلام».

ثم یضیف:

«إنّ الحصول علی فقه العترة والعمل به هو فی الحقیقة الحصول علی العلم والهدایة وسبب الأمان من الضلالة، وبالاقتران مع کتاب اللَّه یؤدّی إلی الهدایة والأمان حتی أنّه یکون سبباً لدخول الجنّة»(1).

ثمّ إنّ هذا الکاتب ومن أجل إثبات صحّة کلامه یتمسّک بحدیث «الثقلین».

ویقول الإمام الفخر الرازی فی تفسیره فی موضوع الجهر ب

«بسم اللَّه الرّحمن الرّحیم»

فی الصلاة:

«أمّا أنّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام کان یجهر بالتسمیة فقد ثبت بالتواتر، من اقتدی فی دینه علیّ بن أبی طالب فقد اهتدی، وإلیک ما قاله (یعنی ما قاله رسول اللَّه صلی الله علیه و آله) فی حقّ علیّ علیه السلام:

اللّهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَع علیٍّ حَیثُ دار»(2).

2. ثراء فقه أهل البیت علیهم السلام

إنّ فقه أهل البیت علیهم السلام المقتبس من الکتاب والسنّة، هو فقه عمیق الجذور وغنیّ الثمار کالشجرة الطیبة، لأنّه لم ینفصل فی أیّ برهة من تاریخه عن أصله وجذوره.

وأنّ فقهاء الشیعة مضافاً إلی تمسّکهم بالکتاب، فإنّهم یستمدّون من کلمات أئمّة أهل البیت علیهم السلام التی تتّصل بجذورها بسنّة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله؛ فأئمّة أهل البیت فی الحقیقة مبیّنون وشارحون لسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله وکلماته، وعلیه فإنّ أصل ومصدر فقه أهل البیت علیهم السلام هو کتاب اللَّه وسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله الأصیلة والخالصة التی بیّنها أئمّة أهل البیت علیهم السلام للناس.

وقد ورد فی الکثیر من الروایات عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام أنّهم قالوا: «ما سَمِعتَه مِنّی فَاروهِ عن أبی وَما سَمِعتَه مِنّی فَاروهِ عن رَسولِ اللَّه صلی الله علیه و آله»(3).

ومع الالتفات إلی حقیقة عدم انفکاک فقه أهل البیت عن السنّة النبویّة واتّصال هذا الفقه بها، فإنّ ذلک یشهد علی ثراء هذا الفقه وخاصّة أنّ فقهاء الشیعة لا یحسّون بالفراغ القانونی إطلاقاً، بل یرون أنفسهم مستغنون عن استخدام القیاس والاستحسان وأمثال ذلک.

3. انفتاح باب الاجتهاد

بالرغم من أنّ فقه الشیعة قد واجه علی امتداد تاریخه تحدّیات وصعوبات کبیرة، إلّاأنّ فقهاء الإمامیة لم یوصدوا باب الاجتهاد، بل ترکوه مفتوحاً أمام أهله فی عملیة بذل الجهد للاقتباس من نصوص الکتاب


1- معجم فقه السلف، ج 1، ص 4 و 5.
2- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، ج 1، ص 205( ذیل تفسیر الآیة« بسم اللَّه الرحمن الرحیم» من سورة الحمد).
3- وردت هذه الأحادیث التی هی أکثر من عشرة بتعابیر مختلفة فی الجزء الأوّل من جامع أحادیث الشیعة، ص 180 وما بعده. للمحقّق الکبیر آیة اللَّه البروجردی( قدّس سرّه) کتبها فی زمن مراسلاته مع جامعة الأزهر ومفتی مصر فی حینه الشیخ محمود شلتوت، وإرسال هذه المجموعة إلی الشیخ شلتوت أیضاً، ونظراً إلی ما تحتویه هذه الأحادیث وأمثالها أصدر مفتی مصر فتواه التاریخیة: أنّ العمل بالمذهب الجعفری مجزٍ للمسلمین أیضاً. وللإطلاع علی فتوی الشیخ شلتوت راجع مجلّة رسالة الإسلام( بالفارسیة)، السنة 11، العدد 1، ص 108.

ص: 98

والسنّة، وهذه النقطة بالذات سببت تکامل فقه أهل البیت وترشیده فی مختلف التحوّلات الزمانیّة فکان یملک استجابة مناسبة لحاجات المسلمین فی حرکة حیاتهم الفردیة والاجتماعیة، فالفقه یتوغّل ویمتدّ إلی جمیع زوایا حیاة الناس فی مختلف الأصناف والشرائح الاجتماعیة، واستطاع هذا الفقه أن یمنح الناس إجابات وافیة عن أسئلتهم الفقهیة من قِبل فقهاء الشیعة. (انظر:

بحث انفتاح باب الاجتهاد).

4. الحریّة والاستقلال

إنّ فقهاء الشیعة لم یضعوا فقههم فی خدمة حکّام الجور وأصحاب المطامع إطلاقاً، ولم یجعلوا فقه أهل البیت أداة لتبریر أعمال الحکّام الظالمین، کما أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام أیضاً لم یضعوا فقههم وعلومهم فی خدمة الظلمة.

*** بعد بیان هذه الأمور، ننطلق لدراسة «مراحل فقه الشیعة» فی تاریخ الفکر الإسلامی ونأخذ منها تسع مراحل ونسلّط الضوء علیها(1).

المرحلة الأولی عصر حضور أئمة أهل البیت علیهم السلام

اشارة

لا شکّ فی أنّ عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله یمثّل عصراً مشترکاً لجمیع المسلمین حیث یستقون أحکام دینهم منه بدون واسطة، ویعدّ النبی صلی الله علیه و آله المرجع العلمی الوحید لجمیع المسلمین.

وبعد رحلة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله ونظراً لتزاید أعداد المسلمین واتّساع البلاد الإسلامیة وظهور حوادث ومسائل جدیدة، کلّ ذلک یفرز أسئلة جدیدة تتطلّب الإجابة عنها، وقد قام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قبل ذلک بتعریف أهل البیت علیهم السلام للمسلمین إلی جانب القرآن الکریم من موقع کونهم مرجعاً علمیاً بعد رحلته، وقام بهذا الأمر بحکمة وتدبیر.

ویعتبر حدیث «الثقلین»(2) المتواتر والمشهور دلیلًا حیّاً علی هذا المطلب وشاهداً علی بعد نظر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وقد تحرّک أئمّة أهل البیت علیهم السلام من موقع العمل علی تدوین أحکام الشریعة ومعارف الدین وحلّ مشاکل الأُمّة الإسلامیة وصیانة الشریعة من عوامل التحریف فی کلّ فرصة سنحت لهم.

وقد بدأ هذا التحرّک بعد رحلة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله (عام 11 هجری) وانتهی فی بدایة الغیبة الصغری (عام 260 هجری) وبالإمکان استعراض تفاصیل هذه المرحلة فی عدّة فصول:

الفصل الأوّل: تدوین الکتاب
اشارة

فی الوقت الذی منع فیه الخلفاء بعد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله الناس من تدوین الأحادیث النبویة بعد رحلة النبیّ قام أمیرالمؤمنین وبعض أصحابه وتلامیذه بکتابة وتدوین ما تیسّر لهم منها(3).


1- ذکر فی کتاب( موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، ج 1، ص 48) ستّ مراحل لفقه الشیعة، وفی( موسوعة طبقات الفقهاء، ج 2) سبع مراحل؛ ولکن فی نظرنا یمکن تقسیمها إلی تسع مراحل بعد تفکیک دقیق لهذه المراحل ومعرفة خصائص کلّ مرحلة منها.
2- مرّ ذکر مصادر هذا الحدیث فیما سبق.
3- بدأت قصة منع تدوین الحدیث ونقله منذ زمان الخلیفة الأوّل واستمر أکثر من قرن. روت عائشة أنّ أبی( الخلیفة الأول) جمع 500 حدیثاً عن رسول اللَّه حیث طلب یوماً تلک الأحادیث وأحرقها جمیعاً.( کنزالعمّال، ج 10، ص 285، ح 29460). وکذلک منع الخلیفة الثانی الصحابة من روایة الحدیث، بل وسجن جماعة من الصحابة لروایتهم الحدیث.( تذکرة الحفّاظ للذهبی، ج 1، ص 7). وکذلک ذکروا أنّ عمر عزم فی أول الأمر علی کتابة الحدیث ثم ندم وترک کتابته وکتب کتاباً إلی عمّاله فی البلاد الإسلامیة: من کان عنده کتاب فی سنّة رسول اللَّه فلیمحه.( کنز العمّال، ج 10، ص 292، ح 29476). واستمر هذا المنع فی عهد الخلفاء اللاحقین رغم الاهتمام بروایة الأحادیث النبویة فی عصر خلافة أمیرالمومنین علی علیه السلام ولکن الفرصة لم تکن کافیة لإتمام هذا العمل، وهکذا استمر المنع إلی زمن عمر بن عبدالعزیز، الذی کتب إلی أبی بکر بن حزم- کما یروی البخاری کتاباً یقول فیه: کتب عمر بن عبد العزیز إلی أبی بکر بن حزم: أنظر ما کان من حدیث رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فاکتبه فإنّی خفت دروس العلم وذهاب العلماء!( صحیح البخاری، ج 1، ص 60، باب کیف یقبض العلم، من أبواب کتاب العلم). ومع هذا الحال واجه تدوین الحدیث مرّة أخری رکوداً بعد وفاة عمر بن عبدالعزیز إلی زمن خلافة منصور الدوانیقی حیث ذکر السیوطی عن الذهبی: فی سنة ثلاث وأربعین ومائة، شرع علماء الإسلام فی هذا العصر فی تدوین الحدیث، الفقه، التفسیر، منهم مالک الذی دوّن( الموطأ فی المدینة).( تاریخ الخلفاء، ص 301) ونقل( الشیخ خضری بک أیضاًفی تاریخ التشریع الإسلامی، ص 72- 74، شرحاً حول منع تدوین الحدیث).

ص: 99

یقول جلال الدّین السیوطی فی کتابه «تدریب الراوی»:

«إنّ أمیر المؤمنین وبعض تلامذته خلّفوا بعض المکاتیب عنهم، أمّا الصحابة الأوّلون والتابعین فقد اختلفوا اختلافاً کبیراً فی مسألة کتابة العلم وتدوینه، فذهب بعض إلی عدم جوازه، وذهب آخرون إلی جوازه وکتبوا بعضاً منه، ومن هذه الفئة الثانیة علیّ علیه السلام وابنه الحسن علیه السلام وجابر»(1).

من هنا لابدّ من القول إنّ أول من قام بتدوین کتابٍ فقهیّ ودینیّ هو أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام.

والملفت للنظر أنّ حرکة الإمام هذه لا تختصّ بزمان ما بعد رحلة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله بل کان الإمام علیه السلام فی زمان حیاة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً یجلس عند النبیّ وینهل من علمه ویقتبس من معارفه، وقد کان یکتب الکثیر منها، وقد أورد الشیخ الکلینی بسند معتبر عن الإمام علیّ علیه السلام أنّه قال: «... وقد کنت أدخل علی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کلّ یوم دخلةً وکلّ لیلة دخلة فیخلینی فیها أدور معه حیث دار، وقد علم أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه لم یصنع ذلک بأحد من الناس غیری ... فما نزلت علی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله آیة من القرآن إلّاأقرأنیها وأملاها علیَّ فکتبتها بخطّی وعلّمنی تأویلها وتفسیرها وناسخها ومنسوخها، ومحکمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا اللَّه أن یعطینی فهمها وحفظها، فما نسیت آیة من کتاب اللَّه ولا علماً أملاه علیَّ وکتبته، منذ دعا اللَّه لی بما دعا ...»(2).

علی هذا الأساس، فما ورد من روایات المعصومین من کتب أمیرالمؤمنین علیه السلام باسم: الجامعة، کتب علیّ، الصحیفة، کلّها حصیلة هذه المجالس الخاصّة التی کان أمیرالمؤمنین علیه السلام یحضرها عند رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

ویقول النجاشی فی شرح حال محمّد بن عذافر الصیرفی أنّه نقل عن أبیه أنّه قال: «کنت مع الحکم بن عتیبة عند أبی جعفر (الإمام باقر علیه السلام) فجعل یسأله وکان أبو جعفر له مکرماً، فاختلفا فی شی ء فقال أبو جعفر: یا بنیّ قم فأخرج کتاب علیّ علیه السلام، فأخرج کتاباً مدروجاً عظیماً، ففتحه وجعل ینظر، حتی أخرج المسألة، فقال أبوجعفر: (هذا خط علیّ علیه السلام وإملاء رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، وأقبل الحَکَم وقال: یا أبامحمّد! إذهب أنت وسلمة بن کهیل وأبوالمقدام حیث شئتم یمیناً وشمالًا، فواللَّه لا تجدنّ العلم أوثق منه عند قوم ینزل


1- تدریب الراوی، ج 2، ص 65.
2- الکافی، ج 1، ص 64، ح 1.

ص: 100

علیهم جبرئیل علیه السلام»(1).

وکذلک یوجد کتاب آخر للإمام علیّ علیه السلام باسم الصحیفة، الذی یحتوی علی أحکام کثیرة فی مسائل القصاص والدیات (2).

وینقل البخاری أیضاً فی صحیحه، فی باب «کتابة العلم» عن أبی جحیفة قال: «فقلت لعلیّ علیه السلام: هل عندکم کتاب؟ قال: لا إلّاکتاب اللَّه، أو فهم أُعطیه رجلًا مسلماً، أو ما فی هذه الصحیفة. قال: قلت: وما فی هذه الصحیفة؟

قال: العقل، وفکاک الأسیر ولا یقتل مسلم بکافر»(3).

وبالرغم من أننا نعتقد بوجود کتاب آخر للإمام غیر هذه الصحیفة یسمی الجامعة، الذی یعتبر أحد المراجع العلمیة للأئمّة المعصومین علیهم السلام، وقد وردت فی الصحیفة أیضاً أحکام کثیرة فی مسائل القصاص والدیات، ولکن علی أیّة حال فإنّ نقل هذه المسألة بواسطة البخاری یبیّن بصورة جلیة أنّ الإمام علیّ علیه السلام کان یملک صحیفة قد کتب فیها بعض الأحکام الإلهیّة.

***

ونظراً لاهتمام أهل البیت علیهم السلام بتدوین الکتاب، فإنّ أصحابهم وأتباعهم أیضاً قد کتبوا کتباً وتصانیف عدیدة فی الفقه والمسائل الشرعیة، ومن تلامذة الإمام علیّ علیه السلام فی هذه المرحلة الذین ألّفوا کتباً فی هذا المجال:

1. أبورافع الصحابی

کان أبورافع مولیً لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله ومن خواصّ أمیرالمؤمنین علیه السلام، وقد ألّف کتاباً باسم «السنن والأحکام والقضایا»(4). ویستفاد من کلام النجاشیّ أنّه یشمل علی أبواب الصلاة والصیام والحج والزکاة والقضاء.

2. علیّ بن أبی رافع

وهو کاتب أمیرالمؤمنین علیه السلام ومن أفضل أصحابه، وقد ألّف کتاباً فی مواضیع فقهیّة مختلفة من قبیل الوضوء، الصلاة، وسائر أبواب الفقه (5).

3. عبیداللَّه بن أبی رافع

وحسب نقل الشیخ الطوسیّ أنّه ألّف کتاباً فی قضاء أمیرالمؤمنین علیه السلام (6).

4. ربیعة بن سمیع

وقد ذکره النجاشیّ عند ذکره للطبقة الأولی من کتّاب الحدیث، وأنّ ربیعة بن سمیع، جمع کتاباً عن أمیرالمؤمنین علیه السلام یتحدّث فیه عن زکاة البقر والإبل والغنم (7).

وکان الأئمّة الطاهرون بعد الإمام علیّ علیه السلام وإلی زمان الإمام الباقر علیه السلام، یعیشون التحدّیات الصعبة والضغوط الشدیدة التی یفرضها الواقع السیاسیّ علیهم، ومن هذه الجهة لم ینقل عنهم ولا عن أصحابهم کتاباً


1- رجال النجاشی، شرح حال العدد 966. المرحوم الشیخ الصدوق فی کتاب الأمالی، المجلس 66، وقسم من الروایات التی ذکرت فی کتاب علیّ؛ ویشتمل علی کثیر من الآداب والسنن وأحکام الحلال والحرام فی ما یقرب 300 سطراً، والمرحوم الصدوق نقل عن هذا القسم بسنده عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه( علیهم السلام). وقال الإمام الصادق علیه السلام فی نهایة هذه الروایات:« إنّه جمع هذا الحدیث من الکتاب الذی هو إملاء رسول اللَّه وخط علی بن أبی طالب علیه السلام».
2- جمع المرحوم آیة اللَّه أحمدی المیانجی، أسماء مختلفة لهذا کتاب وما یحتویه.( مکاتیب الرسول، ج 2، ص 5- / 302).
3- صحیح البخاری، ج 1، ص 36، باب کتابة العلم، ح 1.
4- رجال النجاشی، ج 1، ص 65، الرقم 1؛ أعیان الشیعة، ج 1، ص 123.
5- رجال النجاشی، ج 1، ص 65،/ الرقم 1.
6- الفهرست للشیخ الطوسی، الرقم 441.
7- الفهرست للنجاشی، الرقم 2.

ص: 101

فی الفقه رغم أنّ جماعة من أصحاب الأئمّة نقلوا روایات عنهم فیما یتعلّق ببعض المسائل الفقهیة، ومع هذا الحال فقد ورد عن الإمام السجّاد علیه السلام رسالة فی الحقوق ویبحث قسم من هذه المجموعة أحکام ومسائل فقهیّة وشرعیّة.

إنّ «رسالة الحقوق» للإمام السجّاد علیه السلام والتی أوردها الحسن بن شعبة فی «تحف العقول»، تتضمّن بیان خمسین حقّاً تقریباً، منها ما یتّصل بحقوق اللَّه علی الإنسان وحقوق الإنسان علی نفسه وحقوق العبادات کالصلاة والصوم والحج، علی الإنسان.

ولکن منذ عصر الإمام الباقر علیه السلام فما بعد، تمّ تدوین کتب عدیدة من قبل أصحاب الأئمة علیهم السلام.

ویذکر المرحوم الشیخ الطوسی فی کتابه «الفهرست» أسماء 900 من هؤلاء المصنّفین للکتب وربّما یکون لکلّ واحد تألیفات وتصنیفات عدیدة(1).

ونعلم أنّ عمدة هذه الکتب قد کتبت فی عصر أئمّة أهل البیت علیهم السلام إلی نهایة القرن الثالث، وهذا یشیر بصورة جیّدة إلی اهتمام علماء الشیعة بأمر التدوین والحدیث والفقه.

وممّا یجدر ذکره أنّه وبسبب عدم انفصال الأحکام الفقهیة عن سائر العلوم، فإنّ مجموعة کتب الحدیث تتضمّن روایات فقهیة وکلامیة وتفسیریة وما إلی ذلک.

ولکن بعض هذه الکتب تختصّ بالمسائل الفقهیة من قبیل الکتب التی نقلت عن أبی رافع وابنیه، وکذلک بعض کتب الفضل بن شاذان ویونس بن عبدالرحمن (من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام) فإنّها دوّنت کالکتب الفقهیة.

والشاهد علی هذا المطلب أنّ المرحوم الشیخ الکلینیّ یذکر فی موارد متعدّدة آراءهم فی کتابه الکافی (2)، ومن جملة ذلک ما أورده فی باب الطلاق والمیراث والزکاة وأمثال ذلک. وکذلک ما نقله الشیخ الصدوق فی کتابة «المقنع»، فی مسألة أنّ المرأة کیف ترث من زوجها عن الفضل بن شاذان بدون أن یروی عنه روایة فی هذا المجال، وهذا یفید أنّ الفضل بن شاذان کان له کتاب فی الفقه لیس علی غرار الکتب الروائیة.

وبالطبع أنّ تجرید الفقه من شکله الروائیّ إلی شکله الرسمیّ والشمولیّ قد تحقّق علی ید الشیخ الصدوق حیث سنذکره فی الکلام عن المرحلة الثانیة للفقه.

الفصل الثانی: أبرز فقهاء أهل البیت علیهم السلام
أ) أئمّة أهل البیت علیهم السلام
اشارة

یقف الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام علی رأس سلسلة الفقهاء العظام فی هذا العصر(3) حیث کان أفقه الناس بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

وقد کان للإمام علیّ علیه السلام آراء فقهیة أفتی بها فی مقام الإجابة عن أسئلة فی مجال الأحکام، أو أظهرها فی مقام العمل، أو فی أیّام خلافته وخاصّة ما صدر عنه من تعالیم وأوامر لعمّاله.

الإمام علیّ علیه السلام هو باب مدینة علم رسول اللَّه (4)


1- للاطلاع انظر: المراجعات، ص 598- / 621.
2- الکافی، ج 7، ص 83 و 84 و 95 و 98 و 115 و 121.
3- بالطبع فإنّ إطلاق عنوان الفقهاء علی أئمّة أهل البیت لا یخلو من تسامح من باب التماهی مع سائر الکتّاب الذین کتبوا فی« مراحل الفقه»؛ لأنّ کلام الأئمّة عند فقهاء الشیعة نفسه یعتبر من منابع استنباط الأحکام. وإن أمکن القول فی حقّهم أنّهم فقهاء من باب الخبراء بوجه أکمل فی الدین، وفی بعض الروایات یطلق علی أحد الأئمّة أحیاناً الفقیه أیضاً، ومن هذا القبیل« کتب رجلٌ إلی الفقیه علیه السلام ...»( من لا یحضره الفقیه، ج 3، ص 238 و 258) وتعبیر« قال الفقیه العسکری علیه السلام ...»( التهذیب، ج 1، ص 131).
4- الحدیث« أنا مدینة العلم وعلیّ بابها» نُقل عن عشرات الکتب لأهل السنّة وأتباع أهل البیت( المراجعات، لمؤلفه السیّد شرف الدّین العاملی، تحقیق الشیخ حسین الراضی، ص 327).

ص: 102

وعلّمه رسول اللَّه ألف باب من العلم یفتح له من کلّ باب ألف باب، کما ورد فی الحدیث (1).

یقول عمر بن الخطاب:

«أقضانا علیّ»(2)

وتقول عائشة: «أعلم الناس بسنّة رسول اللَّه، علیّ»(3) وتعتقد الإمامیّة بأنّ الإمام علیّاً أعلم الناس بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بحیث أنّ بحر علمه ومعرفته کان علی مدی التاریخ منهل العلماء ومشرعة الفقهاء.

وبعد أمیرالمؤمنین علیه السلام فإنّ الأئمّة من أهل البیت أیضاً کانت لهم آراء فقهیة، ولکن بین هؤلاء الأئمّة برز الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام- وبسبب توفّر ظروف خاصّة- بأن کانت لهم أکثر الآراء الفقهیة فی دائرة فقه أهل البیت علیهم السلام.

وقد کان الإمام الباقر علیه السلام معروفاً ومضرباً للمثل فی سعة علمه ومعرفته بحیث إنّه ورد ذکره فی الکتب المختلفة فیما یتعلّق بعلمه.

وقد تحدّث علماء أهل السنّة، سواءً المعاصرین لهذا الإمام أم من جاء بعده، عن عظمة هذا الإمام فی المجالات العلمیة والمعنویة.

یقول عبداللَّه بن عطاء المکّی «ما رأیت العلماء عند أحد قطُّ أصغر منهم عند أبی جعفر» ثم قال: «رأیتُ الحکم بن عتیبة (م 114) مع جلالته فی القوم بین یدیه کأنّه صبیٌّ بین یدی معلّمه»(4).

یقول الذهبی «أبوجعفر الباقر، محمّد بن علی بن الحسین، إمام ثقة مورد الاعتماد، الهاشمیّ العلویّ وکبیر بنی هاشم فی زمانه وعصره، اشتهر ب «الباقر» وهذا اللقب مأخوذ من «بقر العلم»(5).

ویقول ابن خلکان فی «وفیات الأعیان»: «أبوجعفر محمّد بن زین العابدین علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب (رضی اللَّه عنهم أجمعین)، الملقّب بالباقر، أحد الأئمّة الأثنی عشر فی اعتقاد الإمامیة وهو والد جعفر الصادق ... کان الباقر عالماً سیّداً کبیراً، إنّما قیل له الباقر لأنّه تبقّر فی العلم، أی توسّع، والتبقّر: التوسّع، وفیه یقول الشاعر:

«یا باقر العلم لأهلِ التّقی وخیرَ مَن لبّی علی الأجبُلِ»(6)

أمّا الإمام جعفر الصادق علیه السلام فقد نقل عنه آراء فقهیة کثیرة، وکان له دور مهمّ فی ترشید وتنمیة الثقافة الإسلامیة وخاصّة ثقافة أهل البیت بحیث أنّ مذهب الإمامیة قد عرف ب «المذهب الجعفری»، وقد ذکره علماء کبار من أهل السنّة من موقع المدح والثناء والتقدیر.

یقول مالک بن أنس (إمام المذهب المالکی) عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام: «وقد اختلفت إلی جعفر بن محمّد زماناً فما کنت آراه إلّاعلی إحدی ثلاث خصال: إمّا مصلّیاً وإمّا صائماً وإمّا یقرأ القرآن ... وما رأت عینٌ ولا سمعت اذنٌ، ولا خطر علی قلب بشرٍ أفضل من جعفر بن محمد الصادق، فضلًا ولاعلماً ولا عبادة ولا ورعاً»(7).


1- المراجعات، ص 482.
2- صحیح البخاری، ج 6، ص 23.
3- الاستیعاب، ج 3، ص 206.
4- ألقاب الرسول وعترته، ص 56؛ تاج الموالید، ص 29 والمستجاد من الإرشاد، ص 173( طبقاً لنقل موسوعة الفقه الإسلامی، طبقاً لمذهب أهل البیت، ج 1، ص 40).
5- تذکرة الحفّاظ، ج 1، ص 94.
6- وفیات الأعیان، ج 4، ص 174.
7- الامام الصادق والمذاهب الأربعة، نقلًا عن التهذیب، ج 2، ص 104؛ والتوسل والوسیلة لابن تیمیة، ص 52( الطبعة الثانیة)؛ والمجالس السنیة، ص 5( طبقاً لنقل الموسوعة الفقهیة المیسرة، ج 1، ص 33). ورد قسم من هذا الکلام فی تهذیب التهذیب لابن حجر العسقلانی، ج 2، ص 94 أیضاً.

ص: 103

یقول أبوحنیفة (إمام المذهب الحنفی): «ما رأیت أفقه من جعفر بن محمّد. ثمّ أضاف: لمّا أقدمه المنصور الحیرة بعث إلیَّ، فقال: یا أباحنیفة! إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد فهیّی ء له من مسائلک الصّعاب فهیّأت له أربعین مسألة، ثم بعث إلیَّ أبو جعفر المنصور وهو بالحیرة فأتیته فدخلت علی المنصور وجعفر بن محمّدجالس علی یمینه فلمّا بصرت به (الإمام الصادق) دخلنی من الهیبة لجعفر ما لم یدخلنی لأبی جعفر- أی المنصور- فسلّمت علیه، فأومأ إلیّ فجلست، ثم التفت إلیه فقال المنصور: یا أباعبداللَّه! هذا أبوحنیفة.

فقال الإمام: نعم أعرفه.

ثم التفت إلیَّ، فقال: یا أباحنیفة! ألق علی أبی عبداللَّه- أی الإمام الصادق علیه السلام- من مسائلک، فجعلت ألقی علیه فیجیبنی ویقول: أنتم تقولون کذا، وأهل المدینة یقولون کذا، ونحن نقول کذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جمیعاً». حتی أتیت علی الأربعین مسألة فما أخلّ منها بشی ء.

ثم قال أبوحنیفة: «ألیس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» (یعنی أن جعفر بن محمّد کان أعلم الناس فی زمانه)»(1).

وکذلک یقول أبوحنیفة:

«لولا السَّنَتان لهلک النّعمان»(2)

(لأنّه استفاد من محضر الإمام الصادق علیه السلام) النّعمان اسم أبوحنیفة.

ویقول ابن حجر الهیثمی عن الإمام الصادق علیه السلام:

«نقل الناس عنه- [الإمام جعفر الصادق- من العلوم ما سارت به الرکبان وانتشر صیته فی جمیع البلدان، وروی عنه الأئمّة الأکابر کیحیی بن سعید، ابن جریح، مالک، والسفیانین- [سفیان بن سعید الثوری وسفیان بن عیینة الکوفی - وأبی حنیفة، وشعبة بن الحجّاج البصری وأیّوب السجستانی»(3).

ویقول الشهرستانی فی الملل والنحل

«جعفر بن محمّد الصادق، هو ذو علمٍ غزیر، وأدبٍ کاملٍ فی الحکمة، وزهدٍ فی الدنیا، وورعٍ تامٍّ عن الشهوات»(4).

یقول البستانی فی «دائرة المعارف عن الإمام جعفر الصادق: «جعفر الصادق وهو ابن محمد بن علیّ ابن زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، أحد الأئمّة الإثنی عشر علی مذهب الإمامیة، وکان من سادات أهل البیت ولُقب بالصادق لصدقه فی مقالته وفضله عظیم»(5).

الأئمّة الآخرون من أهل البیت علیهم السلام:

مرّة أخری بعد الإمام الصادق علیه السلام، وبسبب تثبیت حکومة بنی العبّاس، عادت أشکال الضغوط والممارسات التعسّفیة من قِبل السلطة الحاکمة ضد أئمّة أهل البیت علیهم السلام، ومن هنا فإنّ مدرسة أهل البیت قد واجهت مشکلة صعبة فی هذه الفترة، ولکن مع ذلک


1- سیر أعلام النبلاء، ج 6، ص 440.
2- انظر: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج 1، ص 53، نقلًا عن التحفة الإثنی عشریة للآلوسی، ص 8( الموسوعة الفقهیة المیسرة، ج 1، ص 34).
3- الصواعق المحرقة، ص 201( الفصل الثالث: حیث ورد فیه أحادیث عن بعض أهل البیت علیهم السلام).
4- الملل والنحل للشهرستانی، ج 1، ص 133.
5- دائرة المعارف البستانی، ج 6، ص 478. ورد شبیه هذا التعبیر فی دائرة المعارف لفرید وجدی( ج 3، ص 109) أیضاً.

ص: 104

فإنّ الإمام الکاظم والإمام الرضا علیهما السلام کانا یتحرّکان فی مثل هذه الظروف الصعبة من موقع إشاعة نشر ثقافة أهل البیت وفقه آل محمّد صلی الله علیه و آله.

یقول السیّد ابن طاووس: «إنّه کان جماعة من خاصّة أبی الحسن الإمام موسی علیه السلام من أهل بیته وشیعته یحضرون مجلسه، ومعهم فی کمامهم ألواح ابنوس لطاف وأمیال، فإذا نطق أبوالحسن علیه السلام بکلمة وأفتی فی نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه ذلک»(1).

یقول ابن حجر الهیثمی، العالم والمحدّث المعروف لدی أهل السنّة: «إنّ موسی الکاظم وارث علوم أبیه، وله فضل وکمال، وکان یملک العفو والصفح والحلم الشی ء الکثیر (فی مقابل الجهّال) ولذلک لقّب بالکاظم، ولم یصل أحد فی زمانه بالنسبة للمعارف الإلهیّة والعلم والحلم، إلی مرتبته»(2).

وبعد الإمام الکاظم علیه السلام استلم ابنه الإمام الرضا علیه السلام مهمّة نشر علوم وفقه أهل البیت فی نهایة خلافة هارون وبدایة عصر المأمون العبّاسی، وکان لهذا الإمام علیه السلام دور مهمّ فی ترتیب وتهذیب الأحادیث الشریفة مضافاً لتحرّکه فی مجال تقویة عقیدة أهل البیت علیهم السلام والمشارکة فی المناظرات المهمّة لإثبات أحقّیّة الإسلام.

یقول الذهبی عن هذا الإمام: «وکان من العلم والدّین والسُّؤدد بمکان»(3) «وقد کان علیّ الرّضا کبیر الشّأن، أهلًا للخلافة»(4).

وکذلک- طبقاً لنقل أعیان الشیعة- فإنّ الحاکم النیسابوری یقول فی تاریخه عن هذا الإمام: «وکان یُفتی فی مسجد رسول اللَّه وهو ابن نیفٍ وعشرین سنة»(5).

وکتاب «فقه الرضا» أیضاً ینسب إلی هذا الإمام (6).

أمّا الإمام الجواد علیه السلام فقد استطاع أیضاً وفی سنوات عمره القلیلة (25 سنة) من نشر فقه مدرسة أهل البیت علیهم السلام بما تسمح له الظروف والحکّام فی ذلک العصر، ومن جملة ذلک أنّه کان أحیاناً یحلّ مشاکل الخلفاء الفقهیة وأحیاناً أخری یشترک فی المناظرات ویحلّ مسائل فقهیة مهمّة(7) وقد تحدّث علماء کبار من أهل السنّة عن عظمة هذا الإمام العلمیة وبرکاته الوجودیة، ومن ذلک ما ذکره ابن حجر الهیثمی حیث قال: «وقد اختاره المأمون لکی یصاهره، لأنّه مع صغر سنّه فإنّه من حیث العلم والحلم فاق جمیع العلماء»(8).

ویقول سبط بن الجوزی: «وکان علی منهاج أبیه فی العلم والتقوی والزهد والجود»(9).

وبعد الإمام الجواد علیه السلام تولّی ابنه الإمام الهادی علیه السلام

1. زمام الإمامة وزعامة الشیعة حیث ازدادت فی عصره الضغوط وملاحقة الشیعة أکثر من السابق، فلم یملک هذا الإمام حرّیة للعمل والنشاط الثقافی والعلمی فی مساحة واسعة، ولکن مع هذه الظروف الصعبة فإنّ هذا الإمام قد ربّی تلامیذ وأصحاباً کثیرین مضافاً إلی إجابته عن الشبهات العقائدیة والأسئلة الفقهیة والروائیة.

إنّ ما ورد عن هذا الإمام من الأجوبة المتعدّدة وحلّ


1- الأنوار البهیّة للشیخ عبّاس القمی، ص 170.
2- الصواعق المحرقة، ص 203.
3- سیر اعلام النبلاء، ج 9، ص 387.
4- المصدر السابق، ص 251.
5- أعیان الشیعة، ج 1، ص 101.
6- المصدر السابق، ص 102.
7- وللاطلاع علی مناظرات الإمام الجواد مع یحیی بن أکثم، العالم المعروف فی عصر المأمون العبّاسی، انظر: بحار الأنوار، ج 50، ص 75- / 78. وکذلک فتوی هذا الإمام فی کیفیّة قطع ید السارق، فی مجلس المعتصم العبّاسی وفی حضور فقهاء ذلک العصر، وهذا دلیل واضح علی علم وفقه الإمام علیه السلام.( وسائل الشیعة، ج 18، ص 490، أبواب حدّ السرقة).
8- الصواعق المحرقة، ص 205.
9- تذکرة الخواص، ص 359.

ص: 105

المشاکل الفقهیة فی الفرص التی سنحت له، شاهد حیّ علی علم الإمام الغزیر ومعارفه العمیقة(1).

وقد ازدادت الضغوط والممارسات التعسّفیة من قبل الحکومة العباسیة فی زمان الإمام الحسن العسکریّ علیه السلام بحیث أنّ السلطة اضطرّت إلی إحضار الإمام فی کلّ اسبوع مرّتین: الإثنین والخمیس فی البلاط لشدّة القلق والهاجس من نفوذ الإمام فی قلوب الناس (2) ولکن مع هذا الحال فقد کان الإمام علیه السلام یبعث بطلّابه ووکلائه إلی المدن لنشر فکر وفقه مدرسة أهل البیت علیهم السلام وروایاتهم.

وبعد الإمام الحسن العسکریّ علیه السلام انتقلت الإمامة إلی ولده الإمام المهدیّ علیه السلام، ولهذا الإمام غیبتان، غیبة صغری ذات مدّة قصیرة وقد استغرقت 69 سنة، وغیبة کبری بدأت من انتهاء الغیبة الصغری وتستمرّ لحین ظهور هذا الإمام.

وبالرغم من أنّ الإمام المهدیّ علیه السلام لم یستلم زمام الإمامة للناس بصورة علنیة، ولکنّه ومن خلال نوّابه فی زمن الغیبة الصغری، کان یتحرّک علی مستوی ارشاد وهدایة أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام ویحلّ لهم مشکلاتهم العلمیة والفقهیة، ومن جملة ذلک ما نجده فی جواب الإمام عن أسئلة «إسحاق بن یعقوب» فی مجالات مختلفة(3) وکذلک یمکن الإشارة فی هذا الصدد إلی توقیع الإمام علیه السلام المطوّل فی جوابه عن أسئلة وکیل الناس فی قم، وهو محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحمیری (4).

ب) فقهاء عصر أئمّة أهل البیت علیهم السلام
اشارة

وقد شهدت هذه المرحلة من تاریخ فقه الإمامیة ظهور فقهاء کبار قد تربّوا علی منهج أئمّة أهل البیت علیهم السلام وکان لهم دورٌ مهم فی تقویة وترشید الفقه الإسلامی، مضافاً إلی فقهاء أهل السنّة الذین اقتبسوا الکثیر من مدرسة أهل البیت.

وفی هذا الفصل نبدأ ببیان ترغیب الأئمّة علیهم السلام وحثّهم علی الاجتهاد والتفقّه، ثم نستعرض عدداً من الفقهاء والمحدّثین الذین تتلمذوا فی مدرسة أئمّة أهل البیت علیهم السلام.

1. الترغیب والحثّ علی الاجتهاد

لقد حثّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام بعض طلّابهم البارزین الذین یملکون القدرة علی الاستنباط والاجتهاد، علی ممارسة هذا الفن واستخراج أحکام الدین من خلال عملیة الاستنباط:

فأحیاناً کانوا یصدرون أمراً کلیّاً ویقولون:

«إنَّما عَلَیْنا أنْ نُلْقِی إلَیکُم الأُصُولَ وعلَیکُم أن تُفَرِّعوا»(5).

وأحیاناً أخری یکلّفون بعض تلامیذهم البارزین لیفتوا للناس، وأحد هذه الموارد ما نجده فی أمر الإمام علی علیه السلام لقُثم بن العبّاس والی مکّة من قِبل أمیرالمؤمنین علیه السلام حیث قال له:

«واجلِسْ لهم العَصْرَیْن فأفْتِ المُستَفْتِی وعلِّمِ الجاهِلَ وذاکِرِ العالِمَ»(6).

ونموذج آخر ما نراه فی توصیة الإمام الباقر علیه السلام


1- ومنها ما ورد فی فتوی الإمام علیه السلام حول المسیحیّ الزانی الذی أسلم قبل إقامة الحدّ علیه ومخالفة الإمام لرأی یحیی بن أکثم وغیره من فقهاء البلاط.( وسائل الشیعة، ج 18، ص 408، أبواب حدّ الزنا، باب 36). وکذلک هناک نموذج آخر فی نذر المتوکّل واختلاف آراء الفقهاء فی کیفیة إجراء النذر وحلّ الإمام علیه السلام هذه المشکلة.( تذکرة الخواص، ص 360).
2- بحار الأنوار، ج 50، ص 251.
3- أعلام الوری للطبرسی، ص 452 و 453.
4- الغیبة للشیخ الطوسی، ص 229- / 236.
5- وردت هذه الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام ومثله أیضاً عن الإمام الرضا علیه السلام.( وسائل الشیعة، ج 18، ص 41، باب 6 من أبواب صفات القاضی، ح 51 و 52).
6- نهج البلاغة، الرسالة 67.

ص: 106

لأبان بن تغلب حیث قال له:

«إجلِس فی مَسجِد المدینة وأفْتِ النّاسَ، فإنّی احِبُّ أن یُری فی شِیعَتی مِثلُک»(1).

وأحیاناً یسمحون للناس أن یأخذوا مسائل دینهم من طلّابهم وأصحابهم المعتمدین، کما هو الحال فی جواب الإمام الرضا علیه السلام حیث قال السائل: لا أکاد أصِلُ إلیک عن کلّ ما أحتاج إلیه من معالم دینی، أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی؟ فقال علیه السلام:

نعم»(2).

وأحیاناً أخری یعلّمون أصحابهم طرق وأسالیب الاجتهاد أیضاً، وأحد هذه الموارد ما نجده فی جواب الإمام الصادق علیه السلام عن أسئلة عبدالأعلی، فی کیفیة المسح علی إصبع القدم المجروح وأنّه یلفّ علیه خرقة ویمسح، حیث قال له الإمام علیه السلام:

«یُعرَف هذا وأشباهُه من کتابِ اللَّه، قال اللَّه تعالی:

«مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(3)

امسَحْ علَیه»(4).

2. کثرة تلامیذ مدرسة أهل البیت علیهم السلام

بالرغم من سعی خلفاء الجور لإبعاد الناس عن أهل البیت علیهم السلام وصدّهم عن الاقتباس من علومهم، وعمل خلفاء بنی أمیة وبنی العبّاس علی تشدید الضغوط علی أئمّة أهل البیت علیهم السلام لسلب أیّة فرصة من شأنها أن تسمح بنشر تعالیم الدین وتربیة تلامیذ وعلماء لهذه المدرسة، لکنّ الأئمّة علیهم السلام وفی بعض الفرص التی سنحت لهم، وخاصة فی عصر الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام- استطاعوا تربیة عدد کبیر من طلّاب العلوم الدینیة وفقه مدرسة أهل البیت علیهم السلام.

یقول الذهبی (م 748) فی «میزان الاعتدال»: «فهذا (أی مذهب التشیّع) کثیر فی التابعین وتابعیهم مع الدین والورع والصدق؛ فلو ردّ حدیث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبویة وهذه مفسدة بیّنة»(5).

ویتبیّن بصورة جلیّة من هذا الکلام الدور المهمّ لرواة مدرسة أهل البیت فی أوساط أصحاب الأئمّه علیهم السلام فی حفظ العلوم النبویة والشریعة المحمّدیة، وفی نفس الوقت فإنّ هذا الکلام یعکس کثرة جماعة وأتباع أهل البیت بین العلماء والمحدّثین فی ذلک العصر.

3. بعض فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام المعروفین

یمکن الإشارة هنا إلی بعض الفقهاء الممتازین من بین طلّاب مدرسة أهل البیت علیهم السلام والذین یمکن اعتبارهم بحقّ فقهاء وعلماء موثوقین ومعتمدین بشکل کامل.

وقد تحدّث الإمام الصادق علیه السلام عن أربعة من أصحابه بأسماء: برید بن معاویة العجلی، زرارة بن أعین، محمّد بن مسلم، ولیث المرادی، حیث قال عنهم:

«أربَعةٌ نُجباءُ، أُمناءُ اللَّهِ علی حَلالِه وحَرامِه، لَولا هؤلاءِ، انقطعت آثارُ النُّبُوَّةِ وانْدَرَسَت»(6).

ویذکر المرحوم الکشّی أیضاً فی رجاله بعض هؤلاء البارزین من أصحاب الأئمّة من موقع الاحترام والتبجیل، ثم یذکر أسماء 18 شخصاً من هؤلاء المعروفین والبارزین.


1- رجال النجاشی، ج 1، ص 73، شرح حال أبان بن تغلب؛ وسائل الشیعة، ج 20، ص 116.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، ح 33.
3- سورة الحج، الآیة 78.
4- وسائل الشیعة، ج 1، ص 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
5- میزان الاعتدال، ج 1، ص 5.
6- خلاصة الأقوال، ص 234؛ رجال الکشی، فی ترجمة أبی بصیر لیث المرادی.

ص: 107

ومن جملة تلامذة أئمّة أهل البیت وأصحابهم المرموقین فی هذه المرحلة، الفضل بن شاذان النیسابوری (م 260)، وقد کان من أصحاب الإمام الجواد والإمام الهادی علیهما السلام وقد روی أیضاً عن الإمام الرضا علیه السلام وهو معروف جدّاً بین علماء الشیعة، ویقول عنه المرحوم الکشی: أنّه ألّف 180 کتاباً(1).

وتبحث بعض هذه الکتب فی الفقه، مثل: کتاب الفرائض الکبیر، کتاب الفرائض الأوسط، کتاب الفرائض الصغیر، کتاب الطلاق کتاب المُتْعتیْن متعة النساء ومتعة الحجّ و ...(2).

وکذلک هناک بعض الوجوه العلمیة والفقهیة المعروفة بین أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد علیهما السلام منهم أحمد بن محمّد بن عیسی الأشعری، أحمد بن محمّد أبی نصر البزنطی، زکریا بن آدم، محمّد بن إسماعیل بن بزیع، الحسین بن سعید الأهوازی وعلیّ ابن مهزیار.

ولبعض هؤلاء الأصحاب تألیفات فقهیة متعددة أیضاً.

ومن جملة طلّاب أصحاب الإمام الهادی علیه السلام البارزین: أیّوب بن نوح، عثمان بن سعید الأهوازی وعبدالعظیم الحسنی (المدفون فی مدینة الریّ) ولبعض هؤلاء آثار علمیة وفقهیة.

ومن التلامیذ البارزین لمدرسة الإمام الحسن العسکری علیه السلام أیضاً: أحمد بن إسحاق الأشعری القمّی، أبوهاشم داود بن قاسم الجعفری، عبداللَّه بن جعفر الحمیری، أبوعمرو عثمان بن سعید العمری، علیّ بن جعفر ومحمّد بن الحسن الصفّار(3).

خصائص هذه المرحلة:

1. إنّ هذه المرحلة تتمیّز بحضور أئمّة أهل البیت علیهم السلام الذین کان لهم دورٌ مهمّ فی بیان أحکام الشریعة وصیانتها من عناصر التحریف والانحراف، ومن هنا کان الواجب علی الناس الرجوع إلیهم واتّباعهم بشکل کامل.

2. إمکان وصول الناس للحکم الشرعی الواقعی بمراجعة أئمّة أهل البیت علیهم السلام.

3. إنّ التفقّه فی هذا العصر یتمثّل فی تعلم السنّة والأحادیث وحفظها ونقلها والإفتاء علی أساس ما ورد فی نصوص الآیات القرآنیة والأحادیث الشریفة.

4. فی هذه المرحلة فإنّ الاجتهاد بالمعنی المصطلح، وبسبب حضور أئمّة أهل البیت علیهم السلام، لم یکن سائغاً سوی فی بعض الموارد التی لا یتسنّی للمکلّف التوصّل إلی هؤلاء الأئمّة.

5. اقتران الحدیث والفقه، حیث کانت المسائل الفقهیة تدوّن غالباً وبشکل غیر منظّم علی أساس الأحادیث مع ذکر أسنادها.

6. تربیة آلاف الفقهاء والمحدّثین فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام.

المرحلة الثانیة: عصر تشکیل و تبویب الفقه

اشارة

بدأت هذه المرحلة الفقهیة فی بدایة الغیبة الصغری عام 260 هجریة واستمرّت إلی زمان انتقال الشیخ


1- رجال الکشی، فی ترجمة الفضل بن شاذان.
2- معجم رجال الحدیث، ج 13، ص 289 و 290.
3- وللوقوف علی شخصیاتهم المرموقة وآثارهم الجلیلة انظر: رجال الکشی، رجال النجاشی، الفهرست ورجال الشیخ الطوسی ومعجم رجال الحدیث لآیة اللَّه السید الخوئی.

ص: 108

الطوسی من بغداد إلی النجف وتأسیس مدرسة الفقه والاجتهاد فی تلک الدیار (عام 448 للهجرة).

فی هذه الفترة نری تغییراً ملحوظاً جری علی فقه أهل البیت علیهم السلام الذی کان متناثراً وبدون تبویب وترتیب، فقد قام فقهاء الشیعة بتبویب هذا الفقه للناس، رغم أنّ هذا التبویب فی أغلب الموارد لم یتجاوز حدود الروایات، سواءً من حیث الکمّ أم من حیث الألفاظ.

والمثال البارز لهذا الأسلوب ما نجده فی کتاب الشرائع لعلیّ بن بابویه القمّی (م 329) الذی کتبه علی شکل رسالة لولده محمّد بن علیّ بن بابویه، المعروف بالشیخ الصدوق.

وللأسف فإنّ هذا الکتاب لم یصل إلینا ولکن من حیث الشکل وعدم تجاوزه فی الغالب دائرة الروایات هو ما انعکس علی مقولة البعض حیث قالوا عنه:

«کانت هذه الرسالة (یعنی کتاب الشرائع لعلیّ بن بابویه القمّی) مرجع الأصحاب عند إعواز النصوص المأثورة المسندة»(1).

وبالرغم من أنّ عملیة الاجتهاد فی الفقه قد تشکّلت فی هذه المرحلة، ولکنّ الفقه فی الواقع بقی هو الفقه المأثور، وأحیاناً کان هذا الفقه المأثور یدوّن بشکل مفصّل ومشروح مع ذکر متن الروایات وأسنادها من قبیل (کتاب الکافی للشیخ الکلینی) و (من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق)؛ وأحیاناً یقتصر علی مورد الفتوی من الروایة مع حذف الأسناد بل مع تقطیع متن الروایات، من قبیل ما نراه فی کتاب (الشرائع لابن بابویه) (المتوفّی 329) وکتابی (الهدایة والمقنع للشیخ الصدوق) (م 381) و (النهایه للشیخ الطوسی) (م 460).

وقد کان هذا الأسلوب هو المعمول به والمتداول بین فقهاء ذلک العصر، ومع هذا الحال ظهر فقهاء کبار تجاوزوا الأسلوب السائد وتحرّکوا فی بیان المسائل الفقهیة من موقع الاستدلال العقلیّ، مثل العُمانی والإسکافی.

والجدیر بالذکر أنّ المرحلة الثانیة من فقه مدرسة أهل البیت علیهم السلام تتشکّل من ثلاث مدارس:

أ) مدرسة قمّ وریّ

وقد کان فقهاء هذه المدرسة یتمسّکون فی بیان المسائل الفقهیة بالنصوص والروایات فحسب ولا یتجاوزونها لعملیة الاستدلال العقلیّ، ومن کبار هذه المدرسة یمکن الإشارة إلی الصدوقین الأب والإبن.

وقد کانت هذه المدرسة مقتدرة علمیاً ومورد اعتماد الأصحاب والفقهاء إلی حدّ أنّ سفیر الناحیة المقدّسة الحسین بن روح أنفذ کتاب التأدیب إلی قمّ وکتب إلی جماعة الفقهاء بها وقال لهم: «انظروا فی هذا الکتاب وانظروا، فیه شی ء یخالفکم؟»(2).

ب) مدرسة العمانی والإسکافی

وقد کان القائمون علی هذه المدرسة یستخدمون الاستدلال العقلیّ فی المسائل الفقهیة، إلی درجة أنّه نسب إلیهم العمل بالقیاس والاستحسان أحیاناً.

وأحد علماء هذه المدرسة الحسن بن علیّ بن أبی عقیل العمانی (م 368)، وقد استلم زعامة الشیعة بعد مرحلة الغیبة الصغری، وهو أوّل من استخدم الاجتهاد


1- الذریعة، ج 13، ص 46.
2- الغیبة للشیخ الطوسی، ص 390.

ص: 109

بالمنهج المعروف فی المباحث الفقهیة، وقد کتب کتاب «المتمسّک بحبل آل الرسول» الذی یعرض فیه المسائل الفقهیة ویقیم علیها الأدلة الفقهیة، ویفرع علیها الفروع الفقهیة، ویعتبر هذا الکتاب بین العلماء من أهم الکتب التی یستفاد منها فی القرن الرابع والخامس، وهذا الکتاب معروف بین أتباع هذه المدرسة إلی حدٍّ قال عنه النجاشی: «قیل: ما ورد الحاج من خراسان إلّاطلب وإشتری منه نسخ، وسمعت شیخنا أباعبداللَّه (العمانی) رحمه اللَّه یکثر الثناء علی هذا الرجل رحمه اللَّه»(1).

وللأسف فإنّ هذا الکتاب مفقود الآن، ولکنّ ابن إدریس الحلّی (م 598)؛ والمحقّق الحلّی (م 676) والعلّامة الحلّی (م 726) نقلوا بعض الفتاوی من هذا الکتاب فی کتبهم. وقد قال ابن إدریس عن هذا الکتاب:

«إنّه کتاب حسن وعظیم وهو موجود عندی»(2).

العالم الآخر الذی أدام هذا المنهج وأحکم أرکانه هو أبو علیّ محمّد بن أحمد بن الجنید الإسکافیّ (م 381).

ویقول عنه النجاشی: «محمّد بن أحمد بن الجنید، أبو علیّ الکاتب الإسکافی وجه فی أصحابنا، ثقة، جلیل القدر، صنّف فأکثر»(3).

ویذکر النجاشی کتبه والتی منها کتابین فی الفقه وهما، «تهذیب الشیعة لأحکام الشریعة، والأحمدی للفقه المحمّدی»(4). وللأسف فإنّ هذین الکتابین لم یصلا إلینا رغم أنّ الکتاب الثانی کان موجوداً إلی زمان العلّامة الحلّی (5).

ج) مدرسة بغداد

وهذه المدرسة أفضل المدارس المذکورة، وهی مدرسة الشیخ المفید (م 413) وتلامذته، مثل السیّد المرتضی (م 436) وغیره. وقد جمعت هذه المدرسة بین کلا المنهجین، أی التمسّک بالنصوص والاستدلال العقلیّ، ولعلّ ذلک کان بسبب أنّ الشیخ المفید تتلمذ فی کلا المدرستین السابقتین، لأنّه من جهة یعتبر من تلامیذ ابن الجنید، ومن جهة أخری فإنّه درس عند جعفر بن محمّد بن قولویه (م 368) ومدرسة القمّیین.

وللشیخ المفید تآلیف وکتب متعدّدة فی الفقه منها: «المقنعة»، وهو ما شرحه الشیخ الطوسی فی کتابه:

«تهذیب الأحکام»(6).

خصائص هذه المرحلة:

1. عرض الکتب الفقهیة بشکل مبوّب ولکن فی الغالب یقتصر علی استعراض الروایات مع استخدام ألفاظ الروایات نفسها.

2. إنّ الاجتهاد فی هذه المرحلة کان بسیطاً وساذجاً حیث یتمّ توزیع الروایات علی أبواب فقهیة وبیان حکمها واستنتاج الحکم من متن الروایة.

3. بدأ فی هذه المرحلة تدوین أصول الفقه، وقد کتب الشیخ المفید فی البدایة رسالة اسمها «التذکرة بأصول الفقه»، ثم کتب تلمیذه السیّد المرتضی کتاباً مفصلًا أکثر فی أصول الفقه وسمّاه «الذریعة إلی أصول الشریعة».

4. وتتمیز هذه المرحلة بأنّها بدایة تدوین «الفقه


1- رجال النجاشی، شرح حال الحسن بن علی بن أبی عقیل.
2- السرائر، ص 429.
3- رجال النجاشی، شرح حال محمّد بن أحمد بن الجنید.
4- الشیخ الطوسی فی« الفهرست» یسمی هذا الکتاب باسم: مختصرالأحمدی فی الفقه المحمدی.
5- موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة، ج 2، ص 238.
6- انظر: روضات الجنّات، ج 6، ص 153- / 178؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 420- / 422؛ معجم رجال الحدیث، ج 17، ص 202- / 210.

ص: 110

المقارن» أیضاً؛ وذلک بأن تذکر موارد الاختلاف فی المسائل الفقهیة مع المذاهب الأخری. وفی هذا المجال کتب الشیخ المفید کتاب «الإعلام» وکتب السیّد المرتضی کتابی «الانتصار و الناصریات»(1).

المرحلة الثالثة: عصر تحول فی میدان التفقّة و الإجتهاد

اشارة

وتبدأ هذا المرحلة من عصر الشیخ الطوسی (م 460)، وبالتحدید فإنّها تبدأ منذ أن أُجبر الشیخ الطوسی علی الهجرة من بغداد إلی النجف الأشرف.

ویعتبر شیخ الطّائفة محمّد بن الحسن الطوسی من التلامیذ البارزین للشیخ المفید والسیّد المرتضی، وقد تتلمذ علیهما مدّة مدیدة، فقد کان ملازماً للسیّد المرتضی مدّة 23 عاماً، وبعد رحلة السیّد المرتضی استلم زعامة أتباع أهل البیت، حیث کانوا یقصدونه من جمیع المناطق. وقد کانت بغداد فی ذلک الوقت مرکز التشیع إلی حین حدوث الفتنة ووقوع الاضطرابات فیها.

وقد بدأ الشیخ الطوسی أیضاً بکتابة کتبه الفقهیة علی منهج القدماء بشکل مختصر وبالاستفادة من الروایات والنصوص، وبدون أن یفرّع علیها فروعاً واسعاً، ومن جملة کتبه هذه «النهایة».

وبعد وقوع الاضطرابات فی بغداد وتهدید الشیخ الطوسی نفسه، تحرّک هذا الفقیه الکبیر فی عام 448 للهجرة، وهاجر إلی النجف الأشرف وأسس حوزة علمیة هناک (2).

وقد خلق الشیخ الطوسی، بما یتمتّع به من حذاقة ومهارة فی العلوم الإسلامیة المختلفة کالتفسیر، والرجال، والأصول والفقه، تحوّلًا جدیداً فی الفقه الإسلامیّ (3) وفی هذا العصر تغیّر منهج الکتب الفقهیة عمّا کان سائداً ومتداولًا علی شکل تدوین النصوص، وأضیفت إلی المسائل الفقهیة فروع جدیدة، وقد استخدم فی جمیع هذه الفروع والمسائل الاستدلال بالروایات وقواعد الأصول العقلیة بشکل کامل.

وقد کانت بدایة هذا التحوّل من قِبل الشیخ الطوسیّ وبتألیف کتاب المبسوط،. حیث کتب فی مقدّمة هذا الکتاب: «فإنّی لا أزال أسمع معاشر مخالفینا المتفقّهة والمنتسبین إلی علم الفروع یستحقرون فقه أصحابنا الإمامیة یستنزرونه وینسبونهم إلی قلّة الفروع وقلّة المسائل، ویقولون: إنّهم أهل حشو ومناقضة، وإنّ مَن ینفی القیاس والاجتهاد لا طریق له إلی کثرة المسائل، ولا تفریع علی الأصول ...».

ثم أضاف: «وکنت علی قدیم الوقت وحدیثه متشوّق النفس إلی عمل کتاب یشتمل علی ذلک تتوق نفسی إلیه، فیقطعنی عن ذلک القواطع وتشغلنی الشواغل، وتضعف نیّتی أیضاً فیه قلّة رغبة هذه الطائفة فیه، وترک عنایتهم به لأنّهم ألّفوا الأخبار وما رووه من


1- موسوعة الفقه الإسلامی، ج 1، ص 49.
2- کتب ابن الجوزی عن هذه الحوادث فی هذه المرحلة وذکر فی عام 448 فی مساجد بغداد، فی الأذان« حیّ علی خیر العمل» بدلًا عن« الصلاة خیر من النوم». وکتب علی أبواب البیوت« محمّد وعلی خیر البشر». فأمر بقتل أبی عبداللَّه بن جلّاب، رئیس بیاعی الأقشمة فی« باب الطاق» فی بغداد؛ لأنّه کان غالیاً فی الرفض. فقتل وصلب علی باب دکانه. وفرّ أبو جعفر الطوسی من بغداد وهدم داره.( المنتظم، ج 16، ص 7 و 8). وکتب ابن الأثیر أیضاً: فی سنة 449 ه، نهبت دار أبی جعفر الطوسی بالکرخ وهو فقیه الإمامیّة، وأُخذ ما فیها وکان قد فارقها إلی المشهد الغربی( أی النجف)( الکامل ابن الأثیر، ج 9، ص 637 و 638).
3- انظر: روضات الجنّات، ج 6، ص 216- / 249؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 159- / 167.

ص: 111

صریح الألفاظ، حتّی أنّ مسألة لو غیّر لفظها وعبّر عن معناها بغیر اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وکنت عملت علی قدیم الوقت کتاب النهایة، وذکرت جمیع ما رواه أصحابنا فی مصنّفاتهم وأصولها فی المسائل وفرّقوه فی کتبهم، ورتّبته ترتیب الفقه وجمعت من النظائر، ورتبت فیه الکتب علی ما رتّبت، للعلّة التی بیّنتها هناک، ولم أتعرّض للتفریع علی المسائل ولا تعقید الأبواب وترتیب المسائل وتعلیقها والجمع بین نظائرها، بل أرودت جمیع ذلک أو أکثر بالألفاظ المنقولة حتی لا یستوحشوا من ذلک»(1).

إنّ کلمات الشیخ الطوسی هذه فی «المبسوط» تشیر بوضوح إلی أنّه ومن أجل الانتقال من المرحلة الثانیة للفقه إلی المرحلة الثالثة، قد قام بعمل کبیر وأوجد تحوّلًا عظیماً فی مسار الفقه.

خصائص هذه المرحلة:

1. کتابة وتدوین المسائل الفقهیة بأسلوب جدید، فقد ترک المرحوم الشیخ الطوسی، سنّة القدماء فی تدوین الکتب الفقهیة وشرع بکتابة الفقه بالاستفادة من القواعد والأصول الکلیة فی تفرّع الفروع، وعدم التقید بمتن الروایة (لا بمحتواها) وبذلک فتح فصلًا جدیداً فی تدوین الکتب الفقهیة للإمامیة.

2. یتّسم هذا العصر بالاهتمام بمسألة الفقه المقارن بشکل واسع. وبالرغم من تألیف بعض الکتب فی الفقه المقارن من قِبل الشیخ الطوسیّ، لکنّ الشیخ بتألیفه کتاب «الخلاف» دخل فی هذا المجال من بابه الواسع واهتمّ بعرض المسائل مورد الاختلاف بین مذهب الإمامیة ومذاهب أهل السنّة.

3. ورود «الإجماع» إلی میدان الأدلّة الفقهیة. فحتّی زمان السیّد المرتضی لم یکن فقهاء الإمامیة یستدلّون بالإجماع فی المسائل الفقهیة، واقتصر ذلک علی أهل السنّة، ولکن منذ عصر السیّد المرتضی وخاصّة عصر الشیخ الطوسی، فإنّ الإجماع صار عند الإمامیة أحد الأدلّة المقبولة فی عملیة الاستدلال الفقهی رغم أنّهم یعتبرون حجّیته من باب «اللطف» وما إلی ذلک.

4. ورود «علم أصول الفقه» بشکل واسع إلی میدان الفقه. وقد فتح الشیخ الطوسی آفاقاً جدیدة بتألیف کتابه القیّم والمهمّ باسم «عدّة الاصول» فی علم الأصول.

وقد کان هذا الکتاب ولمدّة سنوات مدیدة یستفاد منه فی التدریس فی الحوزات العلمیة للإمامیة.

یقول المرحوم السیّد مهدی بحرالعلوم (م 1212) عن هذا الکتاب: «وهو أحسن کتاب صنّف فی الأصول»(2).

ومن الثمرات المهمّة لهذا الکتاب، إثبات حجّیة خبر الواحد، لأنّه قبل الشیخ الطوسیّ، کان الفقهاء یدّعون الاتفاق علی عدم جواز العمل إلّابالخبر القطعیّ، ولکنّ الشیخ الطوسی هو أوّل من أثبت أنّ أخبار الآحاد، إذا کان رواتها ثقات، حجّةٌ، وادّعی أنّ عمل الأصحاب بالروایات کان مبتنیاً علی هذا الأساس.

5. توفّر عناصر أخری لازمة لعملیة استنباط الأحکام، فقد قام الشیخ الطوسیّ، مضافاً لتدوین کتاب فی علم الأصول، بتدوین کتب رجالیة وموسوعات حدیثیة وبذلک قدّم خدمة کبیرة للفقهاء فی مسیرة استنباط الأحکام (3).


1- مقدّمة المبسوط.
2- الفوائد الرجالیة، ج 3، ص 231.
3- دوّنت الکتب الرجالیة من قبیل الفهرست واختیار معرفة الرجال لغرض الارتباط برجال وعلماء ورواة الشیعة وذکرت أسماؤهم فی الموسوعتین التهذیب والاستبصار للحدیث.

ص: 112

المرحلة الرابعة: عصر الرکود و التقلید

اشارة

وتبدأ هذه المرحلة من منتصف القرن الخامس وتستمر حتّی نهایة القرن السادس، وذلک بسبب عظمة الشیخ الطوسی العلمیة حیث خلّف هالة کبیرة عن وزنه العلمیّ بین فقهاء الإمامیة بحیث إنّه لم یبرز فی ذلک الوقت فقیه مستقلّ یفتی خلافاً لنظرات وآراء الشیخ. إنّ القداسة العلمیة للشیخ أدّت إلی عدم تجرّؤ أحد من الفقهاء بالتصریح بمخالفة آرائه ولمدّة أکثر من مائة عام. وقد کان الفقهاء الذین جاءوا بعد الشیخ وألّفوا کتباً فقهیة، یتّخذون من کتب الشیخ مرجعاً علمیاً لهم وینقلون آراءه فی کتبهم ببیان مختلف، ولهذا السبب فإنّ هذا العصر یعدّ عصر التقلید لأفکار الشیخ والرکود فی عملیة التفقّه والاجتهاد.

ویری بعض الکتّاب سبباً آخر للرکود الفقهی فی هذا العصر، وهو وجود الجوّ المشحون ضدّ الشیعة والممارسات الوحشیة من القتل ونهب الأموال التی مورست ضدّهم، وقد بدأت هذه الاضطرابات وأعمال العنف منذ زمن الشیخ الطوسی حیث خرجت بغداد من سیطرة آل بویه وتسلّط «طغرل بک» علی تلک المنطقة وکان سنّی المذهب ومتعصّباً جدّاً، وقد عمل علی قتل الشیعة ونهب أموالهم حتی أنّه أمر بحرق مکتبة الشیخ الطوسی أیضاً.

وفی عام 579 للهجرة قام صلاح الدین الأیّوبی أیضاً بقتل الشیعة فی حلب وأجبرهم علی اعتناق مذهب أهل السنّة وعقیدة الأشاعرة ومنع الخطابة والتدریس إلّالأتباع المذاهب الأربعة. وقد ارتکب مثل هذه الأعمال فی مصر أیضاً.

ومن الطبیعی أنّ هذه الأجواء المخوفة والمضطربة لا تمنح العلماء فرصة لعملیة الإبداع الفقهی والنشاط العلمی (1).

ومع ذلک فإنّ بعض الفقهاء فی هذا العصر- وإن قلّوا- قد عملوا علی إبقاء مشعل فقه أهل البیت علیهم السلام منیراً.

بعض فقهاء هذا العصر:
اشارة

وقد عاش فی هذا العصر فقهاء کبار أیضاً مثل:

1. القاضی ابن البرّاج الطرابلسی (م 481)؛ مؤلّف کتاب «المهذّب»(2).

2. أبوعلیّ الطوسی بن الشیخ الطوسی (م 515 تقریباً)(3).

3. الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی (م 548) مؤلّف التفسیر القیّم «مجمع البیان». وقد کتب آراءه الفقهیة ذیل آیات الأحکام من هذا التفسیر(4).

4. أبوجعفر محمّد بن علیّ الطوسی المعروف ب «ابن حمزة» (م 550 تقریباً) واسم کتابه الفقهی


1- موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة الجزء الثانی، ص 299 و 300( مع التلخیص).
2- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 149؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 202- 206؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 18.
3- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 76؛ أعیان الشیعة، ج 5، ص 244- / 246.
4- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 216 و 217؛ روضات الجنّات، ج 5، ص 357- / 365؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 398- / 400؛ مقدّمة تفسیر مجمع البیان.

ص: 113

«الوسیلة إلی نیل الفضیلة»(1).

5. قطب الدین الراوندی (م 573) مؤلّف کتاب «فقه القرآن»(2).

6. أبو المکارم حمزة بن علیّ بن أبی المحاسن، المعروف ب «ابن زهرة» (م 585) واسم کتابه المعروف فی الفقه والاصول: «غنیة النزوع»(3).

خصائص هذه المرحلة:

1. الرکود العلمیّ فی الفقه وتقلید آراء الشیخ الطوسیّ فی هذا المجال. وعلی هذا الأساس وتبعاً للشیخ طوسی نری اهتماماً خاصاً فی هذه المرحلة بعلم الأصول، وقد استخدم عنصر العقل فی عملیة الاستدلال الفقهیّ بشکل أکبر، وقد خصّص له ابن زهرة، قسماً من کتابه الغنیة لعلم الأصول. وقد اعتمد ابن زهرة فی مجالات مختلفة علی دلیل العقل بشکل واضح، وکذلک کتب سدید الدّین الحمصی (م 588) کتاباً باسم: «المصادر فی أصول الفقه».

2. الاهتمام بفقه القرآن. وقد کتب قطب الدین الراوندی (م 573) فی هذا المجال کتاباً باسم: «فقه القرآن»، وقد اهتم الشیخ الطبرسیّ بدوره بهذه المسألة فی تفسیره مجمع البیان (4).

المرحلة الخامسة: عصر تجدید حیاة الفقه لمدرسة أهل البیت علیهم السلام

اشارة

بعد سنوات من سیطرة أفکار الشیخ الطوسی وآرائه علی الفقه الشیعی، وبسبب النفوذ العلمی الکبیر للشیخ، فإنّ أحداً لم یتجرّأ علی مخالفته فی هذه الفترة واستمرّ هذا الحال إلی أواخر القرن السادس حیث انفتح باب نقد أفکار الشیخ وشهدت المدرسة الفقهیة للشیعة عودة النشاط الفقهی وحرکة الاجتهاد مرّة أخری بواسطة جماعة من الفقهاء، وقد استمرّت هذه الحرکة إلی القرن الحادی عشر (عصر سیطرة الأخباریین).

وبالرغم من ظهور علماء فی هذه الفترة مثل: سدید الدّین محمود بن علی الحمصی الرازی (م 583) و ابن زهرة الحلبی (م 585) من الذین قاموا بنقد وتمحیص آراء الشیخ، ولکنّ رائد هذه النهضة الذی تحرّک فی هذا المجال وبشکل واسع هو محمّد بن إدریس الحلّی (م 598)(5).

وقد قدّم ابن إدریس خدمة کبیرة لحرکة الاجتهاد والتفقّه بنقده للشیخ الطوسی وأفکاره العلمیة، وقد أدّی ذلک إلی استمرار انفتاح باب الاجتهاد.

ویصرّح ابن إدریس فی «السرائر»: «ولا أُقلّد إلّا الدلیل الواضح والبرهان اللائح»(6).

ثم یبیّن الطریق الصحیح للاجتهاد والتفقّه بقوله:

«فإنّ الحقّ لا یعدو أربع طرق: إمّا کتاب اللَّه سبحانه أو سنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله المتواترة المتّفق علیها، أو الإجماع أو دلیل العقل فإذا فُقد الثلاثة فالمعتمد فی المسائل


1- انظر: روضات الجنّات، ج 6، ص 262- / 274؛ أعیان الشیعة، ج 2، ص 263 و 264.
2- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 125- / 127؛ روضات الجنّات، ج 4، ص 5- / 9؛ أعیان الشیعة، ج 7، ص 239- / 241.
3- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 105 و 106؛ روضات الجنّات، ج 2، ص 374- / 379؛ أعیان الشیعة، ج 6، ص 249 و 250.
4- موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة ج 2، ص 302 و 303( مع تصرف وتلخیص قلیل).
5- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 243 و روضات الجنّات، ج 6، ص 274- / 290.
6- السرائر، ج 1، ص 51.

ص: 114

الشرعیة عند المحقّقین الباحثین عن مأخذ التمسّک بدلیل العقل فیها، فإنّها مبقاة علیه وموکولة إلیه»(1).

وخلافاً للشیخ الطوسی فإنّه لم یعمل بأخبار الآحاد(2).

وعلی أیّة حال، فإنّ حرکة الاجتهاد والتفقّه النامیة استمرّت بالرقیّ والرشد بواسطة جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الحلّی المعروف ب «المحقّق الحلّی» (م 676) حیث ترعرعت شجرة الاجتهاد الفقهیّ بشکل کبیر(3).

وعندما یذکر «المحقّق» بشکل مطلق، فهو المقصود من هذا اللقب، ویکفی فی فضله وعلمه أنّه ألّف کتاب «شرائع الإسلام بحیث إنّه ومنذ زمان تألیفه إلی زماننا هذا یعدّ أحد الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة للشیعة الإمامیة وقد کتبت علیه شروح کثیرة(4).

ومن کتبه الأخری یمکن الإشارة إلی «المعتبر» و «المختصر النافع».

وقد قام المحقّق الحلّی بتهذیب آراء الشیخ الطوسی وعرضها بشکل واضح، وتحرّک للدفاع عن مدرسة الشیخ الطوسی من خلال الاستفادة من اعتراضات وانتقادات ابن إدریس (5).

ومن أهم أعمال المحقّق، ترتیب الفقه وتهذیب أبوابه، فقد قسّم الفقه تقسیماً جدیداً إلی: العبادات، العقود، الإیقاعات، الأحکام (6).

بعض فقهاء المرحلة الخامسة:

وقد شهدت هذه المرحلة فقهاء بارزین فی تاریخ فقه الإمامیة حیث عملوا علی ترشید وتعمیق مسائل الفقه. فمضافاً إلی ابن إدریس والمحقّق الحلّی- الذین تقدم ذکرهما- نشیر هنا إلی طائفة أخری من الفقهاء البارزین لهذه الفترة:

1. أحمد بن موسی بن جعفر بن طاووس، (م 673).

وقد قام بتدوین دورة فقهیة من ستّة أجزاء باسم «بشری المحقّقین» وألّف دورة أخری من أربعة أجزاء باسم «الملاذ»(7) ولکن مع الأسف فإنّه لم یصل إلینا أیّ واحد من هذین الکتابین.

2. أبومنصور جمال الدین الحسن بن یوسف بن علیّ بن مطهّر الحلّی المعروف ب العلّامة الحلّی (م 726).

وعندما یذکر فی فقه الإمامیّة «العلّامة» بشکل مطلق فإنّ المقصود هو العلّامة الحلّی (8). وقد سار العلّامة الحلّی علی منهج أستاذه المحقّق الحلّی فی الفقه، ولکنّه أضاف إلیه بعض إبداعاته. وقد عمل العلّامة الحلّی علی توسعة الفقه وخاصة فی باب


1- السرائر، ج 1، ص 46.
2- المصدر السابق، ص 51.
3- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 29؛ روضات الجنّات، ج 2، ص 182- / 191؛ أعیان الشیعة، ج 4، ص 89- / 93.
4- یقال إنّه کتب علیه مائة شرح( موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، ج 1، ص 58).
5- جامع المقاصد، ج 1، مقدّمة التحقیق، ص 20.
6- قبل هذا التقسیم والترتیب لم یکن هناک تقسیم وتنظیم لأبواب الفقه بصورة کاملة، مثلًا ذکر الشیخ الطوسی فی المبسوط کتاب الإرث( باسم کتاب الفرائض والمواریث) إلی جانب کتاب الوصایا والنکاح، مع أنّ کتاب الوصایا والنکاح من أقسام العقود، والإرث من أقسام الأحکام. وکذلک یری فی موارد أخری فی الکتاب تفاوتاً فی التنظیم مع تقسیم المحقّق الحلّی فی أبواب الفقه.
7- رجال ابن داود، الرقم 140.
8- انظر: روضات الجنّات، ج 2، ص 269- / 286؛ أعیان الشیعة، ج 5، ص 396- / 408.

ص: 115

المعاملات وکان یعتمد علی القواعد الأصولیة، ومن کتبه المهمّة، «منتهی المطلب، مختلف الشیعة، تذکرة الفقهاء وقواعد الأحکام».

3. فخر المحقّقین محمّد بن الحسن الحلّی (م 771).

وهو ابن العلّامة الحلّی ومؤلّف کتاب «ایضاح الفوائد»، فی شرح کتاب «القواعد» لوالده العلّامة الحلّی (1).

4. محمّد بن مکّی العاملی، المعروف ب الشهید الأوّل (استشهد فی 786). وکان بدوره من أتباع مدرسة العلّامة الحلّی وکان عالماً ومحقّقاً ومتبحّراً فی الفقه الإسلامی.

ویعدّ کتابه المعروف ب «اللّمعة الدّمشقیة»- وهو دورة فقهیة کاملة مع شرح الشهید الثانی الذی سمّاه «الروضة البهیة فی شرح اللّمعة الدّمشقیة»- یعدّ ولعدّة قرون من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الإمامیة. وأمّا کتبه الفقهیة المعروفة الأخری فهی:

«الذکری، الدروس فی فقه الإمامیة، والبیان»(2).

5. جمال الدین المقداد بن عبداللَّه السیوری الحلّی، المعروف ب «الفاضل المقداد» (م 826).

وقد کان من الفقهاء البارزین فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام وجامع المعقول والمنقول، وکان محدّثاً ومتکلّماً. وأهمّ کتبه فی الفقه باسم «التنقیح الرائع» وهو شرح «المختصر النافع» للمحقّق الحلّی وکتاب «کنزالعرفان»(3).

6. أحمد بن محمّد بن فهد الحلّی، المعروف ب «ابن فهد الحلّی (م 841).

وقد وصفه الشیخ الحرّ العاملی بأنّه: فاضل، عالم، موثّق، زاهد، عابد، متّقٍ ویتمتّع بجلالة القدر. وأهم کتبه الفقهیة هو «المهذّب البارع» فی شرح «المختصر النافع» للمحقّق الحلّی (4).

7. علیّ بن الحسین العاملیّ الکرکیّ (م 940).

ویعرف باسم «المحقّق الثانی و «المحقّق الکرکی».

وله کتب کثیرة، وأهم کتبه الفقهیة التی وقعت مورد اهتمام الفقهاء هو «جامع المقاصد فی شرح القواعد»(5).

8. زین الدّین بن علیّ بن أحمد العاملی، المعروف ب الشهید الثانی (استشهد فی 966).

وقد کان من کبار فقهاء الشیعة ومعروفاً بالعلم والفضل والزهد والعبادة والتحقیق وجلالة القدر، وقد کتب هذا العالِم الکبیر کتباً عدیدة من أشهرها فی الفقه «مسالک الأفهام فی شرح شرائع الإسلام» و «الروضة البهیة فی شرح اللّمعة الدّمشقیة» و «روض الجنان» شرح فیه «إرشاد الأذهان» للعلّامة الحلّی (6).

9. أحمد بن محمّد الأردبیلی (م 993).

هذا الفقیه من جهة التحقیق والدقّة العلمیة معروف ب «المحقّق الأردبیلی ومن جهة أخری وبسبب تقواه وزهده وقداسته معروف ب «المقدّس الأردبیلی . وقد خلّف لنا کتابین قیّمین فی الفقه أحدهما: «مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان» وهو شرح کتاب «إرشاد الأذهان» للعلّامة الحلّی، وهو عبارة عن دورة


1- انظر: روضات الجنّات، ج 6، ص 330- / 339؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 159.
2- انظر: امل الآمل، ج 1، ص 181- / 183؛ روضات الجنّات، ج 7، ص 3- / 21؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 59- / 64.
3- انظر: ریاض العلماء، ج 5، ص 216؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 134.
4- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 29؛ روضات الجنّات، ج 1، ص 75- / 71؛ أعیان الشیعة، ج 3، ص 147 و 148.
5- انظر: امل الآمل، ج 1، ص 121 و 122؛ روضات الجنات، ج 4، ص 360- / 370؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 208- / 212.
6- انظر: امل الآمل، ج 1، ص 85- / 91؛ روضات الجنّات، ج 3، ص 352- / 387؛ أعیان الشیعة، ج 7، ص 143- / 158.

ص: 116

فقهیّة کاملة، مع دقّة فی التحقیق، والآخر: «زبدة البیان فی أحکام القرآن حیث بحث المحقّق الأردبیلی فی هذا الکتاب آیات الأحکام من موقع التحقیق والعمق (1).

10. محمّد بن علیّ بن الحسین الموسوی العاملی، المعروف ب «صاحب المدارک» (م 1009).

وکان عالماً کبیراً ومحقّقاً دقیقاً وجامعاً لعلوم مختلفة، وأهمّ کتاب فقهیّ له «مدارک الأحکام فی شرح شرائع الإسلام»(2). ویعدّ «صاحب المدارک» وکذلک «صاحب المعالم» (وهو الشیخ حسن بن زین الدّین، م 1011) من أتباع مدرسة المحقّق الأردبیلیّ. وهذان العالمان کانا یتشدّدان، کالمحقّق الأردبیلیّ، فی الاستدلال بالروایات، ولا یقبلان روایة إلّاإذا ثبتت عدالة الراوی بشاهدین عدلین، ولم یقبلا شهادة عادل واحد أو متخصّص فی علم الرجال یشهد بوثاقة هذا الراوی (3).

11. محمّدباقر بن محمّد مؤمن السبزواری (م 1090).

وهو مؤلّف کتاب «کفایة الأحکام» و «ذخیرة المعاد» وقد تأثّر فی منهجه الفقهیّ والاجتهاد بالمحقّق الأردبیلیّ (4).

خصائص المرحلة الخامسة:

1. التحرّر من عصر تقلید القدماء بشکل کامل.

2. تألیف وتدوین المتون الفقهیة بکثرة. فقد تحرّک الفقهاء فی هذا العصر من موقع کتابة المتون الفقهیة بشکل واسع، وقد خلّفوا لنا الکثیر من هذه الکتب وأهمّها: «الشرائع» و «القواعد» و «اللمعة».

3. تألیف دورات فقهیة مفصلّة فی عدّة أجزاء.

4. اهتمام الفقهاء باصول الفقه بشکل جدید.

فمن الکتب الأصولیة المهمّة فی هذا العصر یمکن الإشارة إلی «معارج الأصول» للمحقّق الحلّی و «نهایة الوصول إلی علم الأصول» للعلّامة الحلّی.

5. إبداع جدید فی ترتیب وتقسیم الأبواب الفقهیة.

وهذا العمل تمّ علی یدالمحقّق الحلّی الذی یقسّم الفقه إلی أربعة أقسام: العبادات، العقود، الإیقاعات، الأحکام.

6. تدوین کتب جدیدة فی الرجال بشکل دقیق.

ومن هذه الکتب یمکن الإشارة إلی کتاب «الرجال» للعلّامة الحلّی و «رجال ابن داود» (م 747).

7. تدوین آیات الأحکام.

وأوّل کتاب فی هذا المجال یدوّن بشکل مستقلّ ومشروح، هو کتاب «کنز العرفان» للفاضل المقداد، وبعده ألّف المرحوم المحقّق الأردبیلی کتاب «زبدة البیان» فیما یتعلّق بهذه المسألة. والمراد من «آیات الأحکام» هو دراسة الآیات القرآنیة التی یستفاد منها حکم فقهیّ.

8. تدوین بعض الکتب فی القواعد الفقهیة(5).


1- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 23؛ روضات الجنّات، ج 1، ص 79- / 85؛ اعیان الشیعة، ج 3، ص 80- / 82.
2- انظر: امل الآمل، ج 1، ص 167 و 168؛ روضات الجنّات، ج 7، ص 45- / 55؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 6 و 7.
3- موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت علیهم السلام، ج 1، ص 61.
4- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 250؛ روضات الجنّات، ج 2، ص 68- / 77؛ الکنی والألقاب، ج 3، ص 159 و 160.
5- ومن هنا تعرف أنّ القواعد الفقهیة« هی أحکام عامة فقهیة تجری فی أبواب مختلفة» وموضوعات وإن کانت أخصّ من المسائل الأصولیة إلّاأنّها أعمّ من المسائل الفقهیة، فهی کالبرزخ بین الأصول والفقه، حیث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جمیعها، کقاعدة الطهارة الجاریة فی أبواب الطهارة والنجاسة فقط، وقاعدة لا تعاد الجاریة فی أبواب الصلاة فحسب، وقاعدة ما یضمن وما لا یضمن الجاریة فی أبواب المعاملات بالمعنی الأخص دون غیرها، وإمّا مختصة بموضوعات معینة خارجیة وإن عمّت أبواب الفقه کلّها، کقاعدتی« لا ضرر» و« لا حرج»، فإنّهما وإن کانتا تجریان فی جلّ أبواب الفقه أو کلّها، إلّاأنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، وهی الموضوعات الضرریة والحرجیة. وهذا بخلاف المسائل الأصولیة، فإنّها إمّا لا تشتمل علی حکم شرعی أصلًا بل تکون واقعة فی طریق استنباطه، ککثیر من مسائله، وإمّا تتضمن حکماً عاماً کالبراءة الشرعیة الجاریة فیما لا نصّ فیه- علی ما عرفت- من غیر اختصاص بموضوع دون آخر، بل تجری فی جمیع الموضوعات إذا فقد فیها النص. ولا یقال: إنّها تختص أیضاً بموضوعات خاصّة هی ما لا نصّ فیه. فإنّا نقول: إنّ هذه الخصوصیة لیست خصوصیة خارجیة من قِبل ذات الموضوع، وإنّما هی خصوصیة ناشئة من ملاحظة حکم الشرع کما لا یخفی علی الخبیر.( انظر: مقدمة القواعد الفقهیّة تألیف آیة اللَّه مکارم الشیرازی، ج 1، ص 17).

ص: 117

فقد ألّف الشهید الأوّل کتاباً باسم «القواعد والفوائد» وکذلک ابن فهد الحلّی فی کتابه «نضد القواعد الفقهیّة» والشهید الثانی فی کتابه «فوائد القواعد»(1).

9. الاهتمام بتدوین فقه السلطة.

مع تشکیل الحکومة الصفویّة فی إیران فی بدایة القرن العاشر، والإعلان عن المذهب الشیعیّ کمذهب رسمیّ للبلاد، شهد الفقه الشیعی تحوّلًا آخر، لأنّ ملوک الدولة الصفویة قاموا بدعوة علماء الشیعة للإشراف علی مسائل وقضایا الحکومة، وحینئذٍ تشکّل فقه الحکومة بصورة عملیة، ومن جملة من کانت له إنجازات مهمّة فی هذه المجال هوالمرحوم «المحقّق الکرکیّ» (م 940) وقد اهتمّ الفقهاء فی تلک الفترة بالتحقیق فی مواضیع ولایة الفقیه وحدودها وبحث الخراج والمقاسمة وصلاة الجماعة وأمثال ذلک.

وفی الحقیقة أنّ الفقهاء اهتمّوا منذ بدایة القرن العاشر بالفقه الاجتماعی والحکومی وتجاوزوا الأحکام والمسائل الشخصیّة.

المرحلة السادسة: عصر ظهور الحرکة الأخباریّة

اشارة

وتبدأ هذه المرحلة من أوائل القرن الحادی عشر وتستمرّ إلی أواخر القرن الثانی عشر.

فقد ظهرت الحرکة الأخباریة بعد عدّة قرون من نموّ ورشد الفقه الإمامیّ والاستفادة من دلیل العقل فی حرکة الاستنباط وتقدّم علم الأُصول والاستفادة منه فی الفقه، فقامت الحرکة الأخباریة بإلغاء دور العقل فی حرکة الاستنباط.

وقد تشکّلت هذه الحرکة فی وقت کان للعقل دور مهمٌّ فی استنباط الأحکام الشرعیة من خلال ما بذله المحقّقون، ومنهم المحقّق الحلّی وأتباعه کصاحب «المدارک»، والمحقّق السبزواری وصاحب «المعالم».

وتحرّک الأخباریون من موقع الهجوم علی العقل والعلوم العقلیة، فلم یعتبروا أیّ قیمة وشأن للعقل، لا فی العلوم العقلیة ولا فی العلوم النقلیة، وقالوا ببطلان الاجتهاد والتقلید وطعنوا بمن یسلک هذا المسلک.

إنّ رائد هذه الحرکة هو محمّد أمین الإسترآبادی (م 1033) الذی نشر أفکاره هذه فی کتاب «الفوائد المدنیّة» عندما کان مقیماً فی المدینة(2).


1- والملفت للنظر أنّ الکتب المذکورة لم یتمّ تدوینها طبقاً لتعریف« القواعد الفقهیة».
2- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 246؛ روضات الجنّات، ج 1، ص 120- / 139؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 137. وکتبوا أنّ الأشاعرة وأهل الحدیث کانوا مسیطرین علی الحوزات العلمیة فی الحرمین الشریفین فی عصر الإسترآبادی وکانت عقائد الظاهریین فی الحجاز رائجة. وکانوا یعتبرون ظاهر الروایات والأحادیث حجّة ویخالفون الاجتهاد والرأی والقیاس. وقد تأثّر المیرزا محمّد الإسترآبادی وتلمیذه محمّد أمین الإسترآبادی بهذه الأجواء وأسّس الحرکة الأخباریة فی داخل الثقافة الشیعیة.( انظر: دائرةالمعارف الاسلامیة الشیعیة، ج 2، ص 226). وبالرغم من الاختلاف الواسع فی الاجتهاد بین أهل السنّة والشیعة. فالأخباریّون مثل أهل الحدیث فی أهل السنّة یخالفون الاجتهاد.

ص: 118

وخلاصة أفکاره وآرائه کالتالی:

1. إنّ ظواهر کتاب اللَّه غیر حجّة، إلّاما ورد فی تفسیر الآیات من روایات المعصومین علیهم السلام.

2. وبالنسبة للمسائل الأصولیة فلا حجّیة لحکم العقل، ولا ملازمة بین حکم العقل والنقل.

3. إنّ الإجماع غیر حجّة مطلقاً، سواء کان إجماعاً محصّلًا أو منقولًا.

4. إنّ جمیع روایات الکتب الأربعة قطعیة الصدور، ولذلک فالفقیه لا یحتاج فیها للتحقیق فی أسنادها.

5. إذا لم یرد حکم فی الکتاب والسنّة علی مورد خاص کحکم التدخین، فینبغی فی هذا المورد التوقّف وعدم إصدار أیّ حکم شرعیّ، وبالطبع ففی مقام العمل ینبغی الاحتیاط(1).

وبالرغم من أنّ مؤسس المدرسة الأخباریة هو محمّد أمین الإسترآبادی، لکنّ البعض یعتقد أنّه یفهم من کلامه أنّه متأثّر بأستاذه المیرزا محمّد الإسترآبادی (م 1028)(2).

وکان محمّد أمین الإسترآبادی صهر أستاذه أیضاً وقال فی کتابه باللغة الفارسیة «دانش نامه شاهی»(3):

«عندما تعلّمت علم الحدیث عند المیرزا محمّد الإسترآبادی، قال لی: علیک بإحیاء طریقة الأخباریین ورفع الشبهات الموجودة فی هذا المنهج!».

سبب ظهور الفکر الأخباری:

ویبدو أنّ أهم سبب لظهور الفکر الأخباریّ هو تشدّد جماعة من الفقهاء فی أمر الحدیث واهتمامهم بالعقل والاستدلالات العقلیة. وفی الحقیقة أنّ المیل الشدید للأخبار یمکن أن یکون بمثابة ردّة فعل لعقلانیة المحقّق الأردبیلی وأتباعه وتلامیذه.

فی السابق کانت طائفة من الفقهاء تهتم فی عملیة الاستنباط بالکتاب والسنّة فقط، فکانوا یجتنبّون استخدام العقل فی البحوث الفقهیة، من أجل الابتعاد عن العمل بالقیاس، ولکنّ طائفة أخری من الفقهاء کالعمانی والإسکافی، کانوا یستخدمون الاستنباط العقلیّ فی المسائل الشرعیة والفقهیة، إلی أن جاء الشیخ المفید والشیخ الطوسیّ وأوجد تعادلًا بین هذین المنهجین من خلال الاستفادة من کلیهما، وقد استمرّت الحرکة الفقهیة فی مسیرها علی هذا الخط لعدّة سنوات ولکن فی القرن العاشر ظهرت رؤیة إیجابیة جدیدة للعقل مع التشدّد فی التمسّک بالأحادیث والروایات وعلی رأس هذه الحرکة العقلانیة هو المحقّق الأردبیلی.

وبعده سار علی هذا الطریق صاحب «المدارک»، وصاحب «المعالم» والمحقّق السبزواری، وعملوا علی تکریس وتقویة هذا الخطّ والمنهج. وفی مثل هذه الأجواء ظهر الإسترآبادی الذی کان مقیماً فی الحجاز وفی جوّ مشحون بالأحادیث والتزام السنّة، فکان أن سیطر علیه الفکر الحدیثی والأخباریّ وتحرّک من موقع


1- موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة، ج 2، ص 385.
2- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 281.
3- توجد نسخة من هذا الکتاب فی مکتبة آیةاللَّه المرعشی فی مدینة قم. وقد ألّف هذا الکتاب باللغة الفارسیة فی مکّة المکرّمة.

ص: 119

إنکار العقل والتزام الأخبار والتشدّد فی ذلک، وبالنتیجة رفض منهج الأصولیین والعقلیین وإیجاد منهج عملیّ فی التمسّک بالأخبار(1).

بعض فقهاء الأخباریین:

إنّ الفقهاء والعلماء الأخباریین الذین جاءوا بعد محمّد أمین الإسترآبادی یختلفون فی تشدّدهم وتعصّبهم لهذه المدرسة، فإنّ أفکار وعقائد الکثیر من فقهاء المذهب الأخباری تختلف عن أفکار وعقائد المرحوم الإسترآبادی، مثلًا صاحب «الحدائق» هو فقیه أخباریّ، ولکنّه یقف موقف الاعتدال والإنصاف، وفی نفس اعتداله وإنصافه کان محقّقاً متتبعّاً، وفی الحقیقة أنّ موقفه هذا أدّی إلی انتهاء العصر الأخباریّ.

علی أیّة حال فإنّ أهم فقهاء الأخباریین هم:

1. المولی محمّدتقی المجلسیّ (م 1070).

کان المولی محمّدتقی المجلسیّ (المجلسیّ الأوّل) رجلًا محقّقاً، عالماً، زاهداً، عابداً وفقیهاً متکلّماً. ومن کتبه المعروفة «روضة المتّقین»، الذی یعدّ من أفضل الشروح علی کتاب «من لا یحضره الفقیه» ویدلّ علی مهارته وتخصّصه فی الأدب والرجال والفقه والحدیث (2).

2. الملّا محسن الفیض الکاشانی (م 1091).

وکان عارفاً حکیماً ومحدّثاً فقیهاً، وقد جمع أحادیث الکتب الأربعة فی کتابه القیّم «الوافی» وکذلک دوّن کتاباً فی الفقه باسم «مفاتیح الشرائع»(3).

3. محمّد بن الحسن الحرّ العاملی (م 1104).

وکان عالماً متبحّراً ومحدّثاً جلیل القدر، وهو صاحب الکتاب النفیس «وسائل الشیعة» الذی جمع فیه أحادیث الکتب الأربعة وکتب مهمّة أخری للشیعة بأسلوب جدید(4).

4. العلّامة محمّد باقر المجلسیّ (م 1111).

بالنسبة لعلم وزهد وتقوی العلّامة المجلسیّ وجامعیته للعلوم فإنّه أکبر من أن یعرّف، ویکفیه فخراً أنّه ألّف دائرة المعارف الکبیرة باسم «بحار الأنوار» للشیعة الإمامیة حیث لم یسبقه فی ذلک أیّ عمل من هذا القبیل، ومن تألیفاته القیّمة الأخری کتاب «مرآة العقول» فی شرح کتاب «الکافی».

وقد ألّف المجلسیّ کتباً کثیرة، وکان أوّل من کتب باللغة الفارسیة کتباً مفصّلة فی المعارف الدینیة علی أساس مذهب أهل البیت علیهم السلام (5).

5. الشیخ یوسف البحرانیّ (م 1186).

وهو محدّث کبیر وفقیه ماهر، ذو احاطة کاملة بالفقه والحدیث، وقد ألّف کتباً کثیرة، أشهرها «الحدائق الناضرة» فی 25 جزءً. ویعدّ هذا الکتاب دورة فقهیة استدلالیة مع نقل الأقوال والنصوص فی کلّ مسألة(6).

وبالرغم من أنّ الشیخ یوسف البحرانی یعدّ من الأخباریین، ولکنّه بموقفه المعتدل ورفضه للکثیر من


1- انظر: ثقافة الفقه طبقاً لمذهب أهل البیت علیهم السلام، ج 1، ص 39 و 40( وللمزید من الاطلاع حول ظهور الحرکة الأخباریة انظر: موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة الجزء الثانی، ص 386- / 391).
2- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 252؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 192 و 193.
3- انظر: روضات الجنّات، ج 6، ص 79- / 103؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 46.
4- انظر: امل الآمل، ج 1، ص 141- / 145؛ روضات الجنّات، ج 7، ص 96- / 105؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 167- / 171.
5- انظر: امل الآمل، ج 2، ص 248؛ روضات الجنّات، ج 2، ص 78- / 93؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 182- / 184؛ بحارالأنوار، ج 102، ص 105- / 165.
6- انظر: روضات الجنات، ج 8، ص 203- 208؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 317؛ الحدائق الناضرة، ج 1، المقدّمة، تحقیق جماعة المدرسین.

ص: 120

مبانی المدرسة الأخباریة، استطاع أن یوقف هذه الحرکة(1).

وفی هذا العصر وهو العصر الأخباریّ الذی رفع رایته أمین الإسترآبادی واستمرّ إلی ما یقارب قرن ونصف قرن، إلی زمان ظهور العلّامة الوحید البهبهانی الذی عمل علی تحطیم أرکان هذا المنهج، ظهر علماء ومجتهدون لم یبالوا بالظاهرة الأخباریة ولم یذعنوا لتحدّیاتها واستمرّوا علی السیر فی خطّ الاجتهاد بالرغم من قلّة عددهم.

إنّ بعض علماء هذا العصر، هم:

1. سلطان العلماء (م 1064)؛ مؤلّف التعلیقة علی معالم الأصول وعلی زبدة الشیخ البهائی (2).

2. الفاضل التونی (م 1071)؛ مؤلّف کتاب الوافیة فی أصول الفقه (3).

3. جمال الدین الخوانساری (م 1125)؛ ومن تألیفاته یمکن الإشارة إلی تعلیقاته علی شرح اللمعة(4).

4. الفاضل الهندی (م 1137).

وکتابه المعروف فی الفقه «کشف اللثام» فی «شرح القواعد» للعلّامة الحلّی. وکان هذا الکتاب مورد اعتماد صاحب الجواهر کثیراً، حیث قیل إنّه لو لم یکن عند صاحب الجواهر هذا الکتاب فإنه لا یکتب الجواهر(5).

خصائص المرحلة السادسة:
اشارة

لقد أدّت الحرکة الأخباریة إلی جمود النشاط الاجتهادی فی الفقه، والتحرک باتجاه الأخبار والأحادیث، وقد خلّفت هذه الحرکة آثاراً سلبیة وإیجابیة أیضاً.

أ) الآثار السلبیة للحرکة الأخباریة

1. الفرقة والتشتّت بین الفقهاء، إنّ حرکة الأخباریین وظهور الظاهرة الأخباریة فی فقه الإمامیة جعلت العلماء الأخباریین یتحرّکون علی مستوی توجیه النقد الشدید للمجتهدین الأصولیین. حیث یعتقد العلماء الأخباریّون أنّ العلماء الأصولیین لا شی ء لدیهم من أنفسهم بل یقتاتون علی مائدة الآخرین، ومن جهة أخری فإنّ الأصولیین یتّهمون الأخباریین بالجمود والتحجّر. وهذا بنفسه أدّی إلی الفرقة والتشتّت بین فقهاء الإمامیة.

2. کثرة المجادلات الفقهیة، فالحرکة الأخباریة مع ظهور بعض المسائل مهدّت الأرضیة لنزاعات وسجالات واسعة، مثلًا مسألة التدخین التی تعدّ مسألة مستحدثة ولم یکن لها وجود فی السابق، فقد صارت مورداً للجدل والنزاع بین الأخباریین والأصولیین، إلی حدّ أنّ مسألة تحریم شرب التبغ «التدخین» صارت شعاراً للأخباریین، کما أنّ جواز التدخین صار شعاراً للأصولیین.

3. الموقف السلبیّ من الأدلّة العقلیة فی مجال استنباط المسائل الفقهیة.

4. عدم الاهتمام بعلم الأصول.


1- وللاطلاع أکثر علی موقفه الاعتدالی بل عدول الشیخ یوسف البحرانی عن کثیر من مبانی الأخباریین، انظر کتابه: الحدائق الناضرة، وبالأخصّ المقدّمة الثانیة عشرة.
2- روضات الجنّات، ج 2، ص 326، وکذلک انظر: امل الآمل، ج 2، ص 92؛ أعیان الشیعة، ج 6، ص 164- / 166.
3- امل الآمل، ج 2، ص 163، کذلک انظر: روضات الجنّات، ج 4، ص 244- / 246؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 70.
4- انظر: روضات الجنّات، ج 2، ص 214 و 215؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 231.
5- انظر: روضات الجنّات، ج 7، ص 111- / 118؛ کشف اللثام، ج 1، مقدمة، تحقیق جماعة المدرّسین.

ص: 121

ونظراً إلی أنّ مرجع الاستنباط الوحید لدی الأخباریین هو الکتاب والسنّة حیث لا اعتبار للعقل والأصول العقلیة عندهم، ولذلک لم یکونوا یهتمّون باصول الفقه، ولم یؤلَّف کتاب مستقلّ فی هذه الفترة فی علم الأصول سوی کتاب «الوافیة» للفاضل التونی، وتدور تألیفات العلماء غالباً حول محور «زبدة الاصول» للشیخ البهائی حیث کتبوا علیها شروحاً وتعلیقات کثیرة(1).

ب) الآثار الإیجابیة للحرکة الأخباریة

1. تألیف الجوامع الروائیة

بعد تدوین الکتب الأربعة التی تعتبر المرجع الروائی لدی الفقهاء فإنّه لم تدوّن موسوعة روائیة بعد ذلک، ولکنّ الأخباریین الذین کانوا یهتمّون کثیراً بالأخبار والأحادیث أقدموا فی هذه المرحلة علی تدوین جوامع حدیثیة، ومن جملة تألیفاتهم فی هذه الفترة: وسائل الشیعة، الوافی وبحار الأنوار.

2. تدوین التفاسیر الروائیة

ومن هذا النوع من التفاسیر فی هذا العصر یمکن الإشارة إلی تفسیر «البرهان فی تفسیر القرآن» تألیف السیّد هاشم البحرانی (م 1107) وتفسیر «نورالثقلین» تألیف الشیخ عبدعلی العروسیّ الحویزیّ من علماء القرن الحادی عشر.

المرحلة السابعة: عصر تجدید حیاة الإجتهاد فی میدان التفقّه

اشارة

وتبدأ هذه المرحلة من أواخر القرن الثانی عشر إلی 1260 ه.

بالرغم من استمرار جماعة من العلماء الأصولیین فی حرکتهم وسعیهم فی عصر شیوع الفکر الأخباریّ ولکنّ الفکر الأخباریّ کان مسیطراً علی الثقافة الشیعیة بحیث أنّه لم یسمح لرشد ونموّ أفکار المجتهدین الأُصولیین.

وقد ظهر فی أواخر سلطة الأخباریین، الذین سلک علماؤهم طریق الاعتدال فی هذه المدّة، عالم محقّق ومتعمّق هو العلّامة الوحید البهبهانی (م 1206) وتصدّی للفکر الأخباریّ، وقد قدم من النجف الأشرف إلی کربلاء التی تعدّ مرکز الأخباریین الذین یتزعّمهم المرحوم الشیخ یوسف البحرانی مؤلف کتاب «الحدائق الناضرة».

وقد تحرّک المحقّق البهبهانی علی مستوی نقد مبانی الأخباریین وتقویة مبانی المجتهدین الأصولیین. وکان العراق، وخاصّة مدینتی کربلاء والنجف، مرکز الأخباریین، ومع ظهور النهضة الفکریة والعلمیة للمحقّق البهبهانی فرغت الساحة من وجود هؤلاء الأخباریین، وهنا نستعرض أهم الأجوبة الدقیقة والعلمیة للعلّامة البهبهانی علی مبانی الأخباریین:

1. یعتقد الأخباریون أنّ العمل بظواهر القرآن هو من التفسیر بالرأی (إلّا ما ورد تفسیره بواسطة المعصومین علیهم السلام) ومن هنا فهو مشمول للروایات الناهیة عن التفسیر بالرأی.

ویجیب المحقّق البهبهانی أنّ التمسّک بظواهر القرآن بعد الفحص عن المخصّص والمقیّد والناسخ وأمثال ذلک ممّا ورد عن المعصومین علیهم السلام هو فی الحقیقة عمل بالقرآن، ویعدّ من جملة التدبر، فی القرآن، وهذه المسألة تختلف عن التفسیر بالرأی اختلافاً فاحشاً،


1- انظر: أعیان الشیعة، ج 3، ص 222- / 224.

ص: 122

لأنّ ظواهر الألفاظ حجّة فی عرف المتشرّعة.

2. ویری الأخباریون أنّ الکتاب والسنّة هما الحجّة فقط فی مقام استنباط الأحکام، ویعتقدون بأنّ العقل لادور له إطلاقاً فی استنباط الأحکام الشرعیة لأنّه قد ورد فی الروایات «أنّ دِینَ اللَّهِ لا یُصابُ بالعُقولِ»(1).

وقد کتب المحقّق البهبهانی فی هذا المجال رسالة فی الحسن والقبح العقلیین وأثبت فیها حجّة العقل فی المستقلّات العقلیة، وأوضح أنّ تلک الروایات هی فی الواقع ناظرة للأحکام الظنّیة للعقل من قبیل: القیاس والاستحسان وأمثال ذلک. وإلّا فإنّه فی الأحکام القطعیّة للعقل التی لا یشکّ فیها أیّ إنسان ذی فطرة سلیمة، فإنّ حکم العقل فیها حجّة من قبیل «قبح العقاب بلا بیان» أو «الاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ والبراءة الیقینیة» ونظیر ذلک، وقد ورد فی روایات المعصومین علیهم السلام التأکید علی حجّیة العقل أیضاً.

3. إنّ الأخباریین لا یرون حجّیة الإجماع فی عملیة استنباط الأحکام، ویعتقدون بأنّ الإجماع هو دلیل لدی علماء أهل السنّة لا فی عقیدة علماء الشیعة، وقد أوضح المحقّق البهبهانی أنّ الإجماع مشترک لفظیّ بیننا وبین علماء أهل السنّة، وإلّا فإنّ الإجماع الذی نعتقد بحجّیته یختلف اختلافاً جوهریاً عن الإجماع الذی یعتقد به أهل السنّة.

إنّ أهل السنّة یرون الإجماع حجّة فی نفسه، ولکنّ علماء أهل البیت علیهم السلام یعتقدون أنّ الإجماع طریق لتحصیل قول ونظر المعصوم علیه السلام. وقد ذکرت شروط تحصیل نظر المعصوم بواسطة الإجماع فی علم الأصول.

4. ویعتقد الأخباریون أنّ جمیع الأحادیث الواردة عن المعصومین علیهم السلام فی الکتب المعروفة والمعتبرة کالکتب الأربعة، قطعیّة ولا تحتاج إلی علم الرجال للتحقیق فی أسنادها. وقد ردّ المحقّق البهبهانی هذا المبنی أیضاً فی رسالة «الاجتهاد والأخبار» وأثبت الحاجة لعلم الرجال، مضافاً إلی ذلک، فقد فتح البهبهانی بما وضعه من إبداع فی علم الأصول، فصلًا جدیداً فی هذا العلم حیث أدّی إلی تقویة ونمو هذا العلم (2).

تلامذة المحقّق البهبهانی:

هذا وقد قام العلّامة الوحید البهبهانی، مضافاً للردّ علی مبانی الأخباریین ونقدها، بتربیة تلامیذ کبار وتقدیمهم للمجتمع الإسلامیّ وقد تحرّکوا بعد وفاة استاذهم فی سنة 1206 ه، فی الخطّ الفکری لأستاذهم من موقع التحقیق والدقّة والتعمّق، وأهم هؤلاء:

1. الملّا مهدی النراقی (م 1209) مؤلف کتاب «معتمد الشیعة فی أحکام الشریعة»(3).

2. السیّد محمّدمهدی بحرالعلوم (م 1212) مؤلّف کتاب «الفوائد الرّجالیة»(4).

3. الشیخ أبوعلیّ الحائری (م 1216) مؤلّف کتاب «منتهی المقال»(5).

4. الشیخ جعفر کاشف الغطاء (م 1227) مؤلّف


1- کمال الدین وتمام النعمة، ص 324، ح 9؛ بحارالأنوار، ج 2، ص 303، ح 41.
2- انظر: روضات الجنّات، ج 2، ص 94- / 98؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 182؛ طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 171- / 174.
3- النظر: روضات الجنّات، ج 7، ص 200- / 203؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 143.
4- انظر: روضات الجنّات، ج 7، ص 203- / 209؛ أعیان الشیعة، ج 10، ص 158- / 160.
5- انظر: أعیان الشیعة، ج 9، ص 124؛ الکنی والالقاب، ج 1، ص 124؛ منتهی المقال، ج 1، مقدّمة تحقیق مؤسّسة آل البیت علیهم السلام.

ص: 123

کتاب «کشف الغطاء»(1).

5. المیرزا أبوالقاسم القمّی (م 1231) مؤلّف کتاب «غنائم الأیّام» و «جامع الشتات»(2).

6. السیّد علیّ الطباطبائی (م 1231) الذی قام بتدوین الموسوعة الفقهیة «ریاض المسائل»(3).

7. السیّد جواد العاملی (م 1226) مؤلّف الموسوعة الفقهیة «مفتاح الکرامة»(4).

وعشرات التلامیذ الآخرین. وهناک طائفة أخری من فقهاء الإمامیة الکبار هم تلامذة المحقّق البهبهانی بالواسطة، وهؤلاء أیضاً من أتباع مدرسة ذلک الفقیه الکبیر، مثل:

1. الملّا أحمد النراقی (م 1245) مؤلف کتاب «مستند الشیعة»(5).

2. الشیخ محمّد حسن النجفی (المعروف بصاحب الجواهر) (م 1266) مؤلف الموسوعة الفقهیة العظیمة المنقطعة النظیر «جواهر الکلام» فی 43 جزءاً(6).

خصائص المرحلة السابعة:

إنّ أهمّ خصائص ومعطیات هذه المرحلة الفقهیة کالتالی:

1. خلق نشاط ورغبة للدراسات الفقهیة وکسر حاجز الجمود والتحجّر، والعودة إلی العقل فی میدان الاستدلال والاستنباط الفقهیّ.

2. انتهاء سیطرة الفکر الأخباریّ بحیث إنّه لم یبق منهم فی الحوزات العلمیة الشیعیة سوی عدد قلیل، وقد تحرّک زعیمهم فی ذلک العصر الشیخ یوسف البحرانی علی مستوی التقرّب تدریجیاً من الأصولیین وترک الدفاع عن المذهب الأخباریّ، وقد اعترف بذلک فی المقدّمة الثانیة عشر من کتاب: «الحدائق الناضرة».

3. تألیف الموسوعات الأصولیة والفقهیة. ففی علم الأصول قام المرحوم المیرزا القمّی بتدوین «قوانین الأصول» وکذلک ألّف السیّد إبراهیم القزوینی (م 1264) کتاب «ضوابط الأصول» وألّف الشیخ محمّد إبراهیم الکلباسی (م 1261) کتاب «إشارات الأصول». وفی الفقه أیضاً تمّ تدوین موسوعات مهمّة وقیمة، وقد تقدم ذکر أسمائها.

4. ظهور إبداعات مهمّة ومؤثّرة فی علم الأصول علی ید العلّامة الوحید البهبهانی حیث خلق تحوّلًا فی مسار علم الأصول والفقه.

المرحلة الثامنة: عصر الابداعات الفقهیة

اشارة

وتبدأ هذه المرحلة من منتصف القرن الثالث عشر، وتتمثّل فی استمرار عملیة الحرکة الجدیدة والإبداع


1- انظر: روضات الجنّات، ج 2، ص 200- / 206؛ طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 248- / 252؛ أعیان الشیعة، ج 4، ص 99- / 106؛ الکنی والألقاب، ج 3، ص 101- / 104.
2- انظر: روضات الجنّات، ج 5، ص 369- / 380؛ طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 52- / 54؛ أعیان الشیعة، ج 2، ص 411- / 413.
3- انظر: روضات الجنّات، ج 4، ص 399- / 406؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 314 و 315؛ ریاض المسائل، ج 1، مقدّمة، تحقیق مؤسّسة آل البیت علیهم السلام.
4- انظر: روضات الجنّات، ج 2، ص 216 و 217؛ طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 286- / 289.
5- انظر: روضات الجنّات، ج 1، ص 95- / 99؛ طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 116؛ أعیان الشیعة، ج 3، ص 183 و 184.
6- انظر: طبقات أعلام الشیعة، ج 1، ص 310- / 314؛ أعیان الشیعة، ج 9، ص 149 و 150؛ جواهر الکلام، ج 1، مقدّمة التحقیق بقلم الشیخ محمّدرضا المظفر.

ص: 124

الفقهیّ للمحقّق البهبهانیّ حیث ساعد علی ظهور حرکة علمیة جدیدة مع إبداع اسلوب جدید ومناهج جدیدة فی الفقه والأصول.

إنّ رائد هذه الحرکة البدیعة فی الفقه والأصول هو الشیخ مرتضی الأنصاری (م 1281)(1) وقد تتلمذ علی ید فقهاء عظام کالسیّد محمّد بن السیّد علیّ (المعروف بالسیّد المجاهد) (م 1243) مؤلّف کتاب «المناهل فی الفقه»(2) وشریف العلماء المازندرانی (م 1245)(3) والملّا أحمد النراقی (م 1245) والشیخ علی بن الشیخ جعفر کاشف الغطاء (م 1254) و الشیخ محمّد حسن النجفی (صاحب الجواهر) (م 1266).

وبعد رحیل صاحب الجواهر، انتقلت المرجعیة العامة للشیعة إلی الشیخ مرتضی الأنصاری الذی تصدّی لزعامة الحوزات العلمیة ومرجعیة الشیعة مدّة 15 سنة.

وقد ألّف الشیخ الأنصاری کتابه الأصولی المعروف «الفرائد» وهو المشهور ب «الرسائل» ویعدّ من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الشیعیة منذ أکثر من قرن کامل، وقد عرض فیه إبداعات أصولیة کثیرة.

أمّا فی الفقه فقد کتب کتابه القیّم «المکاسب» الذی یعتبر أیضاً من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة.

وهذا الکتاب یبحث فی أحکام المکاسب المحرّمة، أحکام البیع والشراء، أحکام الخیارات، الشرط الشرعی وغیر الشرعی، وأحکام القبض والنقد والنسیئة. وقد ضمّنه مناهج وإبداعات جدیدة فی استنباط الأحکام الفقهیة.

تلامذة الشیخ الأنصاری:

ربّت مدرسة الشیخ الأنصاری علماء مقتدرین وقدّمتهم للعالم الإسلامیّ، ومن مشاهیرهم:

1. السیّد حسین الکوه کمری (م 1299)(4).

2. المیرزا محمّد حسن الشیرازی (م 1312).

وهو من أشهر تلامذة الشیخ الأنصاری الذی تزعّم مرجعیة الشیعة بعد رحیل الشیخ، وبعد حدوث بعض المشاکل فی النجف، انتقل إلی سامراء وأسس حوزة علمیة کبیرة هناک (5).

3. المیرزا حبیب اللَّه الرشتی (م 1312)(6).

4. الشیخ محمّد حسن الآشتیانی (م 1319)(7).

5. الشیخ محمّدرضا الهمدانی (م 1322)؛ صاحب کتاب «مصباح الفقیه»(8).

6. الشیخ محمّد کاظم الخراسانی (م 1329).

وقد اشترک الآخوند الخراسانی بعد وروده إلی النجف بدروس الشیخ الأنصاری، وبعده حضر فی دروس المیرزا الشیرازی، ویعتبر الآخوند الخراسانی من کبار علماء الشیعة، فقد استفاد من الأفکار والآراء السامیة للشیخ الأنصاری وأضاف إلیها إبداعات ونظریات جدیدة فی «أصول الفقه».

ویعدّ الآخوند الخراسانی من الأساتذة الماهرین حیث کان یحضر درسه أکثر من ألف شخص، ویعتبر


1- انظر: أعیان الشیعة، ج 10، ص 117- 119.
2- المصدر السابق، ج 9، ص 443.
3- المصدر السابق، ج 7، ص 338 و 339.
4- المصدر السابق، ج 6، ص 146- 148.
5- أعیان الشیعة، ج 5، ص 304- / 306؛ نقباء البشر، ج 1، ص 436- / 441.
6- انظر: أعیان الشیعة، ج 4، ص 559؛ نقباء البشر، ج 1، ص 357- / 360.
7- أعیان الشیعة، ج 5، ص 37 و 38؛ نقباء البشر، ج 1، ص 389 و 390.
8- أعیان الشیعه، ج 7، ص 19- / 23.

ص: 125

کتابه الأصولیّ «کفایة الإصول» من الکتب الدراسیة فی السطوح العالیة فی الحوزات العلمیة منذ مدّة قرن تقریباً(1).

وکان لمدرسة الشیخ الأنصاریّ بما خلقته من تیّار فکریّ وخطّ علمیّ، ثمرات وبرکات کثیرة، فمضافاً لتلامیذ هذه المدرسة المباشرین، فإنّ طائفة من العلماء والفقهاء المعروفین قد تربّوا فی هذه المدرسة واستفادوا فی علومهم من تلامذة الشیخ الأنصاری.

لقد ظهر فقهاء کبار فی هذا العصر تتلمذوا فی مدرسة الشیخ الأنصاری، وکانت لهم آثار وبرکات وإبداعات کثیرة، بل إنّ بعضهم کان صاحب مدرسة ومنهج علمیّ فی حرکة الفقه الإسلامی، ومن هؤلاء:

1. السیّد محمّدکاظم الیزدی (م 1337) صاحب الکتاب المعروف «العروة الوثقی» وکان من المراجع الکبار فی عصره.

2. الشیخ عبدالکریم الحائری (م 1355) مؤسّس الحوزة العلمیة الجدیدة فی قمّ، وقد ربّی بدوره تلامذة وعلماء کبار مثل:

الإمام الخمینی؛ آیةاللَّه الکلبایکانی وآیة اللَّه الأراکی قدس سرهم.

3. المیرزا محمّد حسین النائینی (م 1355) الذی قدّم آثاراً ومصنّفات کثیرة للمجتمع الإسلامی ومدرسة أهل البیت علیهم السلام. والکثیر من آثاره قد کتبها تلامذته منها:

- «فوائد الأصول» بقلم الشیخ محمّد علی الکاظمی (م 1365).

- «منیة الطالب فی أحکام المکاسب»، بقلم الشیخ موسی الخوانساری (م 1365).

- «أجود التقریرات»، بقلم الفقیه المقتدر آیة اللَّه الخوئی (م 1413)(2).

4. الشیخ ضیاء الدین العراقی (م 1361) الذی ربّی بدوره تلامذة کبار مثل آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم (م 1390).

5. الشیخ محمّد حسین الاصفهانی (م 1361).

وقد کان الاصفهانی أیضاً من طلّاب المرحوم الآخوند الخراسانی، وقد ربّی تلامذة بارزین منهم:

أ) الشیخ محمّد رضا المظفر (م 1384) مؤلّف کتاب «أصول الفقه» (المعروف بأصول المظفر) وهو من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الشیعیة.

ب) آیة اللَّه السیّد محمّد هادی المیلانی (م 1394) الذی کان مرجعاً وزعیماً للمسلمین فی منطقة خراسان.

ج) العلّامة السیّد محمّد حسین الطباطبائی (م 1401) صاحب التفسیر المعروف والمشهور «المیزان فی تفسیر القرآن» المطبوع فی 20 جزءاً.

6. آیة اللَّه السیّد أبوالحسن الأصفهانی (م 1365).

وله کتاب «وسیلة النجاة» الذی یمثّل دورة فقهیة یشمل جمیع أبواب الفقه، سوی القضاء والشهادات والحدود والدیات (3).

7. آیة اللَّه السیّد حسین البروجردی (م 1380).

وقد جاء آیة اللَّه السیّد حسین البروجردی فی عام 1364 ه. ق إلی مدینة قم واستلم زعامة الحوزات العلمیة ومرجعیة الشیعة فی ذلک الوقت وقد استمرت


1- انظر: أعیان الشیعة، ج 9، ص 5 و 6؛ مقدّمة کفایة الأصول، تحقیق مؤسّسة آل البیت.
2- المصدر السابق، ج 6، ص 54- / 56؛ نقباء البشر، القسم الثانی من الجزء الأول، ص 593- / 595.
3- أعیان الشیعة، ج 2، ص 331- 335؛ نقباء البشر، ج 1، ص 41.

ص: 126

الزعامة الشیعة المطلقة بیده لسنوات مدیدة(1).

8. آیة اللَّه السیّد أحمد الخوانساری (م 1405).

وأهمّ آثاره العلمیة فی الفقه، والذی یحضی باهتمام المحقّقین «جامع المدارک فی شرح المختصر النافع» الذی طبع فی سبعة أجزاء(2).

9. الإمام الخمینی (م 1409).

وقد کان آیة اللَّه السیّد روح اللَّه بن السیّد مصطفی، المعروف ب «الإمام الخمینی» قائداً کبیراً وزعیماً عظیماً للعالم الإسلامی، وشخصیة فریدة فی تاریخ فقهاء الشیعة.

وقد خلّف «الإمام الخمینی» آثاراً فقهیة وأصولیة قیمة منها:

أ) «المکاسب»، فی خمسة أجزاء.

ب) «تحریر الوسیلة»؛ وهو عبارة عن تعلیقاته» علی متون کتاب (وسیلة النجاة) للمرحوم السیّد أبی الحسن الاصفهانی، وقد أدرج الإمام الخمینی تعلیقاته فی المتون، وخرج الکتاب تحت عنوان «تحریر الوسیلة» وهو (الرسالة العملیة) التی أجاز العمل بها لمقلِّدیه.

ج) عدّة دورات أصولیة، وقد تمّ تدوینها بقلمه وبقلم تلامذته، وأحدها «تهذیب الأصول»، حیث دوّنه آیة اللَّه الشیخ جعفر السبحانی (3).

10. آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی (م 1413).

فقد خلّف آثاراً علمیة کثیرة، بعضها بقلمه والبعض الآخر بقلم تلامذته، ومن جملة هذه الأعمال:

- «أجود التقریرات» وهو عبارة عن تقریرات أستاذه المحقّق النائینی، و «التنقیح»، «مستند العروة»، «مصباح الأصول»، محاضرات فی الأصول هذه الکتب الأربعة عبارة عن تقریرات لدروس البحث الخارج للأصول وبقلم تلامذته.

وقد تمّ نشر آثاره وأعماله الفقهیة والأصولیة والتفسیریة تحت عنوان «موسوعة الإمام الخوئی»، فی 50 جزءاً والموسوعة الرجالیة الضخمة باسم «معجم رجال الحدیث»، فی 23 جزءاً(4).

11. آیة اللَّه السیّد محمّد رضا الکلبایکانی (م 1414).

ویعتبر آیة اللَّه الکلبایکانی من تلامذة آیة اللَّه الشیخ عبدالکریم الحائری البارزین.

وقد ترک آثاراً وکتباً فی الفقه منها:

«کتاب الحج»، «ولایة الفقیه»، «الدّر المنضود فی أحکام الحدود»، «کتاب الطهارة»(5).

خصائص المرحلة الثامنة:
1. تنظیم المباحث الأصولیة بشکل خاص

بالرغم من أنّ هذه المرحلة هی فی الواقع ثمرة من ثمرات الشیخ الأنصاری وتلامذته، إلّاأنّها استمرار لمدرسة المحقّق البهبهانی، ومن هنا فإنّ أکثر المطالب العلمیة التی کتبها علماء هذه المرحلة تمتد بجذورها إلی کلمات وآراء المحقّق البهبهانی وأتباعه (6)، ولکنّ الفرق بینها وبین المرحلة السابقة هو أنّ هذه السلسلة


1- انظر: أعیان الشیعة، ج 6، ص 92- / 94؛ سیمای فرزانگان، ج 1، ص 477- / 510( بالفارسیة).
2- انظر: مجلّة نور علم، العدد 7، بهمن 1363، ص 12 وما بعده( بالفارسیّة).
3- انظر: سیمای فرزانگان، ج 1، ص 607- / 629( بالفارسیة).
4- المصدر السابق، ج 1، ص 645- 679؛ موسوعة الإمام الخوئی، ج 1، مقدمة، ص 5- 35.
5- انظر: خورشید فقاهت( حیاة آیة اللَّه الکلبایکانی)، بقلم: علی کریمی الجهرمی؛ سیمای فرزانگان، ج 1، ص 691- / 712( بالفارسیّة).
6- موسوعة طبقات الفقهاء، مقدّمة، ج 2، ص 458.

ص: 127

من المباحث العلمیة تمّ تنظیمها وعرضها بشکل خاص، وکنموذج بارز لذلک ما نراه فی أعمال وآثار الشیخ الأنصاری والآخوند الخراسانی.

وتقسّم المسائل الأصولیة فی هذه المرحلة إلی:

مباحث الألفاظ والمباحث العقلیة، وتبحث المباحث العقلیة بشکل مفصّل وواسع مع إبداعات مهمّة لم تکن فی السابق.

2. الإبداعات الفقهیة

فی هذه المرحلة تمّ عرض الأبواب الفقهیة بشکل جدید وبآفاق واسعة، حیث یمکن الإشارة فی هذا المجال لبحوث الشیخ الأنصاری الواسعة فی الفقه، والمحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه».

3. الاهتمام الواسع بالعبادات والعقود

بالرغم من أنّ الفقه یتضمّن أبواباً عدیدة، کالعبادات والعقود والإیقاعات والسیاسات؛ إلّاأنّ فقهاء هذا العصر، قد رکّزوا أکثر اهتماماتهم فی مورد العبادات والعقود. وهذا ما نراه فی کتاب «المکاسب» للشیخ الأنصاری (فی قسم المعاملات) و «مصباح الفقیه» للمحقّق الهمدانی و «العروة الوثقی» لآیة اللَّه السیّد محمّد کاظم الیزدی (ویبحث فی الأصل حول العبادات) وغیر ذلک، ویتمیّز فقهاء هذه المرحلة بأنّ لهم تألیفات فی أحد هذین البابین أو کلیهما.

4. ظهور «التقریرات» فی الفقه والأصول

بالرغم من أنّ «التقریرات» تشبه «الأمالی» التی کانت سائدة بین القدماء من العلماء، حیث یملی الاستاذ دروسه علی تلامیذه الذین یکتبون الدرس، ولکن مع فارق بینهما:

أ) إنّ أمالی الأستاذ کانت فی السابق تنشر باسم الاستاذ نفسه دون أن یکون هناک ذکر لاسم التلمیذ الکاتب، من قبیل «الأمالی» للشیخ الصدوق و «الأمالی» للشیخ المفید؛ ولکن فی هذا العصر، فإنّ تقریرات الأساتذة تنشر باسم طلّابهم وتلامیذهم، مع ذکر اسم الأستاذ أیضاً، مثل «أجود التقریرات» وهو مجموعة دروس لآیة اللَّه النائینی، حیث طبع باسم تلمیذه آیة اللَّه الخوئی، وهکذا عشرات التقریرات الأخری.

ب) فی «الأمالی فإنّ الألفاظ والعبارات هی عبارات الأستاذ نفسه ویقوم التلمیذ بکتابة النصّ الذی أملاه علیه أستاذه وینشر بالتالی باسم الأستاذ، ولکن فی التقریرات فإنّ مضمون الکتاب من الأستاذ، ولکنّ التلامیذ هم الذین یصوغون هذا المضمون بعباراتهم وألفاظهم ویقومون بتبویب الکتاب بما یناسب ذوقهم وقریحتهم.

5. ظهور الرسائل العملیة بشکل جدید

بالرغم من وجود رسائل للفتاوی بین الفقهاء القدماء لمراجعة المقلِّدین وعملهم بها، فإنّ بعضاً من هذه الرسائل تمّ تألیفه تحت عنوان «المسائل» من قبیل:

«المسائل الجیلانیّة» و «المسائل الرجبیّة» للشیخ الطوسی و «الجامع العبّاسی» للشیخ البهائی و «نجاة العباد فی یوم المعاد» لصاحب الجواهر؛ ولکن علی أیّة حال فإنّ هذه الکتب کانت بحدود معیّنة ومختصرة، وأحیاناً تخصّصیّة فی مضمونها وغیر قابلة للاستفادة من قِبل عامّة الناس. ولکن فی هذه المرحلة فإنّ

ص: 128

الرسائل العملیة «کتب الفتاوی»، التی تتضمّن جمیع المسائل الفقهیة التی یحتاج إلیها الناس، تمّ تألیفها بدون الإشارة لأدلّة الفتاوی، ومن جملة هذه الرسائل وکتب الفتوی «العروة الوثقی»، لآیة اللَّه السیّد محمّد کاظم الیزدی، و «وسیلة النجاة»، تألیف آیة اللَّه السیّد أبوالحسن الأصفهانی، و «منهاج الصالحین»، تألیف آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم، «تحریر الوسیلة»، للإمام الخمینی، و «منهاج الصالحین»، لآیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی و «توضیح المسائل» لمراجع التقلید المعاصرین.

المرحلة التاسعة: عصر ورود الفقه للمیادین الإجتهادیة المختلفة

اشارة

بالرغم من وضوح العلاقة الوثیقة بین الفقه والحکومة (راجع بحث «رابطة الفقه والحکومة» فی هذا الکتاب) ولکن فقهاء الشیعة وبسبب ابتعادهم عن الحکومة، کانوا یهتمّون فی الغالب بالبحث فی أبواب فقهیة تتّصل بالحالات الشخصیة، وعندما یبحثون أحیاناً فی بعض المسائل الحکومیة فهو من قبیل الاستطراد وبمنظار «فردی» فکان جلّ اهتمامهم وعنایتهم منصبّة فی دائرة سلوکیات وتصرفات المکلّف الشخصیة والفردیة.

یقول الشهید السیّد محمّدباقر الصدر:

«هذا العزل السیاسیّ أدّی تدریجاً إلی تقلیص نطاق الهدف الذی تعمل حرکة الاجتهاد عند الشیعة لحسابه، وتعمّق علی مرّ الزمن شعورها بأنّ مجالها الوحید الذی یمکن أن تنعکس علیه فی واقع الحیاة وتستهدفه، هو مجال التطبیق الفردی، وهکذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم فی ذهن الفقیه، لا بصورة المجتمع المسلم.

ولأذکر مثالین من الأصول والفقه تجدون خلالها کیف تسرّبت الفردیة من نظرة الفقیه إلی هدفه، إلی نظرته للشریعة نفسها:

أمّا المثال الأصولی فنأخذه من بحوث دلیل الإنسداد الذی یعرض الفکرة القائلة بأنّنا ما دمنا نعلم بأنّ فی الشریعة تکالیف ولا یمکننا معرفتها بصورة قطعیة، فیجب أن یکون المتّبع فی معرفتها هو الظنّ ... إنّ هذه الفکرة یناقشها الأصولیون قائلین: لماذا لا یمکن أن نفترض أنّ الواجب علی المکلّف هو الاحتیاط فی کلّ واقعة أدّی التوسّع فی الاحتیاط إلی الحرج فیسمح لکلّ مکلّف بأن یقلّل من الاحتیاط بالدرجة التی تؤدّی إلی الحرج.

انظروا إلی الروح الکامنة فی هذا الافتراض، وکیف سیطرت علی أصحاب النظرة الفردیة إلی الشریعة، فإنّ الشریعة إنّما یمکن أن تأمر بهذا النوع من الاحتیاط، لو کانت تشریعاً للفرد فحسب، وأمّا حیث تکون تشریعاً للجماعة وأساساً لتنظیم حیاتها، فلا یمکن ذلک بشأنها لأنّ هذا الفرد أو ذاک قد یقیم سلوکه کلّه علی أساس الاحتیاط، وأمّا الجماعة کلّها فلا یمکن أن تقیم حیاتها وعلاقاتها الاجتماعیة والاقتصادیة والتجاریة والسیاسیة علی أساس الاحتیاط.

وأمّا المثال الفقهیّ فنأخذ من الاعتراض الشهیر الذی أثاره الفقهاء حول قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» إذ قالوا: إنّ هذه القاعدة تنفی وجود أیّ حکم ضرریّ فی الإسلام، بینما نجد فی الإسلام أحکاماً ضرریة کثیرة کتشریع الدیات والقصاص والضمان والزکاة، فإنّ فی تشریع هذه الأحکام إضراراً بالقاتل الذی یکلّف بالدیة

ص: 129

وبالقصاص وإضراراً بالشخص الذی یتلف مال غیره إذ یکلّف بضمانه، وإضراراً بصاحب المال الذی یکلّف بدفع الزکاة.

إنّ هذا الاعتراض یقوم علی أساس النظرة الفردیة إلی التشریع، فإنّ هذه النظرة هی التی أتاحت لهم أن یعتبروا هذه الأحکام ضرریّة، بینما لا یمکن أن تعتبر هذه الأحکام ضرریة فی شریعة تفکّر فی الفرد بوصفه حرّاً من جماعة ومتربطاً بمصالحها، بل إنّ خلوّ الشریعة من تشریع الضمان والضرائب یعتبر أمراً ضرریاً»(1).

ونقرأ فی کتاب «القواعد الفقهیة»(2) لآیة اللَّه مکارم الشیرازی أیضاً: «نمنع أن تکون هذه الأحکام کلّها أو جلّها ضرریة بنظر العرف والعقلاء، فإنّ أشباهها أو ما یقرب منها متداولة ومعروفة بینهم، یحکمون بها ویرونها حقّاً نافعاً لا ضارّاً باطلًا، فإنّهم لا یزالون یحکمون بلزوم بذل الخراج والعشور، وأنّ فیها صلاح المجتمع الذی یقوم صلاح الأفراد بصلاحه، ولا تنحفظ منافعهم إلّا به. وقد استدلّ أمیر المؤمنین علیه السلام بهذا الإرتکاز العقلائی فی عهده المعروف إلی مالک الأشتر، حیث قال: «

فَإنَّ الجُنودَ حُصونُ الرَّعِیَّةِ وَزَیْنُ الوُلاةِ وعِزُّ المُسْلِمینَ وَسُبُلُ الأمْنِ

». ومن هذا المنطلق، أی فیما تعکسه المسائل الفقهیة من قضایا اجتماعیة، أجاب الإمام الخمینی قدس سره عن سؤال مدیر شوری صیانة الدستور فی وقته، فقد ذکر الإمام الراحل فی رسالته الجوابیة ما یلی:

«لو فرضنا أنّ المعادن والنفط والغاز کانت واقعة فی أراضٍ مملوکة لأشخاص (وهو فرض غیر واقعیّ) فإنّ هذه المعادن فی الحقیقة تعود ملکیتها إلی الشعوب فی الحال الحاضر والمستقبل وعلی امتداد الزمان ولذلک فهی خارجة عن تبعیة الأملاک الشخصیة، والحکومة الإسلامیة بإمکانها استخراج هذه المعادن، ولکن یجب علیها دفع قیمة الأراضی التی تعود ملکیتها للأشخاص أو تستأجرها منهم لیجوز لها التصرّف، حالها حال سائر الأراضی الأخری، بدون حساب المعادن فی الثمن أو الأجرة، ولا یحقّ للمالک منع الحکومة من ذلک»(3).

والملاحظة الأخری التی قلّما تکون مورد النظر والاهتمام فی مباحث الفقهاء، ما یتّصل بأصل «العدالة الاجتماعیة» فی فتاواهم.

یقول الشهید مرتضی المطهّری قدس سره فی هذه المجال:

«إنّ أصل العدالة الاجتماعیة- مع أهمیته الکبیرة- وقع مغفولًا عنه فی فقهنا، فی حین أنّ الآیات الشریفة مثل: «وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» تمثّل عمومات فقهیة للمسلمین، وبالرغم من شدّة تأکید القرآن الکریم علی مسألة العدالة الاجتماعیة، فمع ذلک لم تستنبط قاعدة واحدة وأصل عام فی الفقه فیما یتّصل بهذا الموضوع، وقد أدیّ هذا إلی ضعف التفکیر الاجتماعی لدی فقهائنا»(4).

وبالرغم من تشکیل الحکومة الشیعیة (لا حکومة المذهب الشیعی) فی إیران فی زمن الصفویین، وازدیاد اهتمام فقهاء الشیعة بالمسائل الحکومیة والسیاسیة فی الإسلام، ولکن مع فتور العلاقة بین الحکّام والفقهاء، فإنّ توجّه واهتمام الفقهاء انصرف مرّة أخری للمسائل الفردیة والعبادیة، ولکن ورود الاستعمار الغربی


1- انظر: دائرة المعارف الإسلامیة الشیعیة، ج 2، ص 150 و 151؛ مجلة فقه أهل البیت، السنة الأولی، العدد الأول، ص 35.
2- القواعد الفقهیّة، ج 1، ص 76.
3- صحیفة النور للإمام الخمینی، ج 20، ص 402 و 403( بالفارسیّة).
4- بررسی اجمالی مبانی اقتصاد اسلامی، ص 27( بالفارسیة).

ص: 130

بوجهین جدیدین وفّر مجالات جدیدة لاهتمام الفقهاء بهذا الجانب، وهذان الوجهان للاستعمار اللذان سببا فی تحرّک الفقهاء نحو المیدان الاجتماعی عبارة عن:

1. سعی المستعمرین للاستیلاء علی البلدان الإسلامیة.

2. سعی الاستعمار الجدید للسیطرة الثقافیة والاقتصادیة والسیاسیة علی المسلمین بأسالیب جدیدة ومن خلال الأیادی والعملاء الداخلیین.

ففی المجال الأوّل فإنّ حضور المستعمرین فی إیران والعراق أدّی إلی تصدّی فقهاء الشیعة لهؤلاء المستعمرین، وکان ذلک عاملًا مهمّاً لتدخّل فقهاء الشیعة فی المجالات الاجتماعیة وإصدار فتاوی تاریخیة فی هذا الشأن، أو التدخّل المباشر فی میدان الجهاد ومواجهة المستعمرین، ومن ذلک یمکن الإشارة إلی فتوی آیة اللَّه المیرزا محمّد تقی الشیرازی (م 1338) بالجهاد ضد الاستعمار البریطانی ومشارکته مع فقهاء آخرین فی الجهاد ضدّ بریطانیا(1).

وفی المجال الثانی أیضاً یمکن الاشارة إلی فتوی المیرزا الشیرازی الکبیر (م 1312) بتحریم التدخین، لغرض إبعاد بریطانیا عن إیران، وکذلک مساعدة الآخوند الخراسانی (م 1329) والمیرزا النائینی (م 1355) للنهضة الدستوریة فی إیران، ومخالفتهم للاستبداد القاجاری، ویعدّ الکتاب «تنبیه الأمة وتنزیه الملّة» للمیرزا النائینی الذی یقرّر ضرورة النهضة الدستوریة، علامة فارقة فی هذا المجال.

ویقع الإمام الخمینی قدس سره فی آخر حلقة من سلسلة هؤلاء الفقهاء حیث طرح مشروع الحکومة الإسلامیة ونظریة ولایة الفقیه، وبذلک شرع فی التصدّی للاستبداد الداخلی والاستعمار الخارجی، وأدّت حرکته هذه إلی إسقاط النظام الملکّی فی إیران وتشکیل الحکومة الإسلامیة.

علی أیّة حال، فقد ولدت مواجهات هذه السلسلة من فقهاء الشیعة لکلا وجهی الاستعمار واصطدام الثقافة الإسلامیة مع التمدّن الغربی، مساحات وسجالات جدیدة فی مجالات اجتماعیة وسیاسیة مختلفة، وخاصّة مع طرح مسائل جدیدة وإلقاء شبهات من قِبل المثقّفین المرتبطین فکریاً بعلماء الغرب، وفی مجال الفقه أیضاً ظهرت رؤی جدیدة للمسائل الفقهیة بین الفقهاء، وبالتالی شهد الفقه تحوّلات جدیدة وعمیقة فی مجال الاقتصاد والسیاسة والأحوال الشخصیة وأمثال ذلک.

ومن الموارد التی أفرزتها التحوّلات الجدیدة هو ما یتّصل بموضوع الحکومة الإسلامیة، ولایة الفقیه، الدیمقراطیة وحقّ الانتخاب، حکومة الشعب من وجهة نظر دینیة، الضمان الاجتماعی، المصارف، زرع الأعضاء، التلقیح، مصرف الدم، العلاقات الدولیة، حقّ ملکیة الدول بالنسبة للأجواء وأعماق الأرض والبحار، الملکیة المعنویة فیما یخصّ الاختراعات والاکتشافات، الآثار العلمیة والفنیة وأمثال ذلک.

ومع تشکیل الحکومة الإسلامیة فی إیران علی أساس فقه أهل البیت علیهم السلام فإنّ هذه السلسلة من البحوث والمواضیع الجدیدة والجدّیّة منحت للفقه الشیعی رونقاً خاصّاً ونشاطاً جدیداً.

ویمکن عدّ الفقهاء والعلماء- کالإمام الخمینی، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر، العلّامة الطباطبائی، آیة اللَّه مکارم الشیرازی، الشهید مرتضی المطهّری- من


1- انظر: أعیان الشیعة، ج 9، ص 192.

ص: 131

روّاد وأعلام هذه المجالات الفکریة المعاصرة.

إنّ کتباً من قبیل «کشف الأسرار» و «ولایة الفقیه» للإمام الخمینی، و «اقتصادنا» و «البنک اللاربوی» للشهید السیّد محمّد باقر الصدر، و «تفسیر المیزان» للعلّامة الطباطبائی، و «التفسیر الأمثل»، و «مجلة مکتب الإسلام»، و «أطروحة الحکومة الإسلامیة» الجزء العاشر من نفحات القرآن لآیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، و «نظام حقوق المرأة فی الإسلام»، «مسألة الحجاب»، و «الإسلام ومقتضیّات الزمان» وغیرها للعلّامة الشهید مرتضی المطهّری، کلّها نماذج بارزة لاهتمام هؤلاء العلماء بالحاجات الاجتماعیة والإجابة عن الشبهات وإدخال الفقه الإسلامی والمعارف الدینیة إلی میدان المجتمع، وفی هذا الإطار نشهد اهتماماً بالمسائل الجدیدة فیما یتّصل بقضایا المجتمع فی دائرة الفقه.

وبعد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران وتشکیل الحکومة الإسلامیة، فإنّ رؤیة الفقهاء والمفکّرین من أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام تعمّقت فی مجالات الفقه الإسلامی السیاسی الحکومی، وأدّی ذلک لتألیف وتدوین عشرات الکتب فی المجالات والمواضیع الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة.

خصائص المرحلة التاسعة:

1. استبدال النظرة الفردیة بالنظرة الاجتماعیة فی میدان الفقه والتفقّه.

2. ورود الفقه لمیدان قیادة المجتمع الإسلامی فی مسیرة مواجهة الاستعمار الخارجی والاستبداد الداخلی.

3. الإهتمام بالمسائل الدنیویة الجدیدة والأمور التی نتجت من تلاقح الحضارات وتصادم الثقافة الإسلامیة مع التمدّن الغربی الجدید.

4. امتداد المسائل الفقهیة إلی میادین التقنین وتأثّر المجالس التشریعة والتقنینیة بالفقه الإسلامی وعلم الحقوق الإسلامی.

5. تدوین الکتب فی مجالات الحکومة والسیاسة والأحوال الشخصیة والاقتصاد.

6. تدوین الموسوعات الفقهیة بشکل جدید.

إنّ الشکل الجدید لتدوین الموسوعات الفقهیة ینطلق من فهرسة جمیع الموضوعات والمسائل الفقهیة علی أساس حروف «الف باء»، ویمکن الإشارة فی هذا المجال إلی نماذج من ذلک.

1. موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت علیهم السلام.

2. الموسوعة الفقهیة المیسّرة(1).

3. دائرة معارف الفقه المقارن تحت إشراف آیة اللَّه مکارم الشیرازی.

أمّا خصوصیات دائرةالمعارف هذه فهی عبارة عن:

1. یقوم تدوین هذه الموسوعة علی أساس الفقه المقارن وطبقاً للفتاوی المشهورة لفقهاء الشیعة وأهل السنّة.

2. التوجّه الخاصّ لأحکام المذاهب غیر الإسلامیة، والأحکام الحقوقیة فی العالم المعاصر والقوانین العالمیة.

3. التوجّه الخاص للمسائل المستحدثة.

4. ذکر القواعد الفقهیة، الأصولیة، والرجالیة فی مکانها المناسب.


1- وقد دوّن علماء أهل السنّة موسوعتین فقهیّتین مهمّتین علی أساس« الف باء» الأولی موسوعة جمال عبدالناصر حیث صدر منها حتی الآن 20 جزءاً؛ ووصلت إلی کلمة« اقتناء» وبعد ذلک توقفت عن العمل، والآخری الموسوعة الفقهیّة الکویتیة حیث صدر منها حتی الآن 40 جزءاً.

ص: 132

5. الإجابة عن الشبهات فی ما یتّصل بالفقه.

6. الإهتمام البالغ بآیات الأحکام.

7. التوجّه الخاص لفلسفة الأحکام (فی کلّ باب یمکن التوصّل إلیه).

والجدیر بالذکر أنّ دائرة المعارف هذه قد دوّنت علی أساس الترتیب السائد والتقلیدی لأبواب الفقه ولیست علی شکل (الف باء)، بالرغم من وجود فهرسة ألفبائیة للموضوعات فی نهایة کلّ جزء منها، وکذلک فی ختام دائرةالمعارف بشکل جامع، لیتمکن المحقّقون من تحصیل الموضوعات التی یحتاجونها بیسر.

إنّ «موسوعة الفقه الإسلامی المقارن تدوّن بواسطة جماعة من العلماء الفضلاء تحت إشراف آیة اللَّه مکارم الشیرازی (مدّ ظلّه العالی). بأمل أن تکون خطوة أساسیة فی نشر الفقه الإسلامی بأسلوب جدید وشامل وجامع، وتکون مورد استفادة المحقّقین والباحثین (وهذا الکتاب هو أحد عناصر دائرة المعارف هذه).

ملاحظة مهمّة:

هنا نری من الضروریّ التذکیر بهذه النقطة، وهی أنّ ورود الفقه فی فضاء الحکومة والمسائل الاجتماعیة المتعلّقة بها لیس بمعنی تسییس الأحکام الدینیة وخضوعها لظاهرة العلمنة، أی أن نتحرّک فی دراسة المسائل الفقهیة من موقع تطبیق الأحکام الشرعیة علی میول الأفراد، وخاصّة المتأثّرین بالفکر الغربی، وبذلک یکون الفقه فی المرتبة الأولی سیاسیاً، ثمّ فی المرتبة الثانیة دینیاً وإسلامیاً، أو بعبارة أخری: إنّ الکثیر من الأحکام الفقهیة والشرعیة تتعلّق بالزمان القدیم وینبغی استبدالها بما یتناسب من الأحکام والقوانین المعاصرة.

وللأسف فإنّ بعض العلماء المعاصرین الذین لا یملکون معرفة فقهیة عمیقة تورّطوا فی هذا المنزلق الفکریّ وشکّکوا فی أصالة الفقه الإسلامی، وقد تنبّه الإمام الخمینی قدس سره لمثل هذا الانحراف عن جادّة الفقه الإسلامی الأصیل ولذلک کان یؤکّد علی دراسة الفقه المعاصر علی أساس مبانی الفقه الجواهری (إشارة لکتاب «جواهرالکلام» للمرحوم الشیخ محمّد حسن النجفی رحمه الله) وإبقاء الأصول والقواعد الفقهیة المحکمة علی حالها(1) ولا ینبغی التأثّر فی عملیة التفقّه بذوق واستحسان المتأثّرین بالغرب وأفکارهم وسیاستهم.

إنّ الوظیفة الإلهیّة لجمیع فقهاء الإسلام هی حفظ الفقه الأصیل فی هذا العصر وفی ذات الوقت الإجابة عن المسائل المستحدثة ومقتضیات العصر والزمان.

وسیأتی توضیح أکثر فی هذا المجال فی بحث دور الزمان والمکان فی الاجتهاد الفقهیّ من هذا الکتاب.

المراحل الستّ لفقه أهل السنّة

اشارة

یختلف المحقّقون والعلماء الذین یبحثون المراحل الفقهیة لأهل السنّة فیما بینهم حول عدد وکیفیة تقسیم هذه المراحل التاریخیة.

ویذهب الأستاد محمّد مصطفی الشلبی فی کتابه المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی إلی «هذا (بعض المؤرخین) یقسّمها إلی أربعة أدوار، وذاک


1- ورد نص کلام الإمام الخمینی قدس سره بهذه الصورة:« إنی أعتقد بالفقه المتداول والاجتهاد الجواهری، و لا اجوز التخلّف عنه»( صحیفة النور للإمام الخمینی، ج 12، ص 289).

ص: 133

یقسّمها إلی خمسة، وثالث یقسّمها إلی ستّة، ورابع یقسّمها إلی سبعة أدوارٍ».

وقد قسّم الشلبی نفسه المراحل التاریخیة للفقه إلی أربع مراحل (1).

وکذلک قسّم الحجوی الثعالبی (2) (م 1376) أیضاً مراحل الفقه لأهل السنة إلی أربع مراحل (3).

وبعض آخر من محقّقی أهل السنّة کالشیخ محمّد خضری بک (4) (م 1345) قسّم مراحل الفقه طبقاً للحوادث والمناسبات الواقعة فی العصور المختلفة والتی أدّت إلی تکامل الفقه. وقد ذکر أسماء الفقهاء الذین سعوا فی إثراء وترشید المیراث الفقهی فی کلّ عصر من العصور.

وقد قسّم مراحل الفقه لأهل السنّة إلی خمس مراحل (5).

علی أیّة حال فإنّنا سندرس تاریخ فقهاء أهل السنّة ومسیرة التحوّل والتغییر فیه من خلال تقسیمه إلی ستّ مراحل، لأنّ هذا التقسیم هو أقرب للواقع وأدّق من حیث معرفة تفاصیل هذه العصور والمراحل.

ویری بعض محقّقی أهل السنّة أنّ المرحلة الأولی للفقه هی عبارة عن عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وهو عصر تکوین الفقه، ولکن بما أنّ عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، یمثّل عصر التشریع، وهو مشترک بین جمیع المذاهب الإسلامیة، فلذلک نبحث فی دراستنا هذه العصور التالیة لعصر الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.

المرحلة الأولی: عصر الصحابة و التابعین

اشارة

ویبدأ هذا العصر بعد رحیل نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله ویستمرّ إلی بدایات القرن الثانی. فبعد رحلة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله توجّهت جماعة من المسلمین لاقتباس العلوم الدینیة وتعلّم أحکامهم الشرعیة نحو الصحابة وکانوا یستفتونهم فی مسائلهم.

وینقل ابن حزم الأندلسی (م 456) فی کتابه «الإحکام فی اصول الأحکام» أسماء الصحابة بترتیب کثرة ما نقل عنهم من الفتاوی (6).

ومن بین هؤلاء کان علیّ بن أبی طالب، الذی یمثّل مرجع الناس فی تشخیص الأحکام الشرعیة، یمتاز بخصائص فریدة، یقول ابن عبّاس:

«إذا حَدَّثنا ثقةٌ عن علیٍّ بفُتْیا لا نَعْدُوها».(7)

ونقل عن «عائشة» بشکل متواتر أنّها قالت:

«إنّ عَلِیّاً أعْلَمُ النّاس بِالسُّنَّةِ»(8).

وکذلک نقل عن «عمر» أنّه قال:

«أقضانا علیٌّ»(9).

ویقول مؤلّف کتاب «الاستیعاب» بسنده عن المغیرة أنّه قال: «

لَیس أحَدٌ مِنهُم أقوی قَولًا فِی الفرائِضِ


1- المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، ص 49 و 50( ورد فی مشروح هذه الدورة من ص 50 إلی 150).
2- محمّد بن حسن بن العربی بن محمّد الحجوی الثعالبی من علماءالمالکیّة السلفیّة فی المغرب. وله کتب عدیدة أهمها: الفکر السامی فی تاریخ الفقه الإسلامی طبع فی أربعة أجزاء( الأعلام للزرکلی، ج 6، ص 96).
3- الفکر السّامی، ج 1، ص 3 وما بعده.
4- محمّد بن عفیفی الباجوری، المعروف ب« الخضری» فقیه، أصولی، مؤرّخ، أدیب؛ ولد فی القاهرة وتوفی فیها. ومن تألیفاته: اصول الفقه وتاریخ التشریع الإسلامی( معجم المؤلّفین، ج 10، ص 295).
5- انظر إلی کتابه، تاریخ التشریع الإسلامی. وتبع الأستاد مصطفی الزرقاءفی کتابه: المدخل الفقهی العام اسلوب الشیخ محمّد خضری بک أیضاً.
6- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 5، ص 87 و 88.
7- الطبقات الکبری، ج 2، ص 338.
8- الاستیعاب، ج 3، ص 206.
9- صحیح البخاری، ج 5، ص 149؛ طبقات ابن سعد، ج 2، ص 339؛ الاستیعاب، ج 3، ص 205؛ تاریخ ابن عساکر، ج 3، ص 28.

ص: 134

مِن علیٍّ»(1).

ویستفاد من طائفة أخری من الصحابة أنّهم کانوا فقهاء أیضاً وکانوا مراجع المسلمین فی الفقه، ومن بین هؤلاء نشیر إلی عائشة، عمر، ابن عبّاس، ابن مسعود وزید بن ثابت (2).

روّاد من التابعین:

ومن بین التابعین- وهم الذین لم یدرکوا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؛ ولکنّهم اقتبسوا علومهم من صحابة الرسول- هناک جماعة اشتهروا بالفتوی أیضاً.

ویذکر ابن حزم الأندلسی فی کتابه «الإحکام» وابن واضح (/ الیعقوبی، م 284) فی «تاریخه» أسماء الأشخاص الذین جاءوا بعد الصحابة وأخذ الناس عنهم الفتوی، وبالطبع فإنّ ابن حزم یذکر هؤلاء علی أساس المدن التی کانوا یقطنونها، من قبیل أصحاب الفتوی فی مکّة، المدینة، البصرة، الکوفة، الشام وغیرها، لکن ابن واضح یذکر هؤلاء حسب أیّام خلافة الخلفاء، من قبیل فقهاء أیّام خلافة عثمان، وفقهاء أیّام خلافة معاویة إلی فقهاء أیّام خلافة محمّد الأمین من خلفاء بنی العبّاس (3).

ومن أشهر هؤلاء: سعید بن المسیّب (م 94)؛ وهو من فقهاء رموز مدرسة الحدیث ویقول عنه «ابن حَجَر» (م 852): «ما رأیت أحدّ قطّ أعلم بالحلال والحرام منه (وهو من أهل المدینة ومن أکابر التابعین ولیس فیهم أعلم منه)»(4).

وطبقاً لنقل «الیعقوبی» فقد کان سعید بن المسیّب من فقهاء عصر عبدالملک بن مروان والولید بن عبدالملک (5).

والآخر: سعید بن جبیر (م 95) وهو من تابعی الکوفة وقد شهد له جماعة بالفقه والعلم. وعندما کان أهل الکوفة یسألون ابن عبّاس عن مسائلهم الدینیة کان یقول لهم: «ألیس سعید بن جبیر بینکم؟»(6). ویعتقد المؤرّخ المعروف «الیعقوبی» أنّه من الفقهاء الذین کانوا یفتون الناس فی عصر الولید بن عبدالملک (7).

ویقول عنه ابن حجر: «لقد کان فقیهاً معتمداً»(8) ولکنّه استشهد أخیراً بسبب حبّه لعلیّ وأولاده علیهم السلام علی ید الحجّاج بن یوسف الثقفی (9).

ومن الفقهاء التابعین: إبراهیم بن یزید بن قیس النخعی (م 96). وکان له مذهب خاصّ فی الفقه. وقد أسس مدرسة الرأی والقیاس، وهو استاذ حمّاد بن أبی سلیمان (م 120)، وبدوره فإنّ حمّاد استاذ أبی حنیفة (م 150) مؤسّس المذهب الحنفی (10).

ویعتقد النخعی هذا بأنّ الأحکام الشرعیة لها علّة وحکمة، ویجب علی الفقیه فهم هذه الحکمة لیقرّر الأحکام الشرعیة حول هذه العلل، خلافاً لمذهب داود الظاهری (م 270) وسعید بن المسیّب، حیث کانا یعتقدان بوجوب العمل فقط بظاهر الکتاب والسنّة ولا ینبغی التوجّه نحو علل الأحکام والعمل بالقیاس، وبعد


1- الاستیعاب، ج 3، ص 207.
2- انظر: موسوعة الفقه الإسلامی( موسوعه جمال عبدالناصر)، ج 1، ص 25؛ الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 1، ص 25؛ تاریخ التشریع الإسلامی، ص 82- 84.
3- انظر: الإحکام فی أصول الأحکام، ج 5؛ تاریخ الیعقوبی، ج 2.
4- تهذیب التهذیب، ج 4، ص 76.
5- تاریخ الیعقوبی، ج 2، ص 282 و 292.
6- تهذیب التّهذیب، ج 4، ص 11.
7- تاریخ الیعقوبی، ج 2، ص 292.
8- تهذیب التّهذیب، ج 1، ص 349.
9- انظر: بحار الأنوار، ج 46، ص 136؛ أعیان الشّیعة، ج 7، ص 236.
10- انظر: الأعلام للزرکلی، ج 1، ص 80؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 78؛ الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 42.

ص: 135

الکتاب والسنّة یجب الأخذ بما أجمع علیه الصحابة أو العمل بإجماع العلماء.

خصائص المرحلة الأولی:

إنّ أهم میزة وخصوصیة لهذه المرحلة هی ظهور مدرستین: مدرسة الحدیث، ومدرسة الرأی، وقد کان فقهاء مدرسة الحدیث یهجمون علی جماعة الرأی ویرون أنّ عقائدهم مخالفة لآراء الصحابة. وقد أورد ابن القیّم بعض کلمات الصحابة والتابعین فی نقدهم للعقیدة الثانیة ومن ذلک:

1. إنّ الخلیفة الأوّل أبابکر قال: «أیّ أرضٍ تُقلّنی وأیّ سماءٍ تظلّنی إن قلت فی آیةٍ من کتاب اللَّه برأیی أو بما لا أعلم».

2. ویقول عمربن الخطاب: «إتّقوا الرأی فی دینکم».

3. ویقول علیّ علیه السلام: «لو کان الدین بالرأی (أی القیاس)، لکان أسفل الخفّ أولی بالمسح من أعلاه ...»(1).

وهکذا أورد کلمات بعض التابعین فی الرّد علی أهل الرأی والنظر(2).

وعلی أیّة حال فإنّ أتباع الرأی والنظر کانوا یتحرّکون علی مستوی العمل بالقیاس والاستحسان فی الکشف عن الحکم الشرعی وإصدار الفتوی علی هذا الأساس.

المرحلة الثانیة: عصر ظهور المذاهب الفقهیّة

اشارة

ویبدأ هذا العصر من بدایات القرن الثانی، ویستمرّ إلی بدایة القرن الرابع، وفی نهایة القرن الأول وبدایة القرن الثانی ظهر جیل من الفقهاء عملوا علی تدوین الفقه وزیادة الفروع الفقهیة.

ومن هنا فقد کثرت المذاهب الفقهیة، فکلّ مدینة کان لها فقیه یری أنّ فتاواه وآراءه أفضل من آراء سائر الفقهاء فی تلک الدیار، وکلّ عالم اختار منهجاً خاصّاً به فی استنباط الأحکام، وقیل: «إنّ المذاهب المختلفة فی ذلک العصر بلغت أکثر من مائة مذهب»(3).

ویمکن تقسیم مذاهب هذاالعصر من زاویة معینة إلی قسمین: «المذاهب المنقرضة» و «المذاهب غیر المنقرضة».

المذاهب الفقهیة المنقرضة:

والمقصود من انقراض هذه المذاهب أنّها لم تستمرّ فترة طویلة، بل انتهت وزالت بعد مدّة- قلیلة أو کثیرة- وأهمّ هذه المذاهب کالتالی:

1. مذهب الحسن البصری وهو الحسن بن أبی الحسن الیسار المعروف ب الحسن البصری (م 110) وهو من التابعین. وقیل عنه أنّه: «حضر عند مائة وخمسین صحابیاً وقد جمع بعض العلماء فتاواه فی سبعة مجلدات»(4).

2. مذهب ابن أبی لیلی وهو محمّد بن عبدالرحمن ابن أبی لیلی (م 148) ویعدّ من أصحاب الرأی؛ وهو


1- لعل ذلک بسبب أنّ الغایة من المسح أو الغسل تطهیر النعل من الأوساخ، ومن الطبیعی أنّ التلوث فی باطن النعل أکثر من ظاهرها( علی أساس فتوی أهل السنّة بکفایة المسح علی الحذاء فی بعض الحالات) انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 471 وما بعده).
2- أعلام الموقّعین، ج 1، ص 43- / 60.
3- دائرة المعارف الإسلامیة الکبری ج 6، ص 605( بالفارسیة).
4- أعلام الموقعین، ج 1، ص 20؛ وکذلک انظر: طبقات ابن سعد، ج 7، ص 156؛ وفیات الأعیان، ج 2، ص 69؛ تهذیب التّهذیب، ج 2، ص 263.

ص: 136

قاضی ومفتی معروف بالکوفة. قیل عنه: «اقتبس علمه من مائة وعشرین صحابیاً»(1).

3. مذهب الأوزاعی عبدالرحمن الأوزاعی (م 157) صاحب مذهب خاصّ انتشر فی الشام ولکنّ أتباعه انقرضوا فی القرن الرابع الهجری، وکذلک فإنّ هذا المذهب کان هو السائد مدّة مائتی عام بین أهالی الأندلس، وبعد ذلک غلب علیه المذهب المالکی (2).

4. مذهب سفیان الثوری أبوعبداللَّه سفیان بن سعید الثوری (م 161) من أهل الکوفة. وکان یعیش مستترّاً عن أعین السلطة، وقد أخذ جماعة من أهل الیمن وإصفهان والموصل بفتاواه، بقی مذهبه مدّة قصیرة وانقرض (3).

5. مذهب لیث بن سعد؛ وهو لیث بن سعد الفهمی (م 175) من فقهاء مصر، والذی قال عنه الشافعی:

«إنّه أفقه من مالک». وبسبب عدم تدوین مذهبه وقلّة أتباعه انقرض هذا المذهب أیضاً(4).

6. المذهب الظاهری ومؤسس هذا المذهب، أبوسلیمان داود بن علیّ بن خلف الظاهری (م 270)، فقد کان فی البدایة من أتباع المذهب الشافعی إلی أن وصلت إلیه الزعامة العلمیة فی بغداد، وحینئذٍ اختار لنفسه مذهباً ونهجاً خاصّاً، یقوم علی أساس العمل بظاهر الکتاب والسنّة، وبالطبع بشرط أن لا یقوم دلیل علی خلاف الظاهر من الکتاب والسنّة أوالإجماع، وکان یعمل بالإجماع عند عدم وجود النصّ ویجتنب القیاس، ویری أنّ عمومات الکتاب والسنّة تکفی للإجابة عن کلّ مسألة. وقد استمرّ مذهبه إلی أواسط القرن الثانی ثمّ انتهی، وکان أهالی بغداد، وقلیل من أهالی فارس وأهالی أفریقیا والأندلس علی مذهبه.

یقول ابن خلدون (م 808): إنّ هذا المذهب قد زال الآن من الوجود، رغم أنّ ابن حزم الأندلسی تبع فیما بعد المذهب الظاهری، بالرغم من مخالفته لمؤسس هذا المذهب فی موارد عدیدة(5).

7. مذهب الطبری مؤسس هذا المذهب، هو المفسّر والمؤرّخ المعروف أبوجعفر محمّد بن جریر الطبری (م 310). وقد اکتسب فقهه من داود وتعلّم أیضاً فقه أهل العراق ومالک والشافعی، وکان یعتقد بأنّ أحمد ابن حنبل، لیس فقیهاً؛ بل هو مجرّد محدّث.

وقد کان للطبری مذهب خاصّ فی الفقه انتشر فی بغداد؛ وقد کانت له ولأتباعه تصنیفات وکتب فی الفقه لم تصل إلینا. واستمرّ مذهبه إلی ما بعد النصف الثانی من القرن الخامس ثمّ أفل وانقرض، ولم یبق منه سوی آراء الطبری فی الکتب (6).

المذاهب غیر المنقرضة:
اشارة

ومرادنا من المذاهب غیر المنقرضة، مجموعة


1- أعلام الموقعین، ج 1، ص 21؛ انظر: تهذیب التّهذیب، ج 9، ص 301؛ الطبقات الکبری، ج 6، ص 358، طبقات الفقهاء الشیرازی، ص 84.
2- موسوعة جمال عبدالناصر، ج 1، ص 34؛ الأعلام للزرکلی، ج 3، ص 320؛ طبقات الفقهاء، الشیرازی، ص 76.
3- موسوعة جمال عبدالناصر، ج 1، ص 34؛ تاریخ بغداد، ج 9، ص 151- / 160؛ الطبقات الکبری، ج 6، ص 371؛ وفیات، الاعیان ابن خلکان، ج 2، ص 386؛ تهذیب التّهذیب، ج 4، ص 111.
4- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 174؛ طبقات ابن سعد، ج 7، ص 517؛ وفیات الأعیان، ج 4، ص 127.
5- انظر: موسوعة جمال عبدالناصر، ج 1، ص 34؛ طبقات الفقهاء، الشیرازی، ص 92؛ میزان الاعتدال، ج 1، ص 15؛ تاریخ بغداد، ج 6، ص 369- / 375.
6- موسوعة جمال عبدالناصر، ج 1، ص 34؛ وفیات الأعیان، ج 1، ص 456؛ تاریخ بغداد، ج 2، ص 162.

ص: 137

المذاهب الفقهیة لدی أهل السنّة التی بقی العمل بها من قبل المسلمین السنّة لحدّ الآن، وهذه المذاهب عبارة عن: الحنفی، المالکی، الشافعی والحنبلیّ.

1. المذهب الحنفی
اشارة

ومؤسّس هذا المذهب، أبوحنیفة النعمان بن ثابت.

ولد فی الکوفة وکبر وترعرع هناک، والمعروف أنّ ولادته کانت عام 80 هجریة ووفاته عام 150 هجریة فی بغداد. وکان أبوحنیفة تلمیذاً لحمّاد بن أبی سلیمان الکوفیّ (م 120).

وینقل الخطیب البغدادی عن «أبی مطیع» أنّ أباحنیفة قال: دخلت علی أبی جعفر أمیرالمؤمنین (المنصور العباسیّ)، فقال لی: یا أباحنیفة! عمّن أخذت العلم؟ قال: قلت: عن حمّاد عن إبراهیم النخعی (م 96) عن عمر بن الخطّاب وعلیّ بن أبی طالب وعبداللَّه بن مسعود وعبداللَّه بن عباس»(1).

تتلمذ أبوحنیفة عند عطاء، عطیّة العوفی، ونافع وجماعة آخرین (2).

وکذلک تتلمذ عند الإمام الباقر(3).

وتتلمذ عند الإمام الصادق علیهما السلام واستفاد منه استفادة کبیرة، والتعبیر السابق

«لَولا السَّنَتان لَهَلک النُّعمان»

خیر دلیل علیه.

وقد نقل تلمیذ أبی حنیفة، أی أبویوسف، ومحمّد بن الحسن الشیبانی فی مُسنده روایات کثیرة بعنوان مستند فتاوی أبی حنیفة(4).

وأشهر أتباعه وتلامیذه هم: أبو یوسف، یعقوب بن إبراهیم الکوفی (م 182) قاضی القضاة فی عصر هارون الرشید، ومحمّد بن الحسن الشیبانی (م 189)، وأبوالهذیل، زفر بن هذیل بن قیس الکوفی (م 158) والحسن بن زیاد (م 204)(5).

وقد اهتّمت الحکومة العثمانیة بهذا المذهب اهتماماً بالغاً وأعلنت عن کونه مذهباً رسمیاً لدی الخلافة العثمانیة، ومن هنا فإنّ المذهب الحنفی یتمتّع بنفوذ واسع فی ترکیا، وآسیا الوسطی، الشام، مصر، تونس، الیمن، العراق والکثیر من البلدان الأخری.

مصادر فقه أبی حنیفة:

کان أبوحنیفة یفتی علی أساس کتاب اللَّه وسنّة النبیّ- بشرط أن تکون متواترة أو أنّ جمیع العلماء فی جمیع الأمصار یعملون بها، أو أنّ أحد الصحابة قد عمل بها أمام جماعة آخرین من الصحابة ولم یعترضوا علیه، فلو لم یجد فی السنّة، فإنّه یعمل بإجماع الصحابة، وعند عدمه یتمسّک بالاجتهاد والقیاس، وفی مرتبة متأخّرة یعمل بالاستحسان.

وبما أنّ أباحنیفة کان متشدّداً بالنسبة للعمل بالسنّة، لکن لم یثبت لدیه سوی أحادیث قلیلة، فإنّه کان یعمل بشکل واسع بالقیاس والاستحسان (6). وهذا العمل سبّب حدوث نزاعات وسجالات واسعة بینه وبین فقهاء عصره، من جملة ذلک ما دار بینه وبین سفیان بن سعید الثوری (م 161) وهو من علماء الکوفة، حیث أدّی


1- تاریخ بغداد، ج 13، ص 334.
2- المصدر السابق، ص 325.
3- تهذیب الکمال، ج 29، ص 419.
4- أدوار علم الفقه، ص 42.
5- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 44.
6- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 120 و 121؛ الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 43.

ص: 138

الجدال بینهما إلی نزاع وکراهیة راسخة، لأنّ سفیان کان من مؤیّدی الحدیث، وأبوحنیفة من أهل الرأی والقیاس. وکذلک ما حدث من سجال بینه وبین شریک بن عبداللَّه النخعی، قاضی الکوفة (م 177) ومحمّد بن عبدالرحمن بن أبی لیلی (م 148) أیضاً.

وقد ذهب ابن حزم إلی تکذیب مقولات أبی حنیفة وأتباعه، وتهجّم الخطیب البغدادی بشدّة فی تاریخه علی أبی حنیفة وأتباعه بکلمات قاسیة ورکیکة(1).

والمعروف أنّ أباحنیفة لم یعتمد علی السنّة سوی فی موارد قلیلة، لأنّ قبول الأحادیث الواردة فی السنّة یخضع لشروط خاصّة ومعقّدة عنده (2).

یقول العالم المعروف، ابن خلدون: «إنّ أباحنیفةکان یری صحّة سبعة عشر حدیثاً عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ویعتمد علیها، لأنّه کان صعباً فی أمر الحدیث»(3).

2. المذهب المالکی
اشارة

وینتسب هذا المذهب إلی مالک بن أنس بن أبی عامر الأصبحی، (المولود عام 93 للهجرة فی المدینة والمتوفی عام 179 للهجرة فی المدینة نفسها).

وقد عاش فترة من عمره فی زمن الأمویین وقسم آخر فی حکومة العباسیین.

وقد أخذ مالک فقهه من الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام، وربیعة بن أبی عبداللَّه، المعروف ب «ربیعة الرأی» (م 136) ومن التابعین، وسمع الحدیث من نافع (غلام عبداللَّه بن عمر) والزُهری.

ومن أشهر تلامیذه؛ الشافعی (م 204)؛ وعبدالرحمن بن قاسم (م 191)؛ وأسد بن فرات (م 213) وعبداللَّه بن وهب (م 197). وقد انتشر مذهبه فی شمال آفریقا، وقطر، والبحرین والکویت.

وله کتاب معروف باسم «موطّأ مالک» وهو کتاب حدیثیّ وفقهیّ، کتبه بطلب من المنصور العبّاسی. وقد سعی خلفاء بنی العبّاس کثیراً فی تکریمه وتقدیره ومنحوه ألقاباً کثیرة، حتی أنّهم قالوا: إنّ رسول اللَّه سمّاه بهذا الاسم، ولیس بعد القرآن مثله (4).

المصادر الفقهیة لمالک:

یعتمد مالک فی فتاواه، مضافاً إلی الکتاب والسنّة، بعمل أهل المدینة وفتاوی الصحابة، وفی مرتبة لاحقة یعمل بالقیاس والمصالح المرسلة أیضاً(5). ولکن یقول البعض: إنّه یعمل بعد الکتاب والسنّة، بالإجماع والقیاس وعمل أهل المدینة وفتوی الصحابیّ والاستحسان (6).

3. المذهب الشافعی
اشارة

وینتسب هذا المذهب إلی أبی عبداللَّه، محمّد بن إدریس بن عبّاس بن عثمان بن شافع، المعروف ب الشافعی.


1- أدوار علم الفقه، ص 146 و 147.
2- تاریخ التشریع الإسلامی، ج 2، ص 81.
3- تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 796( الفصل السادس، علوم الحدیث) وإن نقل ابن خلدون هذا الکلام عن أبی حنیفة، ولکن فی مقام العمل والاستنباط استفاد فقهاء مذهب الحنفی من الروایات بشکل واسع( المختار ابن عابدین، بدیع الصنائع، المبسوط السرخی).
4- انظر: تهذیب التّهذیب، ج 10، ص 5؛ وفیات الأعیان، ج 4، ص 135؛ الاعلام للزرکلی، ج 2، ص 126؛ تاریخ التشریع الإسلامی، ج 2، ص 99 وما بعده؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 129- 136؛ المدخل إلی الفقه الإسلامی، ص 184- 189؛ الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 45 و 46.
5- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 133.
6- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 46.

ص: 139

ولد فی عام 150 الهجری فی «غزّة» وتوفّی فی مصر فی عام 204 هجری. وهو من جهة تلمیذ مؤسس مدرسة الحدیث مالک بن أنس، ومن جهة أخری من تلامیذ إبراهیم بن محمّد بن یحیی المدینی الذی هو بدوره تلمیذ الإمام الصادق علیه السلام. وقد درس أیضاً عند محمّد بن الحسن الشیبانی تلمیذ أبی حنیفة(1).

إنّ أکثر روایات الشافعی أخذها عن إبراهیم بن محمّد، تلمیذ الإمام الصادق. ویعدّ المذهب الشافعی الحدّ الفاصل بین المذهب الحنفی والمالکی.

وقیل: إنّ أشهر تلامذته، یوسف بن یحیی (م 231)؛ و أحمد بن حنبل (م 241)؛ واسماعیل بن یحیی (م 264) وربیع بن سلیمان بن عبدالجبار (م 270)(2).

وقد انتشر المذهب الشافعی علی ید أتباعه وتلامیذه فی الکثیر من البلدان الإسلامیة، وتوغّل فی مصر والعراق وخراسان وما وراء النهر، ویعتبر منافساً للمذهب الحنفی (3)، وللمذهب الشافعی أتباع کثیرون فی العصر الحاضر فی کلّ من مصر، الأردن، سوریة، لبنان، العراق، الهند وأندنوسیا(4).

المصادر الفقهیة للشافعی:

ویعتمدالشافعی فی فتاواه، علی الکتاب، السنّة، الإجماع والقیاس؛ ویری الشافعی حجیّة خبر الواحد إذا أخبر به الثقة وإن لم یکن خبراً مشهوراً (خلافاً لرأی أبی حنیفة) وحتی لو لم یکن موافقاً لعمل المدینة (خلافاً لمنهج مالک).

وبالنسبة للقیاس أیضاً فإنّه یملک أصلًا معیّناً ویمتد بجذوره إلی الکتاب والسنّة فهو حجّة بنظره. ولکنّه لایری الاستحسان حجّة- خلافاً لمنهج أبی حنیفة ومالک- ویقول فی هذا الصدد:

«مَن استَحْسَن فقد شَرّع»(5)

وکذلک لا یری حجّیة المصالح المرسلة وعمل أهل المدینة(6)، وقد کتب کتاباً فی الردّ علی العمل بالاستحسان سمّاه «إبطال الإستحسان» وفی الردّ علی المصالح المرسلة کتب کتاباً سمّاه «الاستصلاح» وفی کتابه المعروف «الامّ» نفی حجّیة عمل أهل المدینة(7).

والجدیر بالذکر أنّ الشافعی أورد فی کتابه «الامّ» فتاوی جدیدة وأعاد النظر فی آراء فقهیة متعدّدة(8).

وصرّح بعض علماء أهل السنّة بأنّ فقه الشافعی أقرب لفقه الشیعة الإمامیّة من غیره، وموارد الاختلاف بینه وبین الفقه الشیعی أقلّ بالنسبة لغیره من المذاهب الفقهیة الأخری (9).

4. المذهب الحنبلی

ومؤسّس هذا المذهب هو أبوعبداللَّه، أحمد بن حنبل بن هلال الشیبانی. وقد ولد فی بغداد عام 164 وتوفی فیها عام 241.

وقد کانت له عدّة رحلات علمیة إلی الکوفة، البصرة، مکّة، المدینة، الیمن والشام، وتتلمذ علی ید علماء عصره. ورغم أنّه تعلّم الفقه من الشافعی إلّاأنّ


1- أدوار علم الفقه، ص 157.
2- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 51 و 52.
3- تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 804.
4- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 143.
5- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 51؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 139 و 140.
6- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 51؛ المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، ص 196.
7- أدوار علم الفقه، ص 159.
8- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 51.
9- المصدر السابق، ص 59.

ص: 140

عدد أساتیذه بلغ مائة شخص (1). ویعدّ من المحدّثین الکبار لدی أهل السنّة، ویشهد مسنده علی سعة اطّلاعه فی مجال الحدیث. فقد نقل أحمد فی مسنده أکثر من 40 ألف حدیث وقد کان یعمل أیضاً بالحدیث المرسل والضعیف (2).

ومن أشهر تلامذته إبنه صالح بن أحمد بن حنبل (م 266)، وابنه الآخر عبداللَّه بن أحمد بن حنبل (م 290) وعبدالملک بن عبدالحمید بن مهران (م 274) وأحمد بن محمّد بن الحجّاج (3).

وقد ظهر مذهبه هذا فی بغداد وامتدّ إلی الشام، وفی العصر الحاضر فإنّ مذهب أغلب أهالی الحجاز، قطر، فلسطین والبحرین هو المذهب الحنبلیّ (4).

المصادر الفقهیة لأحمد بن حنبل:

إنّ منهج أحمد بن حنبل فی عملیة الاستنباط الفقهیّ تتمثّل فی الاستفادة فی المرتبة الأولی من نصوص الکتاب والسنّة، وبالنسبة للسنّة فیری صحّة الاستفادة من الأحادیث المرسلة والضعیفة، وعند التعارض بین کتاب اللَّه والسنّة فإنّه یری تقدیم کتاب اللَّه، وإن فقدت أحادیث السنّة فإنّه یتمسّک بفتاوی الصحابة، وفی حال وجود اختلاف بین الصحابة فإنّه یرجح القول الذی هو أقرب لکتاب اللَّه وسنّة نبیّه، فإن لم یجد قولًا قریباً من الکتاب والسنّة فإنّه ینقل أوجه الخلاف بین الصحابة فی تلک المسألة ولا یختار رأیاً منها. وکان یقدّم الحدیث المرسل علی القیاس، وفی صورة عدم عثوره علی نصّ من الکتاب والسنّة أو من کلمات الصحابة، فإنّه یعمل بالقیاس ثمّ بالاستصحاب، وسدّ الذرائع، والمصالح المرسلة.

وینقل أحمد بن حنبل فی کتابه «الخلال» عن الشافعی أنّه سأل الشافعی عن القیاس، فقال: یجوز العمل به عند الضرورة(5).

خصائص المرحلة الثانیة:

إنّ أهم خصائص وممیّزات هذه المرحلة کالتالی:

1. انفصال علم الفقه عن سائر العلوم واستقلاله.

2. اتّساع العمل بمنهج الاستدلال العقلیّ فی الفتوی وعلی أساس الرأی، لأنّ فقهاء أهل السنّة واجهوا فی مجتمعاتهم أسئلة وعلامات استفهام جدیدة، وبما أنّهم لم یملکوا جواباً عنها من الکتاب والسنّة فإنّ الکثیر منهم اتّجه نحو العمل بالرأی والقیاس وأمثال ذلک.

3. اتّساع تنوّع المذاهب الفقهیة فی هذه المرحلة، فعلی أساس ما نقل فی بعض المصادر، فقد کان هناک 138 مذهباً فقهیاً فیما بین القرن الثانی وإلی أواسط القرن الرابع (6).

4. ومن أهمّ ممیّزات هذا العصر، کثرة الآراء والفتاوی فی مسألة واحدة، وذلک یعود إلی اختلاف مصادر الفتوی والاستنباط(7)، وهذا الأمر مهّد الأرضیة لحصر الحکّام المذاهب فیما بعد، وسیأتی تفصیل الکلام فی هذا الموضوع فیما بعد إن شاء اللَّه.


1- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 53.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق، ص 54.
4- موسوعة جمال عبدالناصر، ج 1، ص 36؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 148.
5- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 145؛ المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، ص 203.
6- دائرة المعارف الإسلامی الکبیر، ج 6، ص 605.
7- انظر: تاریخ الفقه الإسلامی، ص 89.

ص: 141

المرحلة الثالثة: عصر توقف حرکة الإجتهاد

اشارة

(أو عصر تقلید المذاهب الأربعة)

ویبدأ هذا العصر من تاریخ الفقه لدی أهل السنّة من بدایة القرن الرابع وحتّی أواسط القرن السابع حیث استمرّ إلی سقوط دولة بنی العباس، فقد کان العلماء والناس جمیعاً مقلِّدین لأئمّة المذاهب الأربعة المعروفة.

وفی هذه الأجواء فإنّ الوحید الذی عمل بالاجتهاد هو محمّد بن جریر الطبری (م 310)، بمعنی أنّ جمیع العلماء کانوا یسعون فی حرکتهم العلمیة والفقهیة لفهم کلام أئمّة المذاهب لا غیر، ومن هنا فقد لبست کلمات الأئمّة الأربعة ثوب القداسة وکان یتعامل معها کأنّها وحی منزل، وکان علماء الدین لا یتحرکون من موقع الاجتهاد إلّافی إطار هذه المذاهب.

یقول الاستاذ «خضری بک فی هذا الصدد:

«أمّا فی هذا الدور، فإنّ روح التقلید سرت سریاناً عاماً، واشترک فیها العلماء وغیرهم من الجمهور، فبعد أن کان مرید الفقه یشتغل أولًا بدراسة الکتاب وروایة السنّة اللذین هما: أساس الاستنباط، صار فی هذا الدور یتلقّی کتب إمام معیّن ویدرس طریقته التی استنبط بها ما دوّنه من الأحکام.

فإذا أتمّ ذلک، صار من العلماء الفقهاء، ومنهم من تعلو به همّته، فیؤلّف کتاباً فی أحکام إمامه إمّا اختصاراً لمؤلّف سبق، أو شرحاً له، أو جمعاً لما تفرّق فی کتب شتی، ولا یستجیز الواحد لنفسه أن یقول فی مسألة من المسائل قولًا یخالف ما أفتی به إمامه، کأنّ الحقّ کلّه نزل علی لسان إمامه وقلبه، حتّی قال طلیعة فقهاء الحنفیة فی هذا الدور، وإمامهم من غیر منازع، وهو أبوالحسن عبیداللَّه الکرخیّ: کلّ آیة تخالف ما علیه أصحابنا فهی مؤوّلة أو منسوخة، وکلّ حدیث کذلک، فهو مؤوّل أو منسوخ»!!(1)

علل انسداد باب الاجتهاد وانحصار المذاهب:
اشارة

إنّ کثرة المذاهب الفقهیة أفضی إلی حدوث نوع من الفوضی والخوف لدی الحکّام، ومن هنا عزموا علی غلق باب الاجتهاد أوّلًا، ثمّ حصر المذاهب فی إطار المذاهب الأربعة.

إنّ أهم سبب وأعمقه لانسداد باب الاجتهاد هو تأثیر الفوضی الفقهیة وکثرة المذاهب کما تقدّم، فإنّ عدد المذاهب وصل إلی 138، وهذه المسألة أثارت عنصر الخوف والقلق بین الحکّام والقادة، ففکّروا بإیصاد باب الاجتهاد وحصر المذاهب الفقهیة، ولذلک صدر الأمر بأنّ کلّ فقیه لیس له الحقّ من الآن فصاعداً بالاجتهاد فی مسائل الفقه، ویجب علی الجمیع تقلید واتّباع الفقهاء المعروفین.

وفی هذه الأجواء صدر الأمر للفقهاء وسائر أفراد الناس أن یتّبعوا فی مسائلهم وأحکامهم الشرعیة أحد المذاهب الأربعة: الحنفی، الحنبلی، الشافعی والمالکی، رغم أنّهم لم یکونوا راضین عن هذا العمل وکانوا یعتقدون أنّ للآخرین الحقّ فی الاجتهاد أیضاً وعدم التقلید(2). وقد ذکروا فی سبب حصر المذاهب بالمذاهب الأربعة المعروفة ما یلی:


1- تاریخ التشریع الإسلامی للشیخ محمّد الخضری بک، ص 199 و 200.
2- المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، ص 207- 209.

ص: 142

1. تدوین المذاهب

عندما برزت ظاهرة تدوین المذاهب بشکل واسع فی البلاد الإسلامیة زاد احتمال بقاء هذه المذاهب، لأنّ الفقه المدوّن أدّی إلی سهولة تحصیل الناس علی آراء المجتهدین والعمل بها. وبما أنّ المذاهب الفقهیة للأئمّة الأربعة لأهل السنّة دونّت ونشرت فی مختلف المناطق والبلاد الإسلامیة قبل ذلک، فإن ذلک کان سبباً لامتدادها فی أجواء المجتمع الإسلامی وبقائها، وهذا السبب هو الذی أدّی إلی رجوع الناس لهذه الأحکام الشرعیة المدوّنة وترسیخها فی الوسط الدینی.

یقول الشافعی: «کان اللیث (م 175) أفقه من مالک إلّا أنّ أصحابه لم یقوموا به، ومعنی عدم قیامهم به أنّه لم یعنوا بتدوین آرائه وبثّها فی الجمهور کما قاموا هم بتدوین آراء مالک»(1).

2. الأتباع المتعصّبین

إنّ وجود أتباع وتلامیذ متعصّبین لهذه المذاهب الأربعة، ودفاعهم المستمیت عن أئمّة مذاهبهم أدّی إلی إلتفات الناس إلی هذه المذاهب بصورة أکبر(2).

3. دور السلطة

فی العصور الأولی من التاریخ الإسلامی کان الخلفاء والحکّام یرجعون فی القضاء وإصدار الأحکام إلی المجتهدین وأصحاب الرأی والفتوی، فقد کانت فتاوی هؤلاء العلماء، الذین یستنبطون الأحکام من الکتاب والسنّة، مورد اعتماد الناس، وبذلک کانت فتاواهم تنال شهرة فی المدن الإسلامیة، وفی العصور اللاحقة کان الخلفاء والحکّام یهتمّون بالفقهاء الذین یقرّرون آراء أصحاب المذاهب السابقة ویتحرّکون علی مستوی بیانها والعمل بها، ومن هنا تحرّک العلماء بدورهم للتدقیق والاهتمام بآراء الأئمّة الأربعة وبیانها للناس من أجل التقرّب إلی البلاط والحصول علی مناصب رسمیّة.

وعلی هذا الأساس فإنّ هؤلاء الفقهاء یمیلون لمطالعة ودراسة المذهب الفقهیّ الذی یختاره الخلیفة فی ذلک الوقت (وهذا الأمر أدّی إلی الاعتراف الرسمی بهذه المذاهب ورجوع الجمیع إلیها)(3).

وعلی أیّة حال، فالظاهر أنّ أهم عامل مؤثّر فی إیصاد باب الاجتهاد، هو ظاهرة الفوضی الفقهیة وکثرة المذاهب الفقهیة، وأمّا سبب انحصار المذاهب فی هذه المذاهب الأربعة فله علل سیاسیة واجتماعیة، وکثرة أتباع هذه المذاهب، وعلیه فبعد ثلاثة قرون من ظهور الإسلام وتطوّر حرکة الاجتهاد، تمّ غلق باب الاجتهاد واستمرّ ذلک لقرون طویلة وصار جمیع الفقهاء مقلِّدین لهؤلاء الأئمة الأربعة للمذاهب الفقهیة المعروفة (من أجل الاطّلاع أکثر راجع بحث «انفتاح باب الاجتهاد» فی هذا الکتاب وممهّدات وعلل انسداد باب الاجتهاد).

الفقهاء البارزون فی المرحلة الثالثة:

بالرغم من أنّ علماء وفقهاء هذا العصر کانوا یتحرّکون فی إطار المذاهب الأربعة فحسب، ولکن علی أیّة حال فقد شهد هذا العصر فقهاء بارزین فی إطار هذه المذاهب، ونستعرض هنا بعضهم:


1- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 96؛ الاعلام للزرکلی، ج 5، ص 248.
2- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 96.
3- انظر: المدخل الفقهی العام لمصطفی أحمد الزرقاء، ج 1، ص 177- / 179؛ تاریخ الفقه الإسلامی لأبوالعینین، ص 96.

ص: 143

فقهاء المذهب الحنفی:

1. أبوجعفر الطحاوی (م 321)، الذی کان یرأس أتباع أبی حنیفة فی مصر.

2. أبوبکر أحمد بن علیّ الجصّاص (م 370)، وهو مؤلّف کتاب «أحکام القرآن» و «شرح مختصر الطحاوی فی فروع الفقه الحنفی».

3. شمس الأئمّة محمّد بن أحمد السرخسی (م 430)، وکان فقیهاً وأصولیاً بارزاً وقد کتب کتاب «المبسوط» فی 15 جزءاً.

فقهاء المذهب المالکی:

1. بکر بن علاء القشیری (م 314)، وهو مؤلّف کتب «الأحکام» و «الرد علی المزنی» و «أصول الفقه».

2. محمّد بن أحمد بن محمّد بن رشد القرطبی، (م 320) وهو زعیم فقهاء عصره فی الأندلس، وقد ألّف کتاب «البیان والتحصیل لما فی المستخرجة من التوجیه والتعلیل» وکتب أخری.

3. أبوبکر محمّد بن عبداللَّه، المعروف ب «ابن العربی المعافری» (م 534)، وهو مؤلّف کتب وتصانیف «أحکام القرآن» و «المسالک فی شرح موطّأ مالک».

فقهاء المذهب الشافعی:

1. القاضی أبوحامد أحمد بن بشر المروزی (م 362)، وهو مؤلّف کتاب «الجامع» و «شرح مختصر المزنی».

2. أبوالمعالی عبدالملک بن عبداللَّه الجوینی، المعروف ب «إمام الحرمین» (م 478)، وهو الذی أسس له «نظام الملک» فی نیسابور «المدرسة النظامیة». ومن تألیفاته: «النهایة» فی الفقه و «البرهان فی أصول الفقه.

3. حجّة الإسلام، أبوحامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالی (م 505)، مؤلّف کتب «البسیط»، «الوسیط»، «الوجیز»، «الخلاصة» و «المستصفی».

فقهاء المذهب الحنبلی:

1. أبو الوفاء، علیّ بن عقیل بن محمّد بن عقیل بن أحمد البغدادی (م 513)؛ وقد ألّف کتباً کثیرة منها:

«التذکرة»، «الفنون» و «الفصول».

2. أحمد بن الحسن بن أحمد الکوذانی (م 516)، مؤلّف الکتب التالیة: «الهدایة»، «الخلاف الکبیر» و «رؤوس المسائل».

3. مجد الدّین أبوالبرکات عبدالسّلام بن أبی القاسم ابن تیمیة (م 652). ومن تصانیفه: «المحرّر»، «الأحکام الکبری» و «المنتقی من أحادیث الأحکام»(1).

خصائص المرحلة الثالثة:

إنّ أهمّ خصائص هذه المرحلة هی:

1. إیصاد باب الاجتهاد.

2. السعی والحرکة فی خطّ فهم المذاهب الفقهیة وتفضیل أحدها علی الآخر مع اقترانها أحیاناً ببعض التعصّبات المذهبیة.

3. تدوین المذاهب الأربعة بصور مختلفة.

4. تکمیل وتدوین علم الأصول بأشکال متفاوتة.

5. اتّساع رقعة المساجلات والمناظرات المذهبیة بین علماء المذاهب هذه.


1- وللمزید من الاطلاع، انظر: تاریخ التشریع الإسلامی لمحمّد خضری بک، ص 212 وما بعده.

ص: 144

المرحلة الرابعة: عصر الرکورد الفقهی

اشارة

ویبدأ هذا العصر من أوائل القرن السابع ویستمر إلی أواخر القرن الثالث عشر، وفی الحقیقة إنّ هذا العصر یمثّل امتداداً للعصر الذی سبقه.

بعد أن کانت المذاهب الفقهیة فی القرن الرابع رغم حصرها بالمذاهب الأربعة، تملک نشاطاً وحرکة ملحوظة، فإنّ هذه الحرکة قد بدأت بالأفول والضعف فی أواسط القرن السابع، والسبب فی ذلک هو التغیرات والتحوّلات السیاسیة التی ظهرت فی البلدان الإسلامیة وأهمّها ضعف الخلافة الإسلامیة، حیث تبدّلت الخلافة الإسلامیة إلی حکومات ودول صغیرة ومحدودة باطر معینة، ومن جهة أخری شهد هذا العصر هجوم أعداء الإسلام من المسیحیین والثنویین للقضاء علی کیان الإسلام وقد بدأ هذا الهجوم فی أواخر خلافة العباسیین.

ومن جهة أخری فإنّ الحروب الصلیبیة (التی بدأت فی القرن الخامس واستمرّت لمدّة قرنین من الزمان)،(1) جعلت المسلمین یعیشون الاضطراب الداخلی، واشتعلت نیران الحروب فی أغلب المناطق، ومن جهة أخری فإنّ ذلک العصر الذی کان یئنّ من وطأة الحروب الصلیبیة قد شهد هجوماً آخر من جهة الشرق ومن قِبل المغول، وقد أدّی هذا الهجوم إلی تدمیر جمیع البلاد الإسلامیة، وحیث تقدّم المغول حتی وصلوا إلی بغداد عاصمة البلاد الإسلامیة، وسیطروا علیها وقتلوا الکثیر من العلماء وأحرقوا الکثیر من المکتبات، فنری أنّ البلدان الإسلامیة وقعت من جهة الشرق تحت سیطرة المغول ومن جهة الغرب تحت سیطرة الصلیبیّین (2).

ومن الطبیعی فی هذه الأجواء المضطربة وفی ظلّ هذه الفوضی أن ینعکس ذلک علی جمیع شؤون البلاد الإسلامیة، ومن جملة ذلک الفقه، حیث خمدت الحرکة الفقهیة ومال الفکر الإسلامی نحو التقلید والتبعیة للقدماء أکثر من السابق، حیث کان الفقهاء فی هذا العصر یکتفون بما وصل إلیهم من القدماء، وأحیاناً یکتبون شرحاً علی کتب القدماء أو تلخیصاً لها(3).

ورغم أنّ بعض العلماء فی هذا العصر قد تحرّک علی مستوی تدوین بعض الکتب، إلّاأنّ ذلک ونظراً لاتّساع البلاد الإسلامیة وکثرة المسلمین، وکذلک طول هذه الفترة (ما یقارب ستّة قرون) یعدّ قلیلًا جدّاً(4).


1- انظر: دائرة المعارف القرن العشرین، ج 5، ص 531- 535؛ فرهنگ معین، مفردة الصلیبی( بالفارسیة).
2- انظر: الکامل لأبن الأثیر، ج 12.
3- انظر: تاریخ الفقه الإسلامی، ص 99 و 104؛ المدخل الفقهی العام، ج 1، ص 186؛ تاریخ التشریع الإسلامی، خضری بک، ص 225 و 226.
4- عندما کان هذا العصر یشهد ظاهرة رکود الفقه السنی، فإنّ فقه أهل البیت علیهم السلام کما تقدم فی بیان مراحل الفقه، فإنّه شهد فی أواخر القرن السادس وإلی القرن الحادی عشر( أی إلی بدایة عصر سیطرة الأخباریین) عصراً ذهبیاً لفقه أهل البیت علیهم السلام وشهد هذا العصر فقهاء کبار أمثال ابن إدریس الحلّی( م 598)؛ والمحقّق الحلّی( م 676)؛ والعلّامة الحلّی( م 726)؛ وفخر المحقّقین( م 771)؛ والشهید الأوّل( م 786)؛ والمحقّق الکرکی( م 940)؛ والشهید الثانی( م 966) والمحقّق الأردبیلی( م 993) وجمع من کبار الفقهاء الذین خلّفوا عشرات الکتب الفقهیة القیمة، وفی الواقع فإنّ فقه أهل البیت علیهم السلام وفقه أهل السنّة طیلة هذه القرون کانا یتحرکان باتجاه متعاکس؛ فإنّ فقه أهل البیت علیهم السلام کان یتحرک من موقع العمق والرشد والتکامل وأمّا فقه أهل السنّة فکان یتحرک باتجاه الرکود والخمود، ولعل أحد أسباب ذلک، هو وقوع الحروب الصلیبیة وما تبع ذلک من فتنة المغول، ومع الالتفات إلی أنّ فقهاء أهل السنّة کانوا یتمتّعون بحمایة السلطات والحکّام وکان هؤلاء الحکّام فی هذه العصر یعیشون ضغوطاً وتحدیات صعبة من جراء الحروب الثقیلة، فإنّهم لم یتمکنوا من توفیر الحمایة الکافیة لفقهائهم وبالتالی لم یوفروا أرضیة مناسبة لتطور الفقه.

ص: 145

بعض فقهاء المرحلة الرابعة:

1. عزّ الدین عبدالسلام (م 660).

2. عبدالوهّاب علیّ بن الکافی (م 771).

3. تقی الدّین أبوالحسن علیّ بن القاضی (م 756).

4. أحمد بن علیّ بن حجر العسقلانی (م 852).

5. جلال الدّین السیوطی (م 911).

6. شیخ الإسلام أبویحیی زکریا بن محمّد الأنصاری (م 926).

7. أحمد بن محمّد بن علیّ بن حجر الهیثمی (م 974).

یقول الأستاذ «مصطفی الزرقا» فی هذا الصدد:

«ففی هذا العصر ساد الفکر التقلیدی المغلق وانصرفت الأفکار عن تلمّس العلل والمقاصد الشرعیة فی فقه الأحکام إلی الحفظ الجاف، والإکتفاء بتقبّل کلّ ما فی الکتب المذهبیة دون مناقش، وفی أواخر هذا الدور حلّ الفکر العامّی محلّ الفکر العلمیّ لدی کثیر من متأخّری رجال المذاهب الفقهیة»(1).

خصائص المرحلة الرابعة:

إنّ الخصوصیة الوحیدة لهذه المرحلة التاریخیة من الفقه هو سیطرة الفکر التقلیدی، وبالتالی فقد کثرت الکتب الفتوائیة الرسمیة فی هذا العصر، وهذه الکتب تعدّ أهم المراجع الفقهیة عادة، وقد ذکر بعض المحققین أسماء عدد من هذه الکتب الفتوائیة الرسمیة من قبیل:

«الفتاوی التتارخانیة والخانیة والبزازیة والظهیریة والهندیة والخیریة والزینیة والمهدیة و ...، فالفتاوی الخانیة لقاضی خان، الحسن بن منصور (المتوفّی 592 ه) والفتاوی البزازیة لحافظ الدّین محمّد، المشهور بابن البزاز (المتوفّی 827 ه) والفتاوی الزینیّة، لابن نجیم، (زین العابدین المصری، من کبار فقهاء الحنفیة المتوفّی سنة 1562 م.

والفتاوی الخیریّة، لخیر الدّین المنیف الفاروقی (المتوفّی 1081 ه) والفتاوی الهندیّة- وتعرف باسم العالمکیری- منسوبة إلی الملک «محمّد أورنیک زیب وهو من السلالة المغولیة التی حکمت فی الهند زمناً طویلًا ویلّقب باسم «عالمکیر» أی فاتح العالم»(2).

المرحلة الخامسة: عصر عودة الحرکة الفقهیّة

اشارة

وتبدأ هذه المرحلة التاریخیة بالتزامن مع تأسیس الدولة العثمانیة فی القرن الثالث عشر. فقد ظهرت الدولة العثمانیة فی الشرق واتّجهت فی فتوحاتها نحو الغرب حیث تمّ فتح «القسطنطنیة» فی عصر السلطان محمّد الفاتح، وهو من الملوک العثمانیین. وقد امتدّ الإسلام إلی منتصف اوربا وانظمّت البلاد الإسلامیة غالباً تحت حکومة واحدة، ولهذا السبب فإنّ المسلمین عاشوا فی تلک الفترة القوّة والعزّة والعظمة بشکل کبیر.

ومع أنّ المذهب الرسمیّ للحکومة العثمانیة، هو المذهب الحنفی، فإنّ الاهتمام کان منصّباً علی کتابة الکتب التی تتّصل بالمذهب الحنفی وشرح کتب القدماء فی هذه الدائرة. وکانت هذه الحرکة تقتصر علی الفقه


1- المدخل الفقهی العام، ج 1، ص 186.
2- المدخل الفقهی العام، ج 1، ص 190؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 102 و 103.

ص: 146

الحنفی وأدّت إلی نموّ وتکامل هذا المذهب بسبب تعامل الحکومة العثمانیة مع الحکومات الغربیة وتوجه الحکومة العثمانیة لتدوین القوانین وتقنین المقرّرات والأحکام الفقهیة، وقد شهد هذا العصر نموّاً جدیداً فی حرکة الاجتهاد فی دائرة الفقه الحنفی، رغم أنّ سائر المذاهب بقیت فی حالة الرکود والجمود.

یقول المحقّقون: «إنّ بدایة هذا العصر تزامن مع ظهور مجلة الأحکام العدلیة فی عام 1286، وهذه المجلة فی الحقیقة تمثّل دستوراً لعمل السلطة القضائیة فی المحاکم، حیث تمّ نشرها بواسطة جماعة علی شکل قانون مدنیّ عام، وهذه الجماعة متشکّلة من سبعة عشر شخصاً برئاسة أحمد جودت باشا، ویقوم عملها علی أساس الرأی والنظر وتقدّم إلی الجهات المسؤولة.

وهذه المجلة لها 1851 مادّة، وتتشکّل من مقدّمة وستّة عشر کتاباً، وهذه الکتب الستّة عشر عبارة عن:

البیوع، الإجارات، الکفالة، الحوالة، الرهن، الأمانة، الهبة، الغصب والإتلاف (کتاب واحد)، الشرکة، الوکالة، الصلح والإبراء (کتاب واحد) الشفعة والحجر والإکراه (کتاب واحد)، الإقرار، الدعوی، القضاء، البیّنة والقسم (کتاب واحد)»(1).

خصائص المرحلة الخامسة:

إنّ أهم خصائص هذه المرحلة عبارة عن:

1. تفعیل المجامع الفقهیة وتدوین الکتب الفقهیة (فی دائرة المذهب الحنفی).

2. ظهور مجلة «الأحکام العدلیة» وتدوین القوانین العامة المدنیة للمحاکم.

المرحلة السادسة: عصر الیقظة و إحیاء باب الإجتهاد من جدید

اشارة

بالرغم من أنّ الحرکة الفقهیة الجدیدة بدأت منذ القرن الثالث عشر، وبظهور مجلة «الأحکام العدلیة»، لکن المجامع الفقهیة ومجالس الفتوی استمرّت بالعمل ولسنوات مدیدة فی دائرة المذهب الحنفی وهو المذهب الرسمی للحکومة العثمانیة، إلی أن انطلق بعض المصلحین الإسلامیین من موقع کسر هذا الطوق والدعوة إلی الاستفادة من جمیع المذاهب فی عملیة التقنین للأحکام الإسلامیة.

وأوّل من تحرّک فی هذا الخطّ- کما یقول بعض المفکرین- هو السیّد جمال الدّین الأسدآبادی (م 1314). حیث سعی فی اقتباس الفقه من منابعه الأصلیة وتحرّک لکسر الجمود علی مذهب معین، ویعدّ السیّد جمال الدّین الأسدآبادی مؤسّس نهضة فکریة جدیدة فی الشرق، حیث تحوّل القرن الرابع عشر ببرکته جهوده إلی عصر صحوة المسلمین ویقظتهم (2).


1- انظر: المدخل الفقهی العام، ج 1، ص 196- / 199؛ تاریخ الفقه الإسلامی، ص 106- / 109؛ تاریخ التشریع الإسلامی، ج 2، ص 297- / 302.
2- هناک اختلاف فی موطن ومذهب السید جمال الدین الأسدآبادی بین المؤرخین، فأکثر أهل السنّة یعتقدون بأنّه من أفغانستان وحنفی المذهب( انظر: دائرة معارف القرن العشرین، ج 3، ص 163؛ دائرة المعارف الإسلامیّة، ج 7، ص 95). ولکن بعض المحققین یعتقدون أنّه إیرانی من مدینة أسد آباد فی محافظة همدان حیث تیقع داره التی ولد فیها فی هذه المدینة لحدّ الآن ویسکنها بعض أقربائه وأرحامه، ومن حیث المذهب فهو شیعیّ وإن تظاهر بأنّه حنفی من أجل هدف أکبر هو إیقاظ المسلمین، ولذلک کان یعرف نفسه بأنّه أفغانی لسببین: الأول: أنّ أفغانستان کانت دولة ذات سیادة مستقلّة ولم تکن لها سفارة أو قنصلیة فی أی من البلدان الأخری، ولذلک کان جمال الدین یشعر بالأمان من ملاحقة أعوان السلطة له، ولکن إذا کان یعرف نفسه بأنّه إیرانی فربّما تلاحقه عناصر السفارة الإیرانیة فی ذلک البلد. والآخر: أنّ علماء إیران کانوا فی ذلک الزمان یواجهون حساسیة کبیرة من قِبل العالم الإسلامی، ولذلک کان یعرف نفسه بأنّه أفغانی. ( انظر: أعیان الشیعة، ج 4، ص 206- 213؛ بیدارگران أقالیم قبله،( بالفارسیة) تألیف محمّد رضا الحکیمی، ص 69- 81).

ص: 147

وبعد السیّد جمال الدین تابع أحد تلامیذه البارزین وهو الشیخ محمّد عبده هذه الحرکة وعمل علی تحریر الفقه من التقیّد بمذهب خاصّ، وقد تشکّلت فی أواخر عام 1914 م، لجنة من العلماء والمفکّرین فی مصر ومن أعضائها مفتی الأزهر وبعض القضاة الکبار فی الجهاز القضائی وأساتذة جامعات الحقوق والعلوم القضائیة.

وقد دوّن هؤلاء العلماء الأحوال الشخصیّة بالاستفادة من المذاهب الأربعة وقد انحلّت هذه اللجنة بعد مدّة بسبب مخالفة جماعة من العلماء، ولکن حرکة الإصلاح هذه التی تنطلق من حاجات المجتمع الإسلامی المعاصرة، قد اشتدّت بین المسلمین، ومرّة أخری بدأت عملیة إصلاح القوانین بالاستفادة من جمیع المذاهب الأربعة.

الخطوة الأخری تمثّلت فی إمکانیة الاستفادة من غیر المذاهب الأربعة فی عملیة التقنین، وکانت هذه الخطوة تمثّل فی الواقع آخر خطوة لتحریر الفقه من إطار المذاهب الأربعة.

ففی عام 1936 م، وافقت هیئة الوزراء فی مصر علی تدوین قوانین الفقه بالاستفادة من الفقه الإسلامی بدون تقیّد بمذهب خاص (1).

وفی هذه النهضة الجدیدة کان العلماء یرون أنّ آراء الفقهاء والصحابة وبعدهم التابعین، لها ذلک الاعتبار والقیمة التی لآراء أبی حنیفة ومالک والشافعی وأحمد ابن حنبل. وعلیه فلا ضرورة للالتزام بالعمل بفتوی مجتهد واحد، بل یمکن الاستفادة من فتاوی سائر المجتهدین من الصحابة والتابعین إذا کانت الفتوی تنسجم مع حاجة العصر(2).

ویری بعض المحقّقین أنّ التصدّی لظاهرة التقلید وفتح باب الاجتهاد قد بدأ علی ید ابن تیمیّة (م 758) وتلیمذه ابن القیّم الجوزیة (م 751). حیث انتقد بشدّة ظاهرة التقلید والمقلِّدین ودعا العلماء للاجتهاد فی کتاب اللَّه وسنّة رسوله ومنهج السلف الصالح.

وفی أوائل القرن الثانی عشر ظهر محمّد بن عبدالوهّاب (م 1206) وأخذ بمنهج ابن تیمیّة وأسس المذهب الوهابی علی هذا الأساس.


1- والملفت للنظر أنّ بعض فقهاء أهل السنّة قد اختار بعض فتاوی علماء الشیعة فی ما یتعلق ببعض المسائل الفقهیة، والنموذج البارز لذلک ما قام به مفتی السنّة الکبیر« الشیخ محمود شلتوت» رئیس جامعة الأزهر السابق فی مسألة الطلاق ثلاثاً فی مجلس واحد وقال:« بالرغم من أنّ الطلاق ثلاثاً فی مجلس واحد وبجملة واحدة یعدّ فی المذاهب الأربعة ثلاثة طلاقات، ولکن طبقاً لمذهب الشیعة الإمامیة فإنّه یحسب طلاقاً واحد لا أکثر، وبما أنّ القانون( وظاهر الآیات) یؤکد أنّ الشیعة علی حقّ فلذلک یجب العمل به»( مجلة رسالة الإسلام الصادرة عن دار التقریب بین المذاهب الإسلامیّة بالقاهرة، سنة 11، العدد 1، ص 108). ثم إنّه وسّع من رأیه فی هذه المسألة وأصدر فتواه التاریخیة:« إنّ مذهب الجعفریّة المعروف بمذهب الشیعة الإمامیّة الاثنا عشریّة مذهب یجوز التعبّد به شرعاً کسائر مذاهب أهل السنّة». ثم أوصی المسلمین بالتعرف علی هذا المذهب وترک التعصب لمذهب معیّن( المصدر السابق، ص 228).
2- تاریخ الفقه الإسلامی، ص 112- / 115( بتلخیص)، وکذلک انظر: المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، ص 154- / 161؛ تاریخ التشریع الإسلامی، ج 2، ص 303- / 360. یعتقد الاستاد محمّد فرید وجدی بصراحة بانفتاح باب الاجتهاد وقد أقام أدلّة قویة لإثبات ذلک( انظر: دائرة المعارف القرن العشرین، ج 3، ص 253- / 255).

ص: 148

ولکنّ الحقیقة أنّ الحرکة ومؤسّسها، وإن کانت تعتقد بحرکة الاجتهاد والرجوع إلی الکتاب والسنّة بعیداً عن فتاوی المذاهب الأربعة، ولکن لا ینبغی الغفلة عن عدّة أمور فیما یتعلّق بهذه المسألة:

الأول: أنّهم یتّبعون المذهب الحنبلی ویأخذون بفقه أحمد بن حنبل.

والآخر: أنّ ما یمیّز المذهب الوهابی فی مخالفته للمذاهب الآخری یندرج غالباً فی المسائل الاعتقادیة، من قبیل: قراءتهم لمسألة التوحید والشرک، والتوسّل وأمثال ذلک، حیث رفعوا لواء المخالفة لجمیع المذاهب الإسلامیة فی هذه الأمور، وأحیاناً اتّهموهم ب «الشرک».

والثالث: أنّ الحرکة الوهابیّة تعیش الجمود الشدید، ولهذا السبب فإنّ الوهابیین کانوا یرفعون لواء المخالفة لسنوات مدیدة لکلّ أنواع التمدّن والاختراعات فی العالم ویرون حرمتها، رغم أنّ بعض مفکّریهم فی الآونة الأخیرة تحرّک علی مستوی إعادة النظر فی هذا المنهج (1).

خصائص المرحلة السادسة:

وتمتاز هذه المرحلة بخصوصیتین مهمّتین:

1. شروع نهضة الإصلاح فیما یتّصل بالفقه الإسلامیّ وخروج الاجتهاد من انحصار الفقه الحنفی، والاستفادة من سائر المذاهب.

2. اتّساع نهضة الإصلاح من خلال الاستفادة من آراء جمیع الفقهاء والمجتهدین للمذاهب الإسلامیة ووضع القوانین علی أساس أفضل الآراء وأکثر الفتاوی انسجاماً مع متطلّبات العصر وحاجات المرحلة.

المنابع والمصادر

1. الاحتجاج، أبو منصور أحمد بن علیّ الطبرسی، انتشارات أسوة، الطبعة الأولی، 1413 ق.

2. الإرشاد، محمّد بن النعمان (الشیخ المفید)، دار المفید.

3. الاستیعاب فی معرفة الأصحاب، یوسف بن عبداللَّه بن محمّد بن عبدالبر القرطبی، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1415 ق.

4. الأعلام، خیرالدّین الزرکلی، دار العلم للملایین، بیروت، الطبعة الثامنة، 1989 م.

5. إعلام الوری، الفضل بن الحسن الطبرسی، مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الأولی، 1417 ق.

6. أعیان الشیعة، السیّد محسن الأمین، دار التعارف، بیروت، الطبعة الخامسة.

7. الأمالی للشیخ الطوسی، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسی، دارالثقافة، قم، الطبعة الأولی، 1414 ق.

8. أمل الآمل، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دارالکتاب الإسلامی، قم، 1362 ش.

9. الأنوار البهیّة، الشیخ عباس القمی، مؤسسة منشورات دینی، مشهد.

10. أدوار علم الفقه وأطواره، الشیخ علی آل کاشف الغطاء، دار الزهراء، بیروت، الطبعة الأولی، 1399 ق.

11. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

12. بررسی اجمالی مبانی اقتصاد اسلامی (بالفارسیة)، للعلّامة


1- انظر: کشف الارتیاب فی اتباع محمّد بن عبدالوهّاب، المقدّمة الاولی؛ تاریخ آل سعود لناصر السعید؛ الوهابیّة علی مفترق طریقین لآیة اللَّه مکارم الشیرازی.

ص: 149

الشهید مرتضی المطهّری، انتشارات حکمت، الطبعة الأولی.

13. بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفّار، مؤسسة الأعلمی، طهران، 1404 ق.

14. بیدارگران اقالیم قبله، محمّد رضا الحکیمی، مکتب نشر فرهنگ اسلامی، طهران (بالفارسیة).

15. نفحات القرآن، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، وبمساعدة، مدرسة الإمام أمیرالمؤمنین، الطبعة الأولی، 1367 ش.

16. تاریخ ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون المغربی، دار الکتاب اللبنانی.

17. تاریخ بغداد، أبوبکر أحمد بن علیّ (الخطیب البغدادی)، دار الفکر، بیروت.

18. تاریخ التشریع الإسلامی، الشیخ محمّد خضری بک، دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1417 ق.

19. تاریخ التشریع الإسلامی، علیّ محمّد المعوّض- عادل أحمد عبدالموجود، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

20. تاریخ الخلفاء، جلال الدین السیوطی، دارالقلم، بیروت، الطبعة الأولی، 1406 ق.

21. تاریخ الفقه الإسلامی، بدران أبوالعینین بدران، دارالنهضة العربیّة، بیروت.

22. تاریخ الیعقوبی، ابن واضح أحمد بن أبی یعقوب (الیعقوبی)، دار صادر، بیروت.

23. تدریب الراوی فی شرح تقریب النواوی، جلال الدّین السیوطی، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الثانیة، 1385 ق.

24. تذکرة الحفاظ، شمس الدین محمّد بن أحمد الذهبی، دار الکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1419 ق.

25. التفسیر الکبیر، الإمام الفخر الرازی، دار الکتب العلمیّة، طهران، الطبعة الثانیة.

26. تنقیح المقال فی علم الرجال، العلّامة الشیخ عبداللَّه المامقانی، المطبعة المرتضویة، النجف الأشرف، 1352 ق.

27. تهذیب الکمال، جمال الدین أبوالحجّاج یوسف المزی، تحقیق الدکتور بشار عوّاد معروف، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الرابعة عشر، 1413 ق.

28. جامع المقاصد (مقدّمة تحقیق)، تحقیق مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الأولی، 1408 ق.

29. خورشید فقاهت، علی کریمی الجهرمی، انتشارات دار القرآن الکریم، قم، الطبعة الاولی، 1373 ش.

30. دائرة المعارف الإسلامیّة الشیعیّة، حسن الأمین، دارالتعارف، بیروت، الطبعة الخامسة، 1415.

31. دائرة المعارف بزرگ اسلامی، مرکز دائرة المعارف بزرگ اسلامی، طهران، الطبعة الأولی، 1379 ش (بالفارسیة).

32. دائرة معارف البستانی، بطرس البستانی، دار المعرفة، بیروت.

33. دائرة معارف القرن العشرین، محمّد فرید الوجدی، دارالفکر، بیروت.

34. الذریعة إلی تصانیف الشیعة، الشیخ آقابزرگ الطهرانی، دار الأضواء، بیروت، الطبعة الثالثة، 1403 ق.

35. الرجال، ابن داود، الحسن بن علیّ الحلّی، منشورات الرضی، قم، 1392 ق.

36. رجال، الطوسی، محمّد بن الحسن الطوسی، النجف الأشرف، 1381 ق.

37. رجال، الکشی، أبو عمرو الکشی، مؤسّسة الأعلمی، کربلاء.

38. رجال، النجاشی، أحمد بن علی، بیروت، 1409 ق.

39. روضات الجنّات، محمّد بن باقر الخوانساری، المطبعة الحیدریّة، طهران، 1390 ق.

ص: 150

40. ریاض العلماء، المیرزا عبداللَّه الأفندی الأصفهانی، منشورات مکتبة آیة اللَّه المرعشی النجفی، قم، 1403 ق.

41. ریاض المسائل، السیّد علیّ بن السیّد محمّد بن علیّ الطباطبائی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

42. السرائر، ابن إدریس الحلّی، النشر الإسلامی التابع لجماعة المدرّسین، قم، 1410 ق.

43. السنن الکبری، أحمد بن الحسین البیهقی، دار الفکر، بیروت.

44. السنن، محمّد بن عیسی الترمذی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

45. سیر أعلام النبلاء، شمس الدّین محمّد بن أحمد الذهبی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1417 ق.

46. سیره پیشوایان، مهدی پیشوایی، مؤسّسة الإمام الصادق، قم، الطبعة الثانیة، 1374 ش (بالفارسیة).

47. سیمای فرزانگان، آیة اللَّه جعفر السبحانی، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1379 ش (بالفارسیة).

48. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه، محمّد بن إسماعیل البخاری، دار الجیل، بیروت.

49. صحیح مسلم، أبوالحسین مسلم بن الحجاج النیسابوری، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1972 م.

50. صحیفة نور، مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، طهران، الطبعة الاولی، 1378 ش.

51. الصواعق المحرقة، ابن حجر الهیثمی المالکی، مکتبة القاهرة، 1385 ق.

52. طبقات أعلام الشیعة، الشیخ آقابزرگ الطهرانی، مؤسسة إسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة.

53. الطبقات الکبری ابن سعد، دار بیروت للطباعة والنشر، الطبعة الأولی، 1405 ق.

54. الغیبة، محمّد بن الحسن الطوسی، مؤسّسة المعارف الإسلامیة، قم.

55. فصلیة فقه أهل البیت، السنة الأولی، العدد الأول.

56. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبه الزحیلی، دارالفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

57. الفکر السامی فی تاریخ الفقه الإسلامی، محمّد بن الحسن الحجوی الثعالبی، المکتبة العلمیّة، المدینة المنورة، الطبعة الأولی، 1396 ق.

58. الفهرست الشیخ الطوسی، محمّد بن الحسن الطوسی، جامعة مشهد، 1351 ق.

59. الفوائد الرجالیّة، السیّد محمّد مهدی بحرالعلوم، نشر مکتبة الصادق، طهران، 1405 ق.

60. الفوائد المدنیّة، محمّدأمین الإسترآبادی، دار النشر لأهل البیت.

61. القواعد الفقهیّة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، منشورات دار العلم، قم، 1382 ق.

62. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دار التعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

63. الکامل فی التاریخ، ابن الأثیر، دار صادر- دار بیروت، بیروت، 1385 ق.

64. کشف اللثام، محمّد بن الحسن الأصفهانی (الفاضل الهندی)، مؤسّسة النشر الإسلامی (جماعة المدرسین الحوزة العلمیة قم)، الطبعة الأولی، 1416 ق.

65. کفایة الاصول، الشیخ محمّد کاظم (الآخوند) الخراسانی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الثانیة، 1417 ق.

66. کنز العمّال، المتّقی الهندی، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ق.

67. الکنی والألقاب، الشیخ عبّاس القمی، مکتبة الصدر،

ص: 151

طهران، الطبعة الرابعة، 1397 ق.

68. مجمع البیان، أبوعلی الفضل بن الحسن الطبرسی، تحقیق مجموعة من العلماء، (10 أجزاء)، مؤسّسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الأولی، 1415 ق.

69. مجلّة نور العلم، جماعة المدرّسین الحوزة العلمیة قم، (العدد الثامن)، بهمن 1363.

70. المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، محمّد مصطفی الشلبی، دار النهضة العربیة، بیروت، 1405 ق.

71. المدخل الفقهی العام، مصطفی أحمد الزرقاء، دار الفکر، الطبعة التاسعة.

72. المراجعات، السید شرف الدین العاملی، مطبعة المجمع العالمی لأهل البیت، قم، الطبعة الأولی.

73. مستدرک الصحیحین، محمّد بن محمّد الحاکم النیسابوری، دار المعرفة، بیروت، 1406 ق.

74. مسند أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بیروت.

75. المعتبر فی شرح المختصر، المحقّق الحلّی، نشر مؤسّسة سید الشهداء، 1364 ش.

76. معجم رجال الحدیث، آیةاللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، منشورات مدینة العلم، الطبعة الثالثة، 1403 ق.

77. معجم فقه السلف، محمّد المنتصر الکتانی، مطبعة جامعة أم القری، المکّة مکرّمة، 1410 ق.

78. مکاتیب الرسول، آیة اللَّه علی أحمدی المیانجی، مؤسّسة دار الحدیث الثقافیّة، طهران، الطبعة الأولی، 1419 ق.

79. الملل والنّحل، عبدالکریم بن أبی بکر أحمد الشهرستانی، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1422 ق.

80. المنتظم فی تاریخ الأمم والملوک، عبدالرحمن بن علیّ بن محمّد بن الجوزی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1412 ق.

81. منتهی المقال فی أحوال الرجال، أبوعلیّ الحائری (الشیخ محمّد بن إسماعیل المازندرانی)، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الأولی، 1416 ق.

82. موسوعة الإمام الخوئی، مؤسّسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

83. موسوعة طبقات الفقهاء، آیةاللَّه جعفر السبحانی، مؤسّسة الإمام الصادق، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

84. موسوعة الفقه الإسلامی (موسوعة جمال عبدالناصر)، المجلس الأعلی للشؤون الإسلامیة، القاهرة، 1410 ق.

85. موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامی، قم، الطبعة الأولی 1423 ق.

86. الموسوعة الفقهیّة (الموسوعة الکویتیة)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة الکویتیة، الطبعة الرابعة، 1414 ق.

87. الموسوعة الفقهیّة المیسّرة، الشیخ محمّدعلی الأنصاری، مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1423 ق.

88. میزان الاعتدال، أبوعبداللَّه محمّد بن أحمد الذهبی، دار المعرفة، بیروت.

89. نقباء البشر، الشیخ آقابزرگ الطهرانی، دار المرتضی، مشهد، الطبعة الثانیة، 1404 ق.

90. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

91. وفیات الأعیان، ابن خلکان أبوالعباس أحمد بن محمّد، دار صادر، بیروت.

ص: 152

ص: 153

7

القسم السابع: منابع الإستنباط فی نظر فقهاء الإسلام

اشارة

المصادر الأصلیة والمتّفق علیها فی عملیة الإستنباط

- القرآن الکریم

- السنّة

- الإجماع

- دلیل العقل

- القواعد الفقهیّة

- الاصول العملیّة

تعارض الأدلّة

المنابع المختلف فیها فی الاستنباط

- القیاس

- الاستحسان

- المصالح المرسلة

- سدّ الذرائع وفتحها

ص: 154

ص: 155

منابع الإستنباط فی نظر فقهاء الإسلام

مقدّمة:

یبحث موضوع هذا الفصل فی کلیّات مصادر استنباط الأحکام فی نظر فقهاء أهل البیت علیهم السلام وفقهاء أهل السنّة، ومن الواضح أنّ التحقیق فی هذا الموضوع الواسع یستدعی تألیف عدّة کتب ضخمة فی هذا المجال، ولکنّنا نکتفی بإطلالة سریعة علی هذا الموضوع آملین أن یتحرّک المحقّقون لکشف المزید من خفایا هذا البحث من خلال التدقیق والتأمّل فی تفاصیله.

وکبدایة، نری من الضروری الإشارة لعدّة أمور:

الأوّل: إنّ نظام التشریع حاله حال نظام التکوین فی کونه منحصراً باللَّه تعالی وبإرادته، ولا أحد غیره یملک حقّ التشریع ووضع الأحکام الشرعیة، ووظیفة الأنبیاء علیهم السلام هی تبلیغ وبیان الأحکام الإلهیة: «مَّا عَلَی الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ»(1).

«قالَ اِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُکُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ»(2).

وحتّی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مع علوّ مکانته وسموّ مرتبته علی سائر الأنبیاء فإنّه یعتبر مبلّغاً من قِبل اللَّه تعالی ومبیّناً لشریعته: «یَا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَّبِّکَ»(3).

ویقرّر القرآن الکریم فی سورة النحل أنّ أیّ تشریع لحکم من الأحکام من قِبل غیر اللَّه فإنّ ذلک یعنی إلغاء وإقصاء الولایة الإلهیة علی الحلال والحرام ویعدّه من الافتراء: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُکُمْ الْکَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَی اللَّهِ الْکَذِبَ إِنَّ الَّذِینَ یَفْتَرُونَ عَلَی اللَّهِ الْکَذِبَ لَایُفْلِحُونَ»(4).

ویتحدّث القرآن الکریم عن حصر الحاکمیة فی نظام التکوین باللَّه تعالی بعبارة التوحید فی الخالقیّة والتوحید فی الربوبیّة: «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَیْرُ اللَّهِ یَرْزُقُکُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(5).

ویقرّر فی آیات کثیرة أخری بشکل کلّی، حصر الحکم باللَّه تعالی: «وَاللَّهُ یَحْکُمُ لَامُعَقِّبَ لِحُکْمِهِ»(6).

فی مجال حصر الحاکمیة فی مقام التشریع باللَّه تعالی یذکر القرآن عبارة التوحید فی الحاکمیّة حیث


1- سورة المائدة، الآیة 99.
2- سورة الأحقاف، الآیة 23.
3- سورة المائدة، الآیة 67.
4- سورة النحل، الآیة 116.
5- سورة فاطر، الآیة 3.
6- سورة الرعد، الآیة 41.

ص: 156

نجد لهذه القضیة صدیً واسعاً فی آیات القرآن الکریم الذی یقول: «إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا للَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِیَّاهُ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(1).

والجدیر بالذکر أنّ الحاکمیة الحصریة للَّه تعالی فی مقام التشریع لا تتنافی مع هذه الحقیقة، وهی أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مثلًا یتحرّک فی موارد خاصّة وجزئیة علی مستوی التشریع بإذن اللَّه تعالی (2).

الثانی: إنّ عامّة فقهاء الإسلام- بغضّ النظر عن مذاهبهم المختلفة- مشترکون فی أهم الموارد والمنابع لاستنباط الحکم الفقهی، حیث یشکّل القرآن والسنّة رکنین أصلیین فی استخراج الأحکام، والاختلاف الموجود بینهم إنّما هو فی کیفیة الاستنباط من القرآن وفی حدود السنّة، وکیفیة حجّیة الإجماع، وفی میزان اعتبار العقل، وکذلک تختلف المذاهب الإسلامیة فیما بینها فی اعتبار بعض المنابع الفقهیة، کالقیاس والاستحسان، ومذهب الصحابة وأمثالها، حیث سیأتی الکلام عنها فی البحوث اللاحقة.

الثالث. إنّ کیفیة استخدام الأدلّة ومنابع الاستنباط من قِبل الفقهاء، یتحرک باتجاه خاصّ، حیث یقدّم الفقهاء الطریق المنتهی إلی الیقین علی سائر الطرق، ثمّ یتحرّکون فی غربلة الطرق الظنّیة والاحتمالیة (الأمارات) وبعد ذلک وعند الشکّ یتّجهون نحو أدلّة الأحکام الظاهریة(3).

إنّ مصادر الاستنباط لا تنتهی فی جمیع الموارد إلی الیقین، بل إنّ البعض منها یورث الظنّ بالحکم الشرعیّ بل إنّ بعضها لا یثیر حتّی الشکّ الوجدانی، ومن هنا یبنغی علی الفقیه إثبات اعتبار الأدلّة الظنّیة والأصول والقواعد الحاکمة فی حال الشکّ، لتشخیص الوظیفة العملیة للمکلّف.

والعلم الذی یتکفّل البحث فی هذه المواضیع هو «علم الأصول» ویقال عن الحکم المستخرج من الأدلّة الظنّیة، أو من خلال الأصول العملیة فی حال الشکّ:

«الحکم الظاهریّ»، وبالطبع فإنّ أدلّة الأحکام الظاهریة یجب إثباتها بالقطع والیقین، ولذا قال المشهور أنّ:

«ظنّیة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم»(4).

وذکر بعض علماء أهل السنّة فی مجال ترتیب الأدلّة: إنّ أول دلیل یغنی المجتهد عن جمیع الأدلّة الأخری، ومع وجوده لا یحتاج إلی دلیل آخر هو الإجماع، الذی إذا حصل علیه الفقیه فلا یلزمه البحث عن سائر الأدلّة، ولذلک ینبغی تأویل ما خالف الإجماع ممّا ورد فی الکتاب السنّة، أو القول بکونه منسوخاً، والمرتبة الثانیة یصل الدور إلی الکتاب والسنّة المتواترة ثمّ یصل الدور لخبر الواحد(5).

وبعد هذه المقدّمات نبدأ بالبحث فی مورد المنابع الفقهیة المتّفق علیها من قبل الجمیع، ثمّ نستعرض المصادر الأخری لعملیة الاستنباط الفقهی.

المصادر الأصلیة والمتّفق علیها فی عملیة الاستنباط:

أ) القرآن الکریم

اشارة

إنّ أهم منبع للأحکام الإلهیّة هو القرآن الکریم الذی


1- سورة یوسف، الآیة 40.
2- أنوار الفقاهة، کتاب البیع، ص 516- 528.
3- الاصول العامّة للفقه المقارن، ص 80.
4- الرسائل( فرائد الأصول)، ص 26.
5- روضة الناظر، ج 2، ص 389؛ مجموعة فتاوی لابن تیمیّة، ج 3، ص 364.

ص: 157

یتضمّن فی آیاته أصول العقائد، التاریخ، الأخلاق والأحکام. والقسم المتعلّق بالأحکام یقال عنه فی الاصطلاح «آیات الأحکام» أو «أحکام القرآن». وقیل:

إنّ عدد آیات الأحکام فی القرآن، 500 آیة(1). ولکنّ البعض ذهب إلی أنّ معظم آیات القرآن یمکن استفادة الأحکام منها بنحو من الأنحاء، بشکل صریح أو من خلال الاستنباط من آیة شریفة بدون ضمیمة آیات أخری، أو بانضمام آیتین أو عدّة آیات أخری (2) أو بانضمام آیة إلی روایة مفسِّرة ومبیِّنة لها، ولکنّ هذا الکلام لا یخلو من مبالغة.

وقد ذکر صاحب کتاب «کشف الظنّون» أنّ أول کتاب تمّ تألیفه فی أحکام القرآن، هو کتاب الشافعی (م 204)(3) فی حین أنّ ابن الندیم ذکر فی «الفهرست فی ضمن کتب آیات الأحکام، کتاب أحکام القرآن للکلبی (4) واسمه الکامل أبونصر، محمّد بن السائب بن بشر الکلبی، وهو من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ومن علماء الإمامیة. وقد ذکر الشیخ آقا بزرگ الطهرانی فی کتابه «الذریعة» بالاستناد إلی ما کتبه ابن الندیم أنّ أول کتاب فی أحکام القرآن هو کتاب محمّد بن السائب الکلبی، وقد توفّی الکلبی عام 146 ه فی حین أنّ الشافعی ولد فی عام 155 ه(5).

إنّ الکتب التی تبحث فی آیات الأحکام کثیرة، ولعلّ الکثیر منها انقرض علی امتداد التاریخ ولم یصل إلینا، وممّا ذکره صاحب کتاب «کنز العرفان» مرّات عدیدة، عن کتاب «النهایة فی تفسیر خمس مائة آیة» وذکر هذا الکلام أیضاً فی تفسیر آیات الأحکام أیضاً، ونقل عنه بعض المطالب، فی حین أنّ هذا الکتاب لا یوجد له أثر الآن (6).

علی أیّة حال، ففیما یتعلّق بالقرآن، هناک ثلاث مسائل لابدّ من بحثها: أحدها: من ناحیة الصدور یعنی انتساب القرآن إلی اللَّه تعالی، والثانیة: مسألة عدم تحریف القرآن، والثالثة: جهة الدلالة وکیفیة استنباط الأحکام من القرآن.

القرآن کلام اللَّه:

وهذا الموضوع یقع فی دائرة البحوث الکلامیة التی یتمّ إثباتها بواسطة الأدلة والشواهد المختلفة التی تثبت أنّ القرآن کلام اللَّه، وأنّ هذه هی عقیدة جمیع المسلمین، وهم یعتقدون أنّ القرآن وحی إلهیّ من قِبل اللَّه تعالی إلی النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله الذی کان فی حال نزول الوحی علی یقین تامّ من أنّ هذا القرآن هو کلام اللَّه تعالی. ثمّ أنّ النبیّ الأکرم تلاه علی الناس بدون أیّ زیادة ونقصان وبلّغه إلیهم، وبعده لم یقع تحریف أو تغییر فی عباراته وآیاته لحدّ الآن، فما هو بین أیدینا من کتاب اللَّه هوالقرآن الواقعی وکلام اللَّه الحقیقی. بل إنّ البعض یعتقد أنّ ترتیب آیات وسور القرآن أیضاً إنّما هو من قِبل اللَّه الذی أنزله بواسطة جبرئیل الأمین علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله (7) (وسیأتی قریباً البحث عن عدم إمکانیة تحریف القرآن).

والمقصود من کون القرآن وحیاً إلهیاً لیس فی دائرة المعنی والمفهوم فحسب، بل إنّ عین ألفاظه هی کلام


1- الإتقان، ج 4، ص 40؛ اللباب فی اصول الفقه، ص 51.
2- اللُّباب فی اصول الفقه، ص 49 و 50.
3- کشف الظنون، ج 1، ص 20.
4- الفهرست، ص 108.
5- الذریعة، ج 1، ص 40.
6- مقدّمة کنز العرفان لواعظزادة الخراسانی، ص 11.
7- اصول الفقه، ج 2، ص 51.

ص: 158

اللَّه، ومن هنا یتبیّن الفارق الأساس بین الروایات والقرآن الکریم، لأنّ الکثیر من الروایات والأحادیث لا تمثّل ألفاظ النبیّ والأئمّة علیهم السلام بنفسها بل هی من قبیل النقل بالمعنی حیث أذن الأئمّة لرواة(1) الأحادیث بتغییر الألفاظ والعبارات مع الاحتفاظ بالمعنی، ویتّفق محدّثو الإمامیة وفقهاؤهم وأکثر أهل السنة علی جواز النقل بالمعنی فی دائرة الأحادیث الشریفة، والقلیل من علماء أهل السنّة لا یرون جواز ذلک (2).

ولکن بالنسبة للقرآن الکریم فلا یجوز النقل بالمعنی، ولذلک عندما أنزل اللَّه مثلًا الآیة الشریفة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فمع أنّ کلمة «

قل

» تمثّل خطاباً خاصّاً بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، ولکنّ النبیّ لم یحذف هذه الکلمة عندما کان یتلو هذه الآیة علی الناس، بل بلّغها للناس کما نزلت علیه، أو مثلًا عندما تقول الآیة: «لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا»(3) بدون حرف «واو» وفی مکان آخر جاءت: «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا»(4) مع ال «واو» فإنّ النبیّ الأکرم بلّغ هاتین الآیتین بأمانة وبدون تغییر.

وهناک أدلّة وشواهد کثیرة فی علم الکلام والعلوم القرآنیة بالنسبة لحقّانیة القرآن الکریم، والحقّانیة هنا بمعنی أنّ القرآن الموجود بین یدی المسلمین هو القرآن النازل علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله. وهذا المطلب یمکن إثباته تارة من خلال وجوه إعجاز القرآن المختلفة، وأخری من طریق تواتر القرآن فی جمیع العصور والأجیال البشریة منذ صدر الإسلام ولحدّ الآن.

وقد ذکر المرحوم البلاغی 12 وجهاً من وجوه الإعجاز فی القرآن،(5) وذکر صاحب «مناهل العرفان» أربعة عشر وجهاً منها(6)، وأخیراً فإنّ بعض العلماء کالسیوطی فی کتابه «معترک الأقران» أوصل وجوه إعجاز القرآن إلی 35 وجهاً(7).

عدم إمکان تحریف القرآن:

ویعتقد المحقّقون الإسلامیون، سواء من الشیعة أو من أهل السنّة، أنّ القرآن الکریم لم یتعرّض للتحریف لا فی زمان نزوله ولا فی العصور المتأخرة، إلی العصر الحاضر، وما یوجد بین أیدینا هو ذلک القرآن النازل علی النبیّ الأکرم، وأنّ احتمال تحریف القرآن بسبب بعض الشبهات، لا أساس له. (والمراد من التحریف هو حذف أو إضافة أو تبدیل آیات القرآن الموجودة فعلًا بالنسبة للقرآن الواقعی).

وبالنسبة لمقولة التحریف، فقد نقلت روایات فیما یتّصل بهذا المعنی، بعضها ضعیف والبعض الآخر یراد من التحریف فیها التحریف المعنوی، والمراد من التحریف فی بعضها مایتضمّن تفسیر الکلمات والعبارات القرآنیة(8).

وقد توهمّ البعض أنّ هذه الروایات واردة فقط فی بعض کتب الشیعة، فی حین أنّ مثل هذه الروایات موجودة فی کتب الإخوة من أهل السنّة أیضاً(9).


1- الفوائد الحائریة للوحید البهبهانی، ص 284.
2- معالم الدین، ص 203.
3- سورة الشوری، الآیة 7.
4- سورة الأنعام، الآیة 92.
5- آلاء الرحمن، ج 1، ص 33- 48.
6- مناهل العرفان، ج 2، ص 574 وما بعده.
7- معترک الاقران، ج 1، من الأول إلی الأخیر.
8- طالعوا التوضیح الکامل فی هذا الصدد فی کتاب أنوارالاصول، ج 2، ص 340.
9- مسند أحمد، ج 1، ص 394؛ صحیح الترمذی، ج 5، ص 191.

ص: 159

ولکن هذه الروایات، مضافاً إلی ما تقدّم من الکلام عنها، فهی مخالفة للکتاب والسنّة المعتبرة، لأنّ القرآن الکریم کتاب لا یأتیه الباطل کما صرّحت الآیة: «لَّا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ»(1). فهذه الآیة تقرّر عدم وجود أیّ باطل فی القرآن (ومنه التحریف) فی زمان نزوله وفی الأزمنة التالیة، سواء من قِبل شخص معیّن أو فئة خاصّة.

وفی مکان آخر یقرّر القرآن هذه الحقیقة: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(2). وکذلک ما ورد فی حدیث الثقلین من وجوب التمسّک بالکتاب إلی یوم القیامة وعدم انفصاله عن العترة إلی حین الورود علی الحوض لدی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وهو دلیل علی عدم تحریف القرآن إلی نهایة الدنیا، لأنّه لا یعقل أن یأمر الشارع بوجوب تبعیة الناس لکتاب محرّف.

والحقیقة هی أنّ دعوی التحریف تمثّل نقضاً لأحد الأرکان الأساسیة فی الإسلام، وللأسف فإنّ بعض الجهلاء ومن أجل إثارة الخلاف بین المسلمین وإجهاض المحاولات الخیّرة لطلّاب الوحدة الإسلامیة یتحرّکون دائماً فی ابتغاء الفتنة بین المسلمین، وإحدی المسائل التی یتمسّکون بها هی اتّهام بعض المذاهب الإسلامیة بأنّها تعتقد بتحریف القرآن، غافلین عن أنّهم بهذا العمل لا یتمکنون من تقویة منهجهم ودعم أطروحتهم، بل إنّهم یعملون علی إضعاف التمسّک بالقرآن من حیث لا یعلمون، وإحیاء شبهة التحریف فی أذهان المسلمین.

إنّ ما هو مسلّم هو أنّ الأکثریة الساحقة من علماء الفریقین لا یقبلون بمقولة التحریف، ولذلک لا یمکن نسبة القول بالتحریف إلی أیّ مذهب من المذاهب الإسلامیة، وهناک جماعة قلیلة ممّن یعتقدون بتحریف القرآن، ولا شکّ فی أنّ هذه العقیدة، طبقاً لما تقدّمت الإشارة إلیه بشکل إجمالی من الأدلّة المتقنة، باطلة ولا أساس لها من الصحة.

وأساساً، کیف یمکن أن تمتّد ید التحریف إلی کتاب کان منذ نزوله یُقرأ باستمرار فی جمیع المحافل وفی الصلاة وغیر الصلاة، وهناک حفظة کثیرون له فی کلّ عصر وزمان، وحتّی أنّهم ذکروا أنّ کتبة الوحی عند نزول القرآن کانوا أربعین شخصاً، وتتضمّن آیاته جمیع ما یحتاج إلیه المسلمون من تعالیم وأحکام، وبدیهی أنّ احتمال وقوع التحریف فی مثل هذا الکتاب أمر غیر معقول.

حجیّة نصوص القرآن وظواهره:

تبیّن من البحث السابق أنّ القرآن قطعیّ الصدور، والآن نتکلّم عن دلالة القرآن، ولا شکّ فی أنّ آیات القرآن واضحة المعنی وغیر مجملة، ولکنّ ذلک لا یعنی أنّ جمیع آیات القرآن قطعیة الدلالة والمعنی، لأنّ القرآن نفسه یقسّم آیاته إلی محکمات ومتشابهات:

«مِنْهُ آیَاتٌ مُحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»(3).

ویمکن تفسیر وتبیین الآیات المتشابهات بالرجوع إلی المحکمات.

والمطلب الآخر أنّ المحکمات بدورها تنقسم إلی قسمین: فهناک نصوص واضحة المعنی إلی حدّ أنّه لا یحتمل وقوع الخلاف فی معناها، وهناک نصوص


1- سورة فصلت، الآیة 42.
2- سورة الحجر، الآیة 9.
3- سورة آل عمران، الآیة 7.

ص: 160

ظاهرة المعنی وهی ظنّیة الدلالة(1).

البحث المهمّ هنا ما یتّصل بحجّیة الظواهر، فعلماء الإسلام یرون الظواهر حجّة فی الجملة، بالرغم من أنّ حجّیة خصوص ظواهر القرآن وقعت موقع الشک.

وعدم القبول من قِبل الأخباریین (جماعة من محدّثی الإمامیة)(2) ویستفاد من کلمات بعضهم أنّ الظهور مطلقاً (سواء فی القرآن) أو فی غیر القرآن حجّة، ولکنّ ما یخصّ القرآن هو أنّ هذا الظهور لا ینعقد فیه، وما نشاهد من ظواهر القرآن فهو فی الحقیقة من المتشابهات التی نظنّها من الظواهر.

أدلّة حجیّة الظواهر:

إنّ حجّیة ظواهر الألفاظ بشکل عام من المسلّمات ولا تحتاج إلی دلیل، ولکن فی ذات الوقت یمکن إقامة دلیلین لإثبات ذلک:

1. ارتکاز العقلاء

فإنّ الناس عندما یتحدّثون فیما بینهم یعتمدون علی ظواهر الکلام للطرف المقابل، وهکذا حالهم فی دائرة الرسائل والإقرار والاستدلال والمنازعات اللفظیة وأسناد المعاملات وغیر ذلک، ... فإنّهم یعتبرون ظاهر کلام المتکلّم حجّة، سواء کان بنفعه أو بضرره، والشارع الإسلامی المقدّس فی کلامه وخطابه للناس لم یخرج عن طریقتهم ولم یبتکر اسلوباً جدیداً فی الخطاب، بل أمضی طریقتهم فی التفاهم والخطاب.

2. لزوم نقض الغرض

لأنّ الغرض من وضع الألفاظ والقوانین المتعلقة بالحقیقة والمجاز والاستعارة والکنایة وغیر ذلک هو التفهیم والتفهّم، ومع عدم حجّیة الظواهر فإنّ هذا الغرض لا یتحقق فی عملیة التفاهم بین الناس (3).

حجیّة ظواهر القرآن والتحقیق فی کلمات الأخباریین:

إنّ أهل السنّة یرون بداهة حجّیة ظواهر القرآن وذکروا أنّ ظاهر القرآن حجّة إلّاإذا قام دلیل علی تأویله أو تخصیصه أو نسخه (4).

وهذا الموضوع یبحث فی علم اصول الفقه لدی الشیعة بشکل مفصل ومشروح، والسبب فی ذلک ظهور الفکر الأخباری المبنی علی عدم استنباط الأحکام من ظواهر القرآن.

إنّ الأخباریین یقولون: «هناک روایات عدیدة فی منع تفسیر القرآن واستنباط الأحکام منه، ولا طریق لدینا فی غیر ضروریات الدین سوی السماع عن الصادقین علیهما السلام.(5) وأحیاناً یقولون: إنّ علم القرآن خاص برسول اللَّه صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام لأنّهم هم المخاطبون بالقرآن لا الآخرین ویجب علی الناس الرجوع إلیهم فی فهم القرآن»(6).

ومع أنّ عقیدة الأخباریین هذه وقعت مورد النقد والإبطال من قِبل المحقّقین المعروفین من علماء الإمامیة وأجابوا عنها، ولکن مع الأسف فإنّ البعض لم


1- الاتقان، ج 2، ص 9.
2- الفوائد المدنیة، ص 47؛ الفوائد الحائریة، ص 283.
3- أنوار الاصول، ج 2، ص 323 و 324.
4- المهذّب فی أصول الفقه المقارن، ج 3، ص 1202.
5- الفوائد المدنیّة، ص 47.
6- هدایة الأبرار، ص 155.

ص: 161

یتمکّنوا أو لم یریدوا التفریق بین نظر الأخباریین وسائر الفرق الإسلامیة، فهؤلاء ینسبون الأفکار الخاصة بجماعة الأخباریین فی هذا المجال لجمیع علماء مدرسة أهل البیت علیهم السلام وبدلًا من التحقیق فی مجموع الأحادیث الواردة فی هذه الموضوع أو الرجوع إلی آراء علماء الشیعة، فإنّهم یختارون روایات خاصة من کتب الشیعة وبصورة انتقائیة، وأحیاناً یعملون علی تقطیع الروایة الواحدة ویستنبطون من هذه الروایة ما علیه عقیدة الأخباریین فیما یخصّ ظواهر القرآن من دون التحقیق فی فقه الحدیث أو التحقیق فی سائر الروایات ومعرفة المخصّص والمقیّد والناسخ والمعارض، وینسبون هذا الموقف السلبی من ظواهر القرآن إلی جمیع علماء الشیعة، بل یقرّرون أنّ هذا الموقف هو الموقف الرسمی لمذهب أهل البیت علیهم السلام (1)!

والعجب ما ورد فی أحد هذه الکتب أنّه نسب مقولة خاصة للشیعة عن القرآن الکریم ثمّ ذکر مصدر هذه المقولة من أحد کتب الأخباریین باسم «مشارق الشموس الدرّیة»(2).

علی أیّة حال، فإنّ الأخباریین استدلّوا بظواهر بعض الروایات التی لا تدلّ إطلاقاً علی مرادهم، ومن جملة هذه الروایات ما ورد من النهی عن تفسیر القرآن بالرأی (3)، والحال أننا نعلم أنّ المراد من تفسیر القرآن بالرأی هو أن یترک المفسّر المفهوم الظاهر من الآیات القرآنیة لدی العرب، ویفسّرها وفقاً لمیوله ورغباته، وبتعبیر آخر: أنّه یعمل علی إسقاط أفکاره ومسبوقاته علی المراد من الآیات الشریفة، وهذالعمل لا یجوز قطعاً ولیس له علاقة بموضوع حجّیة ظواهر القرآن. أو یستدلّون بالروایات التی تقول: إنّ فهم القرآن یختصّ بالنبیّ والأئمّة المعصومین (4) فی حین أنّ المراد من هذه الروایات هو ما یتّصل بالمتشابهات فقط أو بطون القرآن لا ظواهر القرآن.

والشاهد علی هذا لکلام أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام کانوا یأمرون أصحابهم مرّات عدیدة بلزوم الرجوع إلی القرآن الکریم، وحتّی عند تعارض الأحادیث یقولون:

«فإنْ وَجَدْتُمُوه لِلقُرآنِ مُوافِقاً فَخُذوا بِه، وإن لم تَجِدوه مُوافِقاً فَرُدُّوه»(5).

ونقرأ فی بعض الأحادیث (6) أنّه عندما یسأل الراوی الإمام یقول له الإمام علیه السلام:

«یُعرَف هذا وأمثالُه من کتابِ اللَّه عزّوجلّ

: «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(7).

أو عندما یسأل الراوی الإمام: ما هو الدلیل علی کفایة مسح بعض الرأس فی الوضوء؟ فیقول له الإمام علیه السلام:

«لِمَکان الباء»

؛ فی قول تعالی: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ»(8) التی تعطی معنی التبعیض (9).

وعلی أیّة حال، فإنّ حجیّة نصوص وظواهر القرآن أوضح من أن تکون بحاجة إلی بحث کثیر، وأنّ أفکار الأخباریین فی هذا العصر لا تملک من یؤیدها فی الحوزات العلمیة الشیعیة، ویمکن القول أنّها أصبحت من جملة العقائد المنقرضة والتی انتهی زمانها.


1- أصول مذهب الشیعة الأثنی عشریة، ج 1، ص 155 وما بعده.
2- موقف الرافضة فی القرآن، ص 362.
3- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضی، ح 28 و 66 و 79.
4- المصدر السابق، ح 3 و 6 و 9 و 10 و 12 و 15 و ....
5- المصدر السابق، الباب 9 من أبواب صفات القاضی.
6- المصدر السابق، ج 1، الباب 39 من أبواب الوضوء، ح 5.
7- سورة الحج، الآیة 78.
8- سورة المائدة، الآیة 6.
9- انظر: وسائل الشیعة، ج 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، ح 1.

ص: 162

ب) السنّة

اشارة

المنبع الثانی للاستنباط الفقهیّ المتّفق علیه بین جمیع فقهاء الإسلام هو السنّة. والسنّة فی الأصل هی ما صدر عن نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله سوی القرآن، من قول (ویشمل کتب النبیّ أیضاً) وفعله وتقریره ممّا یقع فی دائرة الأحکام الشرعیة(1).

إنّ فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام وسّعوا من دائرة السنّة وقالوا: إنّ السنّة عبارة عن قول وفعل وتقریر المعصوم (النبیّ صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام)(2).

حجیّة سنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

بالنسبة لحجیّة سنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فیمکن إثباتها بأدلّة مختلفة، لأنّه مع قبول نبوّته ورسالته، فإنّه لا یبقی أیّ شکّ بحجّیة سنّته، مضافاً إلی أنّه یمکن الاستدلال لإثبات هذه المقولة بالقرآن الکریم:

إنّ اللَّه تعالی یقول فی سورة الحشر الآیة 7: «وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا». وهذه الآیة مطلقة وتشمل جمیع أوامر النبیّ ونواهیه. وبهذه الآیة یوجب اللَّه تعالی علی الناس إطاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی أوامره ونواهیه، حیث یشمل ذلک قوله وفعله وتقریره، ثمّ یحذّر المسلمین بعد ذلک بقوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ»، وهذا التحذیر یقرّر أنّ مخالفته تستلزم العقوبة والعذاب.

وکذلک ما ورد فی الآیة 59 من سورة النساء من وجوب طاعة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: «أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ ...».

وکذلک ما ورد فی الآیتین 3 و 4 من سورة النجم حیث یقول: «وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی ، حیث ثبّتت هذه الآیة أنّ جمیع کلام النبیّ صلی الله علیه و آله هو من جهة اللَّه تعالی، وبعبارة أخری أنّ جمیع کلام النبیّ وحی إلهیّ، غایة الأمر أنّ قسماً من هذا الوحی عبارة عن القرآن والقسم الآخر یتمثّل بالأحادیث النبویة.

حجیّة سنّة أئمّة أهل البیت علیهم السلام:

أمّا حجیّة سنّة الأئمّةالمعصومین علیهم السلام فیمکن إثباتها بعدّة أدلّة. ومسألة حجّیة قول الأئمّة علیهم السلام ولزوم إطاعتهم واتّصافهم بمقام العصمة، کلّها تعدّ من بحوث علم الکلام، وقد ورد البحث فیها فی کتب عقائد الشیعة، حیث یعتقد أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام بأنّ الأئمّة المعصومین لیسوا من قبیل المجتهدین الذین یعملون بالحدس والظنّ وأحیاناً یقع بینهم الاختلاف فی الفتوی وبالتالی تکون فتواهم حجّة علی مقلّدیهم الذین أحرزوا فیهم شروط الاجتهاد، ولا تکون حجّة علی مجتهد آخر، بل إنّ إمامتهم عهد إلهیّ ومنصب مفوّض إلیهم من قِبل اللَّه تعالی، وأنّهم یبلّغون الأحکام الإلهیّة الواقعیة التی یستلمها کلّ إمام معصوم من قِبل الإمام السابق له، کما ورد ذلک فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام حیث قال: «

حدّثنی- أی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله- بألف حدیث یفتح کلّ حدیث ألف حدیث»(3)

. وفی روایة أخری عن الفضیل بن یسار عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«لو أنّا حدّثنا برأینا ضللنا کما ضلّ من کان قبلنا، ولکنّا حدّثنا ببیّنة من ربّنا بیّنها لنبیّه صلی الله علیه و آله لنا: «

بَیِّنَةٌ مِن رَبِّنا بَیَّنَها


1- المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 2، ص 607.
2- الأصول العامة، ص 161؛ اصطلاحات الأصول، ص 141.
3- مناقب آل أبی طالب نقلًا عن الحافظ أبی نعیم، ج 2، ص 44. ونقل هذه الروایة الصدوق فی الخصال مع 24 سنداً.( الخصال، ص 642).

ص: 163

لِنَبِیِّه فَبَیَّنَها نَبِیُّه لَنا»(1).

ولکنّ الأساس فی حجیّة سنّة أهل البیت علیهم السلام قبل کلّ شی ء هو ما ورد فی «حدیث الثقلین» الذی یقرّر أنّ التمسّک بالعترة واجب إلی جانب التمسّک بالقرآن الکریم، وهذا الحدیث الشریف متواتر بین أهل السنّة والشیعة وقد نقله 36 رجلًا من الصحابة(2)، وذکره 180 عالماً ومحدّثاً من أهل السنّة فقط، وفی بعض طرق هذا الحدیث ورد أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قاله فی حجّة الوداع.

وفی بعض آخر أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله فی المدینة فی مرضه الذی توفّی فیه، وفی روایة أخری أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله بعد حجّة الوداع فی غدیر خم، وطبقاً لروایة رابعة أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله بعد عودته من الطائف، وهذا یدلّ علی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله فی مناسبات مختلفة لغرض بیان أهمیة الکتاب والعترة(3).

علی أیّة حال، فإنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی هذا الحدیث الشریف أوجب التمسّک بالعترة کما أنّ التمسّک بالقرآن واجب، وقرّر أنّ هذا التمسّک یصون المسلمین من الوقوع فی متاهات الضلال والسقوط فی منزلقات الانحراف، وکذلک ما ورد فی روایات أخری فی تشبیه أهل البیت علیهم السلام بأمان لأهل الأرض (4) وسفینة النجاة(5)، ومصادر هذه الروایات مأخوذة من کتب أهل السنّة.

بعض المناقشات فیما یتّصل بحجّیة سنّة أئمّة أهل البیت علیهم السلام:

إنّ أهمّ الإشکالات التی أوردوها علی حجّیة أحادیث الأئمّة المعصومین علیهم السلام، ثلاثة:

الإشکال الأوّل: إنّ الدّین قد کمل فی عصررسول اللَّه صلی الله علیه و آله، وهو ما یستفاد من آیة «إکمال الدین»:

«الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی»(6).

وکذلک ما ورد فی الحدیث النبویّ:

«ما مِنْ شی ء یُقرّبُکُم إلی الجنَّةِ ویُباعِدکم من النّار إلّا وقد أمَرتُکم به، وما مِن شی ءٍ یُباعِدکم من الجنَّةِ ویُقرِّبکم من النّار إلّاوقد نَهَیتُکم عنه»(7).

وهذا یعنی أنّ جمیع الواجبات والمحرّمات التی تنتهی إلی الجنّة والنار قد بیّنتها لکم. وعلی هذا الأساس لا یبقی فی الدین نقص فی أحکامه حتّی یقال بأنّ سنّة الأئمّة جاءت لإکمال هذا النقص، إذن لا یمکن قبول مصدر آخر للتشریع غیر ما صدر من اللَّه ورسوله، لأنّ الالتزام بهذا المعنی هو اعتراف بنقص الدین فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وفی حیاته.

الجواب: إنّ إکمال الدین فی زمان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أمر قطعیّ ومسلّم، ولکن یجب تشخیص المراد من إکمال الدین.

أوّلًا: إنّ هذا الإشکال یرد قبل کلّ شی ء علی الذین یعتقدون بحجّیة قول الصحابة وحجّیة القیاس والاستحسان ووجود منطقة الفراغ فی الدین والاجتهاد بالرأی فیما لا نصّ فیه، فهؤلاء یجب علیهم أیضاً رفع التضادّ الموجود بین اعتقادهم هذا وبین آیة إکمال الدین.

ثانیاً: إنّ إکمال الدین یختلف عن مسألة إبلاغ الدین، فالدین فی زمان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله صار کاملًا، وأمّا ما بیّنه


1- بصائر الدرجات، ص 319؛ بحارالانوار، ج 2، ص 173، ح 7.
2- جامع أحادیث الشیعة، ج 1، ص 46 وما بعده.
3- الصواعق المحرقة، ص 150.
4- المصدر السابق، ص 151 و 234؛ مستدرک الحاکم، ج 3، ص 149.
5- الصواعق المحرقة، ص 150.
6- سورة المائدة، الآیة 3.
7- الکافی، ج 2، ص 74؛ کنز العمّال، ج 4، ص 24، ح 9316.

ص: 164

الأئمّة المعصومون علیهم السلام للناس فلم یکن من باب إکمال الدین ورفع نقائصه، بل من باب إبلاغ الدین الذی وصل إلی مرتبة الکمال فی زمان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ولا یمثّل ذلک رأیهم الشخصیّ حتی یقال أنّهم یعملون علی إکمال الدین، وهذا المعنی ورد فی الروایة عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«لو أنّا حدّثنا برأینا ضَلَلنا کما ضَلّ مَن کان قَبلنا ولکنّا حدَّثنا ببیِّنةٍ من ربّنا بیَّنها لِنَبیِّه فَبیَّنها لنا»(1).

وفی روایة سماعة، وهو أحد أصحاب سابع الأئمّة موسی بن جعفر علیهما السلام أنّه قال: «قلت له: أکلُّ شی ءٍ فی کتاب اللَّه وسنّة نبیّه صلی الله علیه و آله، أوتقولون فیه؟ قال:

«بَل کُلّ شی ءٍ فی کتاب اللَّه وسنّةِ نبیّه»(2)

وفی روایة أخری:

«لسنا

من: أرأیت فی شی ء»(3)

(یعنی أنّ کلّ ما وصل إلیهم فهو من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله).

وجاء فی روایة أخری عن الإمام الباقر علیه السلام قال لجابر بن یزید الجعفی:

«یا جابر! لو کُنّا نُفتی الناس برأینا وهَوانا لکنّا مِن الهالکین»(4).

علی أیّة حال فإنّ عقیدة مدرسة أهل البیت علیهم السلام هی أنّ الإمام علیه السلام هو خازن العلم الإلهیّ وحافظ الشرع ووارث نبیّ الإسلام، وحافظ سرّ اللَّه وحامل کتاب اللَّه والداعی إلی اللَّه. والأئمّة هم الذین:

«لَایَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ»

أی أنّهم لا یتخطّون الأوامر والتعالیم الإلهیة، بل یعملون بأمره، «وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ»(5).

وینقل ابن سعد فی طبقاته عن علیّ بن أبی طالب علیه السلام عندما سئل: ما لک أکثر أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله حدیثاً؟ فقال:

«إنّی کنتُ إذا سألتُه أنبَأنی، وإذا سَکتُّ إِبتدَأنی. ما نَزلت آیةٌ إلّاوقد علِمتُ فیما نَزلت وأین نَزلت»(6).

إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال لأمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام: «یا علیّ ما أُملی علیک؟ قلت: یا رسول اللَّه! أتخاف علیَّ النسیان؟! قال: لا، وقد دعوت اللَّه أن یجعلک حافظاً ولکن أُکتب لشرکائک، ... وهذا أوّلهم وأشار إلی الحسن، ثمّ قال: وهذا ثانیهم وأشار إلی الحسین ثمّ قال: والأئمّة من ولده»(7).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار الروایة الأخیرة، یتّضح الجواب عن إشکال آخر، وهو ما یقال من أنّ الکثیر من أحادیث الشیعة قد نقلت عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام والأئمّه الذین جاءوا من بعدهما، وهؤلاء لم یدرکوا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، وحینئذٍ فإنّ أحادیثهم «مرسلة» من حیث السند، أی أنّ الأشخاص الذین کانوا واسطة فی نقل الأحادیث بین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والأئّمة والذین لم یدرکوا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مجهولون، ومعلوم أنّ الخبر المرسل غیر حجّة.

والجواب: بالنسبة للروایات التی یتّصل سندها إلی الأئمّة علیهم السلام کالإمام الصادق علیه السلام فإنّ السند معلوم وذلک أنّه ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال لهشام بن سالم و حماد بن عثمان وآخرین:

«حدیثی حدیثُ أبی، وحدیثُ أبی حدیثُ جدّی وحدیثُ جدّی حدیثُ الحسین وحدیثُ الحسین حدیثُ الحسن وحدیثُ الحسن حدیثُ أمیرالمؤمنین علیهم السلام وحدیثُ


1- بصائر الدرجات، ص 319؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 172. وورد نظیر هذه الروایة فی کنز العمّال، ج 13، ص 164 عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام.
2- بصائر الدّرجات، ص 321؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 174.
3- الکافی، ج 1، ص 58.
4- جامع أحادیث الشیعة، ج 1، ص 38؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 172.
5- سورة الأنبیاء، الآیة 27.
6- طبقات ابن سعد، ج 2، ص 338.
7- ینابیع المودّه، ج 1، ص 73.

ص: 165

أمیرالمؤمنین علیه السلام حدیثُ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وحدیثُ رسول اللَّه قولُ اللَّه عزّوجل»(1).

ونقرأ فی روایة أخری أنّ جابر طلب من الإمام الباقر علیه السلام أن یذکر سند أحادیثه فقال: إنّ حدیثی حدیث أبی عن رسول اللَّه، ثمّ قال:

«وکلّ ما احدِّثک بهذا الإسناد»(2)

. وبالطبع فإنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام عندما یذکرون للناس بعض الأحادیث النبویة فإنّهم فی الغالب لا یذکرون السند إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لوضوحه، ولکن عندما یحضر بعض أهل السنّة فی مجلسهم فإنّهم یذکرون سند الحدیث إلی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، وعلی هذا الأساس نجد أنّ روایات جماعة من أهل السنّة الذین یروون أحادیث عن أهل البیت علیهم السلام فإنّها مقترنة فی الغالب باتّصال سندها برسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

الإشکال الثانی: إذا کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لم یبلّغ هذه الأحکام للناس مع علمه بها، وقد بلّغها الأئمّة علیهم السلام للناس، إذن فقد کتم الحقّ، وکتمان الحق حرام کما یقول القرآن الکریم: «لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَکْتُمُونَهُ»(3).

وفی آیة أخری یقول:

« «إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَی مِنْ بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتَابِ أُوْلَئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ»(4).

وعلی هذا الأساس فبما أنّ النبیّ کان یعلم أحکام اللَّه وأنّ وظیفته هی إبلاغ هذه الأحکام للناس، فإذن یجب أن یبلّغها للناس لا أن یضعها ودیعة عند آخرین لیبلّغونها للناس.

الجواب: إنّ «کتمان ما أنزل اللَّه» عبارة عن إخفاء ما وجب بیانه والإعلان عنه، وعملیة الإبلاغ وإیصال الأحکام للناس تخضع لشروط ومقرّرات فی دائرة الزمان والمکان، وکیفیة البیان، ومن هم الأشخاص الذین یجب إبلاغهم.

وتوضیح ذلک: إنّ بعض الأحکام لم یتحقّق موضوعها أو أنّه لا توجد مصلحة فی بیانها فی ذلک الوقت، ولذلک فإنّ بعض الأحکام حتّی فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله تمّ إبلاغها للناس بشکل تدریجیّ مع أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان عالماً بها، ولکن لم یعترض أحد علی رسول اللَّه بأنّه بالرغم من علمه بجمیع الأحکام الإلهیة، فإنّه قام ببیان هذه الأحکام بشکل تدریجی طیلة مدّة نبوّته 23 عاماً وأنّه لماذا تکتم الحقّ؟ لأنّ بیان جمیع الأحکام فی زمان واحد سیؤدّی إلی أن تکون هذه الأحکام ثقیلة علی الناس، وبالتالی ابتعادهم عن الدین، ولهذا السبب فإنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بیّن أحکام الإسلام بشکل تدریجی ووضع قسماً منها عند أهل البیت علیهم السلام.

مضافاً إلی أنّ إبلاغ الخطاب الإلهی بواسطة النبیّ لا یعنی أنّ النبیّ یقوم بإبلاغ هذه الأحکام إلی کلّ فرد فرد من المسلمین، بل إنّه إذا بلّغ الأحکام لجماعة خاصّة من المسلمین؛ وجعلهم واسطة فی إبلاغ هذه الأحکام إلی سائرالمسلمین؛ فإنّه قد أدّی وظیفته فی إبلاغ وبیان الرسالة الإلهیّة ولا یصدق علیه کتمان الحقّ، وإلّا فإنّ هذا الإشکال وارد علی جمیع الأنبیاء الإلهیین وجمیع المطّلعین علی المسائل الدینیة من أنّهم یکتمون الحقّ.

إنّ الکثیر من المسلمین (حتّی الصحابة الذین أدرکوا النبیّ) کانوا یأخذون أحادیث النبیّ بعد رحلته من سائر الصحابة، والکثیر من المسیحیین بعد عیسی علیه السلام کانوا


1- الکافی، ج 1، ص 53.
2- الامالی للمفید، ص 42.
3- سورة آل عمران، الآیة 187.
4- سورة البقرة، الآیة 159.

ص: 166

یسمعون کلام عیسی من الحواریین ویقبلونه ولم یعترضوا علیهم أنّه لماذا لم یبیّن لنا النبیّ هذا الحکم بشکل مباشر؟ ولماذا کتم هذا الحکم عنّا؟

الإشکال الثالث: إنّ الشیعة یعتقدون بأنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام یتمتّعون بمقام العصمة، وأنّه لا ینبغی الشکّ فی علمهم وحقّانیتهم، وعلیه فلا ینبغی وجود تعارض وتناقض بین الروایات الواردة عن الأئمّة، لأنّ ذلک یتقاطع مع عظمة أهل البیت ومقامهم العلمیّ، فی حین أننا نری وجود روایات متعارضة ومتناقضة فی کتب الحدیث لدی الشیعة؟

الجواب: أوّلًا: إنّ مسألة التعارض لا تختصّ بأحادیث الأئمّة علیه السلام بل التعارض موجود فی الأحادیث النبویّة، وقد بحث أهل السنّة فی کتبهم الأصولیة مسألة تعارض الأحادیث وکیفیة الجمع بینها وترجیح أحدها علی الآخر(1).

ثانیاً: هناک عوامل وأسباب متعدّدة لتعارض الأخبار، نکتفی بالإشارة لبعضها:

1. خطأ الراوی فی فهم الروایات. ففی الکثیر من الموارد لا یکون هناک تعارض فی النصوص الشریفة، وإنّما اشتبه الأمر علی الراوی وأخطأ فی فهم کلام النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام.

2. زوال القرائن اللفظیة والحالیة، ففی زمن صدور الروایات کانت مقترنة مع بعض القرائن الخاصة فی سیاق هذه الروایات، وأدّی تقطیع الروایات إلی ضیاع هذه القرائن، وبالتالی حدوث التعارض الموجود.

3. النقل بالمعنی بواسطة الرواة، والمراد من ذلک أنّ جمیع الرواة لا ینقلون المعنی بدقّة، فأحیاناً تقع أخطاء واشتباهات فی هذا المجال، وهذه الأخطاء بدورها تعتبر أحد العوامل لتعارض الأخبار.

4. التدریج فی بیان الأحکام من قِبل النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام والمراد من ذلک أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام لم یطرحوا کلّ حکم من الأحکام الشرعیة بجمیع تفاصیله وموادّه القانونیة والاستثناءات الواردة بشکل کتاب قانون کامل للناس، لأنّ مثل هذا العمل ربّما یؤدّی إلی بروز مشکلات فی الواقع الفردی والإجتماعی، ولذلک نزلت الأحکام الشرعیة وتمّ إبلاغها بصورة تدریجیة، وأحیاناً تقع فاصلة زمنیة بین بیان الشرائط والقیود والاستثناءات وبین بیان أصل الحکم، وهذا الأمر أدّی إلی أن یشعر البعض بوجود تعارض بین أصل الحکم والقیود والشرائط المعتبرة فیه.

5. مسألة التقیّة من حکّام الجور فی قول الإمام علیه السلام أو فعله وهو ما یتسبّب فی إیجاد توهّم التعارض بین الروایات.

6. النظر إلی حالات الشخص المخاطب. فأحیاناً یکون الراوی فی حالة وظرف خاصّ یقتضی حکماً شرعیاً خاصّاً یختلف عن الآخر، ولکنّ هذا الراوی عندما ینقل جواب الإمام له فإنّه ینقله إلی الآخرین بشکل قضیة مطلقة.

7. عملیة التحریف والتغییر فی کلام الإمام علیه السلام من قِبل المغرضین والمخالفین. ففی کلّ زمان یوجد هناک أشخاص مغرضون ومعاندون ومنافقون، حتّی فی عصر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وهؤلاء یتحرّکون علی مستوی تحریف کلام النبیّ صلی الله علیه و آله کما ورد فی الحدیث الشریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«کثرت علیَّ الکذّابة»(2)


1- روضة الناظر، ج 2، ص 390 وما بعده.
2- غیبة النعمانی، ص 76؛ احتجاج الطبرسی، ج 1، ص 393.

ص: 167

ویقول فی مکان آخر: «

من قال علیّ ما لم أقُل فلیتبوّأ مقعَدَه من النّار»(1)

ونقرأ فی تاریخ الروایات وجود أشخاص کالمغیرة بن سعید وأبی الخطّاب (2) وغیرهما من الذین قاموا بجعل الأحادیث وإشاعة التحریف بین الناس، وقد ورد ذمّهم والبراءة منهم فی روایات أهل البیت علیهم السلام (3).

8. وجود الأحکام السلطانیة المؤقّتة. کما هو الوارد من أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام أوجب الزکاة علی الخیل، ولکن بعد ذلک العصر فإنّ هذا الحکم الحکومی قد ألغی وانتهی مفعوله.

کیفیة استنباط الأحکام من فعل المعصوم علیه السلام:

نظراً لأنّ الألفاظ تدلّ علی المعانی بشکل أوضح وأجلی من الأفعال وتوصل المقصود إلی المخاطب بشکل أوسع، لذلک صدر الأمر والنهی بشکل لفظیّ وهو ظاهر فی الوجوب والحرمة، وهذا الظهور حجّة کما تقدّم، ولکن هل أنّ فعل المعصوم یدلّ علی الوجوب کما هو الحال فی أمره ونهیه؟ وهل أنّ ترک العمل من قِبل المعصوم یدلّ علی حرمته؟ فتأمل فیه.

من المعلوم أنّ فعل المعصوم علیه السلام لا یدلّ علی أکثر من الجواز (عدم حرمة الفعل) فعندما یقوم المعصوم علیه السلام بعمل معیّن فإنّ ذلک یدلّ علی أنّ هذا العمل لیس بحرام ولکن لا یمکن استفادة الوجوب منه، کما أنّ ترک عمل معیّن لا یدلّ سوی علی عدم وجوبه لا علی حرمته (4)، إلّا أن تقوم قرینة علی أنّ هذا الفعل یدلّ علی الوجوب من قبیل أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام یقوم بعمل معیّن بقصد تعلیم حکمه الشرعیّ للناس، أو أن یکون فعل أو ترک المعصوم علیه السلام لعمل معیّن بشکل مستمرّ، حیث ذهب البعض إلی أنّ ذلک یدلّ علی الوجوب أو الحرمة.

قد یقال إنّ فعله صلی الله علیه و آله یدلّ علی الوجوب، لأنّ القرآن الکریم أوجب التأسّی بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی أفعاله، وإن کان ذلک الفعل غیر واجب علی النّبی نفسه «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ کَانَ یَرْجُواْ اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ»(5).

وفی مقام الجواب نقول: إنّ تعریف «التأسّی» عبارة عن:

«أن تفعل مثل فعله صلی الله علیه و آله علی وجهه من أجل فعله صلی الله علیه و آله»(6)

فإن التأسّی بالنبیّ إنّما یکون واجباً إذا کان الفعل واجباً، فنحن أیضاً نقصد الوجوب من ذلک، وإن کان مستحبّاً أو مباحاً فنحن أیضاً فی مقام العمل نلتزم بالاستحباب أو الإباحة فی ذلک العمل، لا أنّ کلّ عمل یقوم به النبیّ یکون واجباً علینا وإن لم یکن واجباً علیه.

کیفیة حجیّة تقریر المعصوم علیه السلام:

التقریر عبارة عن سکوت المعصوم فی مقابل عمل یرتکب أمامه (أو فی غیابه ولکن مع علمه به)

والدلیل علی اعتبار التقریر وحجّیته هو أنّه لو کان ذلک القول أو العمل حراماً ومنکراً، فیجب علی المعصوم أن یتحرّک من موقع الاعتراض علیه ومخالفته لأنّ النهی عن المنکر واجب.

ویقول البعض: إنّ تقریر المعصوم غیر حجّة، لأنّ


1- کنز العمّال، ج 10، ص 295، ح 29489.
2- رجال الکشّی، ص 146.
3- تعارض الأدلّة الشرعیّة، ص 28- 42.
4- اصول الفقه، ج 2، ص 63.
5- سورة الأحزاب، الآیة 21.
6- شرح المعالم، ج 2، ص 390.

ص: 168

النهی عن المنکر وإرشاد الجاهل غیر واجب فی جمیع الموارد، من قبیل ما إذا قام أحد بارتکاب المنکر ونهاه أحد الأشخاص ولم یؤثر نهیه واعتراضه علیه، فإنّ ذلک یسقط النهی عن المنکر من جدید. والجواب: إنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الکلام، لأنّ محلّ الکلام إنّما هو الموارد التی تتوفّر فیها شروط وجوب النهی عن المنکر وتعلیم الجاهل.

سنّة الصحابة:

إنّ جمهور أهل السنّة یعتقدون بحجّیّة سنّة الصحابة بدل سنّة أهل البیت علیهم السلام (1) لجبران الفراغ الموجود فی الأدلّة الشرعیة. ویعتقد هؤلاء أنّ الصحابی هو الشخص الذی أدرک رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی زمان حیاته وکان هذا الشخص مسلماً وفارق الدنیا وهو مسلم (2)، ویتّفق أهل السنّة علی أنّ کلّ من صحّ إطلاق إسم الصحابی علیه فهو عادل (3)، فی حین أنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام یعتقدون بأنّ صحابة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وإن امتازوا بشرف صحبة النبیّ، وکان من بینهم شخصیّات جلیلة وکبیرة، ولکنّهم من حیث العدالة کسائر الأشخاص، ففیهم العادل وغیر العادل (بشهادة القرآن والحدیث والتاریخ).

ویستدلّ أهل السنّة علی عدالة جمیع الصحابة بعدّة أدلّة، منها الآیة الشریفة: «کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(4) والآیة: «وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ»(5) والآیة «لَّقَدْ رَضِیَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبَایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ»(6).

فی حین أنّ الآیة الأُولی والثانیة ترتبط بجمیع الأمّة، والآیة الثالثة تختصّ بالأشخاص الذین شارکوا فی بیعة الرضوان ولا تشمل جمیع الصحابة، مضافاً إلی أنّ رضا اللَّه تعالی عنهم بسبب بیعة الرضوان لا یدلّ علی رضاه عن جمیع أفعالهم وأعمالهم.

إنّ علماء هذه الطائفة یتمسّکون أیضاً بأحادیث متعدّدة، وأهمّها الحدیث المعروف:

«أصحابی کالنّجومِ بأیّهِمُ اقتَدَیتُم اهتَدَیتُم»(7).

فی حین أنّ ابن حزم یری أنّ هذا الحدیث ساقط عن الاعتبار ومجعول وغیر صحیح (8).

مضافاً إلی أنّ بعض الروایات وردت بهذه الصورة:

«أهل بَیتی کالنُّجوم بأیِّهِمُ اقتَدَیتم اهتَدَیتم»(9)

وهذا الحدیث ینسجم ویتناسب مع حدیث الثقلین المتواتر.

مضافاً إلی ذلک، فإنّ القرآن الکریم قد ذمّ جماعة من الصحابة الذین ترکوا میدان القتال أو تخلّفوا عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أو اعترضوا علیه، وقد صرّح فی بعض الآیات بکونهم فاسقین، ففی الآیة یقول: «وَمِنْهُمْ مَّنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَّمْ یُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ یَسْخَطُونَ»(10) ویقول فی مکان آخر: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَی مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ»(11).

وأغلب المفسّرین من أهل السنّة ذکروا أنّ هذه الآیة نزلت فی الولید بن عقبة وهو من الصحابة. ویقول ابن


1- الموافقات، الشاطبی، ج 4، ص 74.
2- الإصابة فی تمییز الصحابة، ج 1، ص 158.
3- المصدر السابق، ص 162.
4- سورة آل عمران، الآیة 110.
5- سورة البقرة، الآیة 143.
6- سورة الفتح، الآیة 18.
7- میزان الاعتدال، ج 1، ص 413 و 607.
8- الأحکام لإبن حزم، ج 6، ص 810.
9- لسان المیزان، ج 1، ص 424.
10- سورة التوبة، الآیة 58.
11- سورة الحجرات، الآیة 6.

ص: 169

عاشور فی تفسیره أنّ ذلک مورد اتّفاق العلماء والمفسّرین والروایات الناظرة إلی هذا المعنی متظافرة(1).

مضافاً إلی أنّ القرآن الکریم یتحدّث فی سورة النور والأحزاب وبراءة والمنافقون، عن جماعة من المسلمین فی الظاهر وأنّهم من الصحابة فی ظاهر الحال ولکنّهم یعیشون النفاق فی الباطن ولم تذکر أسماؤهم إطلاقاً، ونقرأ فی قصة الإفک المعروفة فی سورة النور 15 آیة فی ذمّ جماعة من هؤلاء الأشخاص المسلمین فی الظاهر ومن الصحابة أیضاً، وعلی أیّة حال فلا شکّ فی أنّ الصحابة مع کلّ الاحترام والتقدیر لهم، فإنّ فیهم جماعة من الصالحین ومن غیر الصالحین، ولا یمکن اعتبار کلامهم جمیعاً حجّة.

مضافاً إلی کلّ ما تقدّم فإنّ بعض الأعمال الّتی صدرت من بعض مشاهیر الصحابة لا یمکن تبریرها وقبولها بأیّ معیار، فکلّنا نعلم ما جری فی واقعة الجمل واشتراک طلحة والزبیر- وهما صحابیّان معروفان- فی هذه الحرب التی أثارا نیرانها وخرجا علی إمامهم وخلیفة زمانهم، وتذکر بعض التواریخ أنّ 17000 ألفاً من المسلمین قتلوا فی هذه المعرکة.

وکذلک نعلم أنّ معاویة قد ارتکب هذا العمل أیضاً فی مقابل خلیفة زمانه الإمام علیّ علیه السلام، ولعلّ أکثر من مائة ألف من المسلمین قتلوا فی معرکة صفّین، فهل یمکن تبریر سفک مثل هذه الدماء وبالتالی القول بأنّ هؤلاء أشخاص عادلون؟!

هل یمکن إطلاق صفة المجتهد علی هؤلاء، وتبریر هذه الذنوب العظیمة بمنطق العقل؟ إذا کان الأمر کذلک فإنّ کلّ ذنب فی کلّ عصر وزمان یمکن تبریره تحت هذا العنوان، فأیّ عالم یجد فی نفسه قبولًا لهذا المعنی؟

علی أیّة حال فنحن نحترم صحابة النبیّ من حیث صحبتهم لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله، ولکنّهم ینقسمون کسائر المسلمین إلی فئتین، بل عدّة فئات، فمن کان منهم ثقة وعادلًا فنحن نقبل روایته عن النبیّ صلی الله علیه و آله.

کیفیة تحصیل السنّة:

إنّ السنّة کما تقدّم، عبارة عن قول أو فعل أو تقریر المعصوم. وعلیه فإنّ الأخبار والأحادیث لیست هی السنّة، بل حاکیة عن السنّة، وفی الحقیقة هی طریق للحصول علی السنّة.

أمّا طرق تحصیل السنّة، فمنها ما هو قطعیّ، ومنها ما هو غیر قطعیّ (2):


1- تفسیر ابن عاشور، ج 26، ص 228.
2- وقسّم بعض أهل السنّة الخبر إلی ثلاثة أقسام: الخبر الذی یجب التصدیق به، والخبر الذی یجب تکذیبه، والخبر الذی یجب التوقّف عنده وعدم اتّخاذ موقف معیّن منه. وقالوا: إنّ الخبر الذی یجب التصدیق به علی سبعة أنواع: 1. المتواتر 2. خبر اللَّه تعالی 3. خبر رسول اللَّه 4. أخبرت عنه أُمّة إذا ثبت عصمتها بقول الرسول علیه السلام، المعصوم عن الکذب وفی معناه کلّ شخص أخبر اللَّه تعالی أو رسوله عنه بأنّه صادق لا یکذب. 5. کل خبر یوافق ما أخبر اللَّه تعالی عنه أو رسوله صلی اللَّه علیه وسلم أو الامّة. 6. کلّ خبر صحّ أنّه ذکره المخبر بین یدی رسول اللَّه وبمسمع منه ولم یکن غافلًا عنه، فسکت علیه لأنّه لو کان کذباً لما سکت عنه. 7. کلّ خبر بین یدی جماعة أمسکوا عن تکذیبه، والعادة تقتضی فی مثل ذلک بالتکذیب وامتناع السکوت لو کان کاذباً، وذلک بأن یکون للخبر وقع فی نفوسهم وهو عدد یمتنع فی مستقر العادة التواطؤ علیهم بحیث ینکتم التواطؤ ولا یتحدثون به، وأمّا من الأخبار ما یعلم کذبه فهی أربعة: 1. ما یعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر. 2. ما یخالف النص القاطع من الکتاب والسنّة والمتواترة وإجماع الامّة. 3. ما صرّح بتکذیبه جمع کثیر یستحیل فی العادة تواطؤهم علی الکذب. 4. ما سکت الجمع الکثیر عن نقله والتحدّث به مع جریان الواقعة بمشهد منهم. وأمّا القسم الثالث وهو ما لا یعلم صدقه ولا کذبه، فیجب التوقّف فیه وهو جملة الأخبار الواردة فی أحکام الشرع والعبادات».( المستصفی، ج 1، ص 142- / 144).

ص: 170

أ) الطرق القطعیّة للتوصّل إلی السنّة

1. الخبر المتواتر: إنّ الروایات الشریفة وبسبب الفترة الزمانیة بین أکثر الرواة فی الأُمّة الإسلامیة وبین المعصومین علیهم السلام، تتضمّن وسائط متعدّدة من الرواة لتتّصل بالمعصوم، وکلّما امتدة الفترة الزمنیة بین الناس والمعصوم، فإنّ ذلک یعنی زیادة عدد الوسطاء من الرواة. ویصطلح علی کلّ واسطة فی علم الرجال ب «طبقة». فالخبر المتواتر هوالذی یتوفّر فی کلّ طبقة منه جماعة من الرواة لا یمکن عادةً توافقهم علی الکذب وجعل الخبر، ومن هنا کان التواتر مورثاً للیقین.

ویقسم التواتر إلی ثلاثة أقسام: الأوّل: التواتر اللفظی وهو عبارة عن الخبر الذی یرویه جمیع الرواة بنفس الألفاظ. الثانی: التواتر المعنوی وهو الخبر الذی یروی معناه ومدلوله التضمّنی أو الالتزامی جمیع الرواة مع اختلاف الألفاظ. الثالث: التواتر الإجمالی، وهو عبارة عن الاطمئنان بصدور أحد الأخبار علی نحو الإجمال بدون أن یتمّ تشخیص الخبر بعینه وإن لم تکن هناک نقطة اشتراک بین هذه الأخبار فی المضمون (1).

2. الخبر الواحد المقترن بالقرینة القطعیة: وهو الخبر الذی لم یصل إلی حدّ التواتر، فهو خبر واحد فی الاصطلاح. وأحیاناً یقترن هذا الخبر بقرائن تفضی إلی الیقین بصدوره عن المعصوم. ویری الأخباریّون أنّ روایات الکتب الأربعة (الکافی، الاستبصار، التهذیب، ومن لا یحضره الفقیه) کلّها من قبیل الخبر الواحد المحفوف بالقرینة، ولذلک ذهبوا إلی حجّیتها جمیعاً، وعلی هذا الأساس أنکروا تقسیم روایات هذه الکتب إلی: صحیح وضعیف ومرسل ومرفوع و ...(2). ویری أکثر أهل السنّة مثل هذه الرؤیة لجمیع روایات کتب الصحاح الستّة وخاصّة صحیح البخاری وصحیح مسلم فهی حجّة کلّها لدیهم.

3. الإجماع: الإجماع یعتبر حجّة فی مذهب الإمامیّة من جهة کونه کاشفاً عن رأی المعصوم، وهو مثل الخبر المتواتر أو الخبر المحفوف بالقرینة من حیث کونه کاشفاً عن السنّة، ولکن بما أنّ أهل السنّة یرون الإجماع دلیلًا مستقلّاً، فنحن جعلناه فی عرض الأدلّة الأربعة، وسنبحث لاحقاً عن مسلکین فی الإجماع.

4. سیرة العقلاء: إنّ سیرة وبناء العقلاء، عبارة عن استمرار عادة جمیع الناس من المسلمین وغیر المسلمین علی أداء عمل أو ترکه، وفی صورة اعتبارها دلیلًا علی الحکم الشرعی إذا ثبت إمضاء المعصوم لهذه السیرة، ویکفی لإثبات إمضاء المعصوم مجرّد عدم ردع الشارع وعدم نهیه عن هذه السیرة(3)، لأنّه إذا کانت السیرة تمثّل عملًا حراماً فینبغی علی المعصوم النهی عنها.

5. سیرة المسلمین: وهی طریقة عمل الأشخاص الملتزمین بالدین بالنسبة لفعل معیّن أو ترکه، ویعتبر ذلک نوع من الإجماع العملیّ للمسلمین. وهذه السیرة إذا کانت متّصلة بزمان المعصوم فهی حجّة، لأنّها کاشفة عن صدور قول أو فعل من قِبل المعصوم علیه السلام فی هذا الشأن.

وأمّا لو لم یعلم اتّصالها بزمان المعصوم علیه السلام فهذه السیرة لیست بحجّة وإن ظهرت بصورة عادة معمول بها فی المجتمعات الإسلامیة، لأنّه أحیاناً یؤثّر سلوک


1- مصباح الأصول، ج 2، ص 192.
2- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 23.
3- أصول الفقه، ج 2، ص 171.

ص: 171

شخص معیّن أو فئة من الناس علی عواطف وأحاسیس الناس إلی درجة یتحوّل هذا السلوک بالتدریج إلی عادة رسمیة وعامّة وإن لم یکن لها منشأ إسلامی، وربّما لا یتّخذ العلماء والمتدیّنون فی بدایة ظهور هذا العادة موقفاً منها بسبب تسامحهم أو غفلتهم أو خوفهم، وحتّی فی صورة اتّخاذ موقف معیّن منها، فإنّه غیر کافٍ فی إلغاء هذه العادة وإزالتها، لأنّ تلک العادة تکون قد غلبت علی الناس وتحرّک الناس فی هذا الخطّ، وبسبب مرور الزمان فإنّ تلک العادة ترکّزت فی أذهانهم واشتدّت لدی عامة الناس وبلغ احترامها من قِبلهم إلی درجة أنّهم نسبوها إلی الإسلام والمسلمین. ومن هذا القبیل النفقات الباهضة التی تشاهد فی هذا الزمان لبناء بعض المساجد(1).

ب) الطرق غیر القطعیة للحصول علی السنّة:

قلنا أنّ هناک طرقاً غیر قطعیة للکشف عن السنّة، وهی بحدّ ذاتها غیر معتبرة لأنّ الدلیل علی الحکم الشرعی یجب أن یکون قطعیاً، فلا قیمة لمجرّد الاحتمال والظنّ فی نظر العقل، ومن جهة أخری فإنّ القرآن بدوره یقرّر هذه الحقیقة، وهی أنّ الظن لا اعتبار له ولا یصحّ اتباعه:

«إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»(2).

«وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُوْلَئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا»(3).

ولکن إذا اتّخذت هذه الطرق غیر القطعیة صورة معقولة وکانت تعتمد علی دلیل قطعی لاعتبارها، فستکون حجّة، وفی هذه الصورة لا یکون العمل بها من قبیل اتّباع الظنّ.

والطرق غیر القطعیة المعتبرة کالتالی:

1. خبر الواحد: وهو الخبر الذی یکون عدد رواة کلّ طبقة منه. وحتّی فی طبقة واحدة راوٍ واحد أو أکثر من واحد ولکنّه لا یبلغ حدّ التواتر ولا یورث القطع وهذا الخبر یسمّی بالاصطلاح «خبر الواحد».

ویعتبر بحث خبر الواحد من أهمّ البحوث فی مصادر الاستنباط، ویختلف الفقهاء فی حجّیته، فالسیّد المرتضی وابن زهرة وابن البرّاج والطبرسی وابن إدریس (4) من فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام، ومن أهل السنّة القدریة وبعض الظاهریة(5)، ینکرون حجّیة خبر الواحد. بینما الشیخ الطوسی وأغلب کبار فقهاء الشیعة وجمیع الأخباریین وجمهور أهل السنّة یرون حجّیة خبر الواحد(6).

وأمّا شروط حجیّة خبر الواحد فلیس هناک رأی واحد، فقدماء الإمامیة یرون الخبر معتبراً إذا کان محفوفاً بقرائن تدلّ علی صحته، سواء کانت قرائن داخلیة کوثاقة الراوی، أو خارجیة کوجود الخبر فی کتاب معتبر أو تکرار الخبر فی کتاب واحد، والخبر غیر المعتبر لدیهم هو الخبر الذی لا یقترن بمثل هذه القرائن (7)، وعلماء الشیعة منذ القرن السادس فلاحقاً ذهب بعضهم إلی اشتراط عدالة الرواة وبعض إلی وثاقتهم کشرط لحجّیة الخبر، وعلی هذا الأساس قسّموا الأخبار إلی أربعة أقسام: الصحیح، الحسن،


1- اصول الفقه، ج 2، ص 175.
2- سورة النجم، الآیة 28.
3- سورة الاسراء، الآیة 36.
4- کفایة الأصول، ج 2، ص 79.
5- روضة الناظر، ج 1، ص 313.
6- المصدر السابق.
7- انظر: مقیاس الهدایة فی علم الدرایة، ج 1.

ص: 172

الموثّق، والضعیف.

«الخبر الصحیح»: فی نظر الإمامیّة هو ما کان من حیث سنده یتّصل بالمعصوم علیه السلام بواسطة رواة عدول وعلی مذهب الإمامیة.

أمّا «الخبر الحسن» فهو الذی یتصّل بالإمام علیه السلام بواسطة راوٍ إمامیّ حسن السمعة بدون أن یرد تصریح فی عدالته ووثاقته، و الخبر الموثّق» هو ما ورد بواسطة راوٍ غیر إمامیّ ولکنّه ثقة یعتمد علیه، ویتّصل هذا الخبر بالإمام المعصوم. وأمّا «الخبر الضعیف» فهو الذی لا تتوفّر فیه الشروط الثلاثة المذکورة آنفاً(1).

وبالطبع فإنّ الأخباریین یرون حجّیة جمیع الروایات فی الکتب الأربعة وأمثالها، ولا یرون صحّة التقسیم المذکور للروایات، ولکنّهم لم یقیموا دلیلًا مقبولًا لإثبات قولهم هذا.

أمّا فی نظر أهل السنّة فإنّ «الخبر الصحیح» هو الخبر الواحد الذی یتّصل سنده بالمعصوم (أی لا یوجد سقط فی سلسلة السند فیه) وجمیع رواته عدول ویملکون ملکة الضبط ولا یتّصفون بأیّ شذوذ وعیوب خفیّة.

(ما اتّصل سنده بعدولٍ ضابطین بلا شذوذٍ ولا علّةٍ خفیّة»

. وأمّا «الخبر الحسن» فهو عندهم

(ما عرف مخرجه ورجاله لا کرجال الصحیح)

. وأمّا «الخبر الضعیف» فهو الذی لا یتمتّع بأیّ درجة من الحسن، فهو علی مراتب أیضاً:

(ما قصُر عن درجة الحسن وتتفاوت درجاته فی الضعف بحسب بُعده من شروط الصحّة)(2).

2. الشهرة: وقد ذهب جماعة من الفقهاء والأصولیین إلی أنّ الشهرة تعتبر أحد منابع الاستنباط الفقهیّ، ویجب أن یکون معلوماً أنّ الشهرة علی ثلاثة أنحاء:

أ) الشهرة الروائیة: وهذه الشهرة فی مصطلح أهل الحدیث (3)، تطلق علی الخبر الذی یرویه رواة کثیرون ولکنّه لا یصل إلی حدّ التواتر، والخبر المشهور یقال عنه أیضاً «المستفیض» وتعتبر هذه الشهرة الروائیة من المرجّحات عند تعارض خبرین (4)، بمعنی أنّه إذا کانت هناک روایتان متعارضتان من حیث المدلول وإحداهما تملک شهرة روائیة ویرویها رواة أکثر من الأخری، فإنّها ترجّح علی الروایة الأخری، ودلیل هذا الترجیح هو أنّ نفس الشهرة تبعث علی الوثوق والاطمئنان. مضافاً إلی أنّه ورد تصریح فی بعض الروایات بهذا الأمر، منها مقبولة عمر بن حنظلة، ففی هذه الروایة یسأل الإمام الصادق علیه السلام: إذا اختلف راویان فی نقل الحدیث وکان کلّ منهما ثقة فما العمل؟ فیقول الإمام علیه السلام بعد أن یذکر بعض المرجّحات لتقدیم أحد الخبرین علی الآخر:

«ینظُر إلی ما کان مِن روایتِهم عنّا فی ذلک الّذی حَکَما به، المُجْمَع علیهِ من أصحابِک فیؤخَذ بهِ من حُکمِنا ویُترَک الشّاذّ الّذی لیس بمشهورٍ عِند أصحابک»(5).

وقد ورد الکلام عن الشهرة الروائیة فی بعض کتب أهل السنّة الذین قسّموا الخبر إلی ثلاثة أقسام:

(المتواتر، المشهور، والواحد) وأرادوا بالحدیث المشهور، الحدیث المتداول علی ألسنة الرواة والمحدّثین، وهو المقدّم علی الخبر غیر المشهور (الواحد) لأنّ هذا الخبر مثیر للاطمئنان (6).


1- الدرایة فی علم مصطلح الحدیث للشهید الثانی، ص 19- / 34.
2- أَسنی المطالب، ص 17.
3- أصول الفقه، ج 2، ص 163.
4- أنوار الأصول، ج 2، ص 417.
5- الکافی، ج 1، ص 67.
6- التعارض والترجیح لعبداللطیف عبداللَّه، ج 2، ص 169.

ص: 173

والنوع الآخر من الشهرة التی تعتبر عندهم من المرجّحات، هی شهرة الراوی، لا شهرة الروایة. فقالوا:

إذا کان الراوی للخبر مشهوراً أکثر من راوی الخبر الآخر، فإنّ خبره مقدّم، وقسّموا هذه الشهرة إلی عدّة أقسام:

أحدها: أن یکون الراوی من کبار الصحابة، وبما أنّه یتمتّع بمنصب عالٍ، فإنّ ذلک یمنعه من الکذب.

والثانی: أنّ من کان ذا إسم واحد فإنّه یرجّح علی من کان ذا اسمین،

الثالث: إنّ الراوی المعروف النسب یقدّم علی الراوی المجهول النسب.

الرابع: إذا کانت أسماء الرواة لا تشتبه بأسماء الأشخاص الضعفاء، فإنّ روایتهم ترجّح علی الروایة التی یرویها من کانت أسماؤهم مشتبه بها(1)،

هکذا یقدّم الرواة المشهورون بالحفظ والضبط، أو من کانوا ثقاة وعدولًا، علی غیرهم (2).

ب) الشهرة العملیة: وهی عبارة عن کون الروایة مشهورة بین الفقهاء فی العمل بها والاستناد إلیها(3).

ویستفاد من هذه الشهرة فی موردین: أحدهما، فی المرجّحات فی باب التعارض، فهناک قالوا: إذا کنّا نعتقد بأنّ الأقربیة للواقع تعدّ من موارد الترجیح، فحینئذٍ تکون الشهرة العملیة أحد المرجّحات، غایة الأمر، فی صورة أن یکون العمل علی طبق الروایة من قِبل القدماء من الفقهاء(4). والآخر، فی مسألة جبران ضعف سند الروایة. یعنی إذا کانت الروایة ضعیفة وفقاً للموازین المقرّرة، ولکنّ الکثیر من الفقهاء أفتوا علی طبقها، فعملهم هذا وفتواهم یجبر ضعف سند الروایة ویجعلها قابلة للاعتماد، کما أنّ الخبر الصحیح والمعتبر إذا لم یعمل به الفقهاء وأعرضوا عنه، فإنّ هذا الخبر یسقط من درجة الاعتبار. ولکنّ البعض کصاحب «المدارک» لم یقبل جبران الشهرة للخبر الضعیف، ولا إعراض الفقهاء فی وهن السند(5).

ج) الشهرة الفتوائیة: وهی عبارة عن شیوع فتوی معیّنة لا تصل إلی حدّ الإجماع وفی مقابلها الفتوی الشاذّة. وقد ذهب بعض الأصولیین من الإمامیّة إلی أنّ الشهرة الفتوائیة تعتبر من الامارات المقبولة، وقالوا:

بالرغم من أنّ فتوی فقیه معیّن غیر حجّة لإثبات الحکم لفقیه آخر، ولکنّ هذه الفتوی نفسها عندما تصل إلی حدّ الشهرة ویفتی بها الکثیر من الفقهاء، فإنّ ذلک من شأنه أن یکون دلیلًا علی الحکم لفقیه آخر، حیث یستنبط الحکم الشرعیّ بذلک، وهذا هو ما ذهب إلیه الشهید الأوّل فی «الذکری»(6).

ولکنّ البعض الآخر یرون عدم اعتبار الشهرة الفتوائیة، ولا یعدّونها من منابع الاستنباط، وأمّا من یری الشهرة الفتوائیة حجّة، فقد ذکر لإثبات ذلک عدّة أدلة:

أحدها: أنّه إذا کان خبر الواحد حجّة فینبغی أن تکون الشهرة حجّة بطریق أولی، لأنّ الظنّ الحاصل من الشهرة أقوی بمراتب من الظنّ الحاصل من خبر الواحد(7). والآخر أنّه ورد فی روایة زرارة وعمر بن


1- المحصول للفخر الرازی، ج 5، ص 420.
2- التعادل والترجیح، ج 2، ص 169.
3- أنوار الاصول، ج 2، ص 417.
4- أصول الفقه، ج 2، ص 252.
5- مصباح الأصول، ج 2، ص 143.
6- ذکری الشیعة، مقدّمة المؤلّف، ج 1، ص 52.
7- أنوار الأصول، ج 2، ص 417.

ص: 174

حنظلة لزوم الأخذ بالمشهور وترک الشاذّ النادر، وکذلک ما ورد فی الجملة الواردة فی ذیل آیة النبأ(1) حیث یقول تعالی: «... أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَی مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِینَ»(2).

وقد ذکر الفقهاء جواب هذه الأدلّة فی کتبهم الأصولیة بصورة مفصّلة، فراجع.

وقد ذهب البعض إلی التفصیل بین شهرة القدماء وشهرة المتأخرین. فقالوا: إنّ الآراء الفقهیة للشیعة الإمامیة مرّت علی امتداد التاریخ بعدّة مراحل، ففی البدایة کان الناس یستلمون الروایات والأحادیث من الأئمّة الأطهار علیهم السلام ویعملون بها، وفی المرحلة التالیة کانوا یجمعون الروایات والأحادیث فی الکتب والکرّاسات، وفی هذه المرحلة تمّ تدوین الأصول الأربعمائة (400 أصل وکتاب). وفی المرحلة الثالثة تحرّک الفقهاء علی مستوی تنظیم وتبویب هذه الکتب والکرّاسات، وفی المرحلة الرابعة وهی مرحلة الإفتاء فإنّهم قاموا- بعد حذف السند والتخصیص والتقیید والجمع والترجیح- بالإفتاء وفقاً لمتن الأحادیث، کما فعل ذلک الصدوق فی کتابه «من لا یحضره الفقیه».

وفی آخر مرحلة (المرحلة الخامسة) فقد بدأ عصر التطبیق والتفریع واستنباط الفروع والمسائل الجدیدة.

وعلی هذا الأساس فإنّه قبل المرحلة الخامسة کانت الشهرة الفتوائیة تورث الوثوق والاطمئنان بأحادیث الأئمّة المعصومین علیهم السلام، ولکن بعد المرحلة الخامسة، فإنّ فتاوی الفقهاء تنطلق من جهة الحدس والاستنباط الذی لا یملک الحجّیة علی الفقهاء(3).

وقد طرحت مسألة الشهرة الفتوائیة فی کتب بعض أهل السنّة بصورة أخری، حیث ذکروا فی بحث الإجماع هذه النقطة، وهی: هل أنّ الإجماع یتحقّق برأی الأکثریة أم لا؟ وقد ذهب جمهور أهل السنّة إلی عدم تحقّق الإجماع بقول الأکثریة وقول المشهور، ولکنّ أبا الحسین الخیّاط (من المعتزلة) وابن جریر الطبری وأبابکر الرازی قالوا: إنّ مخالفة واحد أو اثنین للإجماع لا یضرّ فی اعتباره، وقال ابن الحاجب أیضاً:

إنّ المخالف لمسألة معیّنة حتّی إذا کان شاذّاً أیضاً، فإنّه یسقط الإجماع من قطعیته، ولکنّه فی ذات الوقت یری أنّ مثل هذه الأکثریة «الإجماعیة» حجّة(4).

ویقول الغزالّی (5): «لقد ثبتت العصمة والحجّیة للُامّة، ولکن إذا وصل قول إلی الشهرة (دون إجماع الامّة) لا یعتبر حجّة، لأنّه مجرّد ثبوت الاختلاف، ویقول القرآن الکریم: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِیهِ مِنْ شَیْ ءٍ فَحُکْمُهُ إِلَی اللَّهِ»(6)» وبالنتیجة فإنّه یری سقوط الشهرة عن الحجّیة.

البحوث المشترکة فی الکتاب والسنّة:
اشارة

هناک بحوث ومواضیع مشترکة فی کلّ من الکتاب والسنّة (سوی البحوث الخاصة بکلّ واحد منهما) ویطلق علی مجموعها مصطلح «الأدلّة النقلیة» وهذه البحوث عبارة عن:

1. تقسیمات الأدلّة النقلیة

إنّ الآیات والروایات التی یمثّل کلّ واحد منهما


1- فوائد الاصول، ج 3، ص 155.
2- أنوار الاصول، ج 2، ص 423.
3- المصدر السابق.
4- أصول الفقه الإسلامی، ج 1، ص 518.
5- المستصفی، ج 1، ص 117.
6- سورة الشوری، الآیة 10.

ص: 175

مصدراً مهمّاً من مصادر الاستنباط، یرتبطان فیما بینهما ومع أنفسهما بأشکال مختلفة.

الدلیل العام والخاصّ: وهو الدلیل الذی یثبت حکماً تارة یکون شاملًا لجمیع الأفراد لذلک الموضوع أو المتعلّق أو المکلّف، ویقال عنه الدلیل «العام»، وأحیاناً لا یشمل سوی بعض الأفراد والمصادیق ویقال عنه «الخاصّ». وفی مورد التعارض بین العام والخاص، فإنّ دلیل العام یخصّص، أی أنّ بعض الأفراد یخرجون من دائرة العام، وبذلک فإنّ الخاص یقدّم علی العام (بملاک الأظهریة أو کونه ظاهراً، أو بملاک القرینة وذو القرینة).

مثلًا یقول القرآن الکریم فی الآیة: «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ»(1). ویقول فی الآیة بعدها: «فَمَنْ کَانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ عَلَی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیَّامٍ أُخَرَ»(2).

ویتّفق المتأخرون من فقهاء الشیعة وأکثر أهل السنّة علی إمکان تخصیص العام القرآنی بخبر الواحد. ونسب إلی السیّد المرتضی من قدماء الإمامیة عدم جواز التخصیص، ومن أهل السنّة، عیسی بن أبان (م 221 ه) الذی یقول بعدم الجواز إلّافی مورد یکون التخصیص بدلیل قطعیّ آخر فی مرتبة سابقة، ففی هذه الصورة یجوز تخصیص القرآن بخبر الواحد، وکذلک من أهل السنّة من توقّف فی هذه المسألة، وهو القاضی أبوبکر(3).

ومثال تخصیص القرآن بخبر الواحد، هو قول القرآن: «یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلَادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَیَیْنِ»(4). فهذه الآیة عامّة وتشمل جمیع الأبناء، فعند وفاة الأب قرّرت الآیة حصّة الأبناء وأنّ الذکر یأخذ ضعف سهم البنت، ولکن ورد فی بعض الروایات تخصیص هذا الحکم، حیث منع الإبن القاتل من سهمه فی میراث أبیه (

القَاتِلُ لَایَرثُ مِمَّن قَتَلَه)(5).

دلیل المطلق والمقیّد: المطلق عبارة عن اللفظ الذی لا قید ولا شرط له، وبذلک یشمل جمیع الأفراد، مثلًا عندما تقول الآیة: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(6) فإنّها تشمل جمیع أقسام البیع والمعاملات، ولم تقیّد الآیة بلفظ خاصّ، کما ورد

(نَهی النَّبیُّ عن بَیعِ الغَرَرِ)(7)

وهو البیع المجهول والمبهم، والمشهور بین المحقّقین أنّ اللفظ المطلق إنّما یکون شاملًا لجمیع أفراده فیما إذا توفّرت فیه مقدمات الحکمة، یعنی أوّلًا: أن یکون المتکلّم فی مقام بیان جمیع مقصوده. ثانیاً: أن لا یذکر قیداً فی کلامه. ثالثاً:

أن یکون اللفظ المطلق غیر منصرف لأفراد خاصّین.

رابعاً: أن لا یکون هناک قدر متیقّن من هذا اللفظ فی نظر المخاطب. فی هذه الصورة یکون اللفظ المطلق شاملًا لجمیع الأفراد، ولا یمکن صرف النظر عن هذا الإطلاق بدون دلیل یدلّ علی التقیید.

وبالنسبة لتقیید إطلاقات القرآن بواسطة الحدیث هو مسلّم وقطعیّ، لأنّ الکثیر من أحکام القرآن ذکرت بصورة کلّیة وجاءت الأحادیث وذکرت الجزئیات والتفاصیل، ففی قسم العبادات یتحدّث القرآن بصورة کلیة عن الصلاة والصوم والحجّ وغیرها، وفی باب المعاملات بشکل کلّی عن حلّیة البیع وحرمة الربا، وغیر ذلک من المعاملات، ففی جمیع هذه الموارد تقوم


1- سورة البقرة، الآیة 183.
2- سورة البقرة، الآیة 184.
3- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1 و 2، ص 525.
4- سورة النساء، الآیة 11.
5- دعائم الإسلام، ج 2، ص 386، ح 1375؛ مستدرک الوسائل، ج 17، ص 146، ح 20998.
6- سورة البقرة، الآیة 275.
7- سنن أبی داود، ج 2، ص 119، ح 3376؛ الموطأ، ج 2، ص 644.

ص: 176

الروایات والأحادیث الشریفة ببیان کیفیّة وشروط الحکم وأجزائه وموانعه، وبالتالی فهی تعمل علی تقیید تلک الإطلاقات.

الدلیل الحاکم والمحکوم: الدلیل الحاکم هو الدلیل الناظر إلی الدلیل المحکوم ویعمل علی توسیع أو تضییق دائرة موضوع الدلیل المحکوم. والدلیل الحاکم وإن کان ناظراً بحسب الظاهر إلی الدلیل المحکوم، ولکنّه فی الواقع یعمل علی نفی أو إثبات الحکم بلسان التضییق أو توسیع الموضوع، ونذکر هنا مثالین علی ذلک:

إنّ اللَّه حرّم الربا فی القرآن: «وَحَرَّمَ الرِّبَا»(1) فی حین أنّه ورد فی الروایة:

«لا رِبا بین الوالِدِ والوَلَدِ»(2)

فهذه الروایة تعتبر دلیلًا حاکماً، والآیة الشریفة دلیلًا محکوماً، لأنّ موضوع الدلیل المحکوم «الربا» قد تمّ تحدیده بواسطة الدلیل الحاکم «الروایة» فهذه الروایة وإن کانت بحسب الظاهر تنفی موضوع الربا، ولکنّ المراد من ذلک رفع حرمة الربا، وعلی هذا الأساس فإنّ الحکم یقیّد فی الواقع، ولکنّه بلسان نفی موضوع الربا المنحصر بأن لا یکون طرفی الربا الوالد أو الولد.

مثال آخر: إنّ القرآن یشترط فی صحّة الصلاة أن یتوضّأ المصلّی: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ ...»(3) فی حین أنّه ورد فی الروایة وهی عبارة عن الدلیل الحاکم:

«الطَّوافُ بالبَیتِ صَلاةٌ»(4)

هنا نری أنّ الدلیل الحاکم هذا یوسّع دائرة موضوع الدلیل المحکوم وهو (الصلاة) فیعتبر أنّ الطواف من مصادیق الصلاة، ولکنّها فی الحقیقة تثبت الحکم الوضعیّ وهو اشتراط الطهارة لغیر الصلاة (الطواف) والملاک فی الحکومة هو أنّه لو لم یکن الدلیل المحکوم موجوداً فإنّ الدلیل الحاکم یکون لغواً(5).

وبعبارة أوضح: أنّه عندما تقول الروایة:

«الطَّوافُ بالبَیتِ صَلاةٌ»

فإنّ مفهومها هو أنّ المخاطب قد سمع بالصلاة وأحکامها، فترید هذه الروایة أن تفهم المخاطب بأنّ تلک الأحکام التی وردت فی الصلاة فإنّها تجری فی الطواف، لا أنّ الطواف هو مصداق الصلاة واقعاً.

الدلیل الوارد والمورود: الدلیل الوارد هو الذی یعیّن المصداق الواقعی والحقیقی للدلیل المورود، أو ینفی مصداقاً معیّناً منه.

ومثال ذلک أدلّة حجیّة خبر الواحد، فإنّها واردة علی دلیل البراءة العقلیة (قبح العقاب بلا بیان) لإنّها تعتبر بیاناً للحکم الشرعی، فلا یبقی موضوع للبراءة حینئذٍ(6)، بمعنی أنّه مع وجود خبر الواحد الذی یدلّ علی حکم معیّن فإنّ البیان الإلهیّ یتمّ بذلک ولا یمکن للمکلّف التمسّک حینئذٍ بقاعدة (قبح العقاب بلا بیان).

الدلیل المجمل والمبیَّن: الخطاب المجمل هو ما لم تکن دلالته واضحة، ومقصود المتکلّم غیر مبیَّن بشکل جلیّ، وأمّا الدلیل المبیَّن فهو ما کانت دلالته واضحة وبیّنة، وبذلک یشمل النصّ والظاهر. علی سبیل المثال الآیة تقول: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا»،(7) ولا یتبیّن منها موضع الحدّ للید وأنّها من أیّ مکان یجب قطعها، لأنّ الید تطلق علی نهایة الأصابع إلی الکتف وفیها مفاصل متعدّدة، ویصدق علی کلّ منها ید، ولم


1- سورة البقرة، الآیة 275.
2- وسائل الشیعة، ج 12، الباب 7 من أبواب الربا.
3- سورة المائدة، الآیة 6.
4- عوالی اللئالی، ج 2، ص 167، ح 3.
5- الرسائل( فرائد الأصول)، ص 432.
6- المصدر السابق.
7- سورة المائدة، الآیة 38.

ص: 177

یذکر القرآن فی مکان آخر موضع القطع، ولذلک ینبغی غ الرجوع إلی الأحادیث لبیان الإجمال فی هذه الآیة لیتّضح حدّالقطع. فالدلیل الأوّل هو المجمل والدلیل الثانی هو المبیّن.

المفهوم والمنطوق: عندما یفهم المعنی من اللفظ بصورة مباشرة ویکون اللفظ ناظراً إلی ذلک المعنی بشکل مباشر، فإنّ ذلک یسمّی المنطوق، وأمّا لو لم یفهم المعنی من اللفظ بصورة مباشرة بل کان لازماً للمنطوق ویستفاد من ذلک اللفظ بشکل تلویحیّ، فإنّه یسمّی اصطلاحاً بالمفهوم، مثلًا عندما یقال: إنّ للزوجة حقّ النفقة إذا أمکنت من نفسها، فمفهومه أنّه إذا کانت ناشزاً فلیس لها حقّ النفقة.

أقسام المفهوم:

وینقسم المفهوم إلی قسمین: فإذا کان الحکم فی المفهوم والمنطوق متوافقین، فیقال له حینئذٍ «المفهوم الموافق» وهو بدوره علی قسمین أیضاً: فأحیاناً یدلّ اللفظ علی المفهوم بالأولویة، وحینئذٍ یطلق علیه مفهوم الأولویة، من قبیل: «فَلَا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ»(1) الذی یدلّ علی حرمة البذاء وحرمة السبّ للأب والأُم بالدلالة المفهومیة، لأنّه عندما یدلّ منطوق الآیة علی أیّ کلام یستوجب الإساءة للأب الأُم، فمفهومها یدلّ بطریق أولی علی حرمة السبّ أو الضرب، وأحیاناً تکون الموافقة متطابقة الدلالة من قبیل موارد القیاس المنصوص العلّة(2)، مثل «لا تشرب الخمر لأنّه مسکر» فمفهومها أنّ کلّ نوع من الشراب الذی یورث السکر حرام.

وإذا کان الحکم فی المفهوم مخالفاً، للحکم فی المنطوق، فیطلق علیه مفهوم «المخالفة» وذلک بدوره ینقسم إلی ستّة أقسام: مفهوم الشرط مثل ما تقدّم آنفاً من مثال نفقة الزوجة، مفهوم الوصف، مفهوم الغایة، مفهوم الحصر، مفهوم العدد، ومفهوم اللقب.

وفی الحقیقة فإنّ البحث فی حجیّة المفاهیم هو بحث فی وجود المفهوم، أی أنّه یبحث هل للجملة الشرطیة مفهوم کیما یمکن استنباط الحکم الشرعیّ منها، أم لا؟(3)

ولا شکّ فی حجّیة مفهوم الموافقة، وسیأتی فی بحث أنواع القیاس، الکلام فی ذلک. وأمّا بالنسبة للمفهوم المخالف وأقسامه، فهناک بحوث مفصّلة وأدلّة علی نفی أو إثبات حجّیة بعضها وعدم حجّیة البعض الآخر من هذه المفاهیم، ویمکن مراجعة الکتب المفصّلة فی أصول الفقه فی هذا الموضوع (4).

الناسخ والمنسوخ: النسخ هو رفع الحکم الثابت بسبب مرور الزمان. وهناک اتّفاق بین المسلمین علی وقوع النسخ فی القرآن، ففی سورة البقرة تصرّح الآیة بنسخ الحکم السابق للقبلة وتغییرها من بیت المقدس إلی الکعبة والمسجدالحرام (5). وهناک آیات اخری تؤیّد وقع النسخ فی القرآن، من قبیل الآیة « «مَا نَنسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا»(6).

وفی مثل هذه الموارد من النسخ فی القرآن الکریم هناک اختلاف بین الفقهاء والمفسّرین؛ فبعضهم وسّع


1- سورة الاسراء، الآیة 23.
2- اللباب فی أصول الفقه، ص 159 و 160.
3- أنوار الأصول، ج 2، ص 20.
4- انظر: کفایة الأصول، ج 1، ص 300- / 331؛ أنوار الأصول، ج 2.
5- سورة البقرة، الآیة 142.
6- سورة البقرة، الآیة 106.

ص: 178

دائرة النسخ فی القرآن لیشمل جمیع موارد التخصیص والتقیید، والبعض الآخر یری تحدید النسخ فقط فی مورد واحد وهو آیة النجوی (الآیتان 12 و 13 من سورة المجادلة) ویعدّها مصداق نسخ القرآن بالقرآن (1).

2. عدم إمکان نسخ القرآن بخبر الواحد

یری أکثر علماء الإسلام جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر. وعلماء المذهب الشافعی وأکثر أهل الظاهر لا یجیزونه (2)، وأمّا نسخ القرآن بخبر الواحد، فهو ممنوع عند علماء الشیعة وأهل السنّة، لأنّ النسخ یعتبر أمراً مهمّاً ونادراً، وفی صورة وقوعه، ینبغی أن یکون بشکل متواتر أو متظافر أو مقترن بالقرائن القطعیّة، بخلاف التخصیص والتقیید اللذیْنِ یعتبران من الأمور المتداولة والسائدة، وهناک جماعة استثنوا من هذه المسألة صورة واحدة وقالوا: إنّ نسخ القرآن بخبر الواحد ممکن فقط فی زمان حیاة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله (3).

یقول المرحوم العلّامة الحلّی فی «المنتهی»: «لا یجوز نسخ المقطوع به، قرآناً کان أو سنّة متواترة، بخبر الواحد، لأنّ المقطوع به أقوی، فالعمل به متعیّن عند التعارض»(4).

3. إمکان تخصیص وتقیید القرآن بالحدیث

إنّ القرآن یستوعب فی طیاته الکلیات والخطوط الأساسیة للمسائل والأحکام، ولذلک فمن أجل تحصیل الجزئیات والشروط والقیود، ینبغی التوجّه للسنّة وما ذکره رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی شرح وتفسیر هذه الآیات، مثلًا ما ذکره القرآن عن الصلاة عبارة عن عناوین کلیة من قبیل: «أَقِیمُوا الصَّلَاةَ»(5)، «اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ»(6)، «حَافِظُوا عَلَی الصَّلَوَاتِ»(7) وأمّا کیفیّة أداء الصلاة وشروطها وأجزائها وقواطعها وموانعها، والمستحبّات والمکروهات فیها، ومقدّماتها، وعشرات الفروع الأخری فی الصلاة، فإنّها لا تفهم من الآیات القرآنیة، وإن ذکرت الآیات بعض الفروع والجزئیات بشکل محدود، من قبیل الآیة: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»(8) (وأمثال ذلک) ولکن من الواضح أنّ هناک مسائل کثیرة جدّاً فی الوضوء والصلاة ینبغی لفهمها مراجعة الروایات الشریفة.

علی هذا الأساس بحث العلماء هذا الموضوع وهو:

هل یمکن تخصیص أوتقیید عموم أو إطلاق القرآن بخبر الواحد؟

إنّ أغلب فقهاء الإسلام یرون جواز تخصیص وتقیید القرآن بخبر الواحد. وهناک جماعة قلیلة من أهل السنّة منعوا ذلک. وقد توقّف القاضی أبوبکر الباقّلانی فی هذه المسألة، وذهب بعض إلی التفصیل، منهم: عیسی بن أبان، حیث قال: إذا کان العام القرآنی قد تمّ تخصیصه سابقاً بدلیل قطعیّ أی القرآن والخبر المتواتر أو الخبر المحفوف بالقرینة القطعیة والدلیل العقلی والقطعی، فحینئذٍ یجوز تخصیصه بخبر الواحد وإلّا لا یجوز»(9). ویمکن القول لإثبات جواز تخصیص


1- البیان لآیة اللَّه الخوئی، ص 303- / 406.
2- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 3 و 4، ص 138.
3- روضة الناظر لابن قدامة، ج 1، ص 263.
4- منتهی المطلب، ج 2، ص 228.
5- سورة البقرة، الآیة 43.
6- سورة البقرة، الآیة 45.
7- سورة البقرة، الآیة 238.
8- سورة المائدة، الآیة 6.
9- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1 و 2، ص 525.

ص: 179

وتقیید القرآن بخبر الواحد أنّه:

فی بعض الآیات ورد أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مبیّن للقرآن، حیث تقول الآیة:

«وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ ...»(1).

فهذه الآیة تدلّ علی حجّیة کلام النبیّ صلی الله علیه و آله فیما یتّصل بتبیین الآیات القرآنیة، سواء کان بصورة خبر متواتر أو خبر واحد، ولا یختصّ تبیین النبیّ صلی الله علیه و آله فی دائرة متشابهات القرآن، بل إذا کان التبیین (بصورة تخصیص وتقیید) بالنسبة لظواهر القرآن فهو حجّة أیضاً. فالتخصیص والتقیید یعدّان نوعاً من البیان. وبیان أهل البیت علیهم السلام أیضاً ملحق ببیان النبیّ صلی الله علیه و آله وهو حجّة أیضاً. والدلیل علی هذا الإلحاق هو ما ورد فی حدیث الثقلین وسائر الأدلّة حیث أنّ أهل البیت علیهم السلام صرّحوا بأنّ ما نقوله هو ما وصل إلینا من النبیّ صلی الله علیه و آله (2). وقد قامت سیرة أصحاب النبیّ صلی الله علیه و آله والمسلمین علی أنّهم یأخذون جزئیات وتفاصیل أخبار الآحاد من الثقات الذین یروونه عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

وهنا یثار سؤالان:

1. إنّ القرآن یعتبر حجّة قطعیّة وصادر من اللَّه تعالی بلا شک، وأمّا خبر الواحد فلیس بحجّة قطعیة، ولا یجوز عقلًا ترک الدلیل القطعیّ بسبب وجود دلیل غیر قطعیّ، وعلیه فلا یصحّ ترک عمومات ومطلقات القرآن بسبب خبر الواحد.

الجواب: إنّ القرآن قطعیّ الصدور، ولکن من حیث الدلالة فإنّ عموماته وإطلاقاته غیر قطعیّة، وهی حجّة من باب حجّیة الظواهر، والظواهر إنّما تکون حجّة فی ما إذا لم تقم قرینة علی خلافها.

2. تقدّم سابقاً أنّ روایات (عرض الحدیث علی الکتاب) تقتضی ردّ ما کان مخالفاً للقرآن من هذه الروایات، فإذا کان خبر الواحد مخصّصاً للعامّ القرآنیّ فإنّه یعدّ مخالفاً للقرآن، ویجب طرحه واجتنابه!

الجواب: إنّ عرف العقلاء لا یری أنّ الدلیل الخاصّ مخالف ومعارض للعامّ، بل هو مبیّن له ویعدّ قرینة علی المراد منه، ولذلک ففی کلّ مورد تکون النسبة بین الدلیلین العموم والخصوص، فإنّ قواعد باب التعارض لا تجری هنا، لأنّ هذین الدلیلین لا یعدّان متعارضین.

ج) الإجماع

اشارة

الدلیل الثالث فی عملیة استنباط الأحکام، الإجماع.

وهذا الدلیل یعتبر دلیلًا مهمّاً جدّاً فی نظر أهل السنّة ویرون مشروعیّة الخلافة منوطة بمشروعیة الإجماع (رغم وجود کلام کثیر فی وجود الإجماع فی هذه المسألة). وقد سبق فی بحث منابع الاستنباط أنّه نقل عن ابن تیمیة أنّه یری أنّ الإجماع یغنی المجتهد عن جمیع الأدلّة الأخری حتّی الکتاب والسنّة، حیث یجب القول فی صورة التعارض مع الإجماع بنسخهما أو تأویلهما. ویقول: وبسبب أهمیّة الإجماع لدی أهل السنّة، قیل عنهم «أهل السنّة والجماعة»(3). وأمّا فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام فلهم رأی آخر فی الإجماع، وبدایةً نستعرض نظر أهل السنّة فی هذه المسألة وأدلتهم بشکل موجز، ثمّ نستعرض نظر فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام فی هذه المسألة.


1- سورة النحل، الآیة 44.
2- الکافی، ج 1، ص 53.
3- مجموعة فتاوی ابن تیمیّة، ج 3، ص 346.

ص: 180

نظر أهل السنّة فی الإجماع:

هناک تعاریف مختلفة للإجماع من قِبل أهل السنّة من قبیل: «اتّفاق جمیع أفراد الأُمّة الإسلامیة»،(1) «إتّفاق أهل الحلّ والعقد»،(2) و «إتّفاق جمیع المجتهدین بعد رحلة النبیّ صلی الله علیه و آله»(3)، «وإتفاق مجتهدی عصر معین من أُمّة محمّد صلی الله علیه و آله بعد رحلته علی أمر من أمور الدین»،(4) «إتّفاق أهل المدینة»، «أهل مکّة» «أهل الحرمین»(5) و ....

والمهمّ هنا، البحث فی دلیلهم علی حجّیة الإجماع، فالسؤال الذی یثار هنا هو أنّ اتفاق نظر بعض الناس أو جمیع المسلمین (علی اختلاف التعاریف) کیف یمکنه الکشف عن الحکم الإلهیّ، وخاصّة وضعه فی عرض الکتاب والسنّة وبشکل مستقلّ عنهما؟ بل إنّ البعض یری أنّ الإجماع أقوی منهما، وبعبارة أخری، ما هی الملازمة بین الإجماع والحکم الإلهیّ؟

هنا ذکر علماء أهل السنّة أدلّة مختلفة علی حجّیة الإجماع بعنوانه دلیلًا مستقلّاً، وخلاصة ما ذکر هو:

هناک بعض الآیات القرآنیة التی تدلّ علی حجّیة الإجماع، من قبیل الآیة 115 من سورة النساء حیث تقول: «وَمَنْ یُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدَی وَیَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّی وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِیراً».

قالوا: لا شک فی أنّ مخالفة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لوحدها تستوجب العقوبة الإلهیّة، وعلیه فإنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین لوحده أیضاً یستوجب العقوبة، وإلّا فلا معنی للجمع بین مخالفةالنبیّ صلی الله علیه و آله ومخالفة المؤمنین فی الآیة(6).

وأحیاناً یستدلّون بالآیة 59 من سورة النساء التی تقول: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(7) ومفهوم هذه الآیة أنّه عندما یکون هناک توافق فی الرأی ولا یوجد نزاع فی البین فلا یجب الرجوع إلی اللَّه ورسوله، وهذا یعنی حجّیة الإجماع.

وأحیاناً أخری یستدلّون بالحدیث النبویّ المعروف الذی أورده ابن ماجة فی سننه، أنّ النبیّ قال:

«إنّ أُمّتی لا تَجتَمِعُ علی ضَلالَةٍ»(8)

وفی حدیث آخر یقول النبیّ صلی الله علیه و آله:

«سألتُ اللَّهَ أن لا یَجْمَعَ أمَّتی علی ضَلالَةٍ فأعْطانِیها»(9).

ولکن مخالفی الإجماع علی أساس کونه دلیلًا مستقلّاً ناقشوا فی جمیع هذه الأدلّة، وقالوا: أمّا الآیة الأولی فلا تشیر إلی أمرین، بل تؤکّد علی أنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین إنّما هو تأکید لمخالفة النبیّ، لا أنّه أمر مستقلّ عن مخالفته، لأنّ المؤمنین یتحرّکون دائماً فی طریق النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله. (ویستفاد هذا الجواب من کلام الغزالی فی «المستصفی» أیضاً)(10). مضافاً إلی ذلک، فإنّ المراد من تبعیة غیر سبیل المؤمنین، إنکار الإسلام والإیمان، وهذا الأمر لایتعلّق بالمسائل الفردیة والفقهیة.

ومع غضّ النظر عن جمیع ذلک، فإنّ الإجماع إنّما یکون حجّة فیما لو اختار جمیع المسلمین بدون استثناء طریقاً معیّناً، هذا الأمر لا یحلّ مشکلة للفقهاء.


1- المستصفی ج 1، ص 173.
2- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1 و 2، ص 254.
3- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، ج 9، ص 150.
4- المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 2، ص 900.
5- انظر: أنوار الأصول، ج 2، ص 393.
6- الکشّاف، ج 1، ص 565؛ أحکام القرآن للجصّاص، ج 2، ص 396.
7- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1 و 2، ص 198.
8- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1303، ح 3950.
9- مسند أحمد، ج 6، ص 396.
10- المستصفی، ج 1، ص 138.

ص: 181

وأمّا الآیة الثانیة فهی ناظرة إلی مورد الاختلاف وتأمر المؤمنین فی موارد الاختلاف والنزاع أن یرجعوا فیها إلی اللَّه ورسوله ویطلبوا الحکم فی هذه المسائل، وهذا المعنی لا یتعلّق بالمسائل الفقهیة.

مضافاً إلی ذلک، فلو أنّنا قبلنا دلالة هذه الآیة علی حجّیة الإجماع، فإنّ الإجماع المراد منها یقتضی مشارکة جمیع المؤمنین فیه.

وأمّا بالنسبة للروایة، فبعض ناقش فی صحّة سندها، ویتّضح ذلک من خلال مراجعة شرح «النووی» علی صحیح مسلم (1).

ومن حیث الدلالة، فإنّ الضلالة فی هذه الموارد تعنی غالباً، الانحراف عن أصول الدین، ولذلک فإنّ هذا التعبیر لا یستعمل فی مورد فقهیّ ومسألة فقهیّة معیّنة، ولایقال: إنّ ذلک الفقیه قد سار فی خطّ الضلالة.

مضافاً إلی ذلک، فعلی فرض التسلیم بالسند والدلالة وعدم المناقشة فیهما، فإنّ حجّیة الإجماع إنّما تکون فی مورد یتّفق فیه جمیع أفراد الأمّة علی شی ء وحینئذٍ یثبت بالإجماع، وأمّا علی أساس التعاریف الأخری للإجماع (کإجماع أهل المدینة، وإجماع أهل الحلّ والعقد) فإنّه لا ینسجم معها.

وبالطبع فإنّ علماء الإمامیة یرون حجّیة توافق آراء جمیع أفراد الأمّة، لأنّ المعصوم أحد أفراد هذه الأمّة، وبعنوان أنّه أفضل أفراد الأمّة، وحتّی أنّ اتفاق نظر علماء الإمامیة إنّما یکون حجّة، لأنّه کاشف عن رأی المعصوم کما سیأتی بیانه.

نظر الإمامیّة فی الإجماع:

یتبیّن ممّا تقدّم أنّ الإمامیة لا یرون فی الإجماع دلیلًا مستقلّاً للحکم الشرعیّ، إلّامن جهة کون، کاشفاً عن رأی المعصوم، لأنّه:

أوّلًا: إنّ اتّفاق نظر الفقهاء الذین یعتبرون أنفسهم أتباع أئمّة أهل البیت علیهم السلام ومقیّدین بأنّهم لا یفتون بشی ء بدون دلیل، فإنّ ذلک یستلزم وجود رأی المعصوم فی قولهم.

ثانیاً: مع وجود اتّفاق الرأی بین الفقهاء، یحصل للفقیه حدس یقینیّ برأی المعصوم، لأنّه عندما توجب فتوی فقیه معیّن الظنّ لفقیه أخر بالحکم الشرعیّ، فإنّ فتوی جمیع الفقهاء تنتهی إلی القطع والیقین.

ثالثاً: عندما لا یکون لدینا أیّ مستمسک للحکم الشرعیّ (دلیل أو أصل) فإنّ اتّفاق نظر العلماء یمکنه أن یعکس وجود دلیل معتبر لدیهم، ویشیر إلی أنّ هذا الحکم قد أخذ عن المعصوم بلا واسطة أو بوسائط لم تصل إلینا، بل إنّ بعض العلماء یرون فی اشتهار مسألة بین الفقهاء القدماء، حجّة علی الحکم الشرعیّ.

واللافت للنظر أنّ علماء الإمامیة عندما یعبّرون عن هذا الإجماع، بالإجماع الحدسیّ فإنّ ذلک لا یعنی الظنّ والتخمین، بل مرادهم أنّ العلم والیقین لم یحصل من طریق الحسّ بل من الحدس.

د) دلیل العقل

اشارة

الرابع من منابع الاستنباط المتّفق علیها إجمالًا، دلیل العقل. بالرغم من وجود اختلاف بین فقهاء الإسلام فی موقفهم من دلیل العقل، وسنری وجود منهجین متمایزین لدی أهل السنّة فی عملیة الاستنباط بدلیل العقل بعنوان: «أصحاب الحدیث» و «أصحاب


1- شرح صحیح مسلم للنووی، ج 13، ص 67.

ص: 182

الرأی» وکلّ من هاتین الطائفتین تنتقد مسلک ونهج الطائفة الأخری وتنکر طریقتها(1). والأساس الذی تعتمد علیه الطائفة الأولی للإستنباط، هو الأدلة النقلیة وخاصّة الحدیث وسیرة السلف الصالح، وقول الصحابة (وبالطبع فإنّ هذین یرجعان إلی الحدیث الشریف).

ولکنّ الطائفة الثانیة تری أنّ عدد الأحادیث المعتبرة التی یمکنها أن تستجیب لجمیع الحاجات والمسائل الفقهیة، قلیلة جدّاً، ولذلک فلا سبیل لنا لتحصیل الأحکام الشرعیة سوی التمسّک بغیر الکتاب والسنّة.

وقیل: إنّ أباحنیفة یری أنّ من بین جمیع الأحادیث المرویّة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فإنّه لا یوجد سوی سبعة عشر حدیثاً موثوقاً(2) ولذلک فإنّ أکثر الموارد الفقهیة المجهولة ینبغی الکشف عن الحکم الشرعیّ فیها بأدوات الرأی والاجتهاد والقیاس.

والکثیر من أهل السنّة ذهبوا إلی أنّ أدلّة الأحکام أربعة: الکتاب والسنّة والإجماع والقیاس (3). وبعضهم عبّر عن الدلیل الرابع ب «القیاس والاجتهاد»(4) وبعض آخر عبّر عنه بدلیل «العقل والاستصحاب»(5). ویبدو أنّ هؤلاء العلماء یرون دلیل العقل مرادف للقیاس والاستحسان وأمثال ذلک.

ولم تطرح المسائل العقلیة التی تتّصل بعملیة الاستنباط فی أصول الفقه لدی أهل السنّة بشکل بحث تحلیلیّ، وما ذکر من المباحث العقلیة فی أصول الفقه لعلماء الشیعة المتأخّرین، فإنّ أهل السنّة ذکروه بشکل متناثر وفی مسائل معیّنة، من قبیل:

«إنّ المعتزلة یقولون بحسن الأفعال وقبحها» و «جماعة من المعتزلة یقولون: إنّ الأفعال علی الإباحة» و «ما لا یتمّ الواجب إلّابه هل یوصف بالوجوب»

(وهو بحث مقدّمة الواجب) و

«یستحیل أن یکون الشی ء واجباً وحراماً»

(أی اجتماع الأمر والنهی) و

«استحالة تکلیف الغافل والناسی» و «سقوط الحرج عن الخلق» و «سقوط التکلیف عن العاجز»

وغیر ذلک، ولکن قلّما نجدهم یهتمّون ببحث تقسیمات حکم العقل أو ملاک حجیّة العقل وکیفیة الاستنباط من دلیل العقل.

فی البدایة نری من اللازم الإشارة إلی السیر التاریخی لهذا البحث بین فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام ثمّ نستعرض آخر التحقیقات والدراسات فی هذا المجال.

إنّ بعض القدماء لم یبحثوا دلیل العقل، والبعض الآخر من الذین بحثوا هذا الموضوع، فإنّه، أوّلًا: هناک إبهام وغموض فی کلماتهم حول مکانة دلیل العقل فی عملیة الاستنباط، فبعض ذهب إلی أنّه طریق التوصّل إلی القرآن والسنّة(6). وبعض آخر ذهب إلی أنّ دلیل العقل یقع فی طول الکتاب والسنّة والإجماع، وقالوا: إذا فقدت هذه الأدلّة الثلاثة فإنّه سینتقل إلی دلیل العقل (7).

ثانیاً، إنّ المصادیق غیر معلومة من کلمات القدماء، لذا فسّر بعضهم هذا الدلیل بالبراءة الأصلیة و «الاستصحاب» وبعض آخر اکتفی بالاستصحاب.

وفی القرون التالیة نری أنّ الفقهاء قد اهتمّوا بتنقیح


1- تأویل مختلف الحدیث، ص 51 وما بعده و ص 73.
2- تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 796( الفصل السادس، علوم الحدیث).
3- فواتح الرحموت، ج 2، ص 246؛ المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 2، ص 956.
4- المعتمد فی أصول الفقه للبصری المعتزلی، ج 2، ص 189.
5- المستصفی ج 1، ص 217.
6- أوائل المقالات للشیخ المفید، ص 11؛ کنزالفوائد للکراجکی، ص 186.
7- السرائر لابن إدریس، ص 2.

ص: 183

هذا الموضوع، فقسّموا الدلیل العقلیّ إلی قسمین:

1. ما یکون متوقّفاً علی وجود الخطاب من جانب الشارع، حیث ینحصر ذلک فی «لحن الخطاب» (وهو دلالة العقل علی إلغاء الخصوصیة) وفحوی الخطاب (مفهوم الأولویات) ودلیل الخطاب (مفهوم المخالفة).

2. ما یتوصّل إلیه العقل بوحده وبدون وجود خطاب ودلیل لفظیّ من الکتاب والسنّة، وهو عبارة عن المسألة المعروفة بالحسن والقبح العقلیین (1).

وقد أکمل الشهید الأوّل فی کتابه (الذکری هذین القسمین، وأضاف إلی القسم الثانی مباحث البراءة الأصلیة، والأخذ بالأقل فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، والاستصحاب (2).

وأمّا الأصولیّون المتأخّرون، فإنّهم طرحوا دلیل العقل بشکل أشمل وأکثر وضوحاً، حیث تابعوا البحث فی هذا الموضوع فی مرحلتین أساسیّتین:

المرحلة الأولی موارد ومصادیق دلیل العقل؛ وبالطبع فإنّ هذه المصادیق هی التی تنتهی إلی الحکم الشرعیّ (بحث صغرویّ).

المرحلة الثانیة: أدلّة حجیّة دلیل العقل (بحث کبرویّ).

المرحلة الأولی موارد ومصادیق حکم العقل

البحث فی هذه المرحلة هو بحث صغرویّ، ویعلم منه تعیین مصادیق دلیل العقل، فقالوا: إنّ دلیل العقل یمکنه أن یکون دلیلًا علی الحکم الشرعیّ فی ثلاثة موارد:

1. ما یتّصل بالعلل ومبادی ء الأحکام الشرعیة.

2. ما یتّصل بالأحکام الشرعیة نفسها.

3. ما یتّصل بمعلولات الأحکام الشرعیة(3).

وستأتی أمثلة لکلّ مورد منها لاحقاً.

المقام الأوّل: الأحکام العقلیّة التی ترتبط بالعلل ومبادی ء الأحکام

فذکروا فی هذا المجال:

أوّلًا: وجود حسن وقبح للأفعال الاختیاریة للإنسان، مع غضّ النظر عن أمر اللَّه تعالی؛ یعنی أنّ بعض أفعال الإنسان من حیث العقل جدیرة بالتقدیر

(ما ینبغی أن یفعل)

بحیث إنّ الفاعل إذا أتی بالفعل یستحقّ المدح، والترک یستحقّ الذمّ، وبعض آخر من الأفعال

(ما لا ینبغی أن یُفعل)

وأنّ العقلاء یذمّون فاعلها. (ومثّلوا للأولی بمسألة العدل وللثانیة بمسألة الظلم).

ثانیاً: هناک ملازمة عقلیة بین حکم العقل بالحسن والقبح وحکم الشرع أیضاً، وبالطبع هنا یوجد بحث ثالث هو: هل أنّ القطع الحاصل من هذه الملازمة یقرّه الشارع ویراه حجّة؟ وهذا یرتبط بالبحث الکبروی الذی سنبحثه لاحقاً.

فی البحث الأوّل: فإنّ الأشاعرة أنکروا الحسن والقبح العقلیین. وذهبوا إلی أنّ الحسن والقبح من الأمور الاعتباریة الشرعیة، وقالوا: إن الفعل

(الحسن ما حسّنه الشارع والقبیح ما قبّحه الشارع)

، وذکروا أنّ النسخ فی الشریعة یقوم علی أساس هذه المسألة. وقالوا: إنّ الشارع علی هذا الأساس یوجب فعلًا معیّناً ثمّ یحرمه (4)، ولکنّ «العدلیة» یرون وجود الحسن والقبح


1- المعتبر للمحقق الحلّی، ص 6.
2- الذکری( مقدّمة)، ص 5.
3- أنوار الاصول، ج 2، ص 495.
4- شرح المقاصد للتفتازانی، ج 4، ص 282؛ سیر تحلیلی لکلام أهل السنّة، من الحسن البصری إلی أبی الحسن الأشعری، ص 368.

ص: 184

فی ذات الأفعال وأنّ الشارع أمر بما هو حَسَن ونهی عمّا هو قبیح (1). ولا یمکن أن یقرّر الشارع وجوب أو إباحة الظلم وتحریم العدل أو کراهته أو إباحته.

وفی البحث الثانی: فإنّ «الأخباریین» أنکروا وجود ملازمة عقلیة بین حکم العقل بالحسن والقبح وحکم الشرع بالوجوب والحرمة. فقالوا: علی فرض أنّ العقل یدرک حسن الأفعال وقبحها، فإنّه لا یلزم من ذلک عقلًا أنّ الشارع یجب علیه الحکم طبقاً لحکم العقل، ومن بین الأصولیین الذین وافقهم علی هذا الرأی هو صاحب (الفصول)(2).

وقد استدلّوا لإثبات مدّعاهم بعدّة أدلّة، منها: أنّهم قالوا: إنّ العقل لا یحیط بجمیع فلسفة الأحکام وعللها.

ولعلّ هناک جهة من المصالح والمفاسد فی ذلک الحکم خفیت علی العقل. إذن لا یمکن استنتاج وجود ملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع.

مضافاً إلی ذلک فهناک موارد کثیرة یبیّن فیها الشارع حکمه ولکن لا توجد مصلحة فیها. مثل الأوامر الامتحانیة، وکذلک الموارد التی توجد فیها مصلحة ولکن یوجد فیها حکم شرعیّ، مثل المصلحة فی المسواک حیث قال النبیّ:

«لولا أن أشُقَّ علی أُمَّتی لأمَرتُهُم بالسّواک».(3)

وهکذا نری فی موارد کثیرة وجود ملاک فی بعض أفراد الحکم، فی حین أنّ الحکم الشرعیّ یتعلّق بجمیع الأفراد. مثل وجوب العدّة من أجل حفظ النسب.

وفی رأی الأخباریین أنّ جمیع هذه الموارد تعدّ شاهداً علی نفی الملازمة العقلیة بین حکم الشرع والعقل.

وقیل فی جواب الأخباریین: إنّ الشارع هو من العقلاء بل رئیس العقلاء، فلا معنی أن لا یحکم بما اتّفقت علیه آراء العقلاء وکان من الأمور التی یتوقّف علیها حفظ النظام أو بقاء النوع الإنسانی، بل فی صورة حکمه بذلک فهو خلاف الحکمة، أو یتبیّن منه أنّ ذلک المورد لا یتّفق علیه جمیع العقلاء، ولا معنی لأن یستقلّ العقل بحکم معیّن وتکون جمیع جوانب العمل واضحة للعقل وفی نفس الوقت ندّعی أنّ بعض جهات الحکم خفیت علینا(4). وبالنسبة للمصلحة فی المسواک فإنّها تقترن بالمشقّة الموجودة فی هذا العمل، وهی جزء من الملاک، أی أنّ العلّة التی طلبها الشارع من هذا العمل ولم یأمر به هو (المشقّة)، وأمّا الأوامر الامتحانیة فلیست من مصادیق الأمر الحقیقی لکی یلزم منها تبعیّتها للمصلحة، بالرغم من أنّ مقدمات الأوامر الامتحانیة تتمتّع بالمصلحة ویتعلّق بها الأمر الحقیقی (5).

وأمّا مسألة العدّة، فیکفی فیها وجود المصلحة النوعیة لکی یکون الحکم شاملًا لجمیع موارد العدّة علی النساء، وخاصّة أنّه مع عدم امتیاز الموارد عن بعضها(6) فإنّ من الصعب تشخیص أیّها یملک المصلحة «حفظ النسب» وأیّها لا یملک هذه المصلحة.

والخلاصة أنّ هذه الموارد والأمثلة لا یوجد فیها حکم العقل، أو أنّه غیر مبیّن بشکل صحیح، وإلّا فبعد أن یقطع العقل بالحکم فإنّ مخالفة الشارع له غیر ممکنة.


1- مصباح الأصول، ج 3، ص 34.
2- الفصول الغرویة، ص 319؛ أصول الفقه، ج 1، ص 236.
3- الکافی، ج 3، ص 22، ح 1.
4- أجود التقریرات، ج 2، ص 38.
5- المصدر السابق.
6- المصدر السابق.

ص: 185

المقام الثانی: الأحکام العقلیّة فی دائرة حکم الشرع

وهذا المقام یتّصل بالموارد التی لا یحکم فیها العقل بشکل مستقل، بل یوجد فی بدایة الأمر حکم شرعیّ له یستعان به لإثبات حکم شرعیّ آخر. علی سبیل المثال: إذا ثبت وجوب عمل معیّن (ذی المقدّمة» فالعقل یحکم بوجود ملازمة بین وجوب ذلک العمل ووجوب مقدّمته، وبالتالی یمکن القول: إنّ تلک المقدّمة واجبة شرعاً.

وفی هذا المقام ذکروا سبع مسائل فیما یخصّ هذا الموضوع، أی سبعة موارد یستفاد من حکم العقل فیها لاستنباط الحکم الشرعیّ، وهی عبارة عن: وجوب مقدّمة الواجب، حرمة ضدّ الواجب، امتناع أو إمکان اجتماع الأمر والنهی فی شی ء واحد، الإجزاء (یعنی کفایة إطاعة المأمور به فی سقوط الأمر الواجب)، فساد العبادة أو المعاملة التی وقعت مورد النهی، قیاس الأولویة، بحث الترتّب (1).

المقام الثالث: الأحکام العقلیّة المتعلّقة بنتائج الأحکام

وفی هذا المقام یکشف العقل من خلال نتیجة الحکم، حکماً شرعیاً آخر (کشف إنّی) وعلی سبیل المثال: إنّ العقل فی موارد العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة یصدر فی البدایة حکماً بتنجّز التکلیف (یعنی صحّة العقاب) وذلک یقع فی مرحلة نتیجة الأحکام، ثمّ ومن خلال هذا الحکم الشرعیّ یکشف وجوب الاحتیاط (وجوب الموافقة القطعیّة)(2).

المرحلة الثانیة: دلیل حجیّة الدلیل العقلیّ

مع الالتفات إلی أنّ المراد بالدلیل العقلیّ هو القضایا العقلیة القطعیة، فإنّ حجّیته تعدّ أمراً ضروریاً ومسلّماً، لأننا نعرف جمیع الأشیاء من طرق القطع والیقین، فحتّی أصول الدین وعقیدة التوحید والنبوّة وسائر العقائد الدینیة، وکذلک المسائل العلمیّة فی جمیع فروع العلوم المختلفة تقوم علی أساس القطع والیقین.

وببیان آخر: إنّ حجّیة القطع والیقین تعدّ أمراً ذاتیاً، فإذا لزم إثبات حجّیة القطع والیقین بدلیل یقینیّ آخر فهذا الأمر یستوجب الدور أو التسلسل.

أجل! لو کان المراد من حجیّة العقل، العقل الظنّی لا القطعیّ، فهنا نحتاج إلی دلیل قطعیّ ویقینی لإثباته، مثلًا إذا اعتقد شخص بحجّیة الدلیل الظنّی أو الاستحسان وأمثال ذلک، فیجب إثباته بدلیل قطعیّ.

الإشکالات علی حجیّة دلیل العقل:

نظراً لما تقدّم آنفاً فإنّه ربّما لا یتصوّر أن یورد البعض إشکالات علی حجّیة الدلیل العقلیّ بالشکل الذی بیّنّاه، ولکن فی الوقت نفسه فإنّ جماعة من الأخباریین اعترضوا علی ذلک، وسوف نری أنّ جمیع اعتراضاتهم إنّما هی بسبب عدم الالتفات إلی حدود الموضوع.

وأهمّ إشکالاتهم فی هذا المجال کالتالی:

1. إنّ نتیجة تدخّل العقل فی عملیة الاستنباط، هی حجیّة القیاس والاستحسان وأمثال ذلک، وهذا المورد من موارد طعن الأخباریین وذمّهم للأصولیین، وخاصة مع الالتفات إلی أنّ بعض أهل السنّة عند بیانهم للأدلّة


1- مع أنّ جمیع هذه البحوث بحوث عقلیة ولکنها الیوم تطرح بأسرها فی مباحث الألفاظ. ولعلّ السبب فی ذلک أنّ مباحث الألفاظ أحکام تابعة لأحکام تؤخذ من الکتاب والسنّة.
2- أنوار الاصول، ج 2، ص 515.

ص: 186

الأربعة فإنّهم یذکرون الدلیل الرابع باسم القیاس والاستحسان. فیتّضح من ذلک أنّ نتیجة القول بحجّیة دلیل العقل فی نظر هؤلاء إثبات حجّیة القیاس، وعلی الأقلّ أنّ ذلک یمثّل أهمّ ثمرة لهذا البحث.

والجواب علی هذا الإشکال واضح، لأنّ القیاس والاستحسان واللذیْنِ یتّفق علماء الأصول من الشیعة علی عدم حجّیتهما، من الأدلة الظنّیة، وهی خارجة عن محلّ البحث.

2. إنّ الاستدلالات العقلیة علی نحوین: فبعضها تنتهی إلی عنصر الحسّ أو قریباً من الحسّ، من قبیل مسائل الهندسة والریاضیات. وفی هذا القسم لا مجال للخطأ، وأساساً فإنّ مثل هذه المسائل لیست مورد اختلاف بین العلماء، لأنّ الخطأ فی الفکر إمّا أن یکون من جهة «المادّة» أو من جهة «الصورة» وفی مثل هذه القضایا لا یقع الخطأ من جهة المادة، لأنّ المادة فی هذه القضایا قریبة من الحسّ، ولیس من جهة الصورة، لأنّ معرفة صورة هذه القضایا من الأمور الواضحة فی الفهم البشریّ لدی العلماء.

ولکن بعض المواد فی المسائل العقلیة بعیدة جدّاً عن الحسّ، من قبیل المسائل الفلسفیة والطبیعیة والفلسفة الإلهیّة، ومن قبیل مسائل علم أصول الفقه والمسائل الفقهیة العقلیة. ففی مثل هذه المسائل لا یمکن الاعتماد علی العقل وإثبات صحّة الدلیل العقلیّ بالمنهج المنطقی، لأنّ علم المنطق یمنع الذهن عن الوقوع فی الخطأ فی مجال الصورة لا المادة، والمفروض أنّ مواد هذه القضایا بعیدة عن الحسّ، ولهذا السبب توجد فی مثل هذه القضایا اختلافات کثیرة بین العلماء أنفسهم، وإن قیل بوجود اختلافات کثیرة فی القضایا الشرعیة والأدلة النقلیة أیضاً، فجوابه هو أنّ وجود الاختلاف فی المسائل الشرعیة إنّما هو بسبب ضمّ المقدّمات العقلیّة إلیها(1).

وفی مقام الجواب یمکن القول: أوّلًا: کما تقدّم فإنّ حجیّة الدلیل العقلیّ إنّما هی فی صورة القطع، وعندما یقطع الإنسان بشی ء فإنّه لا یحتمل الخلاف فیه؛ ولکن الدلیل الظنّی الذی یحتمل الخطأ فیه، خارج عن محلّ البحث. و ثانیاً: إنّ کثیراً من الأخباریین یختلفون فیما بینهم، مع أنّهم ینکرون حجیّة العقل ویمنعون تدخّله فی الأدلّة النقلیة مطلقاً.

3. الإشکال الآخر ناشی ء من وجود روایات کثیرة تذمّ حسب الظاهر، استخدام العقل فی استنباط الأحکام الشرعیة، وهذه الروایات علی ثلاث طوائف:(2)

الطائفة الأولی: الروایات التی ورد النهی فیها عن العمل بالرأی، مثلًا ورد فی الروایة:

«إنَّ المؤمن أَخَذ دینه عن ربّه ولم یأخُذه عن رأیه»(3).

وجاء فی روایة أخری:

«وکان الرأی من الرسول صلی الله علیه و آله صواباً ومن غیره خطأ(4) لأنّ اللَّه تعالی قال:

«لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاکَ اللَّهُ»(5)». وجاء فی روایة أخری: لمّا نزل قوله تعالی: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ...»، قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«إنّ اللَّه قضی الجهاد علی المؤمنین فی الفتنة بعدی- إلی أن قال: یجاهدون علی الإحداث فی الدّین إذا عملوا بالرأی فی الدین، ولا رأی فی الدین، إنّما الدّین


1- الفوائد المدنیة، ص 48.
2- أنوار الاصول، ج 2، ص 275.
3- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، ح 21، وکذلک انظر إلی الحدیث 14.
4- سورة النساء، الآیة 105.
5- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، ح 28.

ص: 187

من الربّ أمره ونهیه»(1).

الطائفة الثانیة: الروایات التی تقرّر أنّ العقل لا یدرک حقائق القرآن والأحکام، یقول عبدالرحمن بن الحجّاج: سمعت من الإمام الصادق علیه السلام یقول:

«لیس شی ءٌ أَبعدُ من عقول الرّجال عن القرآن»(2).

الطائفة الثالثة: الروایات التی تحصر الحجّة الشرعیة بالکتاب والسنّة(3).

الجواب: أوّلًا: إنّ الوارد فی کثیر من الروایات أنّ العقل یمثّل حجّة باطنیة إلهیّة

«انّ لِلَّهِ علی النّاس حُجّتین، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ... وأمّا الباطنة فالعقول»(4)

. ویعدّ العقل رأسمال العبادة وطریق لتحصیل الجنّة کما ورد:

«العقلُ ما عُبِد به الرّحمن واکتُسبَ به الجنان»(5)

، وأیضاً:

«العقلُ دلیلُ المؤمن»(6)

وهو أحبّ الخلق إلی اللَّه تعالی وودیعته عند من یحبّ

«لمّا خلق اللَّه العقل ... قال: وعزّتی وجلالی ما خلقتُ خلقاً هو أَحبُّ إلیَّ منک ولا أکملتُک إلّا فیمن أُحبٌّ»(7).

ثانیاً: إنّ حجیّة العقل فی أصول الدین لیست مورد إنکار الأخباریین قطعاً، ولا یمکنهم إنکارها، لأنّ أصول الدین لا یمکن إثباتها بالدلیل النقلی لوحده، إذن بطریق أولی یکون حجّة فی فروع الدین والأحکام الشرعیة.

ثالثاً: إنّ الجواب علی ما أوردوه من الروایات الثلاث واضح، لأنّها تتعلّق بالآراء والنظریات الدینیة القائمة علی أساس الظنّ والتخمین، وتنسب إلی الدین، ولذلک ورد فی روایة مسعدة بن صدقة:

«مَن دانَ اللَّهَ بما لا یَعلَمُ فقَد ضادَّ اللَّهَ حیثُ أحَلَّ وحرَّم فیما لا یَعلم»(8).

والمراد من هذه الروایات هو التصدّی لظاهرة استغلال الفکر بدون الرجوع إلی الکتاب والسنّة، کما ورد فی روایة تذمّ فکرة الاستغناء بالعقل عن الوحی، فقد ورد فی الروایة:

«من استغنی بعقله زلّ»(9).

ه) القواعد الفقهیّة

إنّ أحد أهمّ الأمور التی یجب علی الفقیه التحقیق فیها ودراستها، القواعد الفقهیة التی یستفاد منها فی الکثیر من البحوث وفی عملیة استنباط الأحکام الشرعیة، وأحیاناً یستفاد منها لحلّ المشاکل التی تتّصل بالموضوعات الخارجیة.

والقواعد الفقهیة المهمّة تبلغ أکثر من ثلاثین قاعدة منها: قاعدة «لا ضرر ولا حرج»، قاعدة «الصحّة»، قاعدة «المیسور»، قاعدة «الید»، قاعدة «التجاوز والفراغ»، قاعدة «الضمان، الإتلاف، الغرر، الإقرار» وأمثالها.

ومستمسک هذه القواعد هی الآیات والروایات الواردة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام وبعضها قواعد متداولة بین جمیع العقلاء فی العالم، وقد أمضاها الإسلام.

مثلًا قاعدة «لا حرج»: (وتعنی سقوط التکالیف عن المکلّف إذا اقترنت بالعسر والحرج، وما دام العسر والحرج باقیین فهی ساقطة)، وتستفاد من الآیة الشریفة:


1- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، ح 50.
2- المصدر السابق، الباب 13، ح 69 وانظر: ح 73 و 74.
3- المصدر السابق، الباب 10، ح 22 والباب 11، ح 32 والباب 6، ح 7.
4- الکافی، ج 1، باب العقل والجهل، ح 12.
5- المصدر السابق، ح 3.
6- المصدر السابق، ح 24.
7- المصدر السابق، ح 1.
8- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضی، ح 12.
9- بحار الأنوار، ج 1، ص 160، ح 50.

ص: 188

«وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(1) وقاعدة «لا ضرر» تستفاد من الحدیث النبویّ المعروف

«لا ضرر ولا ضرار»

الذی ورد فی أکثر المصادر الحدیثیة الإسلامیة، ومفاد هذه القاعدة هو أنّ الأحکام التی تسبّب ضرراً علی المسلمین فإنّها مرفوعة عنهم، وقاعدة حجّیّة قول ذی الید، وهی القاعدة المتداولة بین جمیع العقلاء والشارع المقدّس أیّد صحتها وأمضاها.

وهذه القواعد مهمّة جدّاً وتفتح الطریق للفقیه لحلّ الکثیر من المشکلات الفقهیة والتعقیدات فی الحیاة الفردیة والاجتماعیة والمسائل المستحدثة، التی لم یرد فیها نصّ خاصّ، فیستطیع الفقیه بمعونتها من حلّ هذه التعقیدات والمسائل، فإن لم یکن الفقیه یملک سلطة کاملة علی القواعد الفقهیّة فإنّه یعجز عن إیجاد الحلول للکثیر من المسائل فی جمیع أبواب الفقه ولاسیّما فی المسائل المستحدثة(2).

و) الأصول العملیّة

والمراد من الأصول العملیة، الأصول والقواعد التی یرجع إلیها الفقیه عند عدم وجود الأدلّة الشرعیة المعتبرة، کالکتاب والسنّة والإجماع ودلیل العقل، مثلًا عندما یشکّ فی أنّ الموضوع الفلانیّ هل تتعلّق به الزکاة والخمس شرعاً أم لا؟ ولا یملک أیّ دلیل من الأدلّة الأربعة فی ذلک، فإنّه یرجع إلی «أصل البراءة»؛ أی أنّ الأصل هو أنّه ما لم یثبت التکلیف والحکم الشرعیّ بدلیل معتبر، فإنّه لا یجب علی المکلّف شی ء، أو إذا شک فی وجوب أو حرمة عمل معیّن، أی لا یعلم أنّ هذا العمل واجب أو حرام، ولیس لدیه دلیل معتبر علی أیّ واحد من الطرفین، فإنّه یرجع إلی «أصل التخییر».

وإن کانت له فی موارد الشکّ حالة سابقة، مثلًا یعلم أنّ العصیر العنبیّ قبل غلیانه علی النار؛ طاهر، فعندما یشکّ هل أنّ الغلیان یسبّب نجاسة العصیر أم لا؟ ولیس لدیه دلیل معتبر لإثبات النجاسة، فإنّه یستصحب الحالة السابقة ویحکم بطهارته.

وکلّ ما شکّ فی شی ء وکان لدیه علم إجمالیّ بالواجب أوالحرام فی أطراف المشکوک، مثلًا یعلم أنّ السفر الذی یکون مقدّمة للعمل والکسب، فإنّ الصلاة واجبة فی هذا السفر، ولکنّه لا یعلم هل أنّ هذه الصلاة تجب قصراً أو تماماً، ولیس لدیه دلیل علی أیّ واحد من هذین الطرفین، فهنا یجب العمل بأصل الاحتیاط والجمع بین القصر والتمام لیحصل له الیقین ببراءة الذمة، لأنّ العلم الإجمالیّ فی الشبهات المحصورة یوجب الاحتیاط.

وهذه الأصول الأربعة: البراءة، الاستصحاب، التخییر، الإحتیاط، تمثّل أصولًا عملیة أو أدلّة فقاهتیة یرجع إلیها المکلّف عند عدم الحصول علی دلیل معتبر فی موارد الشکّ، وبذلک یتبیّن للفقیه حکمه وحکم مقلِّدیه.

وبعبارة أخری: لا یوجد انسداد للفقیه فی عملیة الکشف عن الأحکام الإسلامیة، فإمّا أن یحصل علی أدلّة اجتهادیة معتبرة، أو ینتهی عمله إلی الشکّ. ففی الصورة الأولی فإنّه یفتی بمقتضی الدلیل الشرعیّ، وفی الصورة الثانیة یعمل بأحد الأصول الأربعة المذکورة حسب الموارد:


1- سورة الحج، الآیة 78.
2- لمزید من الاطلاع علی القواعد الفقهیّة ومستمسکاتها وأدلّتها وفروعها ونتائجها یمکنکم الرجوع إلی کتاب القواعد الفقهیّة لآیة اللَّه مکارم الشیرازی.

ص: 189

1. فی موارد الشکّ فی أصل الحکم (الوجوب والحرمة) یجری أصل البراءة.

2. فی موارد دوران الأمر بین الوجوب والحرمة یعمل بأصل التخییر.

3. وفی موارد یکون للحکم حالة سابقة (أعمّ من الوجوب، أو الحرمة) یعمل طبقاً لاستصحاب الحالة السابقة.

4. وفی موارد دوران الواجب بین طرفین أو أکثر أو أنّ الحرام یدور بین عدّة موارد محتملة، فیحکم بالاحتیاط، فالنسبة للصورة الأولی یجب العمل بجمیع الاحتمالات، وفی الصورة الثانیة یجب اجتناب جمیعها.

وهنا نشیر إلی نقطتین:

1. إنّ الأصول الأربعة المذکورة آنفاً (الأصول العملیة) بدورها تملک دلیلًا معتبراً، وأحیاناً تملک دلیلًا عقلیاً کأصل التخییر وأخری دلیلًا شرعیاً کأصل الاستصحاب، وأحیاناً یجتمع الدلیل العقلیّ والدلیل الشرعیّ فی إثباتها، کأصل البراءة وأصل التخییر، وتفصیل هذا البحث مذکور فی کتب الأصول (1).

2. إنّ الأصول الأربعة المذکورة تجری فی الشبهات الحکمیّة، أی فیما إذا کان أصل الحکم الشرعیّ غیر معلوم (کما فی جمیع الأمثلة التی ذکرت آنفاً) وأحیاناً تجری فی الشبهات الموضوعیة، أی إذا کان الحکم الشرعی معلوماً ولکن حالة الموضوع الخارجیّ غیر معلومة، من قبیل أن نعلم أنّ السوائل المسکرة حرام قطعاً فی الإسلام، ولکن نشکّ فی أنّ هذا السائل الذی أمامنا هل هو مسکر أم غیر مسکر، فهنا نجری البراءة، وهکذا بالنسبة للأصول الثلاثة الأخری حیث تجری فی موردها المناسب.

وبالنسبة لکیفیة إجراء هذه الأصول وشروطها وخصوصیّتها فهناک بحوث دقیقة فی اصول الفقه بإمکان المجتهد- ومن خلال الممارسة الکثیرة والدقّة اللازمة- استعمال هذه الأصول ومعرفة مجاریها ومواردها.

المنابع المختلف فیها فی الاستنباط:

اشارة

إنّ ما تقدّم کان یتّصل بالمنابع المتّفق علیها فی الاستنباط. وهناک موارد أخری أیضاً لیست حجّیتها مورد اتّفاق جمیع فقهاء الإسلام، وقد تقدّم سابقاً أنّ مصادر الأحکام یجب أن تنتهی إلی القطع والیقین، أو إذا انتهت إلی الظنّ والتخمین فإنّه یجب أن یقوم دلیل قطعیّ علی اعتبار وحجّیة مثل هذا الظنّ.

وبعض المنابع التی نستعرضها فی هذا البحث هی ما أشرنا إلیه سابقاً، وهی الموارد التی یطلق علیها اصطلاحاً «الإجتهاد بالرأی»»، لأنّ الاجتهاد یأتی بمعنیین:

1. الاجتهاد بالمعنی الأعمّ، وهو عبارة عن بذل الجهد والسعی الکامل لتحصیل واستخراج الحکم من الأدلّة الشرعیة، ومثل هذا الاجتهاد مورد اتّفاق جمیع علماء الإسلام.

2. الاجتهاد بمعناه الخاصّ، وهو عبارة عن «الإجتهاد بالرأی» واستخدام القیاس، الاستحسان، المصالح المرسلة وسدّ الذرائع فی الموارد التی لیس فیها نصّ، ولذلک تستعمل کلمة الاجتهاد أحیاناً مرادفة للقیاس (2).


1- انظر إلی کتاب أنوار الأصول وغیره من الکتب الأصولیة.
2- روضة الناظر، ج 2، ص 141.

ص: 190

والنوع الثانی من الاجتهاد، یختصّ به جمهور أهل السنّة، ومنشأ الهاجس لدی الأخباریین واعتراضهم علی الأصولیین الشیعة وإنکارهم للاجتهاد، هو عدم معرفة الفرق بین هذین النوعین من الاجتهاد.

أمّا أتباع الاجتهاد بالرأی فبالرغم من أنّهم یستدلّون علی کلّ مورد من هذه الموارد بأدلّة من الکتاب والسنّة، ولکنّ الظاهر أنّ منشأ هذه الاجتهادات أمرین:

1. إنّ بعض الصحابة استعمل الاجتهاد بالرأی، فی حین وقف صحابة آخرون موقفاً سلبیّاً من ذلک واعترضوا علیهم، وقد نقل عن ابن عبّاس وعبداللَّه بن مسعود أنّهم دعوا من یدّعی الاجتهاد بالرأی إلی المباهلة، وقد ورد فی روایة عن علیّ بن أبی طالب علیه السلام أنّه قال:

«لو کان الدّینُ بالرأی لکانَ المَسحُ علی باطنِ الخُفِّ أولی من ظاهرِه»(1).

وممّن اشتهر فی استعمال هذا النوع من الاجتهاد هو عمر بن الخطاب، وفی عصر ما بعد الصحابة، یعدّ أباحنیفة إمام أهل الرأی، ولهذا السبب فإنّ الکثیرین قد طعنوا فیه وأنکروا علیه هذا العمل (2)، وتنسب مدرسة الرأی إلی فقهاء الکوفة فی مقابل مدرسة الحدیث لدی فقهاء المدینة(3)، ومن جملة أصحاب مدرسة الرأی:

أبویوسف، ابن سماعة، أبومطیع البلخی وبشیر المریسی (4).

المنشأ الآخر، انسداد طریق الوصول للأحکام الشرعیة بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؛ فبعد الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وانقطاع الوحی وانقطاع الناس عن أهل بیت الوحی، فإنّ الطریق للوصول إلی الأحکام الواقعیة للشارع المقدّس قد اغلق علی الفقهاء، وبذلک اشتدّت الحاجة إلی عملیة الاجتهاد القائم علی الرأی، وبعبارة أخری، إنّ منشأ التورّط فی الاجتهاد بالرأی هو تصوّر الإنسداد فی الأحکام، لأنّ الوقائع والحوادث الیومیة والمسائل المستحدثة کثیرة من جهة، وکان هؤلاء الفقهاء یتصوّرون أنّ النصوص الدینیة قاصرة عن إیجاد الحلول لجمیع الحاجات، أو الاستجابة لجمیع هذه المسائل، ومن جهة أخری، فإنّ الدین الإسلامی هو آخر الأدیان الإلهیّة، حیث ینبغی أن یعیّن تکالیف العباد حتی قیام الساعة، حینئذٍ لابدّ من القول بحجّیة مثل هذه الاجتهادات وفتح الطریق لاستنباط الأحکام لهذه المسائل.

کلّ ذلک فی حین أنّ أتباع مدرسة أهل البیت یرون أنّ سنّة الأئمّة المعصومین علیهم السلام حالها حال سنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی حجّیتها، وتمتاز هذه المدرسة بثراء الأحادیث ووجود القواعد العامة والکلیة القابلة للتطبیق علی الوقائع الجزئیة فیها، وکذلک تعیین وظیفة المکلّفین فی موارد الشکّ وفقدان النصّ أو تعارض النصوص من خلال هذه القواعد الکلیة(5). وعلیه فلا یحتاج فقهاء هذه المدرسة لعملیة الاجتهاد بالرأی، لأنّ الأصول التی ذکرت أعلاه کافیة فی رفع الانسداد المزبور.

علی أیّة حال نشیر هنا إلی مصادیق الاجتهاد بالرأی:

1. القیاس

اشارة

هو فی الاصطلاح عبارة عن تعدیة الحکم من


1- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 47؛ سنن البیهقی، ج 1، ص 292.
2- تاریخ بغداد، ج 13، ص 413.
3- مناهج الاجتهاد فی الإسلام، ص 115.
4- المصدر السابق، ص 117.
5- انظر إلی بحث المسائل المستحدثة من هذا الکتاب.

ص: 191

موضوع إلی موضوع آخر(1)، وهو علی أربعة أقسام:

1. القیاس المنصوص العلّة: وذلک فیما إذا صرّح الشارع بعلّة الحکم، وبما أنّ الحکم یدور مدار العلّة، فالفقیه یمکنه بالطبع أن یسری الحکم إلی موضوعات أخری تتوفّر فیها تلک العلّة، مثلًا یقول الشارع:

«لا تشرب الخمر لأنّه مسکرٌ»

فهنا یمکن للفقیه أن یفتی بحرمة المسکرات الأخری، وهذا هو القیاس المنصوص العلّة، لأنّ خطاب «لا تشرب الخمر» هو فی الحقیقة «لا تشرب المسکر».

2. قیاس الأولویّة: وهو عبارة عن سرایة الحکم الشرعی من موضوع إلی موضوع آخر بسبب وجود الأولویة القطعیة، من قبیل قوله تعالی: «فَلَا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ»(2) فهذه الجملة تدلّ بالأولویّة القطعیّة علی حرمة سبّ الوالدین، وقد مرّ توضیح ذلک فی الصفحات السابقة.

3. القیاس مع تنقیح المناط: وذلک فی مورد یکون الموضوع فیه مقترن بحالات وخصوصیّات لا تدخل فی ترتب الحکم قطعاً، ولذلک یتمّ إلغاؤها وصرف النظر عن تلک الخصوصیّات فی عملیة نقل الحکم، مثلًا تقول الآیة الشریفة فی التیمّم: «... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا ...»(3) فی حین أنّنا نعلم أنّ عدم وجود الماء لیس له موضوعیة خاصّة فی هذا الحکم، وعلیه فلو کان لدیه ماء وکان مضرّاً بحاله، فإنّ حکم التیمّم یجری أیضاً، ومن قبیل الشخص الذی یسأل الإمام عن رجل جاء إلی المسجد ووقف لصلاة الظهر وشکّ بین الثلاث والأربع فما حکمه؟ فیجیبه الإمام: یجب أن یبنی علی الأربع ثمّ یصلّی رکعة صلاة الاحتیاط. وبتنقیح المناط یمکن إجراء هذا الحکم فی کلّ صلاة ذات أربع رکعات، لأنّ صلاة الظهر وکونها فی المسجد وکون ذلک الشخص رجلًا، کلّها لا تدخل قطعاً فی صیاغة الحکم الشرعیّ ولا تعتبر من قیود الموضوع، بل هی من حالاته.

4. القیاس المستنبط العلّة: وهنا یستنبط الفقه علّة الحکم من موقع الظنّ والتخمین ثمّ یسری الحکم من موضوع إلی موضوع آخر، فیقال للموضوع الأوّل «الأصل» أو «المقیس علیه» الذی یملک حکماً شرعیاً مفروغاً عنه، ویقال للموضوع الثانی «الفرع» أو «المقیس». لأنّه لیس له حکم وإنّما أثبت الفقیه له حکماً علی أساس ظنّه باشتراکه فی حکم الأصل، والقیاس فی الأقسام الثلاثة الأولی یعتبر حجّة لدی جمیع الفقهاء، لأنّه لا یوجد هناک أصل وفرع فی جمیعها، بل إنّ المقیس والمقیس علیه کلیهما أصل، وبعبارة أخری: یستفاد من الدلیل نفسه إثبات الحکم لکلا الموضوعین (4).

وأمّا القسم الرابع (القیاس المستنبط العلّة) فهو حجّة فی نظر جمهور أهل السنّة، خاصّة أتباع أبی حنیفة، حیث یعتمدون علی القیاس بشدّة، ولکن أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام ینکرون هذا النوع من القیاس ولا یرونه حجّة، ومن أهل السنّة أیضاً، النظّام وأتباعه وجماعة الظاهریة (ابن حزم وداود و ...) وبعض المعتزلة ک (جعفر بن حرب، جعفر بن مبشّر ومحمّد بن عبداللَّه الإسکافی) فهؤلاء ذهبوا إلی بطلان العمل بالقیاس (5)


1- اصطلاحات الأصول، ص 226.
2- سورة الاسراء، الآیة 23.
3- سورة النساء، الآیة 43؛ سورة المائدة، الآیة 6.
4- أنوار الاصول، ج 2، ص 519.
5- اتحاف ذوی البصائر( شرح روضة الناظر)، ج 4، ص 2144.

ص: 192

وقد ألّف ابن حزم فی هذا المجال کتاباً سمّاه «إبطال القیاس».

وقد نسب إلی الحنابلة أنّهم یقولون ببطلان القیاس ویشیر کلام أحمد بن حنبل إلی هذا المعنی أیضاً، حیث یقول:

«یجتَنِبُ المُتَکلّم فی الفِقه هذَین الأصلین: المجمل والقیاس»(1)

. ولکنّ البعض قال فی توجیه کلامه: إنّ مراده بطلان القیاس فی مقابل النصّ، وفی هذا العصر فإنّ الوهابیّة الذین یعتبرون أنفسهم من أتباع المذهب الحنبلیّ، یعتمدون علی القیاس فی مسائل الدین ویرونه حجّة.

نقد أدلّة حجیّة القسم الرابع من القیاس:

إنّ هذا القسم من القیاس لا یورث القطع بالحکم الشرعیّ بل یورث الظنّ والاحتمال بالحکم لوجود التشابه بین کلا الموضوعین من جهة واحدة أو عدّة جهات، فإنّه لا یوجد دلیل قطعیّ علی اشتراکهما فی الحکم، والعقل أیضاً فی الموارد التی لا یملک فیها حکماً قطعیاً مستقلّاً علی أساس قواعد الحسن والقبح، لیس له طریق لکشف ملاک الأحکام الشرعیة بشکل قطعیّ، وإنّما الشارع فقط هو الذی یعلم بملاکات أحکامه.

وعلی هذا الأساس یجب إقامة دلیل علی حجّیة هذا القسم من أقسام القیاس، والأدلّة التی استدلّوا بها علی ذلک من القرآن وغیره کالتالی:

1. « «فَاعْتَبِرُوا یَا أُولِی الْأَبْصَارِ»(2). تقرّر هذه الآیة أنّ «الاعتبار» بمعنی «العبور» من شی ء إلی شی ء آخر، أو بعبارة أصحّ، أنّه عبور من شبیه إلی شبیهه، والقیاس نوع من العبور من حکم «الأصل» إلی حکم «الفرع» وهذا ما تشیر إلیه الآیة وتحثّ المؤمنین علیه.

ولا یخفی ضعف الاستدلال بهذه الآیة، لأنّ الاعتبار یعنی أخذ العبرة والدرس من الحوادث والوقائع المشابهة، وخاصّة مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه الآیة تتحدّث عن مصیر الکفّار من أهل الکتاب الذین أوقع اللَّه الرعب فی قلوبهم بحیث إنّهم یخربون بیوتهم بأیدیهم وأیدی المؤمنین کما تقول الآیة، والقرآن هنا یوصی المسلمین بأخذ العبرة من هذه الحادثة، وهذا المطلب لا یرتبط إطلاقاً بالقیاس فی الأحکام الفرعیة للدین (3).

یقول «إبن حزم» فی «إبطال القیاس»: کیف یمکن أن یأمرنا اللَّه تعالی فی هذه الآیة بالقیاس فی الدین، بصورة مبهمة ولا یبیّن أیّ توضیح فی کیفیة القیاس ومن أین یکون؟ وما هو الشی الذی یجب القیاس علیه وشروطه وحدوده؟(4)

2. «... قَالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظَامَ وَهِیَ رَمِیمٌ* قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ»(5).

ویقول مؤیّد والقیاس فی الاستدلال بهذه الآیة، أنّ هذه الآیة استدلّت بالقیاس، لأنّها تدلّ علی أنّ الشیئین المتماثلین یتساویان فی الحکم لأنّ من ینکر القدرة علی إحیاء العظام الرمیم یوم القیامة، قیل له: إنّ ذلک نظیر خلق الإنسان فی البدایة.

ویقول مخالفو القیاس: إنّ هذه الآیة ناظرة للقیاس فی الأمر التکوینیّ القطعیّ، لأنّ العقل یقول: إنّ من کان قادراً علی خلق العالم فی بدایة الأمر، فإنّه یمکنه بعد


1- روضة الناظر، ج 2، ص 151.
2- سورة الحشر، الآیة 2.
3- أصول الفقه للمظفّر، ج 2، ص 192.
4- ابطال القیاس، ص 30.
5- سورة یس، الآیة 78 و 79.

ص: 193

انتهاء العالم أن یعیده مرّة أخری، بل إنّ هذا العمل من جهة أسهل علیه «وَهُوَ الَّذِی یَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَیْهِ»(1). وهذا فی الواقع بمثابة قیاس قطعیّ عقلیّ فی حین أنّ کلامنا فی القیاسات الظنّیة.

وأمّا من جهة الروایات، فأهمّ ما استدلّ به علی حجّیة القیاس، حدیث معاذ بن جبل حیث یستفاد منه لیس فقط حجّیة القیاس الظنّیّ، بل حجّیة الاستحسان والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع وفتحها أیضاً.

وقد ورد فی هذا الحدیث: إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله حین بعث معاذ بن جبل إلی الیمن فقال: کیف تصنع إن عرض لک قضاء؟ قال: بما فی کتاب اللَّه، قال: فإن لم یکن فی کتاب اللَّه؟ قال: فبسنّة رسول اللَّه، قال: فإن لم یکن فی سنّة رسول اللَّه؟ قال: اجتهد برأیی ولا آلو»(2).

ووجه الاستدلال بهذه الروایة هو أنّ ظاهر «الإجتهاد بالرأی»، هو تحصیل الحکم الشرعیّ بدون الاستناد إلی الکتاب والسنّة، کما تصرّح به الروایة المذکورة، وهذا النوع من الاجتهاد المطلق والعام ویشمل القیاس الظنّی أیضاً.

ویجیب مخالفو القیاس عن الاستدلال بهذا الحدیث أنّه:

1. إنّ هذه الروایة من حیث السند ضعیفة بوجود «الحارث بن عمرو». لأنّ «البخاری» و «الترمذی» ذکروا أنّه رجل مجهول (3) والکثیر من الرجالیین یعدّوه من الضعفاء(4) مضافاً إلی أنّ «الحارث» هذا نقل الحدیث عن بعض أهالی «حمص» ولذلک فهذه الروایة مرسلة وغیر متّصلة(5).

2. إنّ هذه الروایة معارضة للروایات التی تذمّ الاجتهاد بالرأی، ولا سیّما روایة أخری عن معاذ عندما أرسله النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله إلی الیمن أنّه قال:

«لمّا بَعثَنی رسولُ اللَّهِ إلی الیَمن قال: «لا تَقْضِیَنّ ولا تَفْصِلَنَّ إلّابما تَعْلَم وإن أشْکَل علیک أمرٌ فَقِف حتّی تُبَیِّنَه أو تَکتُبَ إلیَّ فیه»(6).

وفی روایة أخری عن أبی هریرة، ورد أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «

تَعمَلُ هذِه الأمَّةُ بُرهةً بِکِتابِ اللَّه ثمّ تعمَلُ بُرهةً بسُنَّةِ رَسولِ اللَّه ثمّ تعمَلُ بالرّأی؛ فإذا عَمِلوا بالرأی فقد ضَلُّوا وَأضَلُّوا»(7).

2. الاستحسان

وهو اصطلاح فی أحد مصادر الاجتهاد لدی بعض أهل السنّة، وقد وردت فیه تعاریف مختلفة، فذهب بعض إلی أنّ الاستحسان عبارة عن: الدلیل الذی یخطر فی ذهن المجتهد ولا یجد له عبارة مناسبة(8)، أو ما یظهر لطبع المجتهد أنّه حسن بدون أن یقوم علیه دلیل شرعیّ (9)، وبعض آخر یری أنّ الاستحسان تخصیص قیاسیّ بقیاس أقوی (10)، أو تقدم قیاس خفیّ علی قیاس جلیّ. وطائفة ثالثة تری أنّ: الاستحسان عدول من القیاس بالدلیل الأقوی، والباعث لهذا العدول:

«1. وجود النصّ 2. التسهیل 3. المصلحة 4. الإجماع


1- سورة الروم، الآیة 27.
2- مسند أحمد، باب حدیث معاذ بن جبل، ج 5، ص 230، ح 21595.
3- تهذیب التّهذیب، ج 2، ص 260.
4- المصدر السابق.
5- ملخص إبطال القیاس، ص 14؛ تهذیب التّهذیب، ج 2، ص 260.
6- السنن لابن ماجة، ج 1، ص 21، ح 55. سبق أن ذکرنا روایات تطعن فی استعمال الرأی. انظر حاشیة ملخّص إبطال القیاس، ص 15.
7- مسند أبی یعلی، ج 10، ص 240، ح 5856؛ الجامع الصغیر للسیوطی، ج 1، ص 511، ح 3331.
8- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 157.
9- نسب هذا التعریف فی القوانین إلی أهل السنّة.
10- المبسوط للسرخسی، ج 10، ص 145.

ص: 194

5. الضرورة 6. العرف والعادة»(1).

وهناک خلاف بین هذه التعاریف، بل یصل أحیاناً إلی التضادّ، لأنّه کما یلاحظ فی هذه التعاریف، أنّ بعضها یشکّل المجتهد أو عقل المجتهد محوراً أساسیاً للتعریف، کالتعریف الأول والثانی. ولکنّ التعاریف الأخری لا تملک هذه الخصوصیة، وکذلک فطبقاً لبعض التعاریف، فالاستحسان یقع فی النقطة المقابلة للقیاس، وطبقاً لبعض آخر فالاستحسان یعدّ نوعاً من القیاس، ولعل أشهر معنی للاستحسان هو: الحکم الذی لم یرد فیه نصّ، ولکنّ عقل المجتهد یقبله ویرضاه.

والاستحسان فی نظر أبی حنیفة حجّة، وقد نسب هذا القول أیضاً إلی مالک والحنابلة(2). وهناک جملة معروفة عن مالک هی قوله: إنّ تسعة أعشار الفقه، استحسان. ولکن فی مقابل ذلک فإنّ بعض أهل السنّة وخاصّة الشافعیّ (3) وکذلک بعض الحنفیة (کالشاطبی والطحاوی) أنکروا حجّیته (4) والاستحسان باطل أیضاً فی نظر الإمامیّة والزیدیّة والظاهریّة ولا اعتبار له (5).

وقد استدلّوا لحجّیة الاستحسان ببعض الآیات والروایات، فمن القرآن، بالآیات 17 و 18 من سورة الزمر وکذلک الآیة 55 من هذه السورة أیضاً:

«فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...»، «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ مِّنْ رَّبِّکُمْ».

وکذلک استدلّوا بالآیة 145 من سورة الأعراف حیث یقول تعالی: «... فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَکَ یَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا».

ففی هذه الآیات کما هو الملاحظ، تدعو إلی اتّباع «القول الأحسن» وفی الآیة الثانیة والثالثة تأمر بذلک وتقرّر أنّ اتباع الحسن متفرّع علی معرفة الأحسن، ومن جهة أخری إنّ مصادیق الأحسن لم تبیّن للناس، إذن فمعرفة الأحسن قد فوّض للناس أنفسهم (6).

ویقول «الغزالی فی الجواب عن هذا الاستدلال:

«إنّ مفاد الآیات لیس هو أن تعملوا بما تتصوّرونه حکماً، بل یجب علیکم اتّباع الأحسن الواقعیّ، وأنّ اللَّه تعالی قد بیّن الطریق لمعرفة الأحسن الواقعی وذلک بموافقة الکتاب والسنّة، لأنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد التی یحیط بها الشرع ولیس لعقل البشر طریق إلی ذلک (سوی فی موارد خاصّة) وأمّا اتّباع ما یتصوّره الناس حسناً، فلیس سوی اتّباع الهوی»(7).

وقد استدلّوا لحجّیة الاستحسان أیضاً بروایة عبداللَّه بن مسعود:

«ما رأی المُسلمون حَسَناً فهو عند اللَّه حسنٌ»(8).

ویجیب مخالفو الاستحسان عن الاستدلال بهذا الحدیث، بما یلی:

1. إنّ هذه الجملة من کلام عبداللَّه بن مسعود، لا من کلام النبیّ صلی الله علیه و آله لیکون حجّة، إلّاأن یقال بأنّ قول الصحابیّ حجّة.

2. ظهور کلمة الرؤیة (ما رأی المسلمون ...) فی العلم والاطمئنان، أی أنّ ما قطع به المسلمون بأنّه حسن فهو عند اللَّه حسن، ولا یشمل الاستحسان الظنّی الذی هو مورد البحث.

وعلیه فإنّ هذا الحدیث یرتبط بالحسن والقبح


1- الموسوعة الفقهیّة المیسرة، ج 2، ص 403 و 404.
2- أصول الفقه لمحمّد أبوزهرة، ص 263.
3- الأمّ، الشافعی، ج 10، ص 119.
4- إبطال القیاس، ابن حزم، ص 51.
5- الأصول العامة، ص 363.
6- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 3 و 4، ص 165.
7- المستصفی ج 1، ص 411؛ روضة الناظر، ج 1، ص 475.
8- مسند أحمد، ج 1، ص 379.

ص: 195

العقلیین اللذین یدرکهما جمیع الناس، وأمّا موارد الظنّ والتخمین فی مورد البحث، فلا یشملها هذا الحدیث (1).

3. ویقول الآمدی والغزالی فی مقام الجواب عن الاستدلال بهذا الحدیث: إنّ هذا الحدیث إشارة لاجماع المسلمین، ولا یدلّ علی أنّ ما یراه آحاد المسلمین حسناً فهو عند اللَّه حسن (2).

4. ویقول الغزالی: إنّ هذا الحدیث خبر واحد لا یمکن إثبات الأصول به (3).

3. المصالح المرسلة

وهذا الاصطلاح یستعمل فی موارد المصالح والمضارّ التی لم یرد فیها نصّ خاصّ أوعام، ولکن یفهم منها ذوق الشارع فی هذه الموارد.

وفی الحقیقة فإنّ المصالح علی ثلاثة أقسام:

1. المصالح المعتبرة، وهی المصالح التی دلّت علیها وعلی اعتبارها الأدلّة الشرعیة.

2. المصالح المُلغاة، وهی المصالح التی قرّر الشارع المقدّس عدم اعتبارها وعدم لزوم رعایتها، من قبیل التسلیم للعدوّ إذا کانت هناک مصلحة فی حفظ النفس فیه، ولکن بما أنّ کیان الإسلام یواجه خطراً من هذا العمل، فإنّ مصلحة حفظ النفس تلغی حینئذٍ، ویأمر الشارع بالجهاد حتّی مع وقوع النفس فی الخطر.

3. المصالح المرسلة، وهی المصالح التی خرجت عن دائرة إلغاء أو اعتبار الشارع (4).

وفی حجیّة المصالح المرسلة ثلاثة أقوال: فیری مالک أنّها حجّة مطلقاً، وینکر جمهور أهل السنّة حجیّتها کذلک، حتی أنّ بعض المالکیة ذهبوا إلی أنّ حجّیتها عند مالک بعیدة(5)، وذهب بعض آخر إلی التفصیل فی المسألة، وقالوا: إنّ المصالح الضروریة القطعیة والبدیهیة فقط، هی المعتبرة(6).

وقد ذکروا للمصالح المرسلة هذا المثال: إذا تترّس الکفّار أثناء قتالهم للمسلمین بمجموعة من أسری المسلمین وقصدوا الإضرار بالمسلمین بهذه الحیلة، فلو أنّ المسلمین توقّفوا عن القتال ولم یتصدّوا لهم، فإنّهم سیلحقون الضرر بالمسلمین، وسوف یقتل الأسری أیضاً، ولکن إذا تصدّی لهم المسلمون وقاتلوهم، فإنّ الأسری سوف یقتلون بشکل أو بآخر ولو کان ذلک علی ید المسلمین، فی هذه الحالة فإنّ المصالح المرسلة تقتضی جواز قتل أسری المسلمین، لأنّه یفهم من ذلک مذاق الشرع، وأنّ هذا العمل أقرب لمصالح المسلمین (7).

وقد ذکر فی الفرق بین المصالح المرسلة والاستحسان أنّ الاستحسان غالباً نوع من الاستثناء من القواعد والنصوص العامّة، وبعبارة أخری، أنّ الاستحسان نوع من العدول عن الحکم الثابت بالدلیل العام، لکنّ المصالح المرسلة تتعلّق بما إذا لم یکن هناک دلیل علی الحکم، والفقیه من خلال مذاق الشرع یحصل علی الحکم علی أساس المصلحة، وبالطبع فإنّ الاستحسان تتوفّر فیه المصلحة أیضاً، ولکن هذه المصلحة تکون غالباً بشکل استثناء(8).


1- أنوار الأصول، ج 2، ص 533.
2- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 3 و 4، ص 159؛ المستصفی، ج 1، ص 172.
3- المستصفی، ص 172.
4- أصول الفقه الإسلامی، ص 286.
5- إرشاد الفحول، ج 2، ص 184.
6- أصول الفقه الإسلامی، ص 289.
7- المستصفی، ج 1، ص 424.
8- أصول الفقه الإسلامی، ص 298 و 299.

ص: 196

وأمّا دلیل القائلین بحجیّة المصالح المرسلة، فهو: إنّ الأحکام تابعة للمصالح، والنصوص الشریفة لم تقرّر جمیع المصالح الموجودة فی الأعمال، والمصالح متجددة بحسب مقتضیات الزمان والمکان، فلو اکتفی الفقیه بالمصالح المعتبرة الواردة فی النصوص فإنّه سیفقد مصالح کثیرة أخری، وهذا مخالف لغرض الشارع (1).

الجواب: من البدیهی أنّ الأحکام تابعة للمصالح، فإذا کانت المصالح واردة فی الأدلّة والنصوص، أو أدرکها العقل فی دائرة المستقلّات العقلیة بحیث یحصل من ذلک، القطع بها، فإنّ هذا القطع بذاته سیکون حجّة ولکن إذا کانت المصلحة بشکل لا یوجد دلیل علی اعتبارها وإلغائها، وکانت تقوم علی أساس الظنّ بالحکم الشرعیّ واعتبار هذا الحکم مبنیّ علی أساس هذه المصلحة، فإنّ ذلک یحتاج إلی دلیل قطعیّ، ولا یوجد مثل هذا الدلیل، والأصل فی الظنّ عدم الحجّیة(2) «إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»(3).

وخلاصة الکلام أنّه کلّما حصل القطع والیقین بالمصالح المرسلة، فلا شک فی حجّیتها، والإشکال إنّما هو فی المصالح الظنیّة التی لا یوجد دلیل قطعیّ لدینا علی اعتبارها وحجّیتها.

4. سدّ الذرائع وفتحها

اشارة

«ذرائع» جمع «ذریعة» بمعنی الوسیلة. «سدّ» و «فتح» اصطلاحان لدی أهل السنّة حیث قالوا: بما أنّ جلب المصالح ودفع المفاسد لازم وبعض الأفعال حرام بشکل مباشر، من قبیل السرقة والزنا، ولکنّ بعض الأفعال لم تقع مورد الحکم بالحرمة بشکل مباشر، ولکن بما أنّها تفضی إلی الحرام، فإنّ الشارع حکم بحرمتها، مثل الخلوة بالمرأة الأجنبیة(4)، فمن یری أنّ «سدّ الذرائع» حجّة، فإنّه یقول: یجب إیصاد طرق الوصول إلی المحرّمات الإلهیّة، کما أنّ الشخص الذی یری «فتح الذرائع» حجّة أیضاً یقول: یجب فتح الطرق والوسائل للتوصّل إلی الواجبات الشرعیة، ویری مالک (إمام المذهب المالکی) أنّ هذه القاعدة جاریة فی أکثر أبواب الفقه، والمعروف أنّه قال: إنّ ربع التکالیف الشرعیة تستخرج من قاعدة سدّ وفتح الذرائع (5).

والظاهر أنّ هذین الاصطلاحین یعودان إلی «حرمة مقدّمة الحرام» و «وجوب مقدّمة الواجب» حیث تبحث فی أصول فقه الشیعة فی بحث مقدمة الواجب (6).

وهناک معنیً آخر أیضاً لسدّ الذرائع، وهو سدّ طرق الحیلة فی الشرع. وعلی سبیل المثال: إذا تحرّک المکلّف للفرار من الربا علی مستوی بیع ماله بقیمة غالیة علی شکل نسیئة، واشترط علی المشتری أن یبیعه البضاعة بقیمة أقل نقداً، فهذا العمل لا یجوز شرعاً والدلیل علی ذلک سدّ الذرائع (7).

والإشکال الذی یرد علی هذا الکلام هو أنّه إذا کان «سدّ وفتح الذرائع» بالمعنی الأول، فهذا البحث یتعلّق بالنوع الثانی من موارد حکم العقل، حیث تقدّم ذکره سابقاً وذکرناه فی مقدّمة الواجب والحرام، وإذا کان


1- أصول الفقه الإسلامی، ص 259.
2- أنوار الأصول، ج 2، ص 538.
3- سورة النجم، الآیة 28.
4- أصول الفقه الإسلامی، ص 300.
5- الموافقات، ج 4، ص 141.
6- هنا فرق بین« سدّ الذرائع وفتحها» وبین« مقدّمة الحرام والواجب» حیث ورد بحثه فی« أساس اختلاف الفتاوی».
7- أنوار الأصول، ج 2، ص 542.

ص: 197

المراد هو المعنی الثانی فإنّ استخدام الحیلة فی الربا یبطل المعاملة من جهات أخری حیث لا یکون فی هذه المعاملة قصد جدّی وإنشاء من الطرفین، ولهذا السبب فهذه المعاملة باطلة عقلًا.

وعلی هذا الأساس، فإنّ مسألة «سدّ الذرائع وفتحها» لا تشکل مصدراً جدیداً لاستنباط الأحکام الشرعیة، بل أحد الموارد لحکم العقل القطعی.

تعارض الأدلّة:

وآخر بحث فی موضوع مصادر الاستنباط هو بحث تعارض الأدلّة.

وکمقدّمة نری من اللازم بیان هذه النقطة، وهی أنّه أحیاناً یبدو وجود تعارض ابتدائی بین دلیلین، ولکن بسبب وجود الجمع العرفیّ أو أنّ أحد الدلیلین حاکم علی الآخر، فإنّ هذه المسألة تخرج عن بحث التعارض، ولذلک فلو کانت النسبة بین الدلیلین عام وخاص کأن یقول الدلیل العام: «أکرم جمیع العلماء» ویرد دلیل خاصّ یقول: «لا تحترم العالم غیر العامل» فإنّ بین هذین الکلامین لا یوجد تعارض فی العرف، بل إنّ الجمع العرفی یقتضی تقدیم الدلیل الخاصّ علی العامّ، وبالتالی فإنّ نتیجة تقدیم الخاصّ علی العامّ أن نعمل بالدلیل الخاصّ فی مورد العالم غیر العامل، وباقی الأفراد یکون العامّ حجّة فیها(1). وبعبارة أُخری: إنّ سائر الأفراد تبقی تحت عموم العام.

وهکذا بالنسبة للموارد التی یبدو فیها وجود تعارض بین الدلیلین، ولکنّ أحد الدلیلین حاکم علی الآخر، من قبیل العناوین الثانویة بالنسبة إلی العناوین الأولیة(2). فهنا لا یوجد تعارض فی الواقع، من قبیل أنّ الدلیل الأول یقول: «یحرم تناول ما ذبح بطریقة غیر إسلامیة»، ولکنّ الدلیل الآخر یقول: «یجوز تناول هذا اللحم عند الاضطرار». فهذان الدلیلان لا یعتبران متعارضین فیما بینهما، بل إنّ الثانی حاکم علی الدلیل الأول ومقدّم علیه (3).

وهکذا فی صورة تعارض «الأمارة» و «الأصل» فهذا التعارض بدویّ أیضاً، لأنّه مع وجود الأمارة لا یصل الدور إلی الأصل، ودلیل الأمارة حاکم علی الأصل أو وارد علیه. مثلًا إذا تعارضت قاعدة الصحّة (أصالة الصحّة) التی یراها کثیر من الفقهاء أنّها أمارة مع استصحاب الفساد (مثلًا: نشکّ فی هل أنّ المعاملة الفلانیة صحیحة أم فاسدة) فإنّ أصالة الصحّة تقدّم علی الاستصحاب الذی یقرّر عدم انعقاد المعاملة(4).

علی أیّة حال، فالتعارض یقع أحیاناً بین دلیلین شرعیین (أمارة) وأحیاناً أخری بین أصلین. وبالنسبة للتعارض بین الأصلین، فإذا تعارض الاستصحاب مع الأصول الثالثة الأخری (أصل البراءة والتخییر والاحتیاط) فإنّ الاستصحاب مقدّم، لأنّ مقتضی أدلة حجّیة الاستصحاب، هو البناء علی بقاء الأمر الیقینی السابق إلی الزمان الثانی (زمان الشکّ)، وبعبارة أخری، إنّ الاستصحاب «أصل محرز» ولذلک یقدّم علی الأصول الأخری.


1- وبالطبع یلزم التوجه إلی هذه النقطة وهی أنّه لا یجوز الجمع بین الدلیلین، وإن کان ملفتاً للنظر حیث یسمّونه« الجمع التبرّعی» أی أنّه خال من الشواهد العرفیة، بل یجب أن یکون منسجماً مع الارتکازات العرفیة والعقلائیة.
2- سبق توضیح دلیل الحاکم والمحکوم فی تقسیمات الأدلّة النقلیة.
3- أنوار الأصول، ج 3، ص 506.
4- الرسائل( فرائد الاصول)، ص 414.

ص: 198

وأمّا فی صورة التعارض بین استصحابین فإن کانت العلاقة بینهما علاقة السببیّة والمسببیّة، فإنّ الاستصحاب السببیّ مقدّم، وإلّا فإنّ کلا الأصلین یسقطان ولا أثر لهما، مثل ما إذا کان الماء کرّاً سابقاً والآن شککنا فی کرّیته وطهّرنا اللباس النجس به، ففی هذه الصورة فإنّ الاستصحاب السببیّ (استصحاب کرّیة الماء) جارٍ فی المقام ولا ینبغی الالتفات إلی استصحاب نجاسة اللباس (أصل مسبّبی).

وبالنسبة للتعارض بین الدلیلین فهناک مرجّحات عند حدوث مثل هذا التعارض، ومع وجود هذه المرجّحات فی أحد الدلیلین فإنّه یقدّم علی الآخر، وإن فقد کلّ واحد منهما أیّ مرجح من هذه المرجّحات ووصل الأمر إلی (التعادل)، ففی هذه الصورة یتساقطان أو یکون أحدهما هو الحجّة علی نحو التخییر، أو یتوقّف المکلّف ویعمل بالاحتیاط، وهنا تختلف مبانی الفقهاء والأصولیین فی هذه المسألة، حیث اتّخذ کلّ فقیه مسلکاً منها.

والکثیر من الفقهاء بالنسبة للقاعدة المذکورة (الترجیح فی صورة وجود المرجّح، والتساقط أو التخییر أو الاحتیاط فی صورة التعادل) ذهبوا إلی جریان هذه القاعدة فی جمیع الأمارات (1).

ولکنّ أهم بحث فی هذا المورد هو تعارض روایتین وهذا التعارض واقع کثیراً، لأنّ الفقیه یواجه فی کثیر من أبواب الفقه المختلفة روایات متعارضة، مثلًا، فی روایات مقدار الکرّ من حیث الوزن والمساحة، أو فی روایات طهارة ونجاسة أهل الکتاب، أو فی روایات حرمة وعدم حرمة الزواج من المرأة الکتابیة، وغیر ذلک حیث یوجد تعارض بین الروایات فی هذه المسائل.

وقد سبق أن ذکرنا بالنسبة للإشکالات التی تذکر علی سنّة الأئمّة المعصومین علیهم السلام، إلی مصدر ومنبع التعارض فی الروایات، ولکنّنا نبحث هنا علاج هذا التعارض وکیفیة مواجهة مسألة تعارض الخبرین.

وتبیّن آنفاً طریقة إجراء قواعد التعارض فی الأخبار. وأغلب فقهاء الإسلام یقبلون إجمالًا تأثیر المرجحات فی هذا الباب، إلّاأنّ الباقّلانی وأباعلیّ وأباهاشم الجبّائی أنکروا تأثیر هذه المرجّحات وبالتالی فإنّهم عملوا بالتعادل (2) فی جمیع أبواب التعارض، ولکنّ المشهور بین الفریقین ومقتضی الأخبار المتواترة أنّ الروایة التی تملک بعض المرجّحات تقدّم علی الفاقدة لها.

وقد ذکرت مرجّحات ومزایا کثیرة فی الروایات بعضها یرتبط بجهة السند، والبعض الآخر بجهة الدلالة، وهذه المرجّحات من قبیل: شهرة الروایة وعمل الفقهاء بها، کون الراوی أعدل من الآخر أو أفقه أو أصدق منه، وکذلک موافقة الروایة للکتاب والسنّة وغیرها.

وقد ذکر أهل السنّة مزایا ومرجّحات أخری من قبیل: قرب عصر الراوی من عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، طول صحبته لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله، سماعه الحدیث بشکل مباشر، ارتباط حکم الروایة مع راویها، شهرة الراوی، تقدّم الراوی فی السنّ، تأخّر إسلام الراوی، أعلمیة الراوی بلغة العرب، کثرة الرواة، قلّة الوسطاء، الظهور الأقوی للروایة، نقل الروایة بألفاظها من النبیّ صلی الله علیه و آله (فی مقابل النقل بالمعنی) وکون الروایة قولیة (فی مقابل حکایة


1- الرسائل( فرائد الأصول)، ص 428.
2- المصدر السابق، ص 441.

ص: 199

عن فعل النّبی صلی الله علیه و آله)(1).

ونظراً لأنّ الکثیر من هذه المرجّحات غیر واردة فی متن الروایات، فإنّ قبول هذه المرجّحات یقوم علی أساس الموقف من هذا السؤال: هل یمکن فی قبول المرجّحات التعدّی من الموارد المنصوصة الواردة فی الأخبار إلی غیرها، أم لا؟

وأمّا إذا وقع تعادل بین روایتین ولم یملک أحدها مرجّح علی الآخر، فهنا آراء مختلفة، فذهب البعض إلی سقوط کلتا الروایتین عن الحجّیة والرجوع بالتالی إلی الأصول العملیة، لأنّ سقوط الدلیل الاجتهادی یقتضی الرجوع إلی الأصل العملی، والبعض الآخر ذهب إلی عدم سقوط الروایتین، وبعض هؤلاء ذهبوا إلی الاحتیاط، وآخرون توقّفوا فی المسألة، وذهب البعض إلی التخییر(2).

وقد ذکرت تفاصیل هذه البحوث فی الکتب الأصولیة المعروفة والمفصّلة.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن، الشیخ محمّد جواد البلاغی، مرکز الطباعة والنشر فی مؤسّسة البعثة، الطبعة الأولی، 1420 ق.

4. إبطال القیاس، ابن حزم الأندلسی.

5. إتحاف ذوی البصائر (شرح روضة الناظر) فی اصول الفقه، الدکتور عبدالکریم بن علی بن محمّد النملة، مکتبة الرشد، الریاض، 1422 ق.

6. الإتقان فی علوم القرآن، جلال الدّین السیوطی، الطبعة الثانیة، منشورات الرضی.

7. أجود التقریرات، تقریرات درس آیة اللَّه میرزا محمّد حسین النائینی، السیّد أبوالقاسم الخوئی، مکتبة المصطفوی، قم.

8. الإحکام فی الأصول الأحکام، سیف الدّین أبوالحسن علیّ ابن علیّ بن محمّد الآمدی، دار الکتب العلمیّة.

9. أحکام القرآن، أبوبکر أحمد بن علی الرازی الجصّاص، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1415.

10. الأدلة العقلیّة وعلاقتها بالنقلیّة، الدکتور محمّد سعید الشحّاتة.

11. الإصابة فی تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلانی، دار إحیاء التراث، بیروت، الطبعة الأولی.

12. إرشاد الفحول، محمّد بن علیّ بن محمّد الشوکانی، تحقیق أحمد عزّوعِنانة، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1421 ق.

13. الأصول العامة للفقه المقارن، السیّد محمّدتقی الحکیم، تحقیق المجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام قم، الطبعة الثانیة، 1418 ق.

14. أصول الفقه، الشیخ محمّدرضا المظفر، دارالنعمان، النجف الأشرف، الطبعة الثانیة، 1386 ق.

15. أصول الفقه الإسلامی، محمّد أبوزهرة، دارالفکر العربی، 1377 ق.

16. أصول مذهب الشیعة الاثنی عشریّة، الدکتور ناصر بن عبداللَّه بن علی القفاری، دارالرضا للنشر والتوزیع، الطبعة الثالثة، 1418 ق.

17. اللباب فی أصول الفقه، صفوان عدنان الداودی، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولی، 1420 ق.


1- الرسائل( فرائد الأصول)، ص 449؛ کفایة الأصول، ج 2، ص 392.
2- روضة الناظر، ج 2، ص 366؛ الرسائل، ج 2، ص 436.

ص: 200

18. الأمالی للمفید، أبوعبداللَّه محمّد بن محمّد بن النُعمان العُکبری البغدادی، انتشارات جماعة المدرسین فی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

19. أنوار الاصول، تقریرات درس آیة اللَّه مکارم الشیرازی، أحمد القدسی، انتشارات نسل جوان، الطبعة الثانیة، 1416 ق.

20. أنوار الفقاهة، آیةاللَّه ناصر مکارم الشیرازی، مدرسة الامام أمیرالمؤمنین علیه السلام، الطبعة الثانیة، 1413 ق.

21. أوائل المقالات، محمّد بن محمّد بن النعمان العُکبری (الشیخ المفید).

22. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثالثة، 1403 ق.

23. بحوث فی الأصول، تقریرات درس الشهید آیة اللَّه محمّد باقر الصدر، السیّد محمود الهاشمی، المجمع العلمی للشهید الصدر، الطبعة الأولی، 1405 ق.

24. بصائر الدرجات، أبوجعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفار القمی.

25. البیان فی تفسیر القرآن، السیّد أبوالقاسم الخوئی، المطبعة العلمیّة قم، الطبعة الخامسة، 1394 ق.

26. تاریخ ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون المغربی، دارالکتاب اللبنانی.

27. تأویل مختلف الحدیث، عبداللَّه بن مسلم بن قتیبة، دارالجیل، بیروت، 1411 ق.

28. تعارض الأدلة الشرعیة، تقریرات درس آیةاللَّه السیّد محمّدباقر الصدر، السیّد محمود الهاشمی، المکتبة الإسلامیّة الکبری، الطبعة الثانیة، 1396 ق.

29. تفسیر البیضاوی، ناصرالدین أبوسعید عبداللَّه بن عمر بن محمّدالشیرازی البیضاوی، مؤسّسة الأعلمی، بیروت، 1410 ق.

30. تفسیر العیاشی، أبونصر محمّد بن مسعود بن عیّاش السمرقندی، المکتبة العلمیّة الإسلامیّة.

31. تفسیر القاسمی (محاسن التأویل)، محمّد جمال الدّین القاسمی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1398 ق.

32. تفسیر القرآن بالقرآن عند العلّامة الطباطبائی، الدکتور خضیر جعفر، دارالقرآن الکریم، قم، الطبعة الأولی، 1411 ق.

33. التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الثالثة، 1413 ق.

34. التوحید، الصدوق أبوجعفر محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، مؤسّسة الأعلمی، بیروت.

35. تهذیب التّهذیب، ابن حجر العسقلانی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1415 ق.

36. الجامع لأحکام القرآن، أبوعبداللَّه محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الخامسة.

37. جامع أحادیث الشیعة، إسماعیل معزی الملایری، نشر صحف، قم، 1413 ق.

38. الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة، الشیخ یوسف البحرانی، انتشارات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الأولی، 1363 ش.

39. الدرّالمنثور فی التفسیر بالمأثور، جلال الدّین السیوطی، دارالفکر بیروت، 1414 ق.

40. الدرایة فی علم مصطلح الحدیث، زین الدین العاملی (الشهید الثانی)، مطبعة النعمان، النجف الأشرف.

41. الذریعة إلی تصانیف الشیعة، الشیخ آقابزرگ الطهرانی، دارالأضواء بیروت، الطبعة الثالثة، 1403 ق.

42. ذکری الشیعة فی أحکام الشریعة، أبوعبداللَّه محمّد بن مکی العاملی، مکتبة بصیرتی.

43. رجال الکشّی، اختیار معرفة الرجال، مؤسّسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث.

44. روضة الناظر وجنّة المناظر فی أصول الفقه علی مذهب أحمد بن حنبل، موفق الدین عبداللَّه بن أحمد بن قدامة، مؤسّسة الریان، بیروت.

45. السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی أبوجعفر محمّد بن

ص: 201

منصور بن أحمد بن إدریس الحلّی، انتشارات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الرابعة، 1417 ق.

46. سنن ابن ماجه، الحافظ أبوعبداللَّه محمّد بن یزید القزوینی، دارالفکر، بیروت.

47. السنن الکبری، الحافظ أبوبکر أحمد بن حسین بن علیّ البیهقی، دارالفکر بیروت، الطبعة الأولی.

48. شرح النووی علی مسلم، محیی الدّین النووی، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1407 ق.

49. شرح المعالم فی أصول الفقه لابن التلمسانی، عبداللَّه محمّد بن علی شرف الدین أبومحمّد الفهری المصری، عالم الکتب بیروت، الطبعة الأولی 1419 ق.

50. شرح المقاصد، التفتازانی، مسعود بن عمر بن عبداللَّه (سعد الدین التفتازانی)، تحقیق الدکتور عبدالرحمن عمیرة، عالم الکتب، بیروت، الطبعة الأولی 1409 ق.

51. شرح نهج البلاغة، لابن أبی الحدید، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

52. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه محمّد بن إسماعیل البخاری، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

53. صحیح الترمذی، أبوعیسی محمّد بن عیسی الترمذی.

54. صحیح مسلم، الإمام أبوالحسین مسلم بن الحجّاج القشیری النیسابوری، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

55. الصواعق المحرقة علی أهل الرفض والضلال والزندقة، أبوالعباس أحمد بن محمّد بن محمّد بن علیّ بن حجر الهیثمی، مؤسّسة الرّسالة، الطبعة الأولی 1417 ق.

56. الطبقات الکبری، المعروف بطبقات ابن سعد، محمّد بن سعد، طبع دار الصادق، بیروت.

57. عوالی اللئالی، محمّد بن علی بن إبراهیم الاحسائی، المعروف بابن أبی جمهور، مطبعة سیّدالشهداء علیه السلام قم، الطبعة الأولی 1403 ق.

58. فرائد الأصول (الرسائل)، الشیخ مرتضی الأنصاری، الطبع المحشّی بحاشیة الملّا رحمة اللَّه، مکتبة المصطفوی قم، 1376 ق.

59. الفوائد الحائریّة، محمّد باقر بن محمّد أکمل (الوحید البهبهانی)، مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الأولی، 1415 ق.

60. الفوائد المدنیة، المولی محمّدأمین الاسترآبادی، دارالنشر لأهل البیت علیهم السلام.

61. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (حاشیة کتاب المستصفی).

62. الفهرست فی أخبار العلماء المصنفین من القدماء والمحدّثین وأسماء کتبهم، محمّد بن اسحاق الندیم.

63. قاعدة الفراغ والتجاوز، السیّد محمود الهاشمی، الطبعة الأولی مکتب الإعلام الإسلامی الحوزة العلمیّة قم، 1408 ق.

64. القواعد الفقهیّة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، منشورات دارالعلم، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

65. قوانین الأصول، أبوالقاسم بن حسن الکیلانی المعروف بالمیرزا القمی، دار الطباعة، الاستاذ علی القلیخان، 1299 ق.

66. الکافی، أبوجعفر محمد بن یعقوب الکلینی، المصحح:

علی أکبر الغفاری، دار الأضواء، بیروت، 1405 ق.

67. الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل، جاراللَّه محمود بن عمر الزمخشری.

68. کشف الظنون عن أسامی الکتب والفنون، الملّا کاتب الشلبی المعروف بحاجی الخلیفة، دارالکتب العلمیّة بیروت.

69. کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد، جمال الدّین حسن بن یوسف بن علیّ بن المطهر (العلّامة الحلّی)، مؤسّسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الأولی 1399 ق.

70. کفایة الأصول، الآخوند الملّا محمّد کاظم الخراسانی، بخط طاهر خوشنویس، انتشارات علمیّة إسلامیّة.

71. کنز العرفان فی فقه القرآن، جمال الدّین مقداد بن عبداللَّه السیوری.

72. کنز العمّال فی سنن الأقوال والأفعال، علی المتقی الهندی،

ص: 202

مؤسّسة الرسالة، 1413 ق.

73. کنز الفوائد، الإمام أبوالفتح الشیخ محمّد بن علی بن عثمان الکراجکی الطرابلسی، دار الأضواء بیروت، 1405 ق.

74. المبسوط، شمس الدین السرخسی، دار المعرفة بیروت، 1414 ق.

75. مجمع البحرین، الطریحی.

76. مجموعة الفتاوی ابن تیمیة، تقی الدین أحمد بن تیمیة الحرّانی الدمشقی الحنبلی، دار الوفاء، الطبعة الأولی 1418 ق.

77. المحلی بالآثار، أبومحمّد علی بن أحمد بن سعید بن حزم الأندلسی، دارالفکر، بیروت، 1408 ق.

78. المستدرک علی الصحیحین، الحافظ أبوعبداللَّه محمّد بن عبداللَّه الحاکم النیسابوری، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی 1411 ق.

79. المستصفی من علم الأصول، أبوحامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالی الطوسی، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولی 1417 ق.

80. مسند أحمد، أبوعبداللَّه احمد بن حنبل الشیبانی، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الثالثة، بیروت 1415 ق.

81. مصباح الاصول، تقریر دروس آیة اللَّه الخوئی، السید محمّد سرور واعظ الحسینی، طبعة النجف، 1386 ق.

82. معالم الدین، أبومنصور جمال الدین الحسن بن زین الدین (ابن الشهید الثانی)، خطّ عبدالرحیم، 1297 ق.

83. المعتبر، أبوالقاسم الحلّی (المحقّق الحلّی)، بخطّ محمّدباقر التفرشی، 1318 ق.

84. معترک الأقران، جلال الدین السیوطی، دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی 1408 ق.

85. المعتمد فی أصول الفقه، أبوالحسین محمّد بن علی بن طیب البصری المعتزلی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

86. مقدّمة مرآة العقول، السید مرتضی العسکری، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، 1404 ق.

87. مقیاس الهدایة فی علم الدرایة، الشیخ عبداللَّه المامقانی.

88. ملخص إبطال القیاس، سعید الأفغانی.

89. من لا یحضره الفقیه، أبوجعفر محمّد بن علی بن الحسین ابن بابویه القمی، دارالأضواء، بیروت، الطبعة السادسة، 1405 ق.

90. مناهل العرفان فی علوم القرآن، الشیخ محمّد عبدالعظیم الزرقانی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، 1416 ق.

91. منهاج السنّة النبویّة فی نقض کلام الشیعة والقدریة، أبوالعباس أحمد بن تیمیّة الحرانی الدمشقی الحنبلی، الطبعة الأولی 1322 ق.

92. الموافقات فی أصول الأحکام، الحافظ أبواسحاق إبراهیم الشاطبی، دارالفکر.

93. الموسوعة الفقهیة المیسّرة، محمّدعلی الأنصاری، مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الأولی 1415 ق.

94. موقف الرافضة فی القرآن، مامادوکا الرامبیری، مکتبة ابن تیمیّة.

95. المهذّب فی أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم بن علی بن محمّد نملة، مکتبة الرشد، الریاض، الطبعة الأولی 1420 ق.

96. میزان الاعتدال فی نقد الرجال، الحافظ شمس الدین محمّد بن أحمد الذهبی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

97. المیزان فی تفسیر القرآن، السیّد محمّدحسین الطباطبائی، مؤسسة مطبوعات إسماعیلیان، قم، 1390 ق.

98. نظرات فی أصول الفقه، الدکتور عمر سلیمان الأشقر، دارالنفائس بیروت، الطبعة الأولی 1419 ق.

99. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

100. هدایة الأبرار إلی طریق الأئمّة الأطهار علیهم السلام، حسین بن شهاب الدین الکرکی العاملی، مؤسسة إحیاء الأحیاء.

101. ینابیع المودّة لذوی القربی علیهم السلام، سلیمان بن إبراهیم الحسینی البلخی القندوزی الحنفی، دارالاسوة، الطبعة الأولی، 1416 ق.

ص: 203

8

القسم الثامن: عدم الفراغ القانونی فی الإسلام

اشارة

تعریف الحکم وأقسامه

القوانین الثابتة والمتغیّرة وتأثیر الزمان والمکان

انفتاح باب الاجتهاد

هل یوجد فراغ قانونی؟

موضوعیة منطقة الفراغ؟

ص: 204

ص: 205

عدم الفراغ القانونی فی الإسلام

مقدمة:

لابدّ من ذکر النقاطٍ قبل الخوض بالبحث:

أ) إنّ العالم الذی نعیش فیه الیوم یتمتّع بنظام خاصّ وتتحرّک جمیع موجوداته باتّجاه هدف معیّن وتحت إشراف الهدایة العامة، فمن أصغر الذرّات إلی أکبر الأجرام والمجرّات السماویة المعروفة الآن، کلّها تشهد علی هذه الحقیقة، وقد أشار القرآن الکریم: «رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَی کُلَّ شَیْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَی»(1).

ب) إنّ الإنسان غیر مستثنی من هذا القانون الإلهیّ التکوینیّ، ولکن بما أنّه موجود یتمتّع بعقل وشعور وتکلیف، فإنّ اللَّه تعالی قد قرن الهدایة التکوینیة فیه مع الهدایة التشریعیة التی وصلت بواسطة الأنبیاء إلی الناس (2).

ج) ومن جهة أخری فإنّ الإنسان کائن اجتماعیّ لأنّه یملک حاجات لا یمکن إشباعها إلّافی إطار المجتمع، کما هو الحال فی حاجاته المادیّة والعاطفیة إلی الآخرین.

د) إنّ الحیاة الاجتماعیة تؤدّی إلی وقوع التزاحم بین منافع الأفراد، ومضافاً إلی ذلک فإنّ استمرار الحیاة الاجتماعیة بحاجة لتقسیم الوظائف بین الأشخاص وتستلزم وجود مدیریة لحفظ النظام الإجتماعی، وعلی هذا الأساس فإنّ عقل الإنسان یحکم بضرورة وجود قانون یحفظ بقاء الحیاة الاجتماعیة من جهة، حیث یرفع التزاحمات وأشکال التصادم الموجود بین الأفراد أو یمنع من إیجاد التزاحم بینهم، ومن جهة أخری یعمل علی تقسیم الوظائف الاجتماعیة بین الأفراد، وکذلک بحاجة إلی وجود من یقوم بإجراء القانون إجراءً عادلًا.

ه) إنّ تاریخ حیاة البشریة یشیر إلی وجود سعی حثیث لدی البشریة للتوصّل لقانون مطلوب یحقّق إقامة العدل، وکذلک إلی من یقوم بتجسید هذا القانون علی أرض الواقع الاجتماعی، ولکن بما أنّ معرفة الإنسان عن نفسه ومحیطه ناقصة وتتحرّک فی خط التکامل عادة، فإنّ أیّاً من هذه المساعی لم یصل إلی نتیجة قطعیة، ولذلک نشاهد وجود إصلاحات وتغییرات کثیرة فی دائرة التقنین والحکم، حیث یقوم أفراد البشر بتبدیل القوانین الموضوعة من قِبلهم، ولکن هل أنّ القوانین التی قرّرها الإنسان فی القرن الحادی


1- سورة طه، الآیة 50.
2- انظر: التفسیر الأمثل، ذیل الآیة 5 من سورة طه.

ص: 206

والعشرین تعتبر أکمل القوانین ولا تحتاج إلی تغییر وإصلاح بعد ذلک؟ إنّ المقنّنین أنفسهم یجیبون عن هذا السؤال بالسلب، ویرون أنّه لا یمکن الکلام عن قانون نهائی إطلاقاً، بل إنّ حرکة التقنین تنطلق فی خطّ عملیة الاستفادة من الأخطاء والتجربة، حالها حال سائر القرارات التی یتّخذها الإنسان فی معیشته وحیاته، أی أنّ الإنسان یجرّب طرقاً مختلفة، وبعد أن یتبیّن له الخطأ فی هذه الطرق یقوم بإصلاحها، ثمّ یتحرّک علی مستوی تجربة هذه الإصلاحات للعثور علی مکامن الخطأ فیها وهکذا تتکرّر هذه المحاولات باستمرار، وعلی هذا الأساس فإنّ الإنسان یعترف بقصور عقله عن التوصّل إلی قانون کامل.

إنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله الذی یمثّل نبیّاً لأکمل دین وخاتم الأدیان الإلهیة، تحرّک من موقع تحریر الإنسان من الأفکار الباطلة وقیود الآراء الموهومة والعقائد الزائفة، وقام بهدایة عقل الإنسان من خلال الاستمداد من الوحی إلی أفضل وأکمل القوانین، کما تحدّث القرآن الکریم عن صفة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: «یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنکَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ»(1).

من الواضح تماماً فی دائرة العقل أنّه لا أحد یمکنه وضع قانون کامل لتنظیم حیاة الإنسان وتوفیر السعادة الدنیویة والأخرویة له سوی خالق الإنسان الذی یعلم بتفاصیل وجزئیات وجود الإنسان ومطّلع علی مبدئه ومعاده.

وبعبارة أخری: إنّ العقل یدرک أنّ المقنّن الکامل ینبغی أن یتمتّع بممیزات وخصائص معیّنة:

1. علم واسع ومحیط بجمیع أبعاد الإنسان وخصائصه الجسمیة والروحیة، حیث یوفّر بذلک سعادة الإنسان فی الدنیا والآخرة.

2. عدم وجود البخل فی إراءة طریق السعادة للإنسان.

3. عدم ترجیح منافعه ومصالحه الشخصیة أو الفئویة عند التقنین، وبعبارة أخری، لزوم رعایة العدالة بشکل کامل.

ومن الواضح أنّ هذه الخصوصیات متوفّرة بشکل کامل فی اللَّه تعالی فقط، ولذلک فهو الوحید الذی له صلاحیة وضع القوانین الثابتة والدائمیة للإنسان کما صرّح القرآن الکریم بذلک فی قوله: «إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا للَّهِ»(2).

وربّما یعبّر عن هذا الموضوع أحیاناً بالتوحید فی مقام التشریع.

بعد الوقوف علی النقاط المذکورة، یطرح سؤال مهمّ فی هذا المجال وهو أنّه مع الأخذ بنظر الاعتبار، التحوّلات والتغیّرات الواقعة فی حیاة الإنسان وحاجاته علی امتداد القرون والأعصار، مع النظر إلی کثرة الوقائع اللامتناهیة للإنسان، فکیف یمکن أن تستجیب القوانین الشرعیة الثابتة والمحدودة لجمیع هذه الحاجات الکثیرة؟

وفی مقام الجواب عن هذا السؤال، نری من اللازم فی البدایة بیان عدّة مفاهیم:

1. تعریف الحکم وأقسامه

اشارة

یطلق الحکم الشرعیّ علی مجموعة الأوامر


1- سورة الأعراف، الآیة 157.
2- سورة یوسف، الآیة 40.

ص: 207

والتعالیم الصادرة من اللَّه تعالی لتنظیم حیاة الإنسان المادیة أو المعنویة، وله تقسیمات مختلفة، فبعضها لا یرتبط بما نحن فیه (1)، ولکنّ العمدة من هذه التقسیمات ترتبط ببحثنا الحاضر، من قبیل تقسیم الحکم إلی: حکم أوّلیّ وثانویّ، وحکم حکومتی:

أ) الحکم الأوّلی

إنّ الأحکام الأوّلیة عبارة عن الأحکام التی تعلقّت بموضوعات معیّنة مع قطع النظر عن العوارض والحالات الثانویة العارضة علی ذلک الموضوع، مثل وجوب الصلاة والصیام والحجّ، أو طهارة ماء الکرّ والجاری، وصحة البیع وبطلان المعاملة الربویة.

ب) الحکم الثانوی

إنّ الأحکام الثانویة هی الأحکام التی وضعت من جهة عروض بعض الحالات الخاصّة، من قبیل العسر والحرج والضرر أو المقدّمیة التی تفضی إلی وجوب المقدّمة، أو التقیّة التی تعمل علی تغییر بعض الأحکام.

ففی مثل هذه الموارد فإنّ الأحکام الثانویة تؤثّر فی الأحکام الأوّلیة وتعمل علی تغییر ذلک الحکم إلی حکم آخر، یقول القرآن الکریم: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَیْهِ»(2) ففی هذه الآیة نری رفع حکم تحریم المیتة بسبب الاضطرار.

وکذلک یقول: «لَایَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ ... إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً»(3).

ففی المرتبة الأولی حرّمت الآیة علی المؤمنین الارتباط مع الکافرین من موقع المحبّة والولایة، ثمّ استثنت التقیّة منها لأهداف أهمّ.

ج) الحکم الحکومیّ

إنّ الأحکام الحکومیة هی المقرّرات الخاصّة التی یضعها الحاکم الإسلامی لتنفیذ الأحکام الأولیة أو الثانویة، من قبیل المقرّرات المتعلّقة بدائرة الجوازات وقیادة السیارات، ونظام الجیش، وأمثالها، حیث إنّها تهدف إلی إیجاد وتحقیق النظام فی المجتمع، وهو بدوره من الأحکام الأولیة فی الإسلام، وهذه الأحکام توضع من قِبل الحکومة الإسلامیة وتحت نظر الحاکم الإسلامی. وقد تکون هذه الأحکام فی سبیل إجراء الأحکام الأولیة من قبیل ما تقدّم آنفاً، أو فی صدد إجراء الأحکام الثانویة، مثلًا تناول المخدّرات، (ویعتقد البعض بحرمة استعمال جمیع أنواع التدخین) فهو حرام بقاعدة «لا ضرر». فالحکومة الإسلامیة ومن أجل تحقیق هذا الحکم ربّما تضع أحکاماً مختلفة فی مجال عقوبة المهرّبین للمخدّرات وکیفیة التصدّی لهم، وکذلک فی مجال التصدّی للمدمنین أیضاً. فهذه الأحکام تعدّ مقدّمة لإجراء الحکم الثانوی بحرمة المخدّرات أو حرمة التدخین، وهی من الأحکام الحکومیة.

وعلی هذا الأساس، فلا ینبغی تصوّر أنّ الأحکام الحکومیة تقع فی عرض الأحکام الأولیة والثانویة وأنّ الحکومة الإسلامیة لها حقّ التشریع والتقنین کما تشاء لأنّ الشارع المقدّس هو اللَّه فقط، رغم أنّه تعالی قد منح نبیّ الإسلام- فی موارد محدودة- حقّ التشریع أیضاً وأمضی تشریعه.


1- وردت التقسیمات المختلفة للحکم فی هذا الکتاب فی بحث« أهمّ الاصطلاحات الفقهیة».
2- سورة البقرة، الآیة 173.
3- سورة آل عمران، الآیة 28.

ص: 208

وقد ذهب جماعة من علماء أهل السنّة إلی أنّ الفقیه له حقّ التشریع فی موارد «ما لا نصّ فیه»، واعتبروا مثل هذه الأحکام فی عرض الأحکام الأولیة وذهبوا طبقاً لعقیدة التصویب إلی أنّ هذا الحکم هو حکم اللَّه، ولکنّ هذا المعنی مرفوض بشدّة من قِبل مدرسة أهل البیت علیهم السلام.

وعلی هذا الأساس فالأحکام الحکومیة هی أحکام إجرائیة فقط ولا تخرج عن دائرة الأحکام الأولیة والثانویة.

إنّ عزل ونصب المسؤولین وتعیین المسؤولیات تعدّ جزءً من الأحکام الحکومیة، وهی تتمتّع بصبغة إجرائیة فقط، ومن أجل تحقیق الأحکام الأولیة والثانویة فی واقع المجتمع الإسلامی.

والملاحظة الجدیرة بالالتفات أنّ أصل حقّ الحاکم الإسلامی فی وضع الأحکام الحکومیة یعدّ من الأحکام الأوّلیة، أی أنّ اللَّه تعالی منح الحاکم الإسلامی الحقّ فی وضع مقرّرات من خلال الشوری أو بما یتوصّل إلیه من تصمیم من أجل إجراء الأحکام الإلهیة(1).

2. القوانین الثابتة والمتغیّرة وتأثیر الزمان والمکان

مع أنّ هذا البحث قد تقدّم فی هذا الکتاب بشکل وافٍ (2)، لکنّنا نشیر هنا إشارة مختصرة لهذه المسألة المهمّة.

لاشکّ فی وجود أحکام شرعیة ثابتة ودائمیة، مثل وجوب الصلاة والصیام والحج والجهاد وأمثال ذلک.

ولکن هناک أحکام أخری تتغیّر بتغیّر المکان والزمان، أی أنّ الزمان والمکان یغیّران الموضوعات وبالتالی فإنّ الحکم الشرعی یتغیّر تبعاً للموضوع، لأنّ الأحکام تابعة دائماً للموضوعات، فعندما نقول: «الخمر حرام» فهذا الحکم باقٍ مادام موضوع الخمر باقٍ علی حاله، ولکن إذا تبدّل الخمر إلی خلّ فإنّه یطهر قطعاً، وبدیهیّ أنّ تحریم الخمر لم ینسخ أبداً، بل إنّ الموضوع فی هذه المسألة قد تغیّر.

وهکذا فی مسألة تأثیر الزمان والمکان فی تغییر الأحکام، مثلًا کان العلماء یرون حرمة بیع وشراء الدم فی السابق، لأنّه لا توجد فیه منفعة محلّلة معتبرة، ولکن فی هذا العصر یستفاد من دم الإنسان فی إنقاذ المجروحین وغیر ذلک، فالموضوع هنا قد تغیّر وأصبحت له منفعة محلّلة معتبرة، ولذلک یجوز بیع وشراء الدم فی هذه الصورة.

إنّ الکثیر من المسائل المستحدثة فی عصرنا الحاضر وفی العصور الآتیة، یمکن إیجاد الحلول لها من خلال الأصول الکلیّة الواردة فی الکتاب والسنّة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار تغییر الموضوعات.

إنّ المسائل التی تتّصل بتشریح بدن الإنسان لتحقیق التکامل العلمیّ فی الطبّ، وکذلک زرع الأعضاء ومسائل المصارف وأنواع الشرکات، وأنواع الضمان الاجتماعی وتجارة الالکترونیّات والرحلات الفضائیة وأمثالها، کلّها تدور حول محور تلک الأصول الکلّیة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار تغیّر الموضوعات حسب الزمان والمکان، فحینئذٍ لایوجد فراغ قانونیّ فی الشرع الإسلامیّ.


1- لمزید من الاطلاع انظر کتاب أنوار الفقاهة، کتاب البیع، ج 1، ص 536 وکتاب الأصول العامة للفقه المقارن، ص 73 و 74.
2- انظر: بحث( دور الزمان والمکان فی الاستنباط).

ص: 209

ومرّة أخری نؤکّد علی أنّ الأحکام الشرعیة لا تتغیّر إطلاقاً، والحقیقة أنّ التغییر یکون فی دائرة الموضوعات التی تتغیر بتغیّر الزمان أو المکان.

3. انفتاح باب الاجتهاد

بالنسبة لانفتاح باب الاجتهاد وعدمه، هناک بحوث مفصّلة بین العلماء من قدیم الأیّام ولحدّ الآن، فیری جمیع فقهاء الإمامیة أنّ باب الاجتهاد فی جمیع مسائل الفقه مفتوح، وبعبارة أخری: إنّ الاجتهاد فی الأحکام الإسلامیة لا یتحدّد بعدد معیّن من الفقهاء ولم ینته زمان الاجتهاد، بل إنّ جمیع الفقهاء المجتهدین والمطّلعین علی مبانی الشرع یمکنهم استخراج الأحکام الإسلامیة، وربّما کان الفقهاء المعاصرون یملکون قدرة أفضل من القدماء فی مجال استنباط الأحکام، لأنّهم ورثة علوم القدماء مضافاً إلی ما زادوا علیها من العلوم الجدیدة.

هذا فی حین أنّ علماء أهل السنّة فی السابق کانوا یعتقدون غالباً بانسداد باب الاجتهاد، وکانوا یقولون: إنّ الاجتهاد محدود بفئة خاصّة من قدماء الفقهاء، ولیس للآخرین الحقّ فی الاجتهاد فی مسائل الشرع، بل یجب علیهم اتّباع أولئک الفقهاء القدماء.

ولکن فی الآونة الأخیرة تحرّک بعض علماء أهل السنّة من موقع نبذ هذه العقیدة والقول بفتح باب الاجتهاد أمام جمیع الفقهاء المطّلعین علی مبانی الشرع وخاصّة بما یتّصل بالمسائل المستحدثة التی لم یرد فیها حکم من قبل العلماء القدماء.

وقد تقدّم البحث بالتفصیل فی أدلّة الطرفین ومستمسک القائلین بفتح باب الاجتهاد أو غلقه فی هذا الکتاب مع ذکر المصادر، والغایة الوحیدة من إعادة الکلام فی هذا الموضوع هنا هو من أجل أن یکون مقدّمة لبحث مسألة عدم وجود الفراغ القانونیّ فی الإسلام.

4. هل یوجد فراغ قانونیّ؟

اشارة

بعد هذه المقدّمات نصل إلی أصل الموضوع، وینبغی فی البدایة، ومن أجل الإجابة عن السؤال المذکور؛ معرفة المراد من الفراغ القانونیّ.

الکلام فی هذا البحث هو: هل أنّ الشریعة الإسلامیة- مع الأخذ بنظر الاعتبار بقاءَها وشمولیتها- وضعت أحکاماً شرعیةً ثابتة لجمیع الموضوعات التی تتّصل بحیاة الإنسان الفردیة والاجتماعیة، أم أنّ هناک بعض الموارد الّتی لم یذکر الإسلام لها حکماً شرعیاً، وهی، ما یعبّر عنها «موارد الفراغ القانونی»؟

وقد أجاب علماء المذاهب الإسلامیة عن هذا السؤال بأجوبة مختلفة، فالکثیر من علماء أهل السنّة یعتقدون بوجود فراغ قانونیّ ویقولون أنّ هناک مسائل لم یرد حکمها فی الکتاب والسنّة، مع أنّهم یعتقدون بأنّ هذه المسائل مورد الابتلاء والحاجة.

ویعبّر الغزالی فی کتابه «المستصفی عن مثل هذه المسائل بأنّها «ما لا نصّ فیه»، ویقول: «لیس فی الواقعة التی لا نصّ فیها حکم معیّن یطلب بالظنّ، بل الحکم یتبع الظنّ، وحکم اللَّه تعالی علی کلّ مجتهد ما غلب علی ظنّه وهو المختار، وإلیه ذهب القاضی (أبوبکر الباقّلانی) وذهب قوم من المصوبّة إلی أنّ فیه حکماً معیّناً یتوجّه إلیه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب، لکن لم یکلّف المجتهد إصابته، فلذلک کان

ص: 210

مصیباً وإن أخطأ ذلک الحکم المعیّن الذی لم یؤمر بإصابته، بمعنی أنّه أدّی ما کلّف فأصاب ما علیه»(1).

ولکنّ عقیدة التصویب هذه ووجود «ما لا نصّ فیه» لیس مورد اتّفاق جمیع علماء أهل السنّة، فابن حزم یقول فی رسالة «إبطال القیاس والرأی والاستحسان ...»: إنّ الاعتراف بوجود «ما لا نصّ فیه» غیر صحیح «

لأنّ الدّین کلّه منصوص علیه»(2).

وعلیه، أوّلًا: رغم أنّ مُعظم علماء أهل السنّة لایعتقدون بمقولة (ما لا نصّ فیه)، لکنّ جماعة کبیرة منهم یعتقدون بذلک. ثانیاً: بالنسبة لهذا السؤال: هل یوجد حکم إلهیّ فی موارد فقدان النصّ؟ هناک قولان، القول الأول هو ما ذهب إلیه الغزالی (وجماعة کبیرة من الأشاعرة) حیث یعتقدون بعدم وجود أیّ حکم إلهیّ فی مثل هذه الموارد، بل إنّ المجتهد یضع حکماً علی أساس الظنّ (ومن خلال الاستحسان والمصالح المرسلة وأمثال ذلک) وأنّ اللَّه تعالی یمضی ذلک الحکم، وعلیه، فهناک أحکام متعدّدة فی الواقع بتعدّد آراء وفتاوی الفقهاء (وهذا هو التصویب الأشعریّ).

والقول الآخر هو ما ذهب إلیه جماعة أخری منهم حیث قالوا بوجود حکم شرعیّ فی الواقع، ووظیفة المجتهد التحقیق والبحث عنه واستخراجه، ولکن إذا لم یحصل علیه فلا تکلیف علیه بالنسبة لذلک الحکم، بل وظیفته ما وصل إلیه من خلال الظنّ والتخمین (وهذا هو التصویب المعتزلی).

فی حین أنّ فقهاء الإمامیة بصورة عامّة یعتقدون:

أوّلًا: أنّه لا توجد مسألة من المسائل التی یحتاج إلیها الإنسان وإلی نهایة العالم، لم یذکر لها حکم خاصّ أو عامّ فی الکتاب والسنّة، ومن أجل إثبات هذا الموضوع استدلّوا بالقرآن والسنّة، ومن ذلک:

1. یقول القرآن الکریم: «وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِّکُلِّ شَیْ ءٍ»(3). ومقتضی عموم هذه الآیة هو أنّ جمیع الأحکام التی یحتاج إلیها البشر قد بیّن القرآن حکمها بشکل خاصّ أو بشکل عامّ.

2. وکذلک یقول: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِیناً»(4).

فکیف یمکن أن یکون الدین الإسلامیّ کاملًا فی حین أنّه یواجه فراغاً قانونیاً کبیراً فی أحکامه؟

ولهذا السبب ورد فی الحدیث الشریف عن الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام:

«ما تَرک شَیْئاً یحتاج إلَیهِ الأمَّةُ إلّابَیَّنَهُ فَمَن زَعَم أنّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم یُکمِلْ دِینَه فَقَد ردَّ کِتابَ اللَّهِ»(5).

3. وجاء فی الحدیث المعروف فی حجّة الوداع أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«یا أیُّها النّاسُ واللَّهِ مَا مِن شی ءٍ یُقَرِّبُکُم مِنَ الجَنَّةِ ویُباعِدُکُم مِنَ النَّارِ إلّاوقَد أمَرْتُکُم بِه ومَا مِن شَی ءٍ یُقَرّبُکُم مِنَ النَّارِ ویُباعِدُکُم مِنَ الجَنَّةِ إلّاوقَد نَهَیْتُکُم عَنْهُ»(6).

فطبقاً لهذا الحدیث لا توجد أیّ مسألة فی الإسلام إلّا وقد بیّن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله حکمها بشکل عامّ أو خاصّ.

4. ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إنّ اللَّه أنزَلَ فِی القُرآنِ تِبْیانَ کُلِّ شَیْ ءٍ حتّی واللَّهِ ما


1- المستصفی، ج 2، ص 363؛ الأصول العامة للفقه المقارن، ص 617.
2- المحلّی، ج 1، ص 78.
3- سورة النحل، الآیة 89.
4- سورة المائدة، الآیة 3.
5- تفسیر البرهان، ج 1، ص 435.
6- الکافی، ج 2، ص 74، ح 2.

ص: 211

تَرَک شَیْئاً یَحتاجُ إلیهِ العِبادُ، حَتّی لا یَستَطِیعُ عَبدٌ یقول: لَو کانَ هذا أُنزِل فِی القُرآنِ؛ إلّاوقَد أنْزَلَه اللَّهُ فِیهِ»(1).

5. ورد فی أحادیث متعدّدة وجود کتاب عند الإمام علیّ علیه السلام تضمّن جمیع ما تحتاجه الأمّة إلی یوم القیامة، وهذا الکتاب بإملاء رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وبخطّ الإمام علیّ علیه السلام (2).

6. ما ورد فی حدیث الثقلین المتواتر فی المصادر الحدیثیة المعروفة لدی الشیعة وأهل السنّة، ویعدّ شاهداً آخر علی هذا المدّعی لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال فی هذا الحدیث:

«إنّی تارِکٌ فِیکُمُ الثّقْلَینِ ما إنْ تَمَسَّکْتُم بِهما لَن تَضِلّوا أبداً: کتابَ اللَّهِ وعِتْرَتی أهلِ بَیتِی وإنَّهُما لَن یَفْتَرِقا حتّی یَرِدا علیَّ الحَوْضَ»(3).

وطبقاً لهذا الحدیث فإنّ الرجوع لکتاب اللَّه وأهل البیت بإمکانه أن یحلّ جمیع المسائل والأحکام فی جمیع الموارد.

وقد جمع فقهاء الإمامیة، بالاستیحاء من هذا الحدیث، جمیع الروایات الواردة بطرق معتبرة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام ودوّنوها فی مصادرهم الروائیة ومع الاستفادة منها، وأنّها تشمل الأحکام العامة والخاصّة، فلا نری فراغاً لأیّ حکم من الأحکام بحیث نتوجّه لحلّ المشکلة نحو أمور أخری.

وبعبارة أخری: لا توجد أیّ واقعة سواء فی الماضی أو الحاضر أو المستقبل لا یوجد فیها حکم شرعیّ، غایة الأمر أنّ الکثیر من الوقائع ورد فیها حکم خاصّ، والکثیر الآخر منها ورد حکمها علی شکل عمومات وإطلاقات فی دائرة الأحکام الأولیة أو الأحکام الثانویة، بحیث لا یوجد حکم لا یندرج تحت أحد هذه النصوص الخاصّة أو العامّة (سواءً کان من الأحکام الأوّلیة أم الثانویة).

وبعبارة ثالثة: إنّ مسألة إمامة أئمّة أهل البیت علیهم السلام، قد ملأت هذا الفراغ القانونی، وجدیر بفقهاء أهل السنّة أن یأخذوا أحکامهم الفقهیة من أحادیث أهل البیت علیهم السلام بمقتضی ما ورد فی حدیث الثقلین حتی لو لم یعترفوا بإمامتهم، وذلک من أجل عدم الإحساس بوجود الخلأ فی الأحکام الإسلامیة.

وما أشدّ الفرق بین مدرسة أبی حنیفة الذی یقول:

إنّ الأحادیث الصحیحة والمعتبرة لدیّ من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لا تتجاوز سبعة عشرة حدیثاً(4) وهناک عشرات الآلاف من أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام نقلها الشیعة فی مصادرهم الروائیة والتی تتضمّن علی الأقلّ آلاف الأحادیث الواردة بأسناد صحیحة من رواة ثقاة!

ثانیاً: إنّ ما تقدّم من مقولة التصویب الأشعریّ یفضی قطعاً إلی إیجاد الإرباک والفوضی فی دائرة الفقه، وقد أشار أمیرالمؤمنین علیه السلام فی إحدی خطبه الواردة فی نهج البلاغة حیث یقول:

«تَرِدُ علی أحَدِهِمُ القَضِیّةُ فِی حُکمٍ مِنَ الأحکامِ فَیَحکُم فیها بِرَأیِه، ثُمَّ تَرِدُ تِلکَ القَضِیَّةُ بِعَیْنِها علی غَیْرِه فَیَحْکُمُ فِیها بِخِلافِ قَوْلِه، ثُمَّ یَجْتَمِعُ القُضاةُ بِذلِکَ عِندَ الإمامِ الّذِی اسْتَقْضاهُم فَیُصَوِّبُ آراءَهُم


1- الکافی، ج 1، ص 59، ح 1.
2- وردت هذه الروایة بشکل مفصل فی مقدمات کتاب جامع أحادیث الشیعة، باب 4.
3- ذکرنا مصادر هذا الحدیث آنفاً فی بحث( المراحل التاریخیة للفقه الإسلامی) و( خصائص فقه أهل البیت علیهم السلام).
4- تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 796، الفصل السادس، علوم الحدیث، وإن نقل ابن خلدون هذا الکلام عن أبی حنیفة، ولکن فی مقام العمل والاستنباط استفاد فقهاء المذهب الحنفی من الروایات بشکل واسع( الکتب الفقهیة للحنفیة مثل: ردّ المختار ابن عابدین، بدائع الصنائع أبوبکر الکاسانی، المبسوط للسرخی).

ص: 212

جَمِیعاً- وإلهُهُم واحِدٌ! ونَبِیُّهُم واحِدٌ! وکِتابُهُم واحِدٌ! أفَأَمَرَهُم اللَّه- سُبحانَه- بالاختِلافِ فأَطاعُوه! أم نَهاهُمْ عَنهُ فَعَصَوُه! أم أنْزَلَ اللَّهُ سُبحانَهُ دِیْناً ناقِصاً فاسْتَعانَ بِهِم علی إتْمامِهِ! أم کانُوا شُرَکاءَ لهُ، فَلَهُم أنْ یَقُولوا، وعَلیهِ أن یَرْضی أم أنْزَلَ اللَّهُ سُبحانَهُ دِیْناً تامّاً فَقَصَّر الرَّسُولُ (صلی اللَّه علیه وآله وسلّم) عن تَبْلِیغِه وأدائِه، واللَّه سبحانَه یقول:

«مَّا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَیْ ءٍ»

وَفِیهِ تِبْیانُ کُلِّ شَیْ ءٍ»(1).

الجواب عن سؤال:

وربّما یثار هذا السؤال فی ذهن القاری ء الکریم وهو: کیف لا یوجد فی الإسلام أیّ فراغ قانونیّ فی حین أنّ مرور الزمان من شأنه طرح مسائل جدیدة لم تکن موضوعاتها موجودة فی السابق، فکیف بحکمها؟

وهی ما یطلق علیه بالمسائل المستحدثة، من قبیل الکثیر من مسائل الطبّ، (زرع الأعضاء، إهداء العضو، التشریح، التلقیح الصناعیّ والاستنساخ) وفی أبواب المعاملات مثل أنواع الضمان، تجارة الالکترونیات، الحقوق المتعلّقة بالتألیف وصناعة الأفلام والاختراعات والتی یصطلح علیها بالمالکیة المعنویة، وکذلک فی المسائل التی تتّصل بأمور الحکومة والاستفادة من المنهج الدیمقراطی وعملیة الانتخاب ومجالس البرلمان ورئاسة الجمهوریة وأمثال ذلک، بل حتّی فی باب العبادات هناک مسائل جدیدة تتعلّق بالصلاة والصیام فی الرحلات الفضائیة والمناطق القطبیة.

فهل یمکن أن تحقّق الآیات والروایات الموجودة استجابة مطلوبة لهذه المسائل؟

وکما تقدّم تفصیل الکلام فی هذا الموضوع فی بحث المسائل المستحدثة فی هذا الکتاب، فنحن نملک أصولًا وقواعد معروفة فی الإسلام ومستوحاة من الکتاب والسنّة ودلیل العقل والإجماع، فلا توجد مسألة من المسائل المستحدثة إلّاوتندرج تحت أحد هذه الأصول والقواعد، والکثیر من المسائل المستحدثة یمکن إدراجها تحت عنوان لزوم حفظ النظام فی المجتمع الإسلامیّ، الثابت بالإجماع ودلیل العقل والروایات الشریفة، وقسم منها تندرج تحت عنوان مقدّمة الواجب، مثل مسألة التشریح والکثیر من المسائل الطبیة التی تعتبر مقدّمة لحفظ النفوس، والذی هو من أوجب الواجبات، وبعضها یندرج تحت عنوان «لا ضرر» والاضطرار والضرورة، وقسم مهمّ منها یندرج تحت قانون الأهمّ والمهمّ وترجیح الأهمّ علی المهمّ عند دوران الأمر بینهما، فهذا القانون أیضاً من الأصول الثابتة فی العقل والنقل، وهکذا فی سائر المسائل المستحدثة التی لم یرد فیها نصّ خاصّ.

وبالنسبة للمسائل المتعلّقة بالعبادات أیضاً، فإنّ الکثیر من الموارد یتبیّن حکمها من خلال قاعدة المیسور، التی تملک رصیداً برهانیاً فی دلیل العقل والنقل، أو مسألة العسر والحرج وأمثال ذلک.

5. موضوعیّة «منطقة الفراغ»؟

اشارة

وقد ذکر بعض العلماء المعاصرین (2) فی جوابه عن السؤال المذکور آنفاً وجود منطقة فی دائرة المسائل الاقتصادیة الإسلامیة تحت عنوان «منطقة الفراغ»


1- نهج البلاغه، الخطبة 18. وقد أورد المرحوم الکلینی فی کتابه الکافی، باباً تحت عنوان« لیس شی ء من الحلال والحرام وجمیع ما یحتاج الناس إلیه إلّاوقد جاء فیه کتاب أو سنّة» وذکر فی هذا الباب عشرة أحادیث یدلّ أکثرها علی الأقلّ علی الموضوع المذکور( الکافی، ج 1، ص 59).
2- الشهید المحقّق آیة اللَّه السید محمّد باقر الصدر قدس سره.

ص: 213

حیث عبّر عنها فی بعض کتاباته ب «المیادین الحرّة للتقنین» وفی بعض آخر «منطقة الفراغ من التشریعات الثابتة وغیر القابلة للتغییر» ومع الالتفات إلی القرائن الموجودة فی مجمل کلمات صاحب هذه الاطروحة، فلعلّ المراد الدقیق من ذلک هو «منطقة الفراغ عن القوانین الإلزامیة»(1).

وخلاصة ما ذکره هذا العالم فی توضیح وتبیین نظریته کالتالی:

1. إنّ قوانین الإسلام بالنسبة للنشاطات الاقتصادیة لم توضع بشکل مؤقّت (کما تقول المارکسیة) بحیث تتبدّل وتتغیّر مع تبدّل العصور التاریخیة، بل وضعت لجمیع العصور والمراحل، فهی أحکام ثابتة وخالدة.

2. من أجل ضمان هذا الشمول والاستیعاب، فنحن بحاجة إلی عنصر حقوقیّ متحرّک فی هذه العصور والمراحل التأریخیة بحیث یستجیب لمقتضیات کلّ عصر، ومن أجل الحصول علی هذا العنصر المتحرّک یجب تشخیص الأبعاد المتغیّرة فی الحیاة الإقتصادیة للإنسان.

3. وبالنسبة للحیاة الإقتصادیة للإنسان هنا نوعان من العلاقة: الاولی، علاقة الإنسان بالطبیعة ورؤوس الأموال الطبیعیة التی تتلخّص فی کیفیة الانتاج واستثمار الطبیعة وطریق السیطرة علیها، والأخری علاقة الإنسان بأبناء نوعه علی شکل حقوق وامتیازات لبعض علی بعض آخر.

4. والفارق بین هذین النوعین من العلاقة أنّ النوع الأول منها علاقة الإنسان بالطبیعة تتغیّر وتتطوّر، یعنی أنّ القوانین فی هذه العلاقة تتغیّر بلحاظ التغیّرات فی مقدار سیطرة الإنسان علی الطبیعة، وإلّا فإنّ العدالة الاجتماعیة تکون معرضة للخطر، علی سبیل المثال إذا ورد قانون «من أحیی أرضاً فهی له» فی عصر وجود المسحاة والفأس، فإنّ ذلک یتطابق مع مقتضیات العدالة الاجتماعیة فی ذلک العصر، ولکن فی عصر الأجهزة والمکائن الحدیثة فی الزراعة وإحیاء الأراضی، فإنّ هذا القانون لا یمکنه تحقیق العدالة، لأنّه سیتسبّب فی سیطرة أفراد قلائل بهذه الأدوات المتطوّرة علی أراضٍ شاسعة، وهم الذین یملکون القدرة علی إحیاء هذه الأراضی بما لدیهم من إمکانات مادیة، ویتبدّلون إلی مالکین کبار، وحینئذٍ لا یتمّ توزیع الثروات الطبیعیة بصورة عادلة، ومن هنا فإنّ هذا النوع من العلاقة یحتاج إلی عنصر متحرّک ومتغیّر بإمکانه أن یقف مقابل هذا الخطر.

أمّا النوع الثانی من العلاقة (علاقة الإنسان بأخیه الإنسان) فمن الطبیعیّ أن تکون ثابتة وغیر متطوّرة، ولذلک فإنّها تتطلّب قوانین ثابتة (فی مقابل قول المارکسیة التی تقول: إنّ العلاقات والروابط الحقوقیة بین الناس تمثّل أمراً عارضاً وتابعاً لتطوّر علاقة الإنسان بالطبیعة) علی سبیل المثال فإنّ کلّ قوم ینالون ثروة من خلال ارتباطهم بالطبیعة، ویواجهون مشکلة کیفیة التوزیع العادل لهذه الثروة، وهذه الحاجة هی حاجة ثابتة، ولا فرق فی لزوم حلّها ورفعها بین عصر الطاحونة الیدویّة وعصر الماکنة، فالقانون الذی یوضع لغرض رفع مثل هذه المشکلة والحاجة (مثل قانون توزیع الثروة علی أساس العمل هو قانون عامّ یسری ویجری فی جمیع العصور والحقب الزمنیة).


1- انظر: اقتصادنا، ص 689.

ص: 214

5. إنّ هذا العنصر المتحرّک والمتغیّر الذی یمنع عن تقویض القوانین من القسم الأول من العلاقة، والضامن لإجراء العدالة، یسمی (منطقة الفراغ) التی تندرج ضمن دائرة ولایة ولیّ أمر المسلمین، إنّ منطقة الفراغ تعنی المنطقة الخالیة من القوانین الإلزامیة، ولذلک فإنّ ولیّ الأمر والحاکم الإسلامیّ یکون مخیّراً ومبسوط الید وبإمکانه أن یجعل أحکاماً فی تلک المنطقة علی أساس مقتضیات الزمان بما یتناسب مع الأهداف الکلیة للإسلام (العدالة الاجتماعیة).

وببیان آخر: إنّ منطقة الفراغ تشمل الأفعال التی یکون حکمها الشرعیّ الأولیّ الاستحباب أو الکراهة أو الإباحة، فمثل هذه الموارد التی یکون فیها الفقیه أو الحاکم الإسلامی واجب الإطاعة علی أساس قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ»(1) یمکنه وعلی أساس المصالح والأهداف الکلّیة للإسلام أن یحکم بوجوب شی ء أو حرمته، فیما إذا کان حکمه الأوّلی الإباحة (الإباحة بالمعنی الأعمّ والتی تشمل الاستحباب والکراهة أیضاً).

6. إنّ الأفعال من قبیل «أخذ الربا» والتی تکون حرمتها ثابتة، أو من قبیل «إنفاق الزوج علی الزوجة» و وجوبه ثابت، فلا یمکن للحاکم الإسلامیّ فی الحکم الأوّل «أخذ الربا» أن یأمر به، ولا یمکنه منع الثانی (إنفاق الزوج) لأنّ إطاعة ولیّ الأمر إنّما تجب فی حدود ما إذا لم تکن معارضة لإطاعة اللَّه وأحکامه الکلیّة.

7. النقطة الأخیرة هی أنّه یتبیّن ممّا تقدّم أنّ «منطقة الفراغ» لا تعنی وجود خلل فی الشریعة أو إهمال من قِبل الشارع بالنسبة لبعض الوقائع والحوادث، بل بالعکس، فهی دلیل علی شمول واستیعاب الشریعة وقدرتها علی الانسجام والتناغم مع الأعصار المختلفة، لأنّه کما تقدّمت الاشارة إلیه، فالمقصود من منطقة الفراغ هو أنّ الشریعة فی ذات کونها، قرّرت لکلّ حادثة حکماً أصیلًا وأوّلیاً، فإنّها منحت الحاکم الإسلامیّ أیضاً الحقّ فی أن یصدر حکماً ثانویاً بحسب الظروف والشروط وبما یتطابق مع مصالح الإسلام والمسلمین، کأن یقول إنّ إحیاء أرض وإن کان بطبیعته الأولیّة مباحاً، ولکن ولیّ أمر المسلمین یحقّ له وعلی أساس مقتضیات الظروف، أن یمنع من ذلک (2).

المناقشة:

مع غضّ النظر عن الإشکال الوارد علی هذا الکلام بالنسبة لثبات العلاقة بین الإنسان، وأخیه الإنسان وکون هذه العلاقة متغیّرة فی ما یخصّ الإنسان مع الطبیعة (لأنّ جمیع العلاقات بین أفراد البشر غیر ثابتة، کما أنّ جمیع العلاقات بین الإنسان والطبیعة غیر متغیّرة دائماً) فهناک نقاط أخری فی هذه النظریة تحتاج إلی مناقشة وتأمّل، منها:

1. هل تعنی هذه الاطروحة أنّه لا توجد أحکام غیر إلزامیّة فی دائرة العلاقات بین أفراد البشر؟ ألیس لدینا فی هذه الدائرة أحکام مستحبّة أو مکروهة؟ ألا یمکن لمقولة «منطقة الفراغ+/ ولایة ولیّ الأمر» التی تمثّل عنصراً متحرّکاً فی طبیعة التشریع، التدخّل فی هذه الدائرة؟

2. هل أنّ العنصر المتحرّک المذکور یختصّ بدائرة


1- سورة النساء، الآیة 59.
2- انظر: اقتصادنا، ص 685- 689.

ص: 215

المباحات؟ ولا یتمکّن ولیّ الأمر من التدخّل فی دائرة الإلزامیات سواء فی ما یخصّ علاقة (الإنسان مع الطبیعة أو مع أخیه الإنسان) فی صورة التزاحم مع الأهم، وإصدار حکم إلزامیّ بالحرمة وتغییر الحکم الإلزامی من الحرمة إلی الوجوب أو من الوجوب إلی الحرمة، أو تبدیل الحکم الإلزامیّ إلی غیر إلزامیّ. مثلًا بالنسبة للمورد الثانی (دائرة علاقات أفراد البشر فیما بینهم) ألا یمکن لولیّ الأمر ومن أجل إیجاد النظم فی المجتمع وتوفیر الطرق الضروریة لعبور الناس، صرف النظر عن الحکم الأولیّ (وهو حرمة التصرّف فی ملک الآخرین) وإصدار حکم جدید بلزوم تعبید الطرق (فیما إذا لم یوافق صاحب الدار بما قرّره الخبیر لقیمة هذه الدار)؟

وأساساً ما الفرق بین الأحکام الإلزامیة وغیر الإلزامیة؟ فإذا لم یتمکّن ولیّ الأمر من تغییر الأحکام الإلزامیة لأنّها معارضة لوجوب إطاعة اللَّه تعالی وأنّ

«حَرامُ مُحَمَّدٍ حَرامٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ»

فإنّ الأحکام غیر الإلزامیة أیضاً أحکام إلهیة ثابتة

«وحَلَالُهُ حَلالٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ»(1)

و

«إنَّ اللَّهَ یُحِبُّ أن یُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ کَما یُحِبُّ أن

یُؤخَذَ بِعزَائِمِه»(2)

وقد ورد فی القرآن الکریم: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُحَرِّمُوا طَیِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَکُمْ»(3) وکذلک:

«قُلْ أَرَأَیْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَکُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالًا قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللَّهِ تَفْتَرُونَ»(4). وعلی سبیل المثال فإذا کان حکم (حرمة الربا) حکماً ثابتاً علی أساس

«حَرامُ مُحَمَّدٍ حَرامٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ»

ولا ینبغی تغییره، فإنّ حکم «جواز تملّک الأراضی بوسیلة الاحیاء» أیضاً حکم ثابت علی أساس

«حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ»

ولا ینبغی تغییره.

وإذا أمکن لولیّ الأمر رفع الید عن أحکام غیر إلزامیة فی صورة التزاحم مع حکم أهمّ وعروض عنوان ثانویّ (مثل ما تقدّم من مثال «جواز إحیاء الأرض» فإنّ الحاکم الإسلامی یمکنه القول بحرمته لوجود مصالح أهمّ فی هذا الحکم) فکذلک یمکنه رفع الید عن الأحکام الإلزامیة أیضاً فی صورة التزاحم مع الأهمّ کما ورد فی قصّة سمرة، أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بدّل حکم حرمة قطع الشجرة والتصرّف فی مال الغیر إلی الإباحة، کما أنّ المرحوم الشهید الصدر نفسه فی بعض الموارد فی نهایة هذا البحث یذکر بعض الأمثلة علی إعمال ولایة الحاکم الإسلامیّ، فهی وإن کانت غالبیّتها من قبیل رفع الید عن حکم غیر إلزامیّ (مثلًا جواز المنع من فضل الماء والکلأ» أو جواز بیع الثمرة قبل بدو صلاحها، أو جواز إجارة الأرض وتبدیله إلی الحرمة» ولکن من زاویة أخری فإنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی بعض هذه الموارد بدلّ حکم الحرمة إلی الجواز کما فی المثال الأول فی حرمة التصرّف فی فضل الماء والکلأ للآخرین حیث بدّله إلی الجواز والإباحة.

3. إنّ ما یصطلح علیه عنوان ولایة أمر المسلمین، هل أنّها أکثر من الولایة علی تشخیص العناوین الثانویة (وعلی رأسها تقدیم الأهمّ علی المهمّ) فیمکن لولیّ الأمر إصدار أحکام فی ظلّ إجراء الأحکام الأولیة والثانویة؟ ألیس ما قام به الفقیه المیرزا الشیرازی من تبدیل إباحة شرب التبغ إلی حرمة، یدلّ علی أنّه لاحظ وجود تزاحم بین حکم الإباحة وبین حکم وجوب


1- الکافی، ج 1، ص 58، ح 19« مع تقدیم وتأخیر».
2- وسائل الشیعة، ج 1، ص 107.
3- سورة المائدة، الآیة 87.
4- سورة یونس، الآیة 59.

ص: 216

حفظ کیان الإسلام والمسلمین، أو وجوب حفظ عزّة الإسلام والمسلمین) أو (وجوب منع استیلاء الکفّار علی المسلمین) أی أنّه تحرّک فی ضوء العمل بهذه العناوین وأصدر فتواه بحرمة التدخین؟ أو عندما یحکم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بعنوانه ولیّ أمر المسلمین بوجوب بذل فضل الماء والکلأ، ألیس ذلک من أجل حفظ کیان المسلمین الذی یقوم علی أساس تنمیة القطاع الزراعیّ والحیوانیّ، وأنّ حاجة المسلمین تقتضی ذلک؟ (کما أنّ الشهید الصدر نفسه یقول: «

لأنّ مجتمع المدینة کان بحاجة شدیدة إلی إنماء الثروة الزراعیّة والحیوانیة ...»(1)

)؟ إذا کان الأمر کذلک، فلا معنی لکلمة «الفراغ» فی هذه الموارد، لأنّ ولیّ الأمر عندما یصدر حکماً من الأحکام علی أساس (تشخیص مصلحة الأهمّ) فإنّه یتحرّک من موقع تقدیم الحکم الثانویّ علی الحکم الأوّلی.

4. یتبیّن ممّا تقدّم أنّ منطقة الفراغ لم تحقّق عنصر الاستیعاب والشمول للشریعة، بل إنّ ما یحقّق الشمول والاستیعاب لها هو الإذن الذی منحه العقل والشرع للحاکم الإسلامیّ فی الاستفادة من العناوین الثانویة کقاعدة الأهمّ والمهمّ لرفع المشاکل الفردیة والاجتماعیة، وکسر الطوق عن تعقیدات هذه المسائل، وعلیه، فإنّ وظیفة ولیّ الأمر، تشخیص وتعیین المصداق للعناوین الأوّلیة (سواء کانت من الأحکام الإلزامیة أو غیر الإلزامیة) وتشخیص عناوین الأحکام الثانویة وعدم عروضها علی الموضوعات (2).

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقی الحکیم، دارالاندلس، بیروت، الطبعة الأولی

4. اقتصادنا، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر، مکتب الاعلام الإسلامی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الأولی 1417 ق.

5. أنوارالفقاهة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، الطبعة الأولی 1411 ق.

6. تاریخ ابن خلدون، دارالکتاب اللبنانی، مکتبة المدرسة، بیروت.

7. تفسیر البرهان، السیّد هاشم البحرانی، مطبعة آفتاب، طهران، الطبعة الثانیة.

8. التفسیر الأمثل، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی ومساعدوه، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، بازار سلطانی، الطبعة الثالثة والعشرون.

9. جامع أحادیث الشیعة، الشیخ إسماعیل معزی الملایری، نشر صحف، قم، 1413 ق.

10. الکافی، أبو جعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

11. مجمع الفائدة والبرهان، مولی أحمد الأردبیلی، الطبعة الثانیة، 1413 ق.

12. المحلّی بالآثار، ابن حزم الأندلسی، دارالفکر، بیروت.

13. المستصفی من علم الأصول، أبوحامد الغزالی، دارالفکر، بیروت.


1- اقتصادنا، ص 690.
2- ومن الابهامات الأخری فی نظریة الشهید الصدر هی لماذا حصر مسألة منطقة الفراغ فی المسائل الاقتصادیة فی الإسلام دون غیرها؟ وإن استفید من ظاهر بعض عباراته العموم( اقتصادنا، ص 689).

ص: 217

9

القسم التاسع: إنسداد أوإنفتاح باب الاجتهاد

اشارة

الإنسداد وأدلّته

المعطیات السلبیّة لانسداد باب الإجتهاد

القائلون بانفتاح باب الاجتهاد وأدلّتهم

النظریات الجدیدة والانفتاح المطلق لباب الإجتهاد

ص: 218

ص: 219

إنسداد أوإنفتاح باب الاجتهاد

من المسائل التی تقع مورد البحث فی مسألة الاجتهاد، نظریة انفتاح أو انسداد هذا الباب، بمعنی أنّ هناک اختلافاً بین العلماء فی هذه المسألة، فهل أنّ باب استنباط التکالیف أو استخراج حکم أفعال المکلّفین من المنابع الأوّلیة للإسلام مفتوح ویتمکّن الجمیع من التوسع فی المقدّمات ولوازم عملیة الاستنباط وأن یستخرجوا أحکامه، أم أنّه موصد ولا یتمکّن أیّ شخص أولا ینبغی له أن یدخل هذا المدخل؟

إنّ دائرة هذا البحث تختصّ بالتکالیف الدینیة للمکلّفین، وإلّا فلا شکّ فی أنّ باب الاجتهاد بالنسبة لسائر العلوم مفتوح، حیث تتحرّک الجامعات ومراکز التحقیقات العلمیة فی العالم علی مستوی الاکتشاف والإبداع وطرح معارف جدیدة فی کلّ یوم وتقدیمها للمجتمع البشریّ.

والدافع علی طرح هذا البحث هو اعتقاد جمع کثیر من أهل السنّة بانسداد باب الاجتهاد وأنّ الاجتهاد منحصر بفقهاء الصدر الأول للإسلام، وأمّا سائر الفقهاء الآخرین فعلیهم تقلید أولئک الفقهاء، وسیأتی أنّ هذه العقیدة أدّت إلی رکود الفقه وتخلّفه عن مجالات الحیاة المعاصرة، وتتنافی مع عالمیّة الإسلام وشمولیته.

وتنطلق هذه المقالة من موقع بیان نظریة مدرسة أهل البیت علیهم السلام ونظریة أهل السنّة فی هذا الموضوع وأدلّة کلّ من الطرفین ودائرة القائلین بالانسداد وهل أنّهم یدّعون الإنسداد المطلق وأنّه یجری فی جمیع الأزمنة وفی جمیع أبواب الفقه، أم أنّه ینحصر بفترة زمنیة معینة، وفی بعض أبواب الفقه؟ وفی کلا الحالین فلابدّ من البحث فی المراد من قولهم.

الفصل الأوّل: إنسداد أو إنفتاح الإجتهاد

اشارة

لا شکّ فی أنّ جماعة من علماء أهل السنّة کانوا یعتقدون بانسداد باب الاجتهاد، وأمّا متی ظهرت هذه الفکرة ولماذا طرحت فی فضاء الفقه، وما هی أدلّة القائلین بها وحدود هذه المقولة؟ فهذه أسئلة وعلامات استفهام نسعی إلی تسلیط الأضواء علیها فی هذا الفصل.

1. تاریخ مقولة الإنسداد

لا خلاف بین مذاهب أهل السنّة بأنّ مقولة الإنسداد

ص: 220

ظهرت بعد عصر الصحابة، ولکن هناک اختلاف فی تعیین الزمان الدقیق لهذه المقولة، فبعضهم یری أنّ تاریخ الإنسداد یدور مدار الزمان، وبعض آخر یری أنّه یرتبط بالأشخاص، ومن بین أفراد الطائفة الأولی هناک عدّة آراء:

أ) یری البعض منهم أنّ زمان الانسداد بدأ منذ نهایة القرن الثانی

، قال بکر بن العلاء القشیری المالکی: «لیس لأحد أن یختار بعد المائتین من الهجرة»(1).

ب) وذهب آخرون إلی أنّ شروع الإنسداد قد بدأ من منتصف القرن الرابع:

«نادوا بسدّ باب الاجتهاد فی منتصف القرن الرابع»(2).

ج) وتری جماعة أنّ بدایته من القرن السادس حیث اعلن عن انسداد باب الاجتهاد، وقد جاء فی الموسوعة الفقهیّة الصادرة تحت إشراف وزارة أوقاف الکویت:

«ما أَهَلَّ القرن السادس الهجریّ حتی نادی بعض العلماء بإقفال باب الاجتهاد»(3).

أمّا الطائفة التی جعلت ملاک تاریخ الإنسداد هو الأشخاص، فهم علی أقوال:

أ) إنّ زمان انسداد باب الاجتهاد فی کلّ واحد من المذاهب الأربعة یبدأ بعد العلّامة النسفی،(4) ویبدأ الانسداد المطلق فی الاجتهاد بعد الأئمّة الأربعة:

قال صاحب فواتح الرحموت: «ثمّ إنّ من النّاس من حکم بوجوب الخلوّ من بعد العلّامة النسفی واختتم الاجتهاد به، وعَنْوا الاجتهاد، فی المذهب وأمّا الاجتهاد المطلق، فقالوا: اختتم بالأئمّة الأربعة»(5).

ب) إنّ زمان الإنسداد حدث بعد أبی حنیفة وأبی یوسف وزفر بن هذیل ومحمّد بن الحسن وحسن ابن زیاد اللؤلؤی، وقد نقل ابن حزم وابن القیّم الجوزیة هذا القول عن طائفة من العلماء:

«لیس لأحدٍ أن یختار بعد أبی حنیفة(6) وأبی یوسف (7)

وزفر بن الهذیل (8) ومحمّد بن الحسن والحسن بن زیاد

اللؤلؤی،(9) وهذا قول کثیر من الحنفیة».

ج) إنّ زمان الإنسداد قد بدأ بعد الأوزاعی، وسفیان الثوریّ، ووکیع بن الجرّاح وعبداللَّه بن المبارک:

«قال الآخرون: لیس لأحد أن یختار بعد الأوزاعی (10)


1- اعلام الموقعین، ج 2، ص 276.
2- ارشاد النقاد، ص 27.
3- الموسوعة الفقهیّة، ج 1، ص 42.
4- وهو أبو حفص، عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعیل النسفی، المولود ب« نَسَف»( مدینة قرب سمرقند) وکان عالماً بالتفسیر، التاریخ، الأدب العربی فقیه حنفیّ. له ما یقارب من مائة تصنیف وتألیف ویقال له مفتی الثقلین. وتوفی فی سمرقند عام 537 ه،( سیر أعلام النبلاء، ج 14، ص 580).
5- إرشاد النقاد، ص 26.
6- کان النعمان بن ثابت / أبوحنیفة] من أهالی فارس / ایران . وهوإمام المذهب الحنفی. وقالوا عنه: إنّه عالم کبیر، ومجتهد وإمام أعظم. وهو أول من کتب فی الفقه والرأی.( أصحاب الفتیا من الصحابة والتابعین، ص 211).
7- یعتبر أبویوسف، یعقوب بن إبراهیم بن حبیب الأنصاری الکوفی، من تلامیذ أبی حنیفة ومن أتباعه. قیل إنّه أول من لقّب ب« قاضی القضاة».( الکنی والألقاب، ج 1، ص 188).
8- کان زفر بن هذیل بن قیس العنبری، فقیهاً کبیراً ومن أصحاب أبی حنیفه؛ وأول أصحاب الحدیث ثم اتصل بجماعة أهل الرأی. وکان یقول: مادام النصّ موجوداً فلا آخذ بالرأی، وإذا عثرت علی نصّ فإنّی أترک رأیی».( الأعلام للزرکلی، ج 3، ص 45).
9- الحسن بن زیاد اللؤلؤی، یقول ابن الغزّی فی دیوان الإسلام: اللؤلؤی فقیه وعالم کبیر ومن أصحاب أبی حنیفة. وقد ألّف کتباً حول مذهبه. وعدّه الذهبی أیضاً من الشخصیات الکبیرة من أصحاب الرأی.( أصحاب الفتیا من الصحابة والتابعین، ص 218).
10- أبومحمد عبدالرحمن بن عمرو، المعروف بالأوزاعی؛ قال ابن حبّان فی« الثقات» فیه: لقد کان الأوزاعی من فقهاء الشام ومن القراء والزهاد فی تلک البلاد، وقال ابن مبارک: إذا قیل لی إنتخب لهذه الامّة رجلًا« لإرشادها وهدایتها» فأنا أختار الثوری والأوزاعی، وأختار بین هذین الرجلین الأوزاعی، و قال الشافعی: لا أجد غیر الأوزاعی ممّن یشبه فقهه حدیثه( لأنّ فقهه امتزج مع الحدیث بشدّة)( الثقات، ج 7، ص 63؛ تهذیب التّهذیب، ج 6، ص 217).

ص: 221

وسفیان الثوریّ (1) ووکیع بن الجرّاح (2) وعبداللَّه بن

المبارک»(3).

د) إنّ الانسداد بدأ بعد الشافعیّ:

«وقالت طائفة لیس لأحدٍ أن یختار بعد الشافعیّ»(4).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار تاریخ حیاة هؤلاء العلماء فإنّ تاریخ انسداد باب الإجتهاد یمکن تعیینه فی دائرة الزمان، ولکن الکلام عن کیفیة تقریر هذا الموضوع هو أنّ البعض یقرّر زمان الإنسداد حول محور الزمان، والبعض الآخر حول محور الأشخاص.

2. عوامل الإنسداد وأسبابه

اشارة

وقد ذکروا عوامل وعلل مختلفة للاعتقاد بانسداد باب الاجتهاد، وتدور هذه العوامل حول محورین:

عوامل سیاسیّة واجتماعیّة، وعوامل شرعیّة:

أ) العوامل السیاسیّة والاجتماعیّة
اشارة

الاوّل: ضعف القدرة السیاسیّة للخلفاء العبّاسیین.

یقول مؤلّف کتاب «إرشاد النقاد» فی الإشارة إلی هذا العامل:

«إنّ ضعف السلطة السیاسیّة للخلفاء العبّاسیین کان من الأمور التی أثرت تأثیراً سیّئاً فی حیاة الفقه والفقهاء، فالفقهاء فی بحوثهم الفقهیّة لم یجدوا الشجاعة الکافیة لتدوین المذاهب وترتیب وتبویب المسائل الفقهیّة، بل اکتفوا بالاعتماد علی ما ذکره الفقهاء السابقون ورأوا أنفسهم فی غنی عن البحث والاستنباط»(5).

الثانی: ضعف الاعتماد علی النفس. فإنّ عدم الجرأة علی الاجتهاد وقلّة الاعتماد علی النفس کانت من عوامل تکریس الاعتقاد بانسداد باب الاجتهاد(6).

الثالث: الحسد والأنانیة. فإنّ شیوع الأمراض الأخلاقیة بین بعض العلماء، من الحسد والأنانیة وأمثالها، تعتبر عاملًا مهمّاً من عوامل الاعتقاد بالانسداد(7).

الرابع: فرض الأفکار علی الفقهاء. فإنّ تکلیف القضاة وفرض الفتاوی علی الفقهاء لبیانها وإصدارها للناس وفقاً لمذهب خاصّ کانت من الأمور المساعدة علی إیصاد باب الاجتهاد وإماتة الدافع للاجتهاد والتحقیق فی المسائل الشرعیة لدی الفقهاء(8).

الخامس: عدم اعتماد الناس علی اجتهاد علماء عصرهم. فإنّ جمهور الناس لم یکونوا یعتمدون علی آراء واجتهادات علمائهم وفقهائهم الأحیاء وإنّما


1- قیل فیه: إنّ یحیی بن معین لم یکن یری شخصاً فی زمانه متقدّماً فی الفقه والحدیث والزهد وکلّ فضیلة أخری علی سفیان الثوری، ونقل عن أبی داود أنّه قال: ما اختلف سفیان وشعبة فی مسألة إلّاوغلب سفیان فیها. وقال عنه ابن حبّان: إنّه کان فی الفقه والورع والصلاح من الکبار.( تهذیب التّهذیب، ج 4، ص 101 و 102).
2- قالوا فی وکیع: إنّه کان رجلًا معتمداً وحافظاً، عابداً ویعدّ أحد التسعة الکبار.( تحریر تقریب التّهذیب، ج 4، ص 60).
3- کان عبداللَّه بن المبارک بن واضح المروزی مجاهداً، تاجراً، وکان شیخ الإسلام وعالم زمانه وقد ألّف عدّة کتب فی الحدیث والفقه وتاریخ العرب، وکان من أول من ألّف کتباً فی باب الجهاد.( الاعلام للزرکلی، ج 4، ص 115؛ سیراعلام النبلاء، ج 7، ص 602).
4- أبو عبداللَّه محمّد بن ادریس بن عباس المطلّبی، یتّصل نسبه ببنی هاشم وبنی امیّة فی جدّهم الأعلی عبد مناف، لأنّه کان من أحفاد عبد المطلب بن عبد مناف، والشافعی هو أحد الأئمّة الأربعة للمذاهب الأربعة المعروفة، ولد فی عام 150 ه. ق وتوفی 204 ه. ق.( الکنی و الألقاب، ج 2، ص 347).
5- إرشاد النقاد إلی تیسیر الاجتهاد، ص 25- 29.
6- المصدر السابق.
7- خلاصة التشریع الإسلامی، ص 342( نقلًا عن: الأصول العامة للفقه المقارن، ص 600).
8- ارشاد النقاد، ص 25- 29.

ص: 222

یعتمدون علی آراء القدماء فقط(1).

السادس: خوف الحکّام من بعض الاجتهادات. فإنّ الحکّام کانوا یعیشون الهاجس الدائم من حرکة الاجتهاد؛ لأنّ اجتهادات بعض المجتهدین تثیر أحیاناً القلق والفوضی والمشاکل (2).

السابع: الخوف من الفوضی فی الفقه. فالمعروف بین الفقهاء أنّ السبب المهم لسد باب الاجتهاد هو أنّ انفتاح هذا الباب یؤدّی إلی الفوضی والتشویش والاضطراب فی الفقه إلی درجة أنّه ربّما یدّعی الطالب المبتدی ء والأشخاص الذین لیست لهم لیاقة الإفتاء، ملکة الاجتهاد، بحیث إنّه یمکن أن یدّعی الاجتهاد کلّ مبتدی ء فی هذه المسائل (3).

وقد جاء فی کتاب «الموسوعة الفقهیة» أیضاً:

وخشیة أن یتعرّض للاجتهاد من لیس أهلًا له، إمّا رهبة أو رغبة، فسدّاً للذرائع أفتوا بإقفال باب الاجتهاد(4).

الثامن: اشتغال العلماء بالسیاسة وشؤونها. إنّ تقسیم الدول الإسلامیة إلی دویلات وممالک متعدّدة وتفاخر الملوک والوزراء فی هذه البلدان بسلطانهم، کان من العوامل التی أدّت إلی تهمیش النشاط الدینی، وقد تحرّک بعض العلماء أیضاً من هذا الموقع واشتغلوا بهذه الأمور تبعاً للأوضاع السیاسیة وما تفرضه السیاسة من شؤون علی بعض رجال الدین (5).

التاسع: استهلاک شخصیة المجتهدین فی الأحزاب والتشکیلات السیاسیة فی ذلک الزمان. إن تقسیم المجتهدین إلی طوائف وأحزاب وکلّ حزب یتحرّک من موقع تشکیل مدرسة وتیّار دینیّ ویتحرّک علی مستوی جمع الأتباع والتلامیذ، أدّی إلی تکریس التعصّب الفکریّ فی کلّ دائرة فقهیة بالنسبة لمبانیها الخاصّة، والسعی إلی دحر المدارس والأحزاب الأخری، وهذا العمل بلغ إلی حدّ أنّ أحداً لم یکن یراجع نصوص القرآن أو الحدیث إلّاإذا أراد تأیید مذهبه بهذه النصوص، حتّی مع إعمال التأویل والتصرّف فی المراد منها، وبهذه الطریقة نری ذوبان شخصیات کبیرة من العلماء فی هذه التیارات والمدارس الفقهیة، وفقدان الاستقلال العقلیّ لدیهم، بحیث صار الخواصّ کالعوامّ تابعین ومقلّدین (6) وهکذا تمّ إیصاد باب الاجتهاد.

العاشر. عدم وجود ضابطة مشخّصة للاجتهاد. فإنّ ادّعاءات الفتوی والعمل فی القضاء من قِبل المبتدئین وعدم وجود ضابطة مشخّصة لإحراز الاجتهاد، کانت من عوامل الفتوی بانسداد باب الاجتهاد(7).

ما ذکر آنفاً کان من جملة العوامل المذکورة لانسداد باب الاجتهاد، وربّما لا تنحصر العوامل بهذه الأمور وإن کانت العوامل المذکورة تمثّل الأسباب والعوامل المهمّة لهذه المسألة.

نقد مناقشة:

إنّ من أهمّ هذه العوامل العشرة المذکورة آنفاً، هی مسألة الفوضی الفقهیة والتی یمکنها أن تمتدّ إلی المجال الاجتماعیّ والسیاسیّ أیضاً وتخلق تداعیات خطیرة علی مستوی الأمن والاستقرار، وکذلک ورود المبتدئین


1- ارشاد النقاد، ص 25- / 29.
2- المصدر السابق.
3- الفقه علی المذاهب الخمسة، ص 8.
4- الموسوعة الفقهیّة، ج 1، ص 42.
5- خلاصة التشریع الإسلامی، ص 341 وما بعدها( نقلًا عن: الأصول العامة للفقه المقارن، ص 599).
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق.

ص: 223

والمغرضین فی دائرة الاجتهاد کان سبباً لانسداد باب الاجتهاد. فهذان العاملان، اللذان سیأتی الحدیث عنهما فی البحوث الآتیة، یمثّلان نتیجة مباشرة للاعتماد علی القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة ورأی الصحابة التی لا تعرف الحدّ فی دائرة الرأی والتقنین ولا تتوفّر فیها ضابطة دقیقة ومعیار واضح للفتوی، ومن هنا فإنّها تدفع الفقیه باتّجاهات مختلفة، ألیس من الجدیر تجدید النظر فی هذه الأدلّة الظنّیة لمنع وقوع الهرج والمرج والفوضی الفقهیة؟

وهناک عاملان آخران، أی خوف الحکّام من الفتاوی الجدیدة، وذوبان شخصیة الفقهاء فی المسائل السیاسیة، یمکن اجتنابهما، لأنّه إذا حفظ العلماء استقلالهم العلمیّ والاجتماعیّ وتخلّصوا من الارتباط والتبعیة للحکومات، فإنّهم سوف لا یقعون فی شباک هذه المشاکل بحیث تمنعهم من الاجتهاد. ولکن للأسف فإنّ هذه الاشتباهات أدّت إلی رکود حرکة الفقه الإسلامی لدی بعض الفرق الإسلامیة، فلو لم یوصد باب الاجتهاد بسبب هذه الأمور، فإنّ الفقه الإسلامی وفی جمیع المذاهب سیتحرّک فی خطّ التقدّم والتکامل قطعاً.

ب) العوامل الشرعیة للحکم بالانسداد

الأوّل: الخوف من تغییر الکثیر من الأحکام الشرعیة، حیث یعتقد البعض أنّه لولا الفتوی بالانسداد، فإنّ الکثیر من الأحکام الشرعیة ستطالها ید التغییر، ویقول صاحب کتاب «أعیان الشیعة»:

«لو بقی باب الاجتهاد مفتوحاً عندهم علی مصراعیه، مع القول بالقیاس والاستحسان والمصالح المرسلة، لتغیّر الکثیر أو الأکثر من أحکام الشرع»(1).

الثانی: الخوف من مخالفة إجماع الأئمّة الأربعة. فقد ذکر صاحب کتاب «الاصول العامة للفقه المقارن» فی هذا المجال ما یلی:

یقول صاحب کتاب «الأشباه»: «الخامس ممّا لا ینفذ القضاة به، ما إذا قضی بشی ء مخالف للإجماع وهو ظاهر، وما خالف الأئمّة الأربعة مخالف للإجماع، وإن کان منه خلاف لغیره فقد صرّح فی التحریر أنّ الإجماع انعقد علی عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة، لانضباط مذاهبهم وکثرة أتباعهم».

ثمّ أضاف:

«وقد رأینا فی المتأخّرین من یوافقه علی هذا الحکم کالشیخ محمّد عبدالفتاح الغنائی رئیس لجنة الفتیا فی الأزهر الشریف وزملائه فی اللجنة».

ثمّ أضاف قائلًا:

«والأدلّة التی ذکرها صاحب کتاب «الأشباه هی:

1. الإجماع 2. إنضباط المذاهب الأربعة وکثرة أتباعهم»(2).

ثمّ کتب هذا المؤلّف بعد بیان الإشکالات علی استدلال صاحب کتاب «الاشباه :

«وقد نسب ابن الصلاح هذا الإجماع إلی المحقّقین لا إلی المجتهدین، وهذا طبیعیّ، لأنّ هذا الإجماع بعد انسداد باب الاجتهاد.

وقد ناقش الشیخ المراغی (وهو من دعاة حریة الفکر) هذا الإجماع من صغری وکبری.

أمّا مناقشته من جهة صغرویة فقد شکّک فی إمکان تحصیل هذا الإجماع، لأنّ العلماء یرون استحالة الإجماع ونقله بعد القرن الثالث نظراً لتفرّق العلماء فی


1- أعیان الشیعة، ج 1، ص 110.
2- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 601.

ص: 224

مشارق الأرض ومغاربها، واستحالة الإحاطة بهم وبآرائهم عادة.

وأمّا مناقشته من جهة کبرویة فقد انصبّت علی إنکار الدلیل علی حجّیة مثل هذا الإجماع، یقول: «لیس لإجماع المحقّقین قیمة بین الأدلّة الشرعیة، فهی محصورة بکتاب اللَّه وسنّة رسوله، وإجماع المجتهدین، والقیاس علی المنصوص، ولم یعد أحد من الأدلة الشرعیة إجماع المحقّقین، فکیف برز هذا الإجماع وأخذ مکانته بین الأدلّة، وأصبح یقوی علی فسخ إجماع المسلمین؟ فالاستدلال إذن بالإجماع فی غیر موضعه، لعدم قیام الدلیل علی حجّیة مثله، علی أنّ الشکّ فی الحجّیة کافٍ للقطع بعدمها»(1).

ثمّ أضاف صاحب کتاب «الاصول العامة):

«وهاتان العلّتان- سواء أراد بهما التعلیل لأصل الحکم أم الإجماع- غریبتان عن الأدلّة جدّاً، إذ متی کانت کثرة الاتّباع وانضباط المذاهب من الحجج المانعة عن الأخذ بقول الغیر، وربّما کان الغیر أعلم وأوصل إلی الحکم الواقعی، وفتواه موجودة محرّرة یمکن الحصول علیها، کما إذا کان معاصراً للمستفتی یمکنه الرجوع إلیه بسهولة.

علی أنّی لا أکاد أفهم- کیف تکون القابلیات المبدعة- وقفاً علی فئة من الناس عاشوا فی عصر معیّن (ولم یتمیّزوا فی عصرهم بظاهرات غیر طبیعیة) مع أنّ طبیعة التلاقح الفکریّ توجب خلق تجارب جدیدة فی مجالات الاستنباط، والعقول لا تقف عند حدّ، فکیف یمکن أن یقال لأصحاب هذه التجارب الذین ملکوا تجارب القدماء ودرسوها وناقشوا وأضافوا علیها من تجاربهم الخاصّة: إنّ هؤلاء القدماء أوصل منکم وأعلم، وعلیکم طرح عقولکم والأخذ بما یقولون وإن بدت لکم مفارقات فی ما جاءوا به من آراء.

ثمّ أضاف:

«ومن أحسن ما قاله الاستاذ المراغی وهو ینعی علی دعاة الجمود موقفهم من حریّة الفکر: «لیس ممّا یلائم المعاهد الدینیة فی مصر أن یقال عنها أنّ ما یدرس فیها من علوم اللغة والمنطق والکلام والأصول لا یکفی لفهم خطاب العرب، ولا لمعرفة الأدلّة وشروطها، وإذا صحّ هذا فیالضیعة الأعمار والأموال التی تنفق فی سبیلها» ثمّ یقول: وإنّی مع احترامی لرأی القائلین باستحالة الاجتهاد، أخالفهم فی رأیهم، وأقول إنّ فی علماء المعاهد الدینیة فی مصر من توافرت فیه شروط الاجتهاد وحرم علیه التقلید»(2).

3. حدود دائرة الانسداد

إنّ انسداد باب الاجتهاد بشکل مطلق لدی القائلین به لیس إجماعیاً، بل هناک جماعة ذهبوا إلی «الانسداد الخاصّ»، وهؤلاء یرون انفتاح باب الاجتهاد فی بعض البحوث الفقهیة وانسداده فی البعض الآخر، ومن علماء أهل السنّة المتأخّرین من ذهب إلی انفتاح باب الاجتهاد فی جمیع الأبواب الفقهیة، حیث ترک نظریة الانسداد کما هو الحال فی أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام وسوف یأتی المزید من الکلام عن ذلک فی نهایة هذا البحث.

والمراد من «الانسداد الخاصّ» هو أنّ الاجتهاد


1- الاجتهاد فی الشریعة، ص 357، نقلًا عن رسالة الإسلام،( بالفارسیة) السنة الأولی ج 3.
2- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 604.

ص: 225

بالنسبة لفتاوی الأئمّة الأربعة مسدود فقط، بمعنی أنّه إذا کانت هناک فتوی من قِبل الأئمّة الأربعة فلا أحد له الحقّ فی إبداء رأی جدید أو فتوی مخالفة فلا یقبل منه، ولکن فی الموارد التی لم ترد فیها فتوی فإنّ باب الاجتهاد مفتوح، وهنا نشیر إلی بعض هذه الموارد:

1. جاء فی کتاب «ارشاد النقاد»:

«إنّ الشیخ تقی الدین، أبوعمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوری المعروف بابن صلاح (577 643)، کان من الأشخاص الذین یرون وجوب تقلید الأئمّة الأربعة وسدّ باب الاجتهاد بعدهم»(1).

ومن الواضح من هذا الکلام أنّه یخصّ الموارد التی وردت فیها فتوی منهم، لا فی الموارد التی لا توجد فتوی منهم، وعلیه فإنّ مفهوم هذا الکلام هو أنّه عندما لا توجد هناک فتوی من هؤلاء الأئمّة، فالآخرون یمکنهم إظهار نظرهم والعمل باجتهادهم.

2. یقول صاحب کتاب «الموافقات ، إبراهیم بن موسی المالکی الشاطبی (م 790):

«إنّ الوقایع فی الوجود لا تنحصر، فلا یصحّ دخولها تحت الأدلّة المنحصرة، ولذلک احتیج إلی فتح باب الاجتهاد من القیاس وغیره فلابدّ من حدوث وقائع لا تکون منصوصاً علی حکمها ولا یوجد للأوّلین فیها اجتهاد ... فإذاً لابدّ من الاجتهاد فی کلّ زمانٍ لأنّ الوقائع المفروضة لا تختصّ بزمانٍ دون زمانٍ»(2).

3. جاء فی کتاب «الأصول العامة للفقه المقارن نقلًا عن قول صاحب «الأشباه :

«فقد صرّح فی التحریر أنّ الإجماع انعقد علی عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة، لانضباط مذاهبهم وکثرة أتباعهم»(3).

ومن الواضح أنّ مقولة الاستحکام فی الفتاوی إنّما تکون واردة فیما إذا کانت الفتاوی صادرة، وأمّا فی الفتاوی غیرالصادرة، فیحتاج الفقیه إلی عنصر الاجتهاد.

4. ویقسّم صاحب کتاب «القول المفید» أتباع المذهب «الزیدی إلی قسمین: فمنهم من ذهب إلی الانفتاح العامّ، ومنهم من ذهب إلی الانفتاح الخاصّ.

ویقول:

«بخلاف غیرهم من المقلّدة فإنّهم أوجبوا علی أنفسهم تقلید المعیّن واستراحوا إلی أنّ باب الاجتهاد قد انسدّ»(4).

ویقول فی مکان آخر:

«أما الاجتهاد المطلق فقالوا: اختتم بالأئمة الأربعة حتّی أوجبوا تقلید واحدٍ من هؤلاء علی الأمّة»(5).

والنتیجة: أنّ الکثیر من القائلین بانسداد باب الاجتهاد ذهبوا إلی أنّ مورده ما کان هناک فتوی صادرة من الأئمّة الأربعة فقط، وأمّا فی الموارد الأخری فإنّ باب الاجتهاد مفتوح فی رأیهم. وهذا هو ما یقتضیه منطق العقل أیضاً، لأنّه فی غیر هذه الصورة فإنّ المسائل المذکورة تبقی بدون حکم شرعیّ.

الفصل الثانی: المعطیات للحکم بالانسداد

اشارة

ومن خلال دراسة أدلّة «انفتاح باب الاجتهاد» یستفاد أنّ الاعتقاد بانسداد باب الاجتهاد قد أدّی


1- ارشاد النقاد، ص 46- 48.
2- الموافقات، ج 4، ص 104؛ إرشاد النقاد، ص 35.
3- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 601.
4- القول المفید، ص 62.
5- ارشاد النقاد، ص 26 و 27.

ص: 226

ویؤدّی إلی بروز مشاکل وتعقیدات تنتهی للقول بنقصان الإسلام، ومن جملة هذه المشاکل والتعقیدات هی:

1. بقاء المسائل المستحدثة بدون جواب

ونعلم أنّ الإنسان المعاصر قد تحرّک فی مجال التطوّر العلمیّ ومجال الاختراعات والاکتشافات وتطویر برامج الحیاة الاجتماعیة بدون توقّف، ففی کلّ یوم هناک اکتشافات أو اختراعات جدیدة، وبذلک تتّسع مجالات علاقة أفراد البشر فیما بینهم، ومع هذا الاتساع هناک عملیة تأثیر وتأثّر کبیرة فی حیاة الأفراد وفی علاقاتهم الاجتماعیة، وهذا المعنی یمکن ملاحظته من زاویتین: إحداهما تأثیر هذه الحرکة العلمیة علی الحیاة الشخصیة والفردیة، والآخری: تأثیرها علی الحیاة الاجتماعیة والعلاقات الثقافیة والسیاسیة بین الشعوب، وتحت طائلة هذا التأثیر والتأثّر تثار مسائل کثیرة تحتاج إلی بیان الحکم الشرعیّ فیها.

ومضافاً إلی ذلک، فإنّ حیاة الإنسان محدودة من کلّ جهة، والمسائل التی بحثها وأفتی فیها القدماء کانت متناسبة مع حدود تلک الظروف.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم فإمّا أن نقبل بأنّ المسائل الجدیدة لا یوجد لها أیّ حکم شرعیّ من قبل الشارع الإسلامی المقدّس، وهذا المعنی یواجه مشکلتین:

أ) إن القرآن الکریم یقول: «وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِّکُلِّ شَیْ ءٍ»(1) أی أنّ جمیع ما یحتاجه الإنسان من تعالیم وأحکام وفی کلّ زمان قد ورد فی القرآن الکریم (وإن کان بشکل عامّ وکلّی) وجاء فی خطبة «حجّة الوداع أیضاً أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

«مَا مِن شَی ءٍ یُقرِّبُکُم مِن الجنَّةِ، ویُباعِدُکم مِن النّارِ إلّاوقد أمَرْتُکُم به، وما مِن شَی ءٍ یُقرِّبُکُم مِنَ النَّارِ ویُباعِدُکُم مِنَ الجَنَّةِ إلّاوقَد نَهَیْتُکُم عَنه»(2)

. ونقرأ فی حدیث آخر: إنّ حکم جمیع أفعال البشر ورد فی الإسلام، حتّی «

أرْش الخَدش»(3)

. وهذه النصوص لا تنسجم مع مقولة إنّ المسائل المستحدثة لا حکم لها فی الإسلام.

ب) لو قبلنا بعدم وجود حکم لهذه المسائل فی الإسلام، فلابدّ من قبول مقولة أنّ الإنسان یمکنه تقریر قوانین وأحکام تتّصل بهذه المسائل، لأنّه لا یمکن أن یبقی مورد فی حیاة الإنسان بدون قانون. وقبول هذا الکلام یؤدّی لمواجهة مشکلة أو مشکلتین:

الأولی إنّ ما یقنّنه البشر من قوانین فإنّ اللَّه تعالی یمضیها ویوافق علیها ویمنح الثواب علی من یعمل بها ویعاقب من یتحرّک فی مخالفتها، وهذا هو التصویب الباطل وتابعیة اللَّه تعالی لخلقه، أسلفنا أدلّة بطلانه فی بحث (عدم الفراغ القانونیّ فی الإسلام).

الثانی: أن لا تکون القوانین البشریة مورد قبول وإمضاء اللَّه تعالی، وأنّ العمل علی وفقها لا یوجب الثواب ولا توجب مخالفتها العقاب، ومعنی هذا الکلام عدم وجوب العمل بهذه القوانین البشریة.

والنتیجة السلبیة لهذا الکلام هو القول بنقصان الدین الإسلامیّ.

2. بقاء المسائل محلّ الحاجة فی زمان الأئمّة

الأربعة بدون جواب

لا شکّ فی وجود مسائل کانت مورد ابتلاء الأئمّة


1- سورة النحل، الآیة 89.
2- الکافی، ج 2، ص 74( ورد هذا الحدیث مع اختلاف یسیر أیضاً فی کنزالعمّال، ج 4، ص 24).
3- الکافی، ج 1، ص 59 و 241.

ص: 227

الأربعة أنفسهم، فإمّا لم یکونوا مطّلعین علیها ولم تسمح لهم الفرصة فی الإجابة عنها، وهذه المسائل أو ما یشبهها هی الآن بدون جواب، وببیان آخر: إنّ من المعلوم أنّ المسائل التی کان الناس یحتاجون إلیها فی عصر الأئمّة الأربعة کانت أکثر بکثیر ممّا ورد فی کتب هؤلاء الأئمّة، ونحن نعیش هذا العصر ونواجه هذه المسائل أیضاً، فلو قبلنا بمقولة «انسداد باب الاجتهاد» فإنّ هذه المسائل ستبقی بدون جواب.

3. عدم الانسجام مع خلود الدین الإسلامی

إنّ قبول حقیقة أنّ الإسلام هو خاتم الأدیان یقتضی أن تکون أحکامه عالمیة وخالدة، وهذا الکلام لا ینسجم مع مقولة انسداد باب الاجتهاد والاکتفاء بفتاوی القدماء بأیّ وجه.

إنّ قبول هذه المقولة بمثابة خروج عن واقع الحیاة المعاصرة، فالدین الذی لا یتمکّن من بیان وظائف الناس فی جمیع الأمکنة والأزمنة وبیان أحکام أعمالهم وسلوکیّاتهم، فهو دین موسمیّ ومقطعیّ، وقد جاء لمجتمع خاصّ وفی عصر خاصّ وقد انتهی دوره فی ذلک الزمان، وهذه هی التهمة التی یوجّهها أعداء الإسلام إلی هذا الدین الإلهیّ.

4. وقوع التضادّ فی القول والعمل

أحیاناً یبدو أنّ موقف القائلین بانسداد باب الاجتهاد یشبه موقف الجبریّین فی باب العقائد؛ الذین یقولون بالجبر فی دائرة النظر والفکر، ولکنّهم فی مرحلة العمل یذعنون بملکة الاختیار للإنسان، لأنّهم عندما یعتدی شخص علی حقوقهم فإنّهم یعترضون علیه ویذمّونه، وإذا کانوا یسیرون فی الشارع ورأوا عجلة قادمة فإنّهم ینحازون لجهة الرصیف، فهؤلاء لا یختلفون مع القائلین بالاختیار فی مقام العمل ولکنّهم یختلفون معهم فی دائرة القول فقط.

والکثیر من القائلین بانسداد باب الاجتهاد أیضاً یتحرّکون عملًا من موقع الانفتاح، أی أنّهم یسعون لبیان ومعرفة وظیفتهم الشرعیة، ویفتون فی الکثیر من الأمور السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة ویستدلّون علی ذلک من القرآن الکریم والأحادیث، ویؤلّفون الکتب فی هذا المجال، ولکنّهم فی مقام القول فإنّهم یقولون بالإنسداد.

الفصل الثالث: القائلون بانفتاح باب الإجتهاد و أدلتهم

اشارة

یمکن القول بشکل قطعیّ أنّ باب الاجتهاد فی نظر أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام مفتوح فی جمیع العلوم الإسلامیة، وفی کلّ الأزمنة ولکلّ من تتوفّر فیه الشرائط، ولا أحد من فقهاء هذه المدرسة قال بانسداد باب الاجتهاد فی المسائل الشرعیّة فی أیّ عصر من العصور.

والنقطة الملفتة للنظر فی فقه أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام هی أنّ هؤلاء الفقهاء بصورة عامة یفتون بحرمة تقلید المجتهد المیّت ابتداءً، ویؤکّدون علی تقلید المجتهد الحیّ، ومفهوم هذا الکلام هو: لزوم وجود مجتهدین فی کلّ عصر وزمان یتمکّن الناس من الرجوع إلیهم واتّباعهم، وهذه المسألة تعتبر إجماعیة لهم ومستوحاة من تعالیم أئمّة أهل البیت علیهم السلام.

ص: 228

وأمّا أدلّة القول بالانفتاح فی مسائل العقیدة وأصول الدین فواضحة جدّاً، وأمّا فی مسائل فروع الدین التی هی مورد البحث، فنشیر إلی هذه الأدلّة فیما یلی:

1. الآیات القرآنیة

أ) عمومیّة الخطابات القرآنیة

إنّ الخطابات الواردة فی القرآن الکریم وکذلک الواردة فی السنّة النبویة وأئمّة أ هل البیت علیهم السلام هی خطابات عامّة تشمل کلّ زمان وکلّ مکان وجمیع أفراد البشر، وحتّی بالنسبة لخطابات المشافهة، فلها جهة شمولیة أیضاً، فالعبارات القرآنیة من قبیل

«یا أیّها الّذین آمنوا

»، «یا أیّها النّاس

» و «

یا بنی آدم

»، کلّها تدعو جمیع الأفراد بالتدبرّ والدقّة فی الآیات والروایات، وخاصّة عندما تتضمّن حکماً من الأحکام الفرعیة.

وإذا قبلنا بهذه الحقیقة وهی أنّ جمیع الأفراد مخاطبون بهذه الخطابات الدینیة، فلابدّ من قبول مقولة فتح باب الاجتهاد للجمیع فی هذه الآیات والروایات (مع توفیر مقدّمات الاجتهاد) بینما یری القائلون بانسداد باب الاجتهاد، أنّ المخاطبین بهذه الآیات والروایات یمثّلون فئة خاصّة، فی حین أنّه لا یوجد أیّ دلیل علی هذه الکلام.

ب) وجوب الرجوع إلی علماء الأُمّة

وقد ورد فی الآیات الکریمة هذا المعنی بوضوح من قبیل قوله تعالی: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(1) وکذلک فی آیة «

النفر

»: «وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(2).

وبدیهیّ، أنّ «أهل الذّکر»، یشمل جمیع علماء الأمّة ولا یختصّ هذا الاصطلاح بفئة خاصّة منهم، وبالرغم من أنّ مورد نزول الآیة ناظر إلی علماء أهل الکتاب وما یذکر فی کتب القدماء من علامات نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله، ولکنّنا نعلم أنّ مورد نزول الآیات لا ینفی شمولیة القوانین المستفادة منها. ولهذا السبب فإنّ علماء الأصول وفقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام استدلّوا بهذ الآیة علی حجّیة خبر الواحد من جهة، وجواز التقلید من جهة أخری، وکذلک فإنّ المراد من «التفقّه فی الدین المذکور فی آیة النفر، هو ضرورة تعلُّم جمیع المعارف والأحکام الإسلامیة من أصول الدین وفروعه، فالتفقّه هنا لا یعنی تعلّم المسائل البسیطة فحسب، بل یشمل الاطّلاع ودراسة جمیع العلوم الإسلامیة حسب عملیة الاستنباط والاجتهاد أیضاً.

وعلی هذا الأساس تعدّ دلیلًا جلیّاً علی أنّه: یجب وجوباً کفائیاً (أوأحیاناً عینیاً) علی جماعة من المسلمین فی کلّ عصر، العمل علی استنباط الأحکام الإسلامیة والاجتهاد فی نصوص الکتاب والسنّة، وبعد تعلّم هذا العلم یتحرّکون لنقل معلوماتهم ومعارفهم إلی الآخرین.

2. سیرة الأئمّة علیهم السلام والعلماء

اشارة

إنّ تاریخ فقه أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام ناطق بوجود المجتهدین وأصحاب الفتوی فی کلّ عصر وزمان منذ القرن الأول إلی زماننا هذا، حیث یستنبطون الأحکام الإسلامیة من الکتاب والسنّة والإجماع


1- سورة النحل، الآیة 43.
2- سورة التوبة، الآیة 122.

ص: 229

والعقل ویضعونها فی اختیار عامّة الناس.

إنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام لا یجیزون تقلید العالم المیّت، بل یوصون الناس بالرجوع إلی العلماء الأحیاء، وهم الذین یساهمون فی تکامل وتقدّم علم الفقه من خلال الاستفادة من تجارب العلماء السابقین، وما یتوصّلون إلیه من خلال تجاربهم ودراساتهم.

إنّ أصل حرمة تقلید المجتهد المیّت الذی هو مورد إجماع علماء هذه المدرسة، یثبت بصورة جلّیة أنّ باب الاجتهاد لدیهم مفتوح فی کلّ زمان، ویجب علی فقهاء کلّ عصر الاستفادة من علوم القدماء وأن یتحرّکواعلی مستوی زیادة معارفهم وعلومهم، وبالتالی یمکنهم استخراج واستنباط ما هو أقرب إلی الأحکام الإلهیّة والمفاهیم القرآنیّة والروائیّة.

***

ومن المناسب جدّاً أن نستعرض هنا طائفة من هؤلاء المجتهدین والفقهاء الشیعة فی کلّ عصر منذ القرن الأول ولحدّ الآن، ممّن کانوا من أصحاب النظر فی الفتوی، لیتبیّن أنّ السیرة القطعیة فی انفتاح باب الاجتهاد کانت موجودة لدی أتباع هذه المدرسة علی امتداد العصور الإسلامیة (وأنّ الکلام عن جمیع الفقهاء فی العصر الأول، سواء فقهاء أهل السنّة أو فقهاء أهل البیت علیهم السلام).

انفتاح باب الاجتهاد فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله والصحابة:

إنّ القائلین بالانفتاح والانسداد یتّفقون علی أنّ باب الاجتهاد کان مفتوحاً فی عصر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وبعد رحلته إلی مدّة من الزمان، حیث کان علماء الأُمّة الإسلامیة یجتهدون فی تفاصیل الأحکام بیسر ویعلنون آراءهم. وهذه المسألة قد اتّسعت بشکل کبیر إلی درجة أنّها وصلت أحیاناً إلی مرتبة الإفراط، حیث أجازوا الاجتهاد مقابل النصّ الذی هو مرفوض لدی علمائنا، لأنّه مع وجود نصّ القرآن أو السنّة النبویة، فلا یبقی مجال للاجتهاد، لأنّ تلک النصوص وحی إلهیّ ولا یجوز مخالفة الوحی. وقد أشار المرحوم شرف الدّین العاملی إلی موارد متعدّدة من ذلک فی کتابه «المراجعات»(1).

ویقول صاحب کتاب «أعلام المُوَقّعین»: إنّ الصحابة کانوا من أوائل الأشخاص الذین اجتهدوا برأیهم:

«الصحابة فتحوا باب القیاس والاجتهاد، فالصحابة رضی اللَّه عنهم مثّلوا الوقائع بنظائرها وشبّهوها بأمثالها، وردّوا بعضها إلی بعض فی أحکامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طریقة وبیّنوا لهم سبیله، وهل یستریب عاقل فی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله لمّا قال:

«لا یقضی القاضی بین اثنین وهو غضبان»(2)

إنّما کان ذلک لأنّ الغضب یُشوّش علیه قلبه وذهنه ویمنعه من کمال الفهم ویحول بینه وبین استیفاء النظر ویُعَمِّی علیه طریق العلم والقصد، فإذا قصر شخص هذا النهی علی الغضب وحده دون الهمّ المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشدید، وشُغل القلب المانع من الفهم، فقد قَلَّ فقهه وفهمه»(3).

ثمّ ینطلق هذا المؤلّف علی مستوی بیان کیفیة الاجتهاد، ویشیر إلی نموذج منه فی ذیل کلام النبیّ صلی الله علیه و آله.


1- المراجعات، الرسائل 84 إلی 98.
2- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 776، ح 2316.
3- اعلام الموقعین، ج 1، ص 203.

ص: 230

ومن الضروریّ بیان هذه النقطة، وهی أنّ القیاس إذا کان قطعیاً (من قبیل المثال المذکور أعلاه فیما یتّصل بصفات القاضی) فإنّ جمیع العلماء متّفقون علی حجّیته واعتباره، ونحن نطلق علیه «بإلغاء الخصوصیة» فلو کان ظنّیاً فلا یوجد دلیل علی اعتباره وحجّیته.

وقد استدلّ الآمِدی فی بحث التخطئة والتصویب بعدّة أمور، تشیر کلّها إلی انفتاح باب الاجتهاد فی عصر الصحابة:

1. السنّة: ففی هذا الدلیل وبعد الإشارة إلی الحدیث

«أصحابی کالنُّجومِ بأیِّهِمُ اقْتَدَیْتُمُ اهْتَدَیْتُمُ»(1)

یصرّح بحجّیة فتوی الصحابة.

2. الإجماع: حیث یتّفق الصحابة علی جواز الاختلاف فیما بین الصحابة أنفسهم بدون أن ینکروا هذه الظاهرة(2).

3. دلیل العقل: ثمّ یتطرقّ إلی الدلیل العقلیّ حیث یصرّح بأنّه یقرّر «انفتاح باب الاجتهاد».

إنّ هذه الکلمات، التی تحکی عن انفتاح باب الاجتهاد فی عصر الصحابة، موجودة بکثرة فی کتب وأقوال علماء أهل السنّة.

القرن الأوّل:

1. علیّ بن أبی رافع: هو غلام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ومن خواصّ أصحاب أمیرالمؤمنین علیه السلام؛ وله کتاب فی مسائل تتّصل بالوضوء والصلاة وسائر أبواب الفقه.

یقول آیة اللَّه السیّد حسن الصدر:

«إنّ علیّ بن أبی رافع من فقهاء أهل البیت علیهم السلام وکان من أصحاب أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام الخاصّین وکاتبه، وقد اشترک فی جمیع حروبه، ویذکره النجاشیّ (3) فی الطبقة الاولی من مصنّفیٍ فقهاء الإمامیة ویقول: لقد کان من الصالحین من هذه الجماعة، وکان کاتباً لأمیر المؤمنین علیه السلام ومن أصحابه، وقد تلقّی علوماً کثیرة من الإمام علیّ علیه السلام وألّف کتاباً فی الفقه فی بحث الوضوء والصلاة وسائر الأبواب، وهذا الکتاب استقاه من أمیر المؤمنین وعمل علی جمعه وتبویبه فی ذلک الوقت، ویهتمّ أتباع هذا المذهب بهذا الکتاب بشدّة ویعتبرونه کتاباً قیّماً»(4).

2. سعید بن المسیّب بن حزن بن أبی وهب:(5) ویقول عنه المرحوم السید حسن الصدر: «إنّ سعید بن المسیب بن حزن بن أبی وهب، یعدّ من فقهاء الستة فی المدینة»(6).

3. القاسم بن محمّد بن أبی بکر:(7)

«ذکره ابن خلّکان

فی تاریخه فقال: إنّه من سادات التابعین وفقهاء الشیعة بالمدینة، وکان أفضل أهل زمانه، وکان یقول مالک بن


1- الفصول فی الاصول للجصّاص، ج 3، ص 299.
2- الإحکام فی اصول الأحکام، ج 4، ص 199.
3- أبوالعباس أحمد بن علیّ بن عباس المعروف بالنجاشی( المتوفّی 450 ه. ق) من علماء الإمامیة وقد أجمع العلماء علی وثاقته وتبحّره فی علم الرجال وارتفاع مکانته، یقول العلّامة المیزرا حسین النوری عنه: إنّه عالم ومحقّق قدیر فی النقد وترجمة أحوال الرجال، دقیق النظر، عارفاً بصیراً وأعلم من أمسک بالقلم فی علم الرجال أو تحدّث عنهم».( مقدّمه بحارالانوار، ج 0، ص 200 و 201).
4- تأسیس الشیعة لفنون الاسلام، ص 280.
5- یقول ابن شهاب: قال لی عبداللَّه بن ثعلبة بن أبی بصیر: إذا أردت الفقه فاذهب إلی هذا الرجل( سعید بن المسیّب)، وینقل عمرو بن میمون عن أبیه أنّه قال: إننی ذهبت إلی المدینة وبحثت عن أعلم شخص فیها فأرشدونی إلی سعید بن المسیّب.( تهذیب التهذیب، ج 4، ص 74 و 75).
6- تأسیس الشیعة لفنون الاسلام، ص 298.
7- قال ابن وهب عن مالک: کان قاسم من فقهاء هذه الامّة، وکان ابن سیرین یأمر من یحج أن ینظر هدی القاسم فیقتدی به وقال العِجْلی أیضاً: مدنیّ تابعیّ ثقة نزه رجل صالح. وقال ابن حبّان فی« ثقات التابعین»: کان من سادات التابعین، من أفضل أهل زمانه علماً وأدباً وفقهاً.( تهذیب التهذیب، ج 8، ص 300؛ رجال ابن داوود، ص 153؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 123).

ص: 231

أنس: إنّه من فقهاء هذه الأمّة، مات سنة 101 هجری قمری»(1).

القرن الثانی:

1. إبراهیم بن محمّد بن أبی یحیی المدنی الأسلمی (م 184):(2) یقول عنه المرحوم «الصدر» فی کتابه «تأسیس الشیعة لفنون الإسلام : «إنّه کان من الفقهاء، وله کتاب مبوّب فی الحلال والحرام»(3).

2. عبیداللَّه بن علیّ بن أبی شعبة:(4) جاء فی أحواله:

«ولعبیداللَّه بن علیّ بن أبی شعبة کتاب فی الفقه کبیر، عَرَضه علی أبی عبداللَّه الصادق علیه السلام فصحّحه واستحسنه وقال عند قراءته: لیس لهؤلاء فی الفقه مثله»(5).

3. صفوان بن یحیی البجلیّ (م 210): یقول المرحوم الصدر أنّه کان من الفقهاء، وله ثلاثون کتاباً کتبها علی ترتیب الکتب الفقهیة.

ویقول عنه «النجاشیّ»: «ثقة ثقة عین؛ روی أبوه عن أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام)، وروی هو عن الرضا علیه السلام، وکانت له عنده منزلة شریفة ... وکانت له منزلة من الزهد والعبادة ... وصنّف ثلاثین کتاباً»(6).

القرن الثالث:

1. الحسن بن محبوب (م 224): وله کتاب فقهیّ باسم «المشیخة» وهذا الکتاب بوّب علی أساس معانی الفقه، وکان الحسن هذا من أصحاب الإمام الرضا علیه السلام وقد نقل روایات من ستّین شخصاً من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام (7).

2. محمّد بن المعافی أبو جعفر (م 265): وله کتاب فقهیّ باسم «شرائع الإیمان ،: وقد ذکروا فی حقّه أنّه کان من أصحاب الإمام الکاظم علیه السلام والإمام الرضا علیه السلام (8).

3. إبراهیم بن محمّد الثقفی (م 283): وله کتاب فقهیّ اسم «الفقه والأحکام»(9).

القرن الرابع:

1. علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی (م 329):(10) یقول عنه الشهیدالأوّل فی کتابه «الذکری»:

«إنّ أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام عندما لا یجدون نصّ الروایة، فإنّه یکسبون تکلیفهم من رسالة علیّ بن بابویه لأنّهم یعتمدون علیه ویطمئنّون لکلامه».

وجاء فی کتاب رجال النجاشی شرحاً مفصّلًا عن حاله حیث قال عنه:

«شیخ القمیّین فی عصره ومتقدّمهم


1- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 298.
2- إبراهیم بن محمّد بن أبی یحیی« أبو إسحاق» روی عن أبی جعفر( الإمام الباقر) وأبی عبداللَّه( الإمام صادق علیهما السلام وکان خصیصاً( بهما)، وقد أخذ عنه العلم أکابر العامة وسمعوا منه الحدیث، بل وثّقة من جرّد نفسه عن التعصّب وبرّأه من الوضع والکذب والأحادیث المنکرة( کالشافعی وابن الإصبهانی وغیرهما).( رجال النجاشی، ج 1، ص 85).
3- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 300.
4- عبیداللَّه بن علیّ بن أبی شعبة. قال النجاشیّ: آل أبی شعبة بالکوفة، بیت مذکور من أصحابنا، روی جدّهم( أبو شعبة) عن الحسن والحسین علیهما السلام. وکانوا جمیعهم ثقات، مرجوعاً إلی ما یقولون، وکان( عبیداللَّه) کبیرهم ووجههم، وصنّف الکتاب المنسوب إلیه وعرضه علی أبی عبداللَّه( الإمام الصادق علیه السلام) وصحّحه، وقال عند قراءته:« أتری لهؤلاء( سائر المذاهب) مثل هذا؟»( رجال النجاشی، ج 2، ص 37).
5- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 301.
6- رجال النجاشی، ج 1، ص 439 و 440.
7- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 301.
8- المصدر السابق، ص 300.
9- المصدر السابق.
10- قال ابن الندیم: ابن بابویه من فقهاء الشیعة وثقاتهم ولا یحتاج إلی الإیعاز بعد ما ورد من الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی حقّه فی توقیعه الشریف:« یا شیخی ومعتمدی وفقیهی».( مقدمة بحار الأنوار، ج 0، ص 76).

ص: 232

وفقیههم وثقتهم»(1)

. کتابه الشرائع معروف ب «الفقه الرضوی .

2. الحسن بن علیّ بن أبی عقیل العمانی:(2) ویذکروه صاحب کتاب «تأسیس الشیعة» بهذه الصورة:

«شیخ الشیعة ووجهها وفقیهها ... المؤسّس فی الفقه ...

له کتب کثیرة فی کلّ الفنون الإسلامیة، اشتهر بالفقه والتفریع وصنّف فیه کتاب «المتمسّک بحبل آل الرسول» ... کان معاصراً للکلینیّ ولعلیّ بن بابویه»(3).

3. محمّد بن أحمد بن الجنید، أبوعلیّ کاتب الاسکافی (م 381): یقول فی کتاب «تأسیس الشیعة»، فی الفصل العاشر، علم الفقه، ص 302:

«ابن الجنید، شیخنا الأقدم وفقیهنا الأعظم، محمّد بن أحمد بن الجنید أبوعلیّ الکاتب الاسکافی، کتب فی الفروع الفقهیة فعقد لها الأبواب وقسّم فیها المسائل وجمع بین النظائر، واستوفی ذلک غایة الاستیفاء»(4).

4. محمّد بن علیّ بابویه (الشیخ الصدوق) (م 381)(5): رغم أنّهم یعدّونه فی طبقة المحدّثین لکنهم ذکروا له کتباً فی الفقه أیضاً، وقد أشیر إلی بعضها فی کتاب «الذریعة». وکنموذج من هذه الکتب: «جوابات المسائل القزوینیات؛ جوابات المسائل النیسابوریة؛ مسائل النکاح، الوصایا، الوضوء والوقف»(6).

القرن الخامس:

1. محمّد بن محمّد بن النعمان، المعروف بالشیخ المفید (م 413)(7): ینقل العماد الحنبلی وهو من علماء أهل السنّة عن «تاریخ ابن أبی طی الحلبی : «لقدکان کبیراً من أکابر الإمامیّة ورئیس قسم الفقه والکلام والمناظرة»(8).

ویقول عنه: «الیافعی» وهو من علماء أهل السنّة أیضاً فی وقائع عام 413 هجریة: «فی تلک السنة توفّی عالم کبیر للشیعة، وهو صاحب تألیفات کثیرة، وکان شیخهم وکبیرهم والمعروف بالمفید وابن المعلّم وقد کان متبحّراً فی علم الکلام والفقه والجدل»(9).

ومن کتبه فی الفقه: «المقنعة، فرائض الشیعة، أحکام النساء، مسألة فی تحریم ذبائح أهل الکتاب، جوابات المسائل الصاغانیّة».

2. السیّد المرتضی، علم الهدی (10) (م 436): وقد


1- رجال النجاشی، ج 2، ص 89.
2- الحسن بن علیّ بن أبی عقیل، فقیه ومتکلّم وثقة وله کتب کثیرة فی الفقه وعلم الکلام منها کتاب« المتمسّک بحبل آل الرسول» المعروف عند الإمامیة.( رجال النجاشی، ج 1، ص 153 و 154).
3- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 303.
4- قال فی تنقیح المقال:« وله کتب کثیرة منها کتاب« تهذیب الشیعة لأحکام الشریعة» کبیر نحو من عشرین مجلداً یشتمل علی عدد کتب الفقه علی طریق الفقهاء ... وقد أدّی حقّ مدحه المرحوم العلّامة الطباطبائی( بحرالعلوم): محمّد بن أحمد بن الجنید أبو علی الکاتب الإسکافی من أعیان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الإمامیة وأکثرهم علماً وفقهاً وأدباً وتصنیفاً».( تنقیح المقال، ج 2، ص 67، باب محمّد، الرقم 10305).
5- أمره فی العلم والفهم والثقافة والفقاهة والجلالة والوثاقة وکثرة التصنیف وجودة التألیف فوق أن تحیطه الأقلام ویحویه البیان. وکتب النجاشی فی فهرسته: محمّد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، ساکن الریّ، من کبار فقهائنا الإمامیة.( وسائل الشیعة، ج 20، ص 21).
6- الذریعة، ج 5، ص 230 إلی 240 و ج 20، ص 362 و 372.
7- قال النجاشی: شیخنا وأستاذنا( یعنی الشیخ المفید) رضی اللَّه عنه، أشهرمن أن یوصف فی الفقه والکلام الروایة والثقة والعلم. وقال العلّامة الحلّی: فضله أشهر من أن یوصف فی الفقه والکلام والروایة، أوثق أهل زمانه وأعلمهم( مقدّمة بحار الأنوار، ج 0، ص 105 و 106).
8- مقدّمة الاختصاص للشیخ المفید، ص 4. نقلًا عن: شذرات الذهب، ج 3، ص 199.
9- مقدّمة الاختصاص للشیخ المفید، نقلًا عن: مرآة الجنان فی تاریخ المشاهیر الأعیان( تاریخ الیافعی)، ج 3، ص 28؛ حوادث عام 413 ق؛ أوائل المقالات للشیخ المفید، ص 245.
10- ریحانة الأدب، ج 4، ص 182- / 190.

ص: 233

ذکره المرحوم الصدر فی الفصل العاشر تحت عنوان علم الفقه أنّه من علماء الإمامیة.

ویقول عنه المرحوم المدرس صاحب ریحانة الأدب «کانت له تألیفات عدیدة، وقد ذکر أسماء 72 کتاباً منها، وبعضها تبحث فی علم الفقه، ومنها:

الانتصار، جمل العلم والعمل، الذریعة فی أصول الشریعة، المحکم والمتشابه، والمختصر»(1).

3. شیخ الطائفة أبوجعفر محمّد بن الحسن بن علیّ الطوسیّ (م 460)(2): یقول صاحب کتاب «تأسیس الشیعة» فی بیان أحواله:

«شیخ الطائفة علی الإطلاق، الشیخ الطوسیّ، إمام الفقه والحدیث والتفسیر والکلام. صنّف کتباً لم یسبقه أحد فی الإسلام إلی مثلها، منها کتاب «المبسوط» فی التفریع علی الأصول الفقهیة، کبیر جدّاً وعلی غایة من الاستقصاء، وله کتاب «الخلاف فی الفقه علی ترتیب کتبه، ذکر فیه المسائل المختلف فیها عند فقهاء الإسلام، وله کتاب «النهایة» فی کلّ أبواب الفقه علی ترتیب کلّها فی الفروع المستنبطة من حدیث أهل البیت علیهم السلام ...، وله فی الفقه کتاب الجمل والمختصر»(3).

4. القاضی عبدالعزیز الحلبی المعروف بابن البرّاج (م 481)(4): حیث ذکر فی کتاب «تأسیس الشیعة» أنّ له کتباً کثیرة ومشهورة فی فروع الفقه منها: الجواهر، المعالم، المنهاج، الکامل، روضة النفس فی أحکام العبادات، المغرب، المهذب، حسن التعریف وشرح جمل العلم للسیّد المرتضی (5).

القرن السادس:

وفی هذا القرن یوجد فقهاء مشهورون ویمکن الإشارة إلی بعضهم مثل: «عماد الدین محمّد بن علیّ ابن محمّد الطوسیّ» (المعروف بابن حمزة) صاحب الکتاب المشهور: «الوسیلة» وهو من الکتب الفقهیة المعتبرة لدی الإمامیة، وقطب الدین سعید بن هبة اللَّه بن الحسن الراوندی، المعروف بالقطب الراوندی (م 573) صاحب رسائل «مسألة فی الخمس ومسألة فی صلاة الآیات» وکذلک السیّد أبوالمکارم ابن زهرة صاحب الکتاب المعروف ب «الغنیة» الذی یقول عنه العلّامة المجلسی: «کان من الفقهاء العظام وجلیل القدر».

ومحمّد بن إدریس الحلّی (م 598) المعروف بابن إدریس، صاحب الکتاب النفیس «السرائر» وهو من الکتب القیمة، الذی یتضمّن البحث فی جمیع أبواب الفقه»(6).

القرن السابع:

وفی هذا القرن عاش فقهاء کبار أیضاً ومن أصحاب النظر والفتوی، منهم:

1. نجم الدین جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید


1- السیّد المرتضی علم الهدی، هو مفخرة من مفاخر الإمامیة، وبطل من أبطال العلم والدین، وإمام من أئمّة الفقه والحدیث والکلام والأدب، قال النجاشی، فی رجاله: المرتضی حاز من العلوم ما لم یدانه فیه أحد فی زمانه، سمع من الحدیث فأکثر، وکان متکلّماً، شاعراً، أدیباً عظیم المنزلة فی العلم والدین والدنیا.( مقدّمة بحار الأنوار، ج 0، ص 156).
2- قال العلّامة المجلسی: ثقة( یعنی الشیخ الطوسی)، فضله وجلالته أشهرمن أن یحتاج إلی البیان.( مقدمة بحار الأنوار، ج 0، ص 92 و 93).
3- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 304.
4- کان شخصیة کبیرة من فقهاء الإمامیة المعروفین، قال عنه ابن شهرآشوب: إنّه ألّف کتباً فی الأصول والفروع وکان فقیه الشیعة ولقّب ب« القاضی» ویقول عنه العلّامة الطباطبائی( بحر العلوم): إنّه کان من تلامذة الحسن بن الحسین بن بابویه.( تنقیح المقال، باب عبدالعزیز، شماره 6645، ج 2، ص 156).
5- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 304.
6- انظر: المصدر السابق، ص 304 و 305.

ص: 234

الهذلی الحلّی (م 676 المعروف بالمحقّق الأوّل)(1):

وقال عنه فی «تأسیس الشیعة»:

«کانت له کتب عدیدة منها: کتاب شرائع الإسلام، وهو أشهر المتون الفقهیة وأکثرها اعتباراً، وقد کتبت علیه شروح کثیرة وکتاب المختصر النافع وکتاب شرح المختصر النافع باسم المعتبر»(2).

2. الشیخ یحیی بن سعید بن أحمد بن یحیی بن الحسن بن سعید الهذلی (م 689): وقد ذکر فی حاله:

«له تصانیف جامعة للفوائد، منها: کتاب الجامع للشرایع فی الفقه، وکتاب المدخل فی أصول الفقه»(3).

القرن الثامن:

وعاش فی هذا القرن أیضاً علماء کبار من أصحاب الفتوی منهم:

1. الحسن بن یوسف بن علیّ بن المطهّر، المعروف بالعلّامة الحلّی (م 726): وقد قیل فی حقّه:

«بلغت تألیفاته فی العلوم المختلفة أکثر من 500 کتاباً. منها کتاب «القواعد» فی الفروع الفقهیة، «التذکرة» کتاب «الإرشاد» کتاب «التبصرة» فی الفروع المستنبطة من الفقه و ...»(4).

2. فخر المحقّقین محمّد ابن العلّامة الحلّی (م 771): وکتابه المعروف فی الفقه «إیضاح الفوائد فی حلّ مشکلات القواعد»(5).

3. محمّد بن مکّی، المعروف بالشهید الأوّل (م 786): وکتبه الفقهیة والفتوائیة عبارة عن:

«اللمعة الدمشقیة؛ الذکری فی فقه الإمامیة؛ الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة؛ خلاصة الاعتبار فی الحج والاعتمار؛ البیان فی الفقه و الألفیة فی فقه الصلاة»(6).

القرن التاسع:

وقد عاش فی هذا القرن أیضاً مجتهدون کبار منهم:

1. المقداد بن عبداللَّه بن محمّد بن الحسین بن محمّد السیوری الحلّی الأسدی، المعروف «بالفاضل المقداد» (م 826)(7): وأمّا کتبه وتصانیفه فمنها:

«کنزالعرفان آداب الحج التنقیح الرائع من المختصر النافع».

2. أحمد بن فهد الحلّی الأسدی، المعروف بابن فهد، (م 841): ومن جملة کتبه الفقهیة: «التحریر فی الفقه المهذب البارع (شرح المختصر النافع)، الدرّ النضید فی فقه الصلاة»(8).


1- ورد فی کتاب قاموس الرجال: هو( المحقّق الحلّی) أوّل من جعل الکتب الفقهیّة بترتیب المتأخرین، فجمع فی شرائعه لبّ ما فی نهایة الشیخ وما فی مبسوطه وخلافه وقبله کان بعضهم یکتب کالنهایة- کسرائر ابن إدریس الحلّی وبعضهم کالمبسوط والخلاف- کمهذّب القاضی ابن البرّاج- وله تحقیقات أنیقة».( قاموس الرجال، ج 2، ص 616).
2- تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، ص 305 و 306.
3- المصدر السابق، ص 307.
4- المصدر السابق، ص 306 و 307. قد جاء فی تنقیح المقال فیه( یعنی العلّامة الحلّی: اتفق علماء الإسلام علی وفور علمه فی جمیع الفنون ...، کان فقهیاً متکلّماً حکیماً هندسیّاً ریاضیاً ...( تنقیح المقال، ج 1، ص 214، الرقم 2794).
5- کان فخر المحققین عالماً محققاً ومجتهداً فقیهاً، وکان یعدّ من کبار الإمامیة، وقال عنه تلمیذه الشهید الأول: العظیم، القدوة، سلطان العلماء وکان یملک أعلی المراتب بین العلماء والفضلاء ومفخرة الدین والمذهب.( مقدّمه بحارالانوار، ج 0، ص 255 نقلًا عن روضات الجنات، ج 8، ص 387؛ الإجازات، ص 14).
6- کتب فی أمل الآمل: کان( الشهید الأول) عالماً فقیهاً محدّثاً مدقّقاً ثقة متبحّراً کاملًا جامعاً لفنون العقلیات والنقلیات، زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أدیباً منشئاً فرید دهره.( اعیان الشیعة، ج 10، ص 59).
7- الفاضل المقداد کان عالماً جلیلًا وفاضلًا نبیلًا، محققاً مدققاً متکلّماًوفقیهاً، له مصنّفات جیدة منها کنزل العرفان فی فقه القرآن.( تنقیح المقال، ج 3، باب المیم، ص 245، الرقم 12097).
8- وصفه( یعنی ابن فهد الحلّی) الشیخ الحرّ العاملی فی أمل الآمل، ص 33 بقوله: عالم فاضل ثقة صالح زاهد عابد ورع، جلیل القدر.( مقدّمة بحارالأنوار، ج 0، ص 232).

ص: 235

القرن العاشر:

وفی هذا القرن أیضاً عاش الکثیر من الفقهاء وأصحاب الفتوی منهم:

1. علی بن الحسین بن عبدالعالی الکرکی المعروف ب «المحقّق الثانی» أو المعروف ب «المحقّق الکرکی» (م 940): ومن جملة کتبه الفقهیة: «جامع المقاصد فی شرح القواعد، الجعفریة فی الصلاة، حاشیة علی شرائع الإسلام حاشیة المختصر النافع حاشیة الدروس حاشیة الذکری جوابات المسائل الفقهیة، حاشیة المختلف للعلّامة الحلّی»(1).

2. زین الدین بن علیّ بن أحمد العاملی، المعروف ب «الشهید الثانی» (م 966): وقد ذکر له فی بعض الکتب 28 کتاباً فقهیاً ومن جملتها: «الروضة البهیّة فی شرح اللمعة الدمشقیة؛ مسالک الأفهام حاشیة المختصر النافع حاشیة إرشاد الأذهان»(2).

3. الحسن بن الشهید الثانی (صاحب المعالم) (م 1011): وهو مؤلّف کتاب «المَعالم» الذی کتبه کمقدّمة علی الفقه الاستدلالی، وأحد کتبه الفقهیة:

«جوابات المسائل المدنیات»(3).

4. الحسین بن عبدالصمد الحارثی والد الشیخ البهائی (م 984):(4) ومن جملة کتبه الفقهیة: «المسائل التسع الفقهیّة، المسائل الصلاتیّة، رسالة اتساعیّة»(5).

5. أحمد بن محمّد الإردبیلی المعروف ب «المحقّق الأردبیلی» (م 993): کتبه الفقهیة المعروفة:

«مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان للعلّامة الحلّی، و زبدة البیان فی أحکام القرآن»(6).

القرن الحادی عشر:

وفی هذا القرن أیضاً عاش فقهاء ومجتهدون کثیرون، منهم:

1. الشیخ بهاء الدّین محمّد بن الحسین عبدالصّمد العاملی المعروف ب «الشیخ البهائی» (م 1031): وله رسالة عملیة باللغة الفارسیة باسم «جامع عبّاسی» وأمّا بعض کتبه الفقهیة والأصولیة الأخری فهی: «الحبل المتین فی أحکام الدین، رسالة فی فقه الصلاة، الزبدة فی أصول الفقه، رسالة فی معرفة القبلة، رسالة فی المواریث، الأسئلة الجزائریة»(7).

2. الملّامحمّد أمین الاسترآبادی (م 1033): ومن کتبه الفقهیة «جوابات المسائل الثلاثة، والفوائد المدنیّة»(8).

3. المولی محمّد تقی مقصود علیّ المجلسی (م 1070) والد المجلسی المعروف: وأحد کتبه الفقهیة «روضة المتّقین فی شرح کتاب من لا یحضره الفقیه».


1- أمل الأمل، ج 1، ص 121 و 122؛ روضات الجنات، ج 4، ص 360- / 375؛ أعیان الشیعة، ج 8، ص 208- 212.
2- یقول المامقانی عن الشهید الثانی: کان أشهر من أن یذکر فی الوثاقة، العلم، الفضل، الزهد، العبادة والتقوی، القدرة علی التحقیق، المهارة فی المسائل، علو القدر والمنزلة والذی جمع الفضائل والکمالات وقد ألّف کتباً کثیرة کان آخرها کتاب اللمعة الدمشقیة.( تنقیح المقال، باب زین الدین، الرقم 4517، ج 1، ص 472).
3- أعیان الشیعة، ج 5، ص 92.
4- یقول الشیخ الحرّ العاملی فی أملٍ الآمل: بعد أن لقّبه بلقب الشیخ عزالدین: کان عالماً قدیراً ومحقق دقیقاً، ورجلا جامعاً، وأدیباً وجلیل القدر.( تنقیح المقال، باب الحسین، الرقم 2948، ج 1، ص 332).
5- الذریعة، ج 20، ص 34 و 354.
6- المصدر السابق، ص 35.
7- قال الشیخ الحرّ العاملی فی أمل الآمل: حاله( الشیخ البهائی) فی الفقه والعلم والفضل والتحقیق والتدقیق وجلالة القدر وعظم الشأن وحسن التصنیف وجمع المحاسن أظهر من أن یذکر.( تنقیح المقال، باب محمّد، الرقم 10597، ج 3، ص 107).
8- الذریعة، ج 5، ص 217.

ص: 236

4. الملّا محمّد باقر بن محمّد المؤمن الخراسانی، المعروف به «المحقّق السبزواری» (م 1090): ومن جملة کتبه الفقهیة «ذخیرة المعاد فی الإرشاد و کفایة الفقه»(1).

5. الحسین بن جمال الدین محمّد، المعروف ب «المحقّق الخراسانی» (م 1098): وکتابه المعروف فی الفقه، «مشارق الشموس فی شرح الدروس»(2).

القرن الثانی عشر:

وفی هذا القرن عاش فقهاء معروفون منهم:

1. جمال الدّین بن الحسین الخوانساری (م 1121): وأشهر کتبه الفقهیة: «حاشیة شرح اللمعة وحاشیة الشرائع».

2. الشیخ محمّد بن الحسن بن محمّد الاصفهانی، الملقب ببهاء الدّین، المعروف بالفاضل الاصفهانی (م 1137): وکتبه الفقهیة المعروفة هی: «کشف اللثام عن قواعد الأحکام و المناهج السنیّة فی شرح الروضة البهیة»(3).

القرن الثالث عشر:

وبرز فی هذا القرن أیضاً مجتهدون وفقهاء کثیرون، ومنهم:

1. السید محمّد مهدی بن السید مرتضی الطباطبائی البروجردی، المعروف ب «بحرالعلوم» (م 1212):(4) ومن جملة کتبه الفقهیة هی: «المصابیح الدرة النجفیة؛ حاشیة علی طهارة الشرائع للمحقّق الحلی و قواعد أحکام الشکوک».

2. جعفر بن الشیخ خضر الجناحی النجفی، المعروف ب «کاشف الغطاء» (م 1227):(5) ومن کتبه الفقهیة المعروفة: «کشف الغطاء، شرح قواعد العلّامة وکتاب الطهارة».

3. الشیخ محمّد حسن النجفی «صاحب الجواهر» (م 1266): وکتابه الفقهی المعروف: «جواهرالکلام فی شرح شرائع الإسلام» الذی یعدّ من بین الکتب الفقهیة الاستدلالیة لدی الإمامیة، وهو مورد اهتمام الفقهاء والمجتهدین المعاصرین (6).

4. الشیخ مرتضی بن الشیخ محمّد أمین المعروف ب «الشیخ الأنصاری» (م 1281): ومن کتبه الفقهیة المعروفة: «المکاسب» (ویشمل المکاسب المحرمة، البیع والخیارات). وقد کتب رسائل عدیدة فی مختلف أبواب الفقه، من قبیل: الرضاع الخمس الزکاة، الطهارة وغیرها. وقد کتب الشیخ الأنصاری فی علم الأصول وأوجد تحوّلًا کبیراً فی علمی الأصول والفقه وأدّی إلی


1- الذریعة، ج 10، ص 19، الرقم 96؛ ج 18، ص 96، الرقم 843.
2- قال المحقّق الأردبیلی فی جامع الرواة: أمره فی علوّ قدره وعظم شأنه وسمّو رتبته وتبحّره فی العلوم العقلیة والنقلیة ودقّة النظر أشهر من أن یذکر.( تنقیح المقال، باب الحسین، الرقم 2867، ج 1، ص 323).
3- ( فقهاء الشیعة المعروفین، ص 245، نقلًا عن ریحانة الأدب للمرحوم المدرس).
4- قال شیخنا النوری فی المستدرک: قد أذعن له جمیع علماء عصره ومن تأخّر عنه بعلوّ المقام والرئاسة النقلیة والعقلیة وسائر الکمالات النفسانیة حتی أنّ الشیخ الفقیه الأکبر الشیخ جعفر النجفی مع ما هو علیه من الفقاهة والرئاسة، کان یمسح تراب خفّه بحنک عمامته، وتلمّذ علیه جماعة من الفحول منهم الفاضل النراقی.( الکنی والألقاب، ج 2، ص 67 و 68).
5- الذریعة، ج 5، ص 217.
6- قال المحدّث النوری فیه: مربی العلماء وشیخ الفقهاء، المنتهیة إلیه رئاسة الإمامیة فی عصره الشیخ محمّد حسن بن الشیخ باقر النجفی کتاب جواهر الکلام الذی لم یصنّف فی الإسلام مثله فی الحلال والحرام. قال بعض العلماء: لو أراد مؤرخ زمانه أن یثبت الحوادث العجیبة فی أیّامه ما یجد حادثة بأعجب من تصنیف هذا الکتاب( جواهر الکلام) فی عصره، وهذا من الظهور بمکان لا یحتاج إلی الشرح والبیان.( خاتمة مستدرک الوسائل، ج 2، ص 114).

ص: 237

تطویر هذین العلمین بشکل کبیر، وتدرّس کتبه فی الحوزات العلمیة لسنوات مدیدة(1).

القرن الرابع عشر:

وشهد هذا القرن فقهاء بارزین ومجتهدین کبار، منهم:

1. المیرزا محمّد حسن الشیرازی، المعروف ب «المیرزا الشیرازی الکبیر» (م 1312): من جملة کتبه الفقهیة: «کتاب فی الطهارة؛ رسالة فی الرضاع کتاب فی الفقه (من أول المکاسب إلی آخر المعاملات)».

2. الآخوند الملّا محمّد کاظم الخراسانی (م 1329): بالرغم من أنّ شهرته بسبب تدوین کتاب «کفایة الأصول» الذی یتضمّن نظریاته وآراءه الأصولیة، ولکنّه کتب کتباً فقهیة مهمّة أیضاً، مثل: «کتاب الإجارة؛ الحاشیة علی مکاسب الشیخ القضاء والشهادات».

3. السیّد محمّد کاظم الیزدی صاحب کتاب:

«العروة الوثقی» (م 1337): وکتابه الفقهیّ المعروف یمثّل الأساس فی تدریس الکثیر من الفقهاء المعاصرین وحواشیهم، وله کتاب آخر باسم «الحواشی علی المکاسب».

4. المیرزا محمّد تقی الشیرازی المعروف ب «المیرزا الثانی» (م 1338): یقول عنه المرحوم الحاج آقابزرگ الطهرانی فی کتابه «أعیان الشیعة»:

«کان المیرزا محمّد تقی الحائری الشیرازی قائد ثورة العراق والذی ساهم فی إشعال هذه الثورة، وکان من کبار العلماء والمجتهدین فی عصره، ومن أشهر الوجوه المعروفة بالعلم والتقوی والغیرة والشهامة الدینیة. وقد أصبح مرجع تقلید الشیعة بعد وفاة استاذه المیرزا الشیرازی الکبیر، بسبب لیاقاته وعلمه وفضله، وقد أعلن الجهاد علی المحتلّین البریطانیین فی فتواه المشهورة»(2).

5. الحاج المیرزا محمّد حسین النائینی، (م 1355): یعدّ من أکابر الفقهاء والأصولیین فی القرن الرابع عشر الهجریّ، وشهرته فی ما یتّصل بعلم أصول الفقه، فإنّ الکثیر من فقهاء عصره یعدّون من تلامذته وله حاشیة علی العروة الوثقی للمرحوم محمّد کاظم الطباطبائی (3).

6. آیة اللَّه الحاج الشیخ عبدالکریم الحائری الیزدی (م 1355)(4) مؤسّس الحوزة العلمیّة فی قم: من جملة کتبه الفقهیة: «کتاب الرضاع کتاب الصلاة؛ کتاب المواریث وکتاب النکاح» وفی أصول الفقه له کتاب معروف هو «درر الفوائد».

7. آیة اللَّه السیّد أبوالحسن الاصفهانی (م 1365): کتابه الفقهیّ المعروف: «وسیلة النجاة». ویعدّ من کبار فقهاء عصره، استلم المرجعیة العامة للشیعة، وقد حضر درسه الکثیر من مراجع عصره (5).


1- کان( شیخنا الأعظم الأنصاری) نادرة الدهر ونابغة العصر ومثالًا حیّاً للعلم والعمل ونبراساً یقتدی به فی الاجتهاد ومرآة جلیة للورع والتقوی ... قال الشیخ علی کاشف الغطاء فی وصفه: السماع بکل شی ء فی الدنیا أعظم من رؤیته إلّاالشیخ مرتضی الأنصاری فإنّ رؤیته أعظم من سماع وصفه وأعجب منه.( مقدّمة مکاسب الشیخ مرتضی الأنصاری، السیّد محمّد الکلانتر، ج 1، ص 19).
2- أعیان الشیعة، ج 9، ص 192.
3- المصدر السابق، ج 6، ص 54- 56؛ نقباء البشر، القسم الثانی من الجزء الأول، ص 593- 595.
4- یقول المرحوم آیة اللَّه البروجردی فی مورد( کتاب الصلاة) للمرحوم آیة اللَّه الشیخ عبدالکریم الحائری: إنّی لم أجد کتاباً لحدّ الآن مثله فی الشمولیة وجودة المعنی.
5- آیة اللَّه السید أبو الحسن الاصفهانی کان سیّداً جلیلًا وشخصیة فریدة، وکان یملک حافظة عجیبة، ویتّصف بالکرم، والأخلاق المحمّدیة والخصال الحمیدة، وقد تصدّر زماعة الشیعة وعمل علی ترشید دائرة المرجعیة حتی أنّه عرف فی جمیع البلاد الشیعیة بوصفه مرجعاً وصاحب الفتوی.( طبقات أعلام الشیعة نقباء البشر، ج 1، ص 41).

ص: 238

8. آیة اللَّه الحاج السیّد حسین الطباطبائی البروجردی (م 1380): وهو من کبار مراجع التقلید، وله أتباع ومقلِّدون کثیرون، وله رسالة علمیة فی الفتاوی وکتب فقهیة فی صلاة المسافر وصلاة الجمعة(1).

9. آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم (م 1390): وکان من تلامیذ الآخوند الخراسانی، وآقا ضیاءالدین العراقی والمیرزا النائینی. وقد استلم المرجعیة الدینیة لشریحة کبیرة من الشیعة- وخاصّة لأهالی العراق- وله کتب معروفة فی الفقه، أهمّها کتابه القیّم: «مستمسک العروة الوثقی»(2).

القرن الخامس عشر:

وفی هذا القرن أیضاً ظهر فقهاء وأصحاب فتوی کثیرون وقد انتقل بعضهم إلی رحمة اللَّه والبعض الآخر یتولّی فی هذا الوقت زعامة ومرجعیّة الشیعة، ومن جملة کبار الفقهاء الذین رحلوا من هذه الدنیا:

1. الإمام الخمینی قدس سره (م 1409): وهو المرجع الشیعیّ الکبیر، مؤسّس نظام الجمهوریة الإسلامیة، وله کتب عدیدة، منها: «شرح المکاسب و تحریر الوسیلة، الحاشیة علی العروة الوثقی» ورسائل عملیة متعدّدة، وقد أسّس النهضة الإسلامیة فی 15 خرداد عام 1342 ه ش، وحقّق النصر فی هذه النهضة فی 22 بهمن عام 1357 ه ش، وتوفّی فی 14 خرداد 1368 ه ش.

2. آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی (3) (م 1413): ولد عام 1314 ه. ق وأمضی دروسه وتحصیلاته العلمیة بتوفیق کبیر، ثمّ صار من أصحاب النظر والاجتهاد فی علوم الفقه والأصول والتفسیر والرجال وصار من کبار المراجع، وتعدّ آثاره وتألیفاته القیّمة فی الفقه والأصول والتفسیر والرجال مرجعاً لطلّاب العلم، منها موسوعة فقهیة کاملة فی 42 جزءاً).

وقد کان الکثیر من أساتذة الحوزات العلمیّة یعدّون من تلامیذه، وکتاب «التنقیح فی شرح العروة الوثقی»، هو حصیلة بحوث الخارج لهذا المرجع، ومن کتبه الفقهیة القیّمة «مبانی تکملة المنهاج».

3. آیة اللَّه السیّد محمّد رضا الکلبایکانی (م 1414): وهو من أبرز تلامیذ آیة اللَّه الشیخ عبدالکریم الحائری (مؤسّس الحوزة العلمیّة فی قم). وبعد رحلة آیة اللَّه البروجردی، صار آیة اللَّه الکلبایکانی من جملة مراجع التقلید ومورد التفاف الناس ورجوعهم إلیه، وقد ربّی فی مدّة إقامته فی الحوزة العلمیّة فی قمّ، طلّاباً ومجتهدین کثیرین.

من جملة کتبه فی الفقه: «کتاب الحج، ولایة الفقیه الدرّ المنضود فی أحکام الحدود وکتاب الطهارة»(4).


1- کان آیة اللَّه البروجردی، رحمه اللَّه بحّاثاً، معروفاً بقوّة الرأی ودقّة النظر وسلامة الفکر فی مسائل الفقه والأصول، حضر الأصول لدی المحقّق العراقی أکثر من أربع دورات کاملة، وحضر الفقه لدی آیة اللَّه الاصفهانی.( نهایة الأفکار فی مباحث الألفاظ، مقدّمة، الصفحة د).
2- انظر: أعیان الشیعة، ج 9، ص 56.
3- جاء فی مقدّمة أجود التقریرات:« وأمّا مکانته العلمیة فواضحة وضوح الشمس فی رابعة النهار، لا ینکرها إلّاأعمی القلب، فقد أکثر من التدریس وإلقاء المحاضرات فی الفقه والأصول، فدرّس دورتین کاملتین لمکاسب الشیخ الأنصاری ودورتین کاملتین لکتاب الصلاة وجمیع أبحاث العروة الوثقی للسید محمّد کاظم الیزدی وست دورات کاملة فی علم الأصول.( أجود التقریرات، ج 1، ص 43).
4- انظر: خورشید فقاهت( شرح حالات آیة اللَّه الکلبایکانی) لمؤلفه علی کریمی الجهرمی، وسیمای فرزانگان، ج 1، ص 691- 712( بالفارسیة).

ص: 239

ویستفاد ممّا تقدم أنّ باب الاجتهاد لم یکن موصداً فی نظر أئمّة أهل البیت علیهم السلام وفقهاء وأتباع هذه المدرسة إطلاقاً، ولم تکن مدرسة أهل البیت علیهم السلام فی أیّ عصر من العصور فاقدة لعنصر الاجتهاد ووجود المجتهدین الکبار.

3. روایات أهل البیت علیهم السلام وانفتاح باب الاجتهاد

وقد وردت روایات کثیرة عن أهل البیت علیهم السلام تؤکّد علی أنّ الأئمّة کانوا یوصون أصحابهم بالإفتاء، وهذه الروایات تبرّر بوضوح فتح باب الاجتهاد فی کلّ عصر وزمان، ومن جملة هذه الروایات:

أ) ما ورد فی کتاب أمیرالمؤمنین الإمام علیّ علیه السلام لقثم بن العبّاس:

«أمّا بَعدُ! فأقِمْ للنّاسِ الحَجَّ وذَکِّرْهُم بأیّامِ اللَّهِ وَاجْلِسْ لَهُمُ العَصْرَینِ، فأفتِ المُسْتَفْتِیَ وعَلِّمِ الجَاهِلَ وذَاکِرِ العَالِمَ»(1).

ویظهر من کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام لقثم بن عبّاس أنّ الإمام یأمره بالجلوس کلّ صباح ومساء للفتوی وللجواب عن مسائل الناس الشرعیة، وهذا المعنی بلا شکّ لا یعنی مجرّد نقل الروایة أو تلاوة الآیة(2).

ب) یقول سلیم بن أبی حیّة: کنت عند الإمام الصادق علیه السلام، فلمّا أردت أن أفارقه ودّعته وقلت: أُحبّ أن تزوِّدنی، فقال:

«ائتِ أبانَ بنَ تَغلبَ فإنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنّی حَدِیثاً کَثِیراً، فَما رَوی لَکَ فَارْوِه عَنِّی».

قال: وقال له أبو جعفر علیه السلام:

«إجلِسْ فِی مَسْجِد

المَدِینَةِ وأفْتِ النّاسَ، فإنّی أُحِبُّ أن یُری فی شِیْعَتی مِثْلُک»(3).

ومن الواضح أنّ کلام الإمام الباقر علیه السلام یدور حول الفتوی لا مجرّد نقل الحدیث.

ج) یقول الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام للراوی:

«عَلَیْنا إلقاءُ الأصولِ إلَیکُم وعَلَیکُم التفرّع»(4).

ونظیر هذه الروایة ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام لهشام بن سالم:

«إنَّما علَینا أن نُلْقِیَ إلَیکُمُ الأُصولَ وعَلَیکُم أن تُفَرِّعُوا»(5).

وجاء فی «عوالی اللئالی» أنّ زرارة وأبا بصیر نقلا مثل هذا الحدیث عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام.

ویقول المرحوم العلّامة المجلسیّ: إنّ هذا الحدیث یدلّ علی جواز استنباط الأحکام فی العمومات»(6).

4. الروایات التی تنهی عن الإفتاء بدون علم

أ) نقل الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«وَمَن أفتی النَّاسَ بِغَیرِ عِلْمٍ وهُوَ لا یَعْلَمُ النّاسِخَ مِنَ المَنسُوخِ والمُحْکَمِ مِنَ المُتَشابِهِ، فَقَد هَلَکَ وأهْلَکَ»(7).

ومفهوم هذا الحدیث هو أنّ من یفتی بعلم وهو مطلّع علی الناسخ والمنسوخ والمحکم والمتشابه فإنّه مُجاز، وهذا دلیل علی جواز الاستنباط وانفتاح باب الاجتهاد.


1- نهج البلاغة، الرسالة 67.
2- قثم بن العباس یروی عن النبیّ، وقال ابن عبدالبرّ: عیّنه الإمام علیّ علیه السلام والیاً علی مکّة، ولکن یعتقد الدارقطنی أنّ الإمام علی علیه السلام عیّنه والیاً علی المدینة وعیّن أخاه« معبد» والیاً علی مکّة( تهذیب التهذیب، ج 8، ص 323 و 324).
3- مستدرک الوسائل، ج 17، ص 315؛ رجال ابن داوود، ص 10، الرقم 4؛ رجال العلّامة الحلّی، ص 21؛ رجال النجاشی، ص 10. وثقّ حاتم الرازی أبان بن تغلب، ونقل عن الإمام أحمد أنّه سئل عن أبان بن تغلب؟ قال: إنّه ثقة. وذکره ابن حبّان أیضاً فی جماعة من الثقات.( تاریخ أسماء الثقات، ص 38).
4- بحار الأنوار، ج 2، ص 245.
5- وسائل الشیعة، ج 27، ص 62.
6- بحار الأنوار، ج 2، ص 245.
7- الکافی، ج 1، ص 43.

ص: 240

وفی حدیث آخر عن مفضّل بن مزید قال: قال أبو عبداللَّه الإمام الصادق علیه السلام:

«أنْهاکَ عَن خَصْلَتَیْنِ فِیهِما هَلَک الرِّجالُ: أنْهاکَ أن تَدِینَ اللَّهَ بالباطِلِ وتُفتی النّاسَ بِما لا تَعْلَمُ»(1).

ویفهم من هذا الحدیث جواز الفتوی والاجتهاد إذا کان مقترناً بالعلم والاطّلاع، وأنّ الفتوی بدون علم هی من قبیل عبادة اللَّه بطریق باطل.

5. الروایات التی تعلم طریق الاجتهاد والاستنباط

أ) یقول عبدالأعلی مولی آل سام: قلت لأبی عبداللَّه الإمام الصادق علیه السلام:

«عَثَرتُ فَانْقَطَعَ ظُفْری فَجَعَلتُ عَلی إِصبَعِی مَرارَةً فَکیفَ أَصْنَعُ بِالوُضوءِ؟ قال علیه السلام: یُعرَفُ هَذا وَأَشباهُهُ مِنْ کِتابِ اللَّهِ «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(2) إمسَح

عَلیهِ»(3).

وهذا الحدیث یبیّن للراوی أنّه إذا رجع فی هذه المسألة للقرآن الکریم فإنّه سیجد جوابها، لأنّه إذا کان المسح علی البشرة غیر مقدور له، فإنّه بحکم قاعدة «لا حرج» المستفادة من الآیة الشریفة لا یسقط أصل المسح، وهذا المعنی لیس سوی تعلیم طریقة الاجتهاد لهذا الراوی.

ب) عن زرارة بن أعین (4) عن أبی جعفر الإمام الباقر علیه السلام قال «

لَا یَنْبَغِی نِکاحُ أهْلِ الکِتَابِ، قلتُ: جُعِلتُ فِداکَ وأینَ تَحرِیمُه- یَعنی مِنَ القُرآنِ- قال: قَولُه:

«وَلَا تُمْسِکُوا بِعِصَمِ الْکَوَافِرِ»(5)»(6).

ویشیر هذا الحدیث إلی کیفیة استخراج الفروع من الآیات القرآنیة.

ج) عن زرارة قال: قلت لأبی جعفر الإمام الباقر علیه السلام:

«إنّ المَسْحَ ببَعضِ الرّأسِ وبَعضِ الرِّجْلَینِ؟

فَضَحِکَ علیه السلام وقال: یا زُرارَة! قالَه رسولُ اللَّه صلی الله علیه و آله، ونَزَل بِه الکِتابُ مِنَ اللَّهِ، لأنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قال:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُم»،

فعَرَفنا أنّ الوَجْهَ کُلّه یَنْبَغِی أن یَغْسِلَه».

ثُمَّ قال:

«وأیْدِیَکُمْ إلی المَرافِقِ»

فَوَصَلَ الیَدَیْنِ إلی المِرْفَقَیْنِ بِالوَجْهِ فَعَرَفْنا أنَّهُ یَنْبَغِی لَهُمَا أن یُغْسَلا إلی المِرْفَقَیْنِ، ثُمّ فَصلَ بَینَ الکَلامِ فَقال:

«وَامْسَحُوا بِرُؤوسِکُم»

فَعَرفْنَا حَیثُ قَالَ:

«بِرُؤوسِکُمْ»

أنَّ المَسْحَ بِبَعْضِ الرّأسِ لِمَکانِ البَاءِ، ثُمّ وَصَل الرِّجْلَیْنِ بِالرّأسِ کَمَا وَصَلَ الْیَدَیْنِ بِالْوَجْهِ فَقَالَ:

«وَ أَرْجُلَکُمْ إلی الکَعْبَیْنِ»(7)

فَعَرَفْنَا حِینَ وَصَلَهُما بِالرّأسِ أنَّ المَسْحَ علی بَعْضِهِما ...»(8).

ونری بوضوح أنّ هذه الروایة فی صدد تعلیل کیفیة الاستنباط والاجتهاد لزرارة، فلو کان الاستنباط غیر جائز، لکان الإمام إمّا أن یقول له: إنّ هذا حکم تعبّدی ولا ینبغی لک السؤال عن دلیله، أو یقول: نحن نفهم من الآیات هذا المعنی ولکن لیس لک الحقّ فی أن تستفید من الآیة کذلک، ولم یعلّمه طریق الاستنباط.


1- وسائل الشیعة، ج 18، ص 10، ح 2.
2- سورة الحجّ، الآیة 78.
3- الکافی، ج 2، ص 33.
4- قال ابن الندیم: کان زرارة من أجلّ الشخصیات الشیعیة فی الفقه والحدیث والعلم بالکلام ومذهب التشیع. اعتبره النجاشی من کبار أصحاب الإمامیة ومن متقدّمیهم فی عصره. وکان قارئاً للقرآن، وفقیهاً، متکلّماً، شاعراً وأدیباً. وقد اجتمع فیه الفضل والدین. وقد روی ما رواه جمیعاً عن الإمام الصادق علیه السلام.( تذکرة الأعیان، ص 24؛ تاریخ آل زرارة، ج 1، ص 24 و ج 1، ص 27 وص 37؛ الفهرست لابن الندیم، ج 1، ص 308؛ رجال النجاشی، ص 175، الرقم 463).
5- سورة الممتحنة، الآیة 10.
6- الکافی، ج 5، ص 358؛ وسائل الشیعة، ج 14، ص 411؛ بحارالأنوار، ج 2، ص 279.
7- سورة المائدة، الآیة 6.
8- الکافی، ج 3، ص 30.

ص: 241

د) عن موسی بن بکر قال:

«قلتُ لأبی عبداللَّه علیه السلام:

الرَّجُلُ یُغْمی عَلَیهِ یَوماً أو یومین أو ثَلاثَة أو أکثَر ذلک، کَم یَقْضِی مِن صَلاتِه؟ فقال: ألَا أُخْبِرُک بِما یَنْتَظِمُ هذا وأشْباهَه؟ فقال: کُلُّ ما غَلَبَ اللَّهُ عَلَیهِ مِن أمْرٍ فَاللَّهُ أعْذَرُ لِعَبْدِهِ وهذا مِن الأبوابِ الّتی یَفْتَحُ کُلُّ بابٍ مِنْها ألف باب»(1).

وطبقاً لهذه الروایة فإنّ الإمام الصادق علیه السلام علّم موسی بن بکر أصلًا کلّیاً بحیث یمکنه استنباط الکثیر من المسائل منه، وهذا لا یعنی سوی «انفتاح باب الاجتهاد» وجواز الاستنباط.

ه) روی «حیّون» أحد أصحاب الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال:

«مَنْ رَدَّ مُتَشابِهَ القُرآنِ إلی مُحْکَمِه هُدِیَ إلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ»

. ثم قال:

«إنَّ فِی أخْبارِنَا مُتَشابِهاً کَمُتَشابِه القُرآنِ وَمُحْکَماً کَمُحْکَمِ القُرآنِ، فَرُدُّوا مُتَشابِهَها إلی مُحْکَمِها وَلا تَتَّبِعوا دونَ مُحْکَمِها فَتَضِلُّوا»(2).

یدلّ هذا الحدیث علی انفتاح باب الإجتهاد بطریقة أخری.

و) وینقل ابن أبی حاتم (3) و «البیهقی» عن «الدئلی»، قال: إنّ عمر بن الخطاب رفعت إلیه امرأة ولدت لستّة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلک علیّاً علیه السلام فقال: لیس علیها رجم، فبلغ ذلک عمر فأرسل إلیه فسأله فقال: قال اللَّه تعالی: « «وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کَامِلَیْنِ»(4) وقال تعالی: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً»(5)

فَسِتَّةُ أشْهُرٍ

حَمْلُهُ، وَحَوْلَینِ، فذلِک ثَلاثونَ شَهْراً، فخَلّی عنها»(6).

وهنا نری أنّ أمیرالمؤمنین الإمام علیّ علیه السلام أبرز کیفیة استخراج الحکم الشرعیّ من خلال الاستدلال بالآیتین، ویتّضح من ذلک أنّه من خلال ضمّ آیات القرآن لبعضها یمکن استنباط الأحکام الشرعیّة، ألیس ذلک بمعنی انفتاح باب الاجتهاد؟

ز) وینقل أبان، عن سلیمان بن هارون أنّه قال:

سمعت الإمام الصادق علیه السلام یقول:

«مَا خَلَقَ اللَّهُ حَلالًا ولا حَراماً إلّاولَهُ حَدٌّ کَحَدِّ الدّارِ، فَما کانَ مِنَ الطَّریقِ فَهُوَ مِنَ الطَّرِیقِ، ومَا کَانَ مِنَ الدّارِ فَهُوَ مِنَ الدّارِ حتّی أرْشُ الخَدْشِ فَما سِواهُ، والجِلْدَةُ ونِصْفُ الجِلْدَةِ»(7).

ألیس المراد من هذه الروایة هو أنّ جمیع جزئیات وتفاصیل الأحکام الشرعیة التی یحتاجها الناس موجودة فی القرآن والروایات الإسلامیة، أو وجود قواعد کلّیة وأصول عامّة فی النصوص الشرعیّة یمکن من خلالها استنباط أحکام المسائل التی لم یرد فیها نصّ! وبدیهیّ أنّ المراد هو الاحتمال الثانی.

ح) ورد عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال فی حجّة الوداع ضمن خطبة له:

«لَیْسَ مِن عَمَلٍ یُقَرِّبُ إلی الجَنَّةِ إلّاوقَد أمَرْتُکُمْ بِه وَلا عَمَلٍ یُقَرِّبُ إلی النّارِ إلّاوقَد نَهَیْتُکُم عنهُ»(8).

ویستفاد من هذا الحدیث أیضاً أنّ أصول وکلّیات


1- بحار الأنوار، ج 2، ص 272.
2- المصدر السابق، ص 185.
3- محمّد بن إدریس الحنظلی المعروف بابن أبی حاتم الذی قال فی حقّه علماء أهل السنّة: کان إماماً حافظاً من مشاهیر العلماء( وذلک بسبب قدرة حفظه وحفظ القرآن والأحادیث) ولذا یسمی بحافظ المشرق.( الکنی والألقاب، ج 1، ص 44).
4- سورة البقرة، الآیة 233.
5- سورة الأحقاف، الآیة 15.
6- تفسیر ابن أبی حاتم، ج 2، ص 429؛ السنن الکبری، ج 7، ص 442؛ الغدیر، ج 6، ص 93.
7- الکافی، ج 1، ص 59.
8- المستدرک علی الصحیحین، ج 2، ص 5. ووردت هذه الروایة فی الکافی، ج 2، ص 74 باختلاف یسیر.

ص: 242

الشریعة قد وضعت بین أیدی المسلمین بحیث یمکنهم استنباط أحکامهم الشرعیّة منها، وإلّا فإنّ جزئیات الأحکام لم ترد فی الأحادیث النبویّة.

ط)

عن أبی عبداللَّه علیه السلام قال: «إنّ اللَّهَ تَبارَک وتَعالی أنْزَلَ فِی القُرآنِ تِبیانَ کُلِّ شَی ءٍ، حتّی واللَّهِ ما تَرَک اللَّهُ شَیْئاً یَحْتَاجُ إلَیهِ العِبادُ، حتّی لا یَسْتَطِیعُ عَبدٌ یقول: لَو کانَ هذا انزِلَ فِی القُرآنِ إلّاوقَد أنْزَلَهُ اللَّهُ فِیهِ»(1).

ویستفاد من هذا الحدیث أیضاً أنّ جمیع الأحکام وردت فی القرآن الکریم بشکل أصول کلّیة یمکن استنباط الأحکام الشرعیّة منها.

ی) عن حمّاد، عن أبی عبداللَّه الإمام الصادق علیه السلام قال:

«ما مِنْ شَی ءٍ إلّاوفِیهِ کِتابٌ أو سُنَّةٌ»(2).

وبدیهیّ أنّ جواب کلّ مسألةٍ فرعیة من الفروع التی تحتاجها الأُمّة لم یرد فی القرآن والسنّة، بل کما تقدّم آنفاً، وردت أصول کلیّة یمکن استخراج الأحکام الشرعیة منها فی الموارد التی لم یرد فیها نصّ. وعلی هذا الأساس فإنّه یجوز الاجتهاد فی مسائل الدّین، وأنّ باب الاجتهاد مفتوح.

ک) عن سماعة، عن الإمام الکاظم علیه السلام قال: قلت له:

أکُلّ شی ءٍ فی کتاب اللَّه وسنّة نبیّه صلی الله علیه و آله؟ أو تقولون به؟

قال:

«بَلْ کُلُّ شَی ءٍ فی کتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ نَبیِّه»(3).

وهذا الحدیث أیضاً یقرّر- کسائر الأحادیث الواردة- أنّ جمیع الأحکام الشرعیة وردت فی القرآن والسنّة، ولکن المراد هو الأصول الکلیّة التی ینبغی استنباط الأحکام الجزئیة منها.

6. الروایات ودورها فی حلّ التعارض بین الأحادیث

من الأدلة التی یمکن إقامتها علی انفتاح باب الاجتهاد فی کلّ عصر وزمان، الروایات التی تبیّن الحلّ لمشکلة التعارض بین الأخبار، لأنّه لو لم یکن الاجتهاد والاستنباط مجازاً، لما کان معنی لإراءة حلّ لمشکلة التعارض فی الأحادیث.

وببیان آخر: إنّ أئمّتنا لم یُعلِّموا أتباعهم طریق استنباط الأحکام من الکتاب والسنّة فحسب، بل بیّنوا لهم طریقة الاستنباط فی موارد تعارض الروایات، ونشیر هنا إلی بعض هذه الروایات.

یروی محمّد بن أبی عمیر(4) عن عبدالرحمن بن أبی عبداللَّه عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إذا وَرَدَ عَلَیْکُم حَدِیثانِ مُخْتَلِفان فَاعرِضُوهُما علی کتابِ اللَّهِ، فَما وافَقَ کِتابَ اللَّهِ فَخُذوهُ ومَا خَالَفَ کِتابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ»(5).

فهذا الحدیث وأمثاله یبیّن طریق الاجتهاد والاستنباط فی موارد وجود أحادیث مختلفة وهذا یدلّ علی انفتاح باب الاجتهاد.

وقد جمع الشیخ الحرّ العاملی هذه الأحادیث فی باب واحد من المجلد 18 من کتاب وسائل الشیعة.

وذکر فی هذا الباب الذی یحوی 47 حدیثاً، أحادیث متعدّدة فی حلّ التعارض بین الأحادیث، ولا یسع هذا البحث استعراضها هنا بأجمعها.


1- الکافی، ج 1، ص 59.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق، ص 62.
4- محمّد بن أبی عمیر أوثق الناس عند الخاصّة والعامّة وأنسکهم نسکاًوأورعهم وأعبدهم وأدرک أبا الحسن موسی( الإمام موسی الکاظم والإمامین بعده علیهم السلام وکان من أصحاب الإجماع، جلیل القدر عظیم الشأن وأصحابنا یسکنون إلی مراسیله لأنّه لا یرسل إلّاعن ثقة. قیل فی حقّه: إنّه أفقه من یونس وأفضل وأصلح.( الکنی والألقاب، ج 1، ص 199 و 200).
5- وسائل الشیعة، ج 18، ص 84، ح 29، الباب 9 من أبواب صفات القاضی.

ص: 243

7. أدلّة القائلین بالإنفتاح من أهل السنّة

اشارة

بالرغم من أنّ أغلب أهل السنّة یقولون بانسداد باب الاجتهاد، ولکنّ جماعة من علمائهم المعروفین یعتقدون بانفتاح باب الاجتهاد، ومازال القائلین بالانفتاح منهم یزدادون باستمرار.

أمّا أهم الأدلّة التی استدلّوا بها علی هذا القول فهی:

أ) إنّ الاجتهاد یعتبر فریضة دینیة

وهکذا ینقل الصنعانی فی کتاب «إرشاد النقاد»:

«یقول أبو الحسن علیّ بن محمّد الماوردی (1): إنّ التقلید یختلف باختلاف أحوال الناس بسبب توفّر عوامل الاجتهاد أو عدمها، لأنّ طلب العلم واجب کفائیّ، فإذا منع جمیع الناس من التقلید وکلّفوا بالاجتهاد وکان العلم واجباً علی الجمیع من طریق الاجتهاد، فهذا یؤدّی إلی اختلال النظام، وإذا کان الجمیع مقلّدین فإنّ الاجتهاد سیتعرّض للزوال والاضمحلال ویسقط وجوب تحصیل العلم، وبالتالی یؤدّی إلی تعطیل الشریعة وزوال العلم، وعلی هذا الأساس فالاجتهاد واجب کفائیّ»(2).

ویبدو أنّ مقصود «الماوردی» هو الاجتهاد فی المسائل موردالحاجة والابتلاء ممّا لم یرد فی فتاوی الأئمّة الأربعة، وأنّ تعطیل الاجتهاد فیها یؤدّی إلی تعطیل الشریعة.

ویقول فی مکان آخر من هذا الکتاب:

«إنّ الإجتهاد من الواجبات الدینیة والشعائر الإسلامیة، الذی یستمرّ إن شاء اللَّه مع استمرار الوقائع والحوادث، ولاینتهی بتغیّرالظروف ولایزول بمرورالزمان، ولا یختصّ بعصر معیّن، بل هو هدیّة ربّانیة عامّة»(3).

وهذه العبارة تشیر إلی أنّ أدلّة جواز الاجتهاد عامّة ولا یمکن تحدیدها بزمن خاصّ.

ب) خلود الإسلام والحاجة المستمرّة للأحکام الدینیة

یقول أبوإسحاق إبراهیم بن موسی الشاطبی (4):

«إنّ حوادث الحیاة البشریة لا تتّحدد بإطار معیّن، فلا یصحّ إدخالها تحت أدلّة منحصرة ومحدّدة، ولذلک نحتاج إلی فتح باب الاجتهاد عن طریق القیاس وغیر القیاس».(5)

وبالطبع فهذا الکلام یتوافق مع عقیدة القائلین بالقیاس وأمثاله، ولکنّنا نعتقد بأنّ عمومات الکتاب والسنّة والقواعد الکلّیة فیهما، والتی تتمیّز بالسعة والشمولیة من کلّ جهة، بإمکانها أن تمنح المجتهد إجابات وافیة لجمیع المسائل المستحدثة.

ج) صیانة وحفظ الکتاب والسنّة

وجاء فی کتاب «إرشاد النقاد»:

«إنّ سدّ باب الاجتهاد علی العلماء الجدیرین، کان من آثار التقلید السیّئة التی أصابت الامّة، ویقول


1- علی بن محمّد الماوردی، أقضی القضاء، کان من وجوه الفقهاء الشافعیة. وله مصنفات، منها، کتاب أدب الدین والدنیا، الاقناع، والحاوی وتفسیر القرآن. توفّی آخر سنة 450 الهجری القمری.( الکنی والالقاب، ج 3، ص 134).
2- إرشاد النقاد، ص 25- 29.
3- المصدر السابق، ص 45.
4- أبوإسحاق إبراهیم بن موسی الشاطبی، الأصولیّ، المفسّر، المحدّث واللغویّ صاحب الاعتصام والموافقات والمجالس. والشاطبی نسبة إلی شاطبة، بلد بالمغرب بشرف الأندلس.( الکنی والألقاب، ج 2، ص 347).
5- ارشاد النقاد، ص 35.

ص: 244

الشوکانی (1): إنّ هذه المقولة، یعنی انسداد باب الاجتهاد ولزوم التقلید، لو لم تطرح فإنّ الاجتهاد کافٍ لجمیع الأمور، إنّ انسداد باب الاجتهاد هو مسألة من شأنها تعطیل الشریعة ونسخ کلام اللَّه ورسوله وتقدیم کلام غیر اللَّه ورسوله علیهما»(2).

ویستفاد من هذا الکلام أنّه لولم یکن هناک اجتهاد للزم نسخ وتبدیل کلام اللَّه وکلام رسوله صلی الله علیه و آله؛ لأنّ ظاهر الآیات القرآنیة والأحادیث النبویّة هو أنّ الجمیع لهم الحقّ فی فهم المسائل الإسلامیة والتدبّر والاجتهاد فیها، فإذا نهی البعض عن الاجتهاد وممارسة عملیة الاستنباط، فهو فی الواقع یخالف عمومیّة الکتاب والسنّة، وبالتالی یفضی إلی تقدیم کلام هذا وذاک علی کلام اللَّه ورسوله.

د) شهادة أئمة المذاهب الأربعة علی الانفتاح

إنّ أئمّة المذاهب الأربعة أنفسهم یقولون بصراحة بأنّ فتاوانا لا تمثّل آخر معرفة فی الدّین، بل إنّ لکلّ شخص الحقّ بمراجعة الأدلّة وإبداء نظره، سواء کان متطابقاً مع فتوانا أو لا، ونلفت النظر هنا إلی بعض ما جاء فی کلماتهم.

یقول أبوحنیفة:

«حرام علی من لم یعرف دلیلی أن یفتی بکلامی»(3).

ویقول أیضاً:

«إذا قلتُ قولًا یخالف کتاب اللَّه تعالی وخبر الرّسول، فاترکوا قولی»(4).

ویقول مالک بن أنس (5):

«إنّما أنا بشر أخطی ء وأصیب، فانظروا فی رأیی فکلّ ما وافق الکتاب والسنّة فخذوه، وکلّ ما لم یوافق الکتاب والسّنة فاتْرکوه»(6).

ویقول الإمام الشافعی:

«إذا وجدتم فی کتابی خلاف سنّة رسول اللَّه فقولوا بسنّة رسول اللَّه ودعوا ما قلت»(7).

ویقول فی مکان آخر:

«إذا رأیتمونی أقول قولًا وقد صحّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله خلافه فاعلموا أنّ عقلی قد ذهب»(8).

ویقول أحمد بن حنبل:

«لا تُقلّدْنی ولا تُقلِّد مالکاً ولا الشّافعی ولا الأوزاعی ولا الثوری وخذ من حیث أخذوا»(9).

ویقول فی مکان آخر:

«رأی الأوزاعی ورأی مالک ورأی أبی حنیفة کلّه


1- محمّد بن علیّ بن محمّد بن عبداللَّه المعروف بالشوکانی، کان فاضلًاماهراً یدرّس ویفتی ویؤلّف وکانت تبلغ دروسه فی الیوم واللیلة إلی نحو ثلاثة عشر. وله کتاب إرشاد الفحول والدرّ النضید. توفّی سنة 1250، ق. والشوکانی نسبة إلی شوکان حصن بالیمن.( الکنی والالقاب، ج 2، ص 371- / 372).
2- ارشاد النقاد، ص 5- 29.
3- نقل هذه الجملة ابن عبدالبر فی الانتقاء فی فضائل الثلاثة الائمّة الفقهاء، ص 145، وابن قیّم فی اعلام الموقعین، ج 2، ص 309 و ابن عابدین فی حاشیته علی البحر الرائق، ج 6، ص 293 وفی رسم المفتی، ج 7، ص 29 و 30 والشعرانی فی العهود المحمّدیة، ص 634.
4- نقل هذا الکلام ابن عبدالبر فی کتاب جامع بیان العلم وفضله، ج 2، ص 32 و ابن حزم فی أصول الأحکام، ج 6، ص 149 وإیقاظ الهمم، ص 62.
5- مالک بن أنس بن مالک المدنیّ، الفقیه وأحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة( المدینة) قال عبدالرزاق فیه: کان ثقةً مأموناً ثبتاً ورعاً فقیهاً عالماً حجّة.( تهذیب التهذیب، ج 10، ص 5- 7).
6- الإحکام لابن حزم، ج 6، ص 790؛ تهذیب التهذیب لابن حجر، ج 10، ص 8.
7- ذم الکلام، ج 3، ص 47، ح 1؛ تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر، ج 51، ص 386.
8- أورده أبوالقاسم السمرقندی فی الأمالی. تاریخ مدینة دمشق، ج 51، ص 387.
9- أعلام الموقعین، ج 2، ص 201.

ص: 245

رأی، وهو عندی سواء وإنّما الحجّة فی الآثار»(1).

النتیجة:

وبالإمکان تلخیص ما تقدّم بالقول: إنّه بالرغم من أنّ باب الاجتهاد کان مسدوداً لدی جماعة من أهل السنّة ولأسباب مختلفة، ولکن فی هذا العصر یمکن القول: إنّ المجامع العلمیة لأهل السنّة أیضاً تری انفتاح باب العلم والاجتهاد، رغم أنّ جماعة منهم یتعاملون مع فتاوی أئمّة المذاهب الأربعة من موقع الاحترام والعمل ولا یفتون علی خلاف نظرهم، ولکنّهم فی المسائل التی لم ترد فیها فتوی من أحد الأئمّة الأربعة، وهی مسائل کثیرة جدّاً، فإنّهم یتحرّکون معها من موقع الاجتهاد ویستنبطون حکمها من القرآن والأحادیث الشریفة وغیرها، ولکن لا ینبغی الغفلة عن أنّ رائد مقولة انفتاح باب الاجتهاد هم فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام.

الفصل الرابع: النظریات الجدیدة و الإنفتاح المطلق لباب الإجتهاد

اشارة

ونشیر فی هذا الفصل ابتداءً إلی أصل هذه النظریّات ثمّ نستعرض أدلّة أصحابها:

إنّ بعض علماء أهل السنّة وخاصّة فی العصر الأخیر یعتقدون بأنّ للمجتهدین الحقّ فی الاجتهاد فی جمیع المسائل والوقائع، سواء کانت هناک فتوی من الأئمّة الأربعة أم لم تکن.

وفیما یلی بعض هذه الآراء والأقوال:

1. یقول محمّد سعید البانی:

«لا دلیل أصلًا علی سدّ باب الاجتهاد وإنّما هی دعوی فارغة وحجّة واهنة أوهن من بیت العنکبوت، لأنّها غیر مستندةٍ إلی دلیلٍ شرعیٍّ أو عَقلیٍّ»!

وقال أیضاً:

«إنّ الإجتهاد الیوم ممکن بتمام معناه ولا مشکلة فیه، بشرط أن نزیح عنه الأوهام والخیالات وما تراکم علی عقولنا وقلوبنا من القدماء، وطرد فکرة عدم التمکّن من الوصول إلی ما توصّل إلیه القدماء، فهل بعد الصعود إلی الفضاء واختراع الأجهزة والوسائل الحدیثة یبقی الاجتهاد محالًا؟(2)

ویظهر من هذا الکلام أنّ القائلین بسدّ باب الاجتهاد یعتقدون أنّ الإنسان المعاصر لا یملک القدرة علی التفکیر فی مجال الاستنباط.

2.

«إنّ الإنسان المحقّق لا یتّبع إلّاما توصّل إلیه بالدلیل، ولا یعتمد علی غیره، وباب الاجتهاد مفتوح تماماً لمن یملک القدرة علیه، ولو استطاع شخص الاجتهاد فی باب من أبواب الفقه دون الآخر جاز له التقلید فی القسم الذی لا یقدر فیه علی الاجتهاد، وفی الموارد التی یکون فیها قادراً علی الاجتهاد، فلا یجوز التقلید»(3).

ستفاد من هذا الکلام مضافاً إلی فتح باب الاجتهاد أنّ المجتهدین فی بعض الأبواب الفقهیة لا یجوز لهم التقلید بمقدار ما یمکنهم الاجتهاد.

3. وجاء فی کتاب «الموافقات»:

«لابدّ من الاجتهاد فی کلّ زمانٍ، لأنّ الوقائع المفروضة لا تختصّ بزمانٍ دون زمانٍ»(4).

وهذا الکلام صریح فی أنّ باب الاجتهاد مفتوح.


1- جامع بیان العلم وفضله لابن عبدالبر، ج 2، ص 149.
2- إرشاد النقاد، ص 41.
3- المصدر السابق، ص 44.
4- الموافقات، ج 4، ص 104؛ إرشاد النقاد، ص 35.

ص: 246

4. وجاء فی کتاب «إرشاد النقاد»(1):

«ویقول الدکتور حسن أحمد مرعی: أعتقد بأنّ الاجتهاد واجب کفائیّ، لأنّ الناس یحتاجون فی حیاتهم الدنیویة لمعرفة الأحکام الشرعیّة لیعیشوا فی ظلّ الدین، فلو قلنا أنّه لا یوجد مجتهد فی هذا الزمان فکیف نفسّر کلّ هذه الاجتهادات لفقهاء العالم الإسلامیّ، أحدها فی القاهرة والآخر فی لاهوروالثالث فی مکة والریاض؟!».

وعلی هذا الأساس، فإنّه لیس فقط الدکتور حسن أحمد مرعی یری باب الاجتهاد مفتوحاً، بل یعتقد أنّ المعاصرین له یرون انفتاح باب الاجتهاد فی موارد مختلفة.

5. ویقول فی مکان آخر من هذا الکتاب:

«وإنّه من المسلّم أنّ الاجتهاد من الواجبات الدینیة والشعائر الإسلامیة، ولا بدّ من استمرار عملیة الاجتهاد حسب الوقائع والحوادث، ولا ینتهی الاجتهاد بتغییر الظروف ولا یصبح قدیماً بمرور الزمان ولا یختصّ بعصر دون عصر، بل هو هدیة إلهیّة عامّة، وعلی هذا الأساس یجب أن نعلم أنّ الاجتهاد ممکن فی أیّة حال، لأنّ غیر الممکن هو ما یخرج عن قدرة الإنسان، والاجتهاد فی المسائل الفقهیة والبحث فی الأحادیث النبویّة وتشخیص الحدیث من جهة الصحّة والحسن والضعف مطلوب شرعاً، وتحصیل ذلک یعتبر واجباً کفائیاً علی العلماء، وإذا کان اللَّه قد أوجب هذا الشی ء فی حین أنّه غیر ممکن، فلازمه القول بأنّ اللَّه تعالی أمر بشی ء خارج عن قدرة الإنسان، فی حین أنّ اللَّه تعالی یقول: «لَایُکَلِّفُ اللَّهَ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ...»»(2).

6. وأخیراً فی مؤتمر «الفقه المقارن الذی أقیم فی مدینة قمّ، فإنّ الدکتور النعیمی وهو من خبراء وعلماء المذهب الشافعیّ، تحدّث عن المذهب الشافعیّ والفقه المقارن وقال فی مجال تغییر الفتاوی بحسب الأزمنة والأمکنة والحالات نحن لا نعتقد أنّ الإمام الشافعی ذکر جمیع المسائل المستحدثة فی القرن الحادی والعشرین، بل نعتقد بضرورة وجود مجتهدین لکل مذهب فی کلّ عصر وأن یکونوا أحیاء وعارفین بعرف وعادة الناس.

ویقول الدکتور النعیمی مؤکّداً: لا یمکن القول بأنّه:

«لا رطب ولا یابس إلّافی کتاب الشّافعیّ»

فهذا غیر معقول، حیث یوجد علماء فی هذا العصر ربّما یکونوا أعلم من الشافعیّ. إنّ «النووی» الذی یعتبر أکبر عالم فی المذهب الشافعیّ یصرّح فی موارد عدیدة من «المجموع»:

«إنّ الإمام الشافعیّ قد أخطأ فی هذه المسألة»(3).

خلاصة البحث:

1. علی الرغم من اصرار جماعة من المتعصّبین علی انسداد باب الاجتهاد فی جمیع المسائل، أو فی خصوص المسائل التی أفتی بها فقهاء أئمّة المذاهب الأربعة، فإنّ جماعة من العلماء والفقهاء المعروفین من أهل السنّة یعتقدون بانفتاح باب الاجتهاد فی جمیع المسائل علی الفقهاء.

2. إنّ القائلین بالإنسداد المطلق، لم یقدّموا حلّاً معقولًا وجواباً شافیاً للمسائل المستحدثة التی کانت موجودة فی السابق.

3. إنّ أدلّة القائلین بانسداد باب الاجتهاد ضعیفة جدّاً فی مقابل عمومات الکتاب والسنّة والخطابات


1- ارشاد النقاد، ص 41 وما بعدها.
2- سورة المؤمنون، الآیة 62.
3- مجلة أفق للحوزة العلمیة قم، الرقم 36( بالفارسیّة).

ص: 247

القرآنیة المطلقة؛ لأنّ ظاهر آیات القرآن والأحادیث النبویّة أنّ للجمیع الحقّ فی التدبرّ فی المسائل الإسلامیة (مع توفّر مقدّمات الاجتهاد) وإذا تحرّکنا علی مستوی نهی جماعة من الناس عن الاجتهاد، فإنّنا فی الواقع خالفنا شمولیة الکتاب والسنّة.

4. إنّ شهادة الأئمّة الأربعة علی نفی انحصار الاجتهاد، شاهد بیّن علی انفتاح باب الاجتهاد.

5. إنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام بصورة عامّة وفی جمیع الأعصار کانوا من القائلین بفتح باب الاجتهاد فی کلّ عصر وزمان.

6. إنّ أتباع هذه المدرسة، مضافاً إلی قولهم بعدم جواز التقلید الابتدائیّ للمیّت، یوجبون تقلید الفقیه الحیّ، حیث یدلّ بوضوح علی أنّ علماء کلّ عصر فی الحقیقة وارثون للعلماء السابقین، مضافاً إلی ما توصّلوا إلیه من علوم جدیدة فی تحقیقاتهم ودراساتهم. وهذا یعنی أنّهم أعرف من السابقین بحقیقة أحکام الإسلام.

7. إنّ القول بانسداد باب الاجتهاد تسبّب فی رکود الحرکة الفقهیة والتخلّف عن مسائل العصر، وحیرة المسلمین فی المسائل المستحدثة، بخلاف القول بفتح باب الاجتهاد الذی یؤدّی إلی تطویر وترشید حرکة الفقه فی جمیع الأبعاد.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. أجود التقریرات، آیة اللَّه السید أبوالقاسم الخوئی، تحقیق ونشر مؤسّسة صاحب الأمر (عجّل اللَّه تعالی فرجه الشریف)، قم، الطبعة الأولی 1419 ق.

4. الإحکام فی أصول الأحکام، الآمدی، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الأولی، 1404 ق.

5. الاختصاص الشیخ المفید، نشر جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة قم، تحقیق علی أکبر الغفاری.

6. إرشاد النقاد إلی تیسیر الاجتهاد، محمّد بن إسماعیل الصنعانی، الکویت، 1405 ق.

7. أصحاب الفتیا من الصحابة والتابعین، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1415 ه، بیروت.

8. الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقی الحکیم، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الأولی، 1390 ق.

9. الأعلام، خیر الدین الزرکلی، دارالعلم للملایین، بیروت، الطبعة الخامسة.

10. أعلام الموقّعین، محمّد بن أبی بکر (ابن قیّم الجوزیّة)، دارالجیل، بیروت، 1973 م.

11. أعیان الشیعة، السیّد محسن الأمین، دارالتعارف للمطبوعات، بیروت، 1403 ق.

12. أوائل المقالات، الشیخ المفید، تحقیق إبراهیم الأنصاری الزنجانی، دارالمفید، بیروت، الطبعة الثانیة، 1404 ق.

13. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

14. تاریخ أسماء الثقات، عمر بن أحمد أبوحفص الواعظ، تحقیق صبحی السامرائی، الدار السلفیّة، الکویت، الطبعة الأولی 1404 ق.

15. تأسیس الشیعة لفنون الإسلام، السیّد حسن الصدر، شرکة النشر والطباعة العراقیة المحدودة.

16. تحریر تقریب التهذیب، الدکتور بشار عواد معروف-

ص: 248

الشیخ شعیب ارنوط، مؤسسة الرسالة، بیروت، الطبعة الأولی

17. تفسیر القرآن العظیم (تفسیر ابن أبی حاتم) عبدالرحمن بن محمد بن ادریس بن أبی حاتم، تحقیق اسعد بن محمد الطیّب، المکتبة العصریة مکة المکرمة، الطبعة الثالثة، 1424 ق.

18. تنقیح المقال، العلّامة الشیخ عبداللَّه المامقانی، انتشارات مرتضویّة، النجف الأشرف.

19. تهذیب التهذیب، أحمد بن علیّ بن حجر العسقلانی، دارالفکر، الطبعة الأولی 1404 ق.

20. الثقات، محمّد بن حبّان، دارالفکر، الطبعة الأولی 1395 ق.

21. خورشید فقاهت، علی کریمی الجهرمی.

22. الذریعة، العلّامة الشیخ آقا بزرگ الطهرانی، دارالأضواء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

23. رجال النجاشی، انتشارات دارالاضواء، بیروت، الطبعة الأولی 1408 ق.

24. السنن الکبری، البیهقی، دار الفکر.

25. سیر أعلام النبلاء، شمس الدین محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبی، بیروت، دار الفکر، 1417 ق.

26. سیمای فرزانگان، آیة اللَّه الشیخ جعفر السبحانی، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، الطبعة الأولی 1379 ش.

27. شذرات الذهب، أبوالفلاح عبدالحیّ بن العماد الحنبلی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

28. العهود المحمدیة، الشعرانی، نشر مصطفی الیابی الحلبی وأولاده بمصر، الطبعة الثانیة، 1393 ق.

29. الغدیر، العلّامة الأمینی، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1398 ق.

30. الفقه علی المذاهب الخمسة، محمّد جواد مغنیة، الطبعة الثامنة، 1402 ق.

31. قاموس الرجال، للعلّامة محمد تقی التستری، انتشارات جامعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة قم، الطبعةالثانیة، 1410 ق.

32. القول المفید، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی، تحقیق عبدالرحمن عبدالخالق، دارالقلم، الکویت، الطبعة الأولی 1396 ق.

33. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

34. کنزالعمّال، المتّقی الهندی، مؤسّسةالرسالة، بیروت، 1409 ق.

35. الکنی والألقاب، الشیخ عباس القمّی، انتشارات مکتبة الصدر، الطبعة الخامسة.

36. لسان المیزان، أحمد بن علیّ بن حجر العسقلانی، مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، الطبعة الثانیة، 1390 ق.

37. مرآة الجنان فی تاریخ مشاهیر الأعیان (تاریخ الیافعی)، طبعة الهند (حیدرآباد الدکن)، 1338 ق.

38. المراجعات، السیّد عبدالحسین شرف الدین العاملی، مؤسسة الأعلمی، بیروت.

39. المستدرک علی الصحیحین، محمّد بن عبداللَّه (الحاکم النیسابوری) دارالکتب العلمیة.

40. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الأولی 1415 ق.

41. المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری، مؤسّسة النور للمطبوعات، الطبعة الأولی 1410 ق.

42. الموافقات، إبراهیم بن موسی الشاطبی، تحقیق عبداللَّه دراز، دارالمعرفة، بیروت.

43. الموسوعة الفقهیة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیّة، مطبعة دار الصفوة، الکویت، 1414 ق.

44. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الرابعة، بیروت، 1391 ق.

ص: 249

10

القسم العاشر: دور الزمان و المکان فی عملیة الإستنباط

اشارة

الزمان والمکان وتأثیرهما فی عملیّة الاستنباط

- التعاریف

- تأثیر الزمان والمکان فی آراء کبار الفقهاء

- دائرة التأثیر

- طریقة تأثیر الزمان والمکان

- نتائج التأثیر

شبهات وعلامات الإستفهام

ص: 250

ص: 251

دور الزمان و المکان فی عملیة الإستنباط

مقدّمة:

نحن المسلمون نعتقد بأنّ الإسلام دین شمولیّ وجامع، وبإمکانه أن یُلبّی جمیع حاجات الإنسان المادّیة والمعنویّة، الفردیة والاجتماعیة، ویجیب عن جمیع أسئلة السائلین، حیث یقول القرآن الکریم: «مَا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَیْ ءٍ»(1) «وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِّکُلِّ شَیْ ءٍ»(2).

فتعبیر ب «من شی ء» و «لکلّ شی ء» دلیل واضح علی هذه الشمولیة.

وهذا الکلام لا یعنی- کما یتصوّر البعض- أنّ جمیع العلوم الطبیعیة والمادّیة وردت فی القرآن الکریم، وعلی سبیل المثال، فإنّ آیة: «انطَلِقُوا إِلَی ظِلٍّ ذِی ثَلَاثِ شُعَبٍ»(3) الواردة فی أهل النار فی القیامة هی إشارة إلی علم الهندسة، وآیة: «وَطَفِقَا یَخْصِفَانِ عَلَیْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ»(4) التی تتحدّث عن آدم وحوّاء هی إشارة إلی مهنة الخیاطة، وآیة: «فِیهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ»(5) التی تتحدّث عن العسل، هی إشارة إلی علم الطبّ، وآیة: «کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنکاثاً»(6) التی تتحدّث عن امرأة ساذجة کانت تعیش فی عصر الجاهلیة وکانت تغزل خیوط الصوف ثمّ تنقضها، هی إشارة إلی علم الحیاکة وصناعة النسیج، وأمثال ذلک کما ذکر ذلک جلال الدین السیوطی فی کتابه «الإتقان»(7).

فی حین أنّ وجود کلّ شی ء فی القرآن یعنی تلک الأمور التی تتّصل بالإیمان والتربیة والأخلاق والعلاقات الاجتماعیة السلیمة العادلة وما یفضی إلی تکامل البشر فی حرکة الحیاة والواقع.

وبالطبع إنّ دعوة القرآن إلی کسب العلم والمعرفة یعدّ من أکبر مفاخر البشریة، وبإمکانه أن یدفع حرکة العلوم البشریة إلی حیث التقدّم والتکامل فی جمیع المجالات، لا أنّ أصول وفروع علم الهندسة والخیاطة والحیاکة و ... وردت فی القرآن الکریم.

ومن جهة أخری نعلم أن التشریع الإسلامیّ یقوم


1- سورة الأنعام، الآیة 38.
2- سورة النحل، الآیة 89.
3- سورة المرسلات، الآیة 30.
4- سورة الأعراف، الآیة 22.
5- سورة النحل، الآیة 69.
6- سورة النحل، الآیة 92.
7- الاتقان فی علوم القرآن، ج 4، ص 28- 40.

ص: 252

علی أساس المصالح والمفاسد، ومن ینکر وجود المصالح والمفاسد فی الأحکام الشرعیة فهو فی الواقع یتحرّک فی الخطّ المعاکس للبدیهیات. وکذلک نعلم أنّ المصالح والمفاسد الفردیة والاجتماعیة تتغیّر مع مرور الزمان واختلاف الأمکنة، کما هو الحال فی ما نراه فی دائرة القوانین البشریة رغم وجود بون شاسع بینهما.

ومن جهة ثالثة، فإنّ الإسلام الذی یملک الشمولیة والمرونة والعمق فی أحکامه، یستوجب أیضاً أن یلاحظ فی مجمل تشریعاته تأثیرات الزمان والمکان فی الأحکام، لأنّ الموضوعیة والعمق والشمولیة تستوجب لحاظ الظروف لآلاف السنین وأشکال التحرّک البشری فی سلّم التطوّر الحضاریّ والثقافیّ.

إنّ کلّ هذه المتغیّرات یجب أن تنسجم وتتناسب بشکل معجز مع ثبات أصول الأحکام، التی تتوافق وتتناغم مع الفطرة الإنسانیة الثابتة، وهنا یکمُن السرّ الکبیر.

إنّ قسماً مهمّاً من هذا (السرّ) قد بُحث فی دائرة تأثیر عنصر الزمان والمکان فی استنباط الأحکام الشرعیّة.

الفصل الأوّل: الزمان و المکان و تأثیر هما فی عملیة الإستنباط

الأمر الأوّل: التعاریف

(ما هو المراد من الزمان والمکان والمقصود من تأثیرهما)

إنّ تعریف الزمان والمکان یختلف باختلاف العلوم وینبغی فی مجال التعریف أن یلحظ موضوع العلم فیه.

أمّا فی اللغة، فإنّ الزمان یأتی بمعنی (الوقت) والمکان بمعنی (الموضوع والمحلّ)(1)، وأمّا علی المستوی العلمیّ فالزمان عبارة عن مقدار الحرکة الوضعیة للأرض، حیث یتمّ قیاسه بمنتصف النهار، والمکان الهندسیّ هو الشکل الذی تملک جمیع نقاطه خاصّیة معیّنة، والنقاط الخارجة عنه فاقدة لهذه الخصوصیة. وببیان آخر إنّ مجموع النقاط التی تشترک فی خصوصیة معلومة ومشخّصة یقال عنها (مکان هندسیّ)(2).

وأمّا من زاویة فلسفیة، فطبقاً لرأی أکثر الفلاسفة فالزمان أمر واقعیّ وحقیقیّ، وهو عبارة عن مقدار الحرکة، وحتّی بالنسبة للمتأخّرین من الفلاسفة الإسلامیین، فالزمان فی نظرهم هو البعد الرابع للمادّة(3).

ومع الالتفات إلی هذه التعاریف المذکوة، فلا شکّ فی أنّ الزمان والمکان فیما یتعلّق بموضوعنا، لا یقصد بهما الزمان والمکان بمعناهما العلمیّ والفلسفیّ، لأنّ الزمان والمکان هما من الأمور التکوینیة والخارجة عن ذات الإنسان، ولا شکّ فی أنّه لا یمکنها أن تؤثّر فی الفتوی وعملیة استنباط الأحکام.

وکذلک لابدّ من القول: إنّ الزمان والمکان بالمعنی السائد فی العرف، وإن أمکن تأثیرهما فی الأحکام والموضوعات والملاکات، وذلک مثلًا أن یؤخذ الزمان أحیاناً کشرط للوجوب (حلول شهر رمضان لوجوب الصوم) وأحیاناً للواجب (حلول شهر ذی الحجّة لوجوب الحجّ) ولکنّ هذا المعنی للزمان والمکان لیس هو محلّ البحث، بل مرادنا من الزمان والمکان خصوصیات کلّ عنصر وکلّ جوّ ومحیط اجتماعیّ یمکنه أن یؤثّر علی الموضوعات والأحکام، أو یکون تأثیره بشکل قرینة حالیّة فی مفاهیم النصوص. وببیان


1- لسان العرب، ج 6، ص 86، مادّة« زمن».
2- لغت نامه دهخدا، مادّة« مکان»( بالفارسیة).
3- نهایة الحکمة، ج 1، ص 273.

ص: 253

آخر وأکثر شمولیة: إنّ تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الاستنباط یمکن تصوّره بثلاثة أنحاء:

ألف) تأثیر زمان ومکان النزول، أو الصدور: فمن أجل استنباط الحکم من النصوص یجب ملاحظة جمیع القرائن اللفظیة والعقلیة، المتّصلة والمنفصلة. ومن الواضح أنّ فضاء نزول آیة من القرآن أو فضاء صدور روایة شریفة والظروف الزمانیة والمکانیة المقترنة معها والجوّ الحاکم فی زمان نزول أو صدور النصّ، یعدّ أحد القرائن العقلیة المتّصلة.

ب) تأثیر زمان ومکان استنباط الفقیه فی معرفة موضوع الحکم: فلا شکّ فی أنّ الزمان أو المکان الذی یستنبط فیه الفقیه الحکم الشرعی، له تأثیر فی تعیین وتشخیص الموضوع لذلک الحکم، ویتسبّب بأن یصل الفقیه إلی هذه النتیجة، وهی أنّ لعب الشطرنج حلال، لأنّ الشطرنج فی هذا الظرف الزمانی أو المکانی لا یعدّ من مصادیق القمار الذی هو الموضوع الدقیق للحکم بالحرمة، أو مثلًا ما ورد فی الآیة الشریفة: «وَأَمْرُهُمْ شُورَی بَیْنَهُمْ»(1) حیث أمرت الآیة المسلمین باتّخاذ سبیل المشورة والاعتماد علی الآراء فی إدارة المجتمع، وکما نری أنّ موضوع المشورة یتغیّر بالتناسب مع عرف المجتمعات البشریة، وقد تبدّل من الحالة البسیطة والساذجة التی کان علیها فی السابق إلی نظام مدوّن وبشکل مقرّرات منظمّة بحیث أنّ تحصیل رأی الناس فی الاطروحات الأساسیة للمجتمع أمر إلزامیّ فی هذا العصر، ومن الواضح أنّ السیر الصعودیّ لتحوّلات المجتمعات البشریة والتکامل العقلانی لها، یقتضی مصادیق جدیدة أکثر تناسباً لموضوع المشورة.

ج) تأثیر الزمان والمکان فی تأمّلات الفقیه فی النصوص: إنّ الظروف الزمانیة والمکانیة لربّما تؤدّی إلی أن ینظر الفقیه إلی النصوص الشرعیة بنظرة جدیدة، مثلًا أنّ تشکیل الحکومة الدینیة واستلام الفقیه لزمام الحکم وقیادة الأُمّة وما یقتضیه المجتمع من حاجات کثیرة فی هذا العصر، یتسبّب أن ینظر هذا الفقیه القائد بدقّة ونظرة جدیدة للنصوص الدینیة التی تتّصل بأمر الحکومة وشؤوناتها، وبالتالی یصل إلی نتائج جدیدة، سواء فی دائرة الموضوعات أو فی دائرة الأحکام، أو یلاحظ المشاکل الفعلیة فی رمی الجمرات والازدحام الشدید هناک فی أیّام الحجّ، وما یُسبّب من أخطار، فإنّ ذلک قد یدفع الفقیه الجامع للشرائط للتأمّل من جدید فی النصوص المتعلّقة بأعمال الحجّ ویصل إلی فهم جدید للمسألة.

والظاهر أنّ المقصود من الزمان والمکان وتأثیرهما فی هذا الکلام ناظر إلی القسم الثانی والثالث علی الأغلب.

ولا یخفی أنّ تناسب وتزامن الاجتهاد مع عنصر الزمان المکان لا یخلّ بالأصول والمبانی الأصیلة للکتاب والسنّة وقواعد الاجتهاد، لأنّ الفروع والأحکام الجزئیة یمکن أن تستنبط بملاحظة الزمان والمکان فی دائرة الأصول العامّة والکلّیة لخطابات الشارع الثابتة دائماً.

الأمر الثانی: تأثیر الزمان والمکان فی آراء کبار الفقهاء

الواقع أنّ تأثیر وتدخّل عنصر الزمان والمکان فی صدور الأحکام لم یکن صریحاً فی کلمات العلماء


1- سورة الشوری، الآیة 38.

ص: 254

القدماء، وکان فی الغالب علی شکل بیان المصادیق والموضوعات المتعلّقة بهذا البحث؛ ولکن ما یستفاد من خلال التحقیق فی أقوال ومبانی هؤلاء الفقهاء هو أنّهم کانوا متّفقین بشکل إجمالیّ علی فهمهم والتفاتهم لتأثیر الزمان والمکان فی الأحکام، حیث نری أنّ بعض الأکابر کالعلّامة الحلّی (1) والمحقّق الثانی (2) فی مسائل فقهیة من قبیل بیع الأعیان النجسة، ضمن الفتوی بحرمة بیع الدم، فإنّهم یستدلّون علی أنّ الملاک فی جواز وعدم جواز بیع الدم والأعیان النجسة بشکل عام هو انتفاع الناس منها وأنّ ذلک یتغیّر بلحاظ الأزمنة والأمکنة المختلفة.

یقول الشهید الأوّل فی «القواعد» ضمن التصریح بتغیّرات وتأثیرات الزمان والمکان:

«یجوز تغییر الأحکام بتغیّر العادات، کما فی النقود المتعاورة والأوزان المتداولة ونفقات الزّوجات والأقارب فإنّها تتبع عادة ذلک الزّمان الّذی وقعت فیه»(3)

. ولیس خفیّاً أنّه فی نظر الشهید الأوّل وفقهاء الإمامیة بشکل عام، فإنّ تغییر العادات والرسوم والتقالید، یوجب تغییر الموضوعات، وتبعاً لتغییر الموضوعات تتغیّر الأحکام أیضاً، کما أنّ المرحوم کاشف الغطاء اعترف بهذه الحقیقة وقال:

«لا ینکر تغیّر الأحکام بتغیّر الأزمان»

ویقول أیضاً:

«قد عرفت أن من أُصول مذهب الإمامیة، عدم تغییر الأحکام إلّا بتغییر الموضوعات، إمّا بالزّمان والمکان أو الأشخاص، فلا یتغیّر الحکم ودین اللَّه واحد فی الجمیع، لا تجد لسنّة اللَّه تبدیلًا»(4).

ویقول المحقّق الأردبیلی بصراحة أشدّ وهو من الفقهاء السابقین فی هذا المجال:

«ولا یمکن القول بکلّیّة شی ء، بل تختلف الأحکام باعتبار الخصوصیّات والأحوال والأزمان والأمکنة والأشخاص، وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق علی الجزئیّات المأخوذة من الشرع الشریف إمتاز أهل العلم والفقهاء»(5).

إنّ أهمّیة الالتفات لمقولة الزمان والمکان تتبیّن بشکل جلیّ إذا علمنا بأنّ فقیهاً معروفاً هو صاحب کتاب «جواهر الکلام» ینتقد بشکل قاطع فی بحث المکیل والموزون، هذا التوهّم فی أنّ العرف الخاصّ فی عصر معیّن (مثل عصر النبیّ صلی الله علیه و آله) قد لوحظ فی النصّ الشرعیّ ویقول:

«ودعوی الإجماع هنا علی کون المدار علی زمان النبیّ صلی الله علیه و آله علی الوجه الّذی عرفته، غریبة، فإنّی لم أجد ذلک فی کلام أحد من الأساطین فضلًا عن أن یکون إجماعاً»(6).

أی أنّ ادّعاء الإجماع علی أنّ الملاک فی المکیل والموزون هو ما کان فی زمان النبیّ صلی الله علیه و آله دعوی عجیبة وغریبة کما ذکر هذا المحقّق.

وأساساً فإنّ هذا الفقیه الکبیر یری فی موارد کثیرة أنّ الظروف الزمانیة والمکانیة فیما یتّصل بالأحکام واختلافها ناشی ء من الاختلاف فی العادات والتقالید بین المجتمعات والثقافات البشریة، ولذلک فإنّ ملاحظة الزمان والمکان فی البحث الفقهیّ غیر قابلة للاجتناب، وعلی سبیل المثال، یقول فی مسألة «الحداد» وهو عبارة عن ترک الزینة ولبس ثیاب الحزن وهو محلّ


1- المختصر النافع، کتاب التجارة، ص 16.
2- جامع المقاصد، ج 4، ص 12.
3- القواعد والفوائد، ج 1، ص 151.
4- تحریر المجلّة، ج 1، ص 34.
5- مجمع الفائدة والبرهان، ج 3، ص 436.
6- جواهرالکلام، ج 22، ص 427.

ص: 255

خلاف کبیر بین الفقهاء، یقول:

«و لا یخفی علیک أنّه تطویل بلا طائل، ضرورة کون المدار علی ما عرفت، وهو مختلفٌ باختلاف الأزمنة والأمکنة والأحوال، ولا ضابطة للزینة والتزیّن وما یتزیّن به إلّاالعرف والعادة الّتی یندرج فیها الهیئات وغیرها»(1).

وقد اتّخذت مقولة الزمان والمکان مکانة خاصّة بین فقهاء المعاصرین، وتدریجیاً امتدّ البحث فی عنصر الزمان والمکان من خلال اهتمام الفقهاء المعاصرین بهذه الحقیقة، إلی بحوث علمیة مختلفة، إنّ ما یشغل بال المتأخّرین وخاصّة المعاصرین، هو أنّهم یهتمّون- إلی جانب ذکر المصادیق والموضوعات المتّصل بالزمان والمکان- بتعریف علمیّ وفنّی فی بیان تفاصیل عنصر الزمان والمکان، والمصداق البارز لهؤلاء الفقهاء هو الإمام الخمینی قدس سره الذی عمل علی استخراج نظریة «ولایة الفقیه» فی إدارة الحکومة الإسلامیة من خلال تلفیق عنصر الزمان والمکان فی عملیة الاجتهاد واظهارها إلی المجتمع الإسلامی، یقول الإمام الخمینی قدس سره فی بیان ضرورة الاهتمام والالتفات لعنصر الزمان والمکان فی عملیة الاستنباط:

«إنّ الزمان والمکان یمثّلان عنصرین مهمّین فی عملیة الاجتهاد، فالمسألة التی کان لها حکم معیّن فی الزمان القدیم فیما یتعلّق بالعلاقات الحاکمة فی الأمور السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة، یمکن أن تملک حکماً جدیداً فی هذا العصر، بمعنی أنّه مع معرفة دقیقة للعلاقات الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة، فإنّ ذلک الموضوع الأول یتبدّل إلی موضوع جدید وإن کان بحسب الظاهر لا یختلف عن الموضوع القدیم، وبالتالی فإنّه یتطلّب حکماً جدیداً أیضاً»(2).

ومن جملة النظریات الأخری المهمّة للعلماء المعاصرین، نظریة العلّامة محمّد حسین الطباطبائی والاستاذ الشهید مرتضی المطهّری حیث یعتقدان بأنّ قوانین الإسلام تنقسم إلی قسمین: ثابتة ومتغیّرة، والقوانین المتغیرة ناظرة للمتغیّرات فی الموضوع من جهة اختلاف الزمان والمکان (3).

المرحوم آیة اللَّه البروجردی ضمن التصریح بأهمّیة دور الزمان والمکان فی صدور الحکم یقول:

«بما أنّ الفقه الشیعی وبسبب خلافة وحکومة العامة منذ صدر الإسلام، فإنّه ناظر لآراء وأحکام أهل السنّة، وعلیه ینبغی البحث فی الروایات، وزمان، ومکان صدورها والراوی والسائل، والمحیط والبیئة وغیر ذلک من الظروف والشروط، وبشکل عامّ یجب الأخذ بنظر الاعتبار عند الفتوی «جهة صدور الروایات» وبما أنّ هذه المسألة ترتبط بفهم الزمان والمکان، فإنّه لا یمکن الغفلة فی أیّ مسألة عن الزمان والمکان وتأثیراتهما»(4).

الواقع أنّ السیّد البروجردی فی کلامه هذا ناظر للقرائن الحالیة والمقالیة المتوفّرة فی زمان ومکان صدور الروایة.

علی أیّة حال، فیمکن القول من خلال استنتاج کلّی من أقوال علماء السلف والمعاصرین من الإمامیة، أنّ الجمیع متّفقون علی تأثیر الزمان والمکان فی الفتاوی والأحکام، وفی نظر فقهاء أهل البیت علیهم السلام فإنّ مقولة الزمان والمکان وتأثیرهما فی استنباط الحکم، یعتبر


1- جواهرالکلام، ج 32، ص 280.
2- صحیفة النور للإمام الخمینی، ج 21، ص 98( بالفارسیّة).
3- تفسیر المیزان، ج 4، ص 120 و 121 بحث حول المرجعیة والعلماء؛ الإسلام ومقتضیات الزمان، ج 1، ص 232( بالفارسیّة).
4- کیهان اندیشه، ش 29( مقاله جامعیّت علمی و عملی)( بالفارسیة).

ص: 256

أمراً مقبولًا ومسلّماً.

وأمّا علماء أهل السنّة، فإنّهم نظروا إلی تأثیر الزمان والمکان فی استنباط الأحکام من زوایة

یقول العلّامة القرافی: «أوّلًا: إمکان تبدیل المصلحة التی هی مقتضی الوجوب أو الاستحباب إلی مفسدة وتقتضی الحرمة، مقبول. وثانیاً: إنّه یدّعی- علی سبیل القاعدة الکلّیة الشرعیة- أنّ فی کلّ مورد تتبدّل المصلحة إلی المفسدة، فإنّ الحکم أیضاً یتبدّل من الجواز إلی المنع»(1). ومن الواضح أنّ العامل علی تبدیل المصلحة إلی مفسدة قد یکون أحیاناً عنصر الزمان والمکان.

کما أنّ الشاطبی یقول فی کتابه: «فإنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحکام العادیّة تدور معه حیثما دار، فتری الشی ء الواحد یمنع فی حال لا تکون فیه مصلحة، فإذا کان فیه مصلحة جاز»(2).

ویقول الدکتور وهبه الزُحیلی فی المقدّمة لکلام الشاطبی: «وهذا الأمر الذی أشار إلی الشاطبی هو أنّه من الممکن مع وجود التغیّر فی الظروف الاجتماعیة، أنّ تتغیّر الوجوه وجهات المصالح الدینیة، وبالتالی یتغیّر الحکم الإلهیّ»(3).

ویقول محمّد مصطفی الزّرقاء:

«قد اتّفقت کلمة فقهاء المذاهب علی أنّ الأحکام الّتی تتبدّل مع الزمان وأخلاق الناس، هی الأحکام الاجتهادیة من قیاسیّة ومصلحیة، أی الّتی قرّرها الاجتهاد بناء علی القیاس أو علی دواعی المصلحة- وهی المقصودة من القاعدة المقرّرة (تغیّر الأحکام بتغیّر الزمان)- أمّا الأحکام الأساسیة التی جاءت الشریعة لتأسیسها وتوطیدها بنصوصها الأصلیة الآمرة والناهیة، کحرمة المحرّمات المطلقة وکوجوب التراضی فی العقود والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الّذی یلحقه بغیره، وسریان إقراره علی نفسه دون غیره، ووجوب منع الأذی وقمع الأجرام وسدّ الذرائع إلی الفساد وحمایة الحقوق المکتسبة ومسؤولیّة کلّ مکلّف من عمله وتقصیره وعدم مؤاخذة بری ء بذنب غیره، إلی غیر ذلک من الأحکام والمبادی ء الشرعیة الثابتة الّتی جاءت الشریعة لتأسیسها ... فهذه لا تتبدّل بتبدّل الأزمان، بل هی الأُصول الّتی جاءت بها الشریعة لإصلاح الأزمان والأجیال ولکن وسائل تحقیقها وأسالیب تطبیقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة»(4).

الأمر الثالث: دائرة التأثیر

اشارة

إنّ تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الإستنباط- مع الالتفات إلی ثلاثة أصول ثابتة لا تقبل التغییر: «التوحید فی التشریع»، «أبدیّة الأحکام» و «وجود حکم لجمیع الوقائع»- یمکن أن یملک مبرّرات منطقیة مقبولة:

1. التوحید فی التشریع: وهذا الأصل یبتنی علی الآیة الشریفة: «إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا للَّهِ»(5) حیث إنّ المراد من الحکم هنا، عملیة التقنین، وعلی هذا الأساس فإنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله نفسه غیر مشرّع: « «قُلْ مَا یَکُونُ لِی أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِی»(6). وعلی أساس هذا الأصل أیضاً فنحن نعتقد بأنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی الواقع مبیّنون للأحکام الشرعیة. وعلیه فإنّ وضع الحکم الشرعی


1- الفروق، ج 1، ص 183.
2- الموافقات، ج 2، ص 306.
3- اصول الفقه الإسلامی، ج 2، ص 116.
4- المدخل الفقهی العام، ج 2، ص 924 و 925.
5- سورة یوسف، الآیة 40.
6- سورة یونس، الآیة 15.

ص: 257

ینحصر باللَّه تبارک وتعالی، وعندما یرد فی الروایات المعتبرة أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله شرّع بعض الأحکام فی موارد معیّنة، فذلک أیضاً بإذن اللَّه.

2. أصل أبدیّة الأحکام: وهذا الأصل یبتنی علی ما ورد فی الحدیث الشریف:

«حَلالُ محمّدٍ حلالٌ إلی یومِ القِیامةِ وحَرامُه حَرامٌ إلی یومِ القیامة»(1)

وطبقاً لهذا الأصل فإنّه لا یمکن أن یتغیّر حکم من الأحکام مع وجود موضوعه.

3. أصل عدم خلوّ الواقعة من الحکم: وهذا الأصل هو ما تقدّم من عدم الفراغ القانونی فی الإسلام (2).

وطبقاً لهذه الأصول الثلاثة، فإنّ المشرّع للأحکام هو اللَّه تعالی، وأنّ جمیع الوقائع والحوادث والمسائل المستحدثة وغیر المستحدثة لها حکم شرعیّ، وهذه الأحکام أبدیّة.

وبما أنّ الأحکام تدور مدار المصالح والمفاسد ولکلّ حکم ملاک ومناط خاصّ، ویسمّی بشکل عام المصلحة أو المفسدة، وبشکل خاصّ یندرج ضمن عناوین معیّنة من قبیل: الصلاة معراج المؤمن، کون الخمر مسکراً، وکون القمار مَیْسراً وغیر ذلک، ومن هنا یمکن القول أنّ ثبوت الأحکام ینشأ من ثبوت ملاکاتها. وعلیه فإنّ تأثیر الزمان والمکان إنّما یکون غالباً فی الموضوعات، بأن یکون الموضوع أحیاناً مصداقاً لملاک معیّن، وأحیاناً أخری مصداقاً لملاک آخر. وبعبارة أخری: إنّ الزمان والمکان بنظرة دقیقة لا یعملان علی تغییر الأحکام ولا تغییر الملاکات، بل یعملان علی تغییر الموضوعات، وهذا التغییر هو فی الواقع تبدیل الشی ء من کونه مصداقاً لملاک معیّن إلی ملاک آخر. وإن کان الزمان والمکان یؤثّران بحسب الظاهر فی الأحکام والملاکات. وببیان آخر: إنّ المساحة الحقیقیة لتأثیر الزمان والمکان هو الموضوعات، ولکنّ المساحة الظاهریة للتأثیر یمکن أن تشمل الأحکام والملاکات أیضاً، ولتوضیح هذا الموضوع نستعرض هذه المساحة بالتفصیل:

1. تأثیر الزمان والمکان فی الموضوعات
اشارة

الموضوع عبارة عن شخص أو شی ء تتوقّف علیه فعلیّة الحکم الشرعیّ؛ من قبیل عنوان «المسکر» فی حرمة شرب الخمر، وعنوان «مستطیع» فی وجوب الحج (3).

ومتعلّق هذه الأحکام کما یری جمیع الفقهاء، هو أفعال المکلّفین وما یراد من العبد إنجازه وتحقیقه (4).

وبعد بیان هذه المقدّمة نشرع بذکر أنحاء تأثیر الزمان والمکان فی الموضوعات:

أ) تغییر المصداق

هناک أمثلة کثیرة بالنسبة لتغییر المصداق، منها:

1. إنّ موضوع وجوب الحجّ هو عنوان المستطیع؛ ولکن أن یکون الشخص مستطیعاً فی زمان خاصّ وبقدرات خاصّة ومحدودة، ولکنّه فی زمان آخر لا یتحقّق فیه عنوان الاستطاعة من حیث إنّه یقتضی ثراءً وقدرة مالیة أکبر، وهکذا الکلام فی خاصّیة المکان حیث یمکن أن تؤثر فی تغیّر وتبدّل هذا العنوان.

2. یعتبر الفقیر أحد مصارف الخمس والزکاة، ولکنّ


1- الکافی، ج 1، ص 58، ح 19.
2- ورد بحث مستقل فی هذا الصدد( عدم وجود فراغ قانونی) فی هذا الکتاب.
3- دروس فی علم الاصول، الحلقة الأولی ص 158.
4- فوائد الأصول، ج 1، ص 145.

ص: 258

المصداق له یختلف ویتغیّر باختلاف الزمان والمکان، لأنّه من الممکن أن یطلق علی شخص یملک وارداً محدوداً أنّه فقیر بالنسبة لمنطقة خاصّة، ولکنّه بالنسبة لمنطقة أخری مع أنّه یملک وارداً أکبر إلّاأنّه یقال عنه:

إنّه یعیش تحت خطّ الفقر.

3. إنّ حرمة الربا تتعلّق بالمکیل والموزون، وهذان العنوانان أیضاً یختلفان باختلاف الزمان والمکان، مثلًا ربّما یکون الرزّ فی ظروف معیّنة مکیلًا، وفی ظروف أخری موزوناً، وهکذا بالنسبة للمبیع المعدود الذی لا تشمله حرمة الربا، فیمکن أن یکون موزوناً فی زمان أو مکان آخر.

4. حکم الضمان فی المثلیّ والقیمیّ

«المثلیّ» یطلق علی من کان له ما یماثله بکثرة، کالحبوبات، و «القیمیّ» یطلق علی الشی ء الذی لیس له مثل ذلک (1)، من قبیل الملابس، فیمکن أن یکون الشی ء قیمیّاً کاللباس، ولکنّه مع تطوّر الصناعة والتکنولوجیا یکون مثلیّاً فی زمان آخر.

ب) تبدیل الموضوع بحدوث التغییر الباطنی

من قبیل ما یذکر فی أحکام المطهّرات بعنوان الاستحالة، والانتقال والانقلاب، ومن هذا القسم، المراد من الاستحالة هنا استحالة الموضوع السابق وتبدّله عرفاً إلی موضوع آخر، والدلیل علی مطهّریة الاستحالة هو أنّ الاستحالة تعنی وجود موضوع جدید غیر الموضوع السابق المحکوم بالنجاسة(2).

ج) اتّساع وتعمیم المصداق

طبقاً للمصادر الروائیة، فإنّ الاحتکار ینحصر بعدّة أنواع من الموادّ الغذائیة، ولکنّ بعض الفقهاء لا یرون موارد الاحتکار مختصّة ومنحصرة بها، لأنّ الملاک والمعیار لتشریع حرمة الاحتکار هو إنقاذ الناس من الأزمات الإقتصادیة عند حالات العسر والحرج، فالموضوع الواقعی لحرمة الاحتکار هو ندرة المواد وندرة البضاعة والشحّة الاقتصادیة التی تسبّب العسر والحرج للناس، وبالتالی فهناک مصادیق جدیدة «ظهرت مع مرور الزمان وتغیّر المکان» مضافاً لما ورد فی الروایات (3).

د) تضییق وتخصیص المصادیق

إنّ الأرض التی یعمل الإنسان علی إحیائها تکون ملکاً له طبقاً لإطلاق الروایات الواردة فی هذا الشأن، من قبیل

«مَن أحیا أرضاً مَواتاً فهی له»(4)

ولکن بمرور الزمان وتطوّر الأدوات والوسائل الزراعیة أدّی إلی اکتشاف دقیق للموضوع، وبالتالی تسبّب فی تضییق وتخصیص مصادیق موضوع الإحیاء بموارد خاصّة لا تفضی إلی السیطرة الاقتصادیة من قِبل فئة أو طبقة معیّنة، ویفوّض أمر تعیین حدود هذه المصادیق للحاکم الشرعیّ، لأنّ الموضوع الدقیق له هو الإحیاء الذی لا یوجب ضرراً علی الآخرین، وهذا الموضوع وإن کان من جهة یعدّ من العناوین الثانویة، ولکن من جهة أخری یندرج فی دائرة تأثیر الزمان والمکان فی الموضوعات.


1- هناک خلاف فی تعریف المثلی والقیمی( کتاب المکاسب، ج 1، ص 402؛ الموسوعة الفقهیة الکویتیة، ج 34، ص 133 و 138)، ولکن ما ذکرناه أعلاه تعریف أوضح.
2- التنقیح فی شرح العروة الوثقی، ج 3، ص 168.
3- مفتاح الکرامة، ص 107؛ مصباح الفقاهة، ج 5، ص 497.
4- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی، ج 7، ص 152؛ المعجم الأوسطللطبرانی، ج 4، ص 247.

ص: 259

ه) ظهور مصادیق جدیدة

حیث تظهر المصادیق الجدیدة فی أجواء الزمان والمکان المتغیّرین، وتحت تأثیر العوامل المختلفة، وحینئذٍ تظهر مسائل جدیدة فی الفقه من قبیل ظاهرة التوأمین الملتصقین، فإنّهما یمثّلان موضوعاً جدیداً لأحکام المحرمیّة والنکاح وغیرها، وبالتالی تحتاج إلی أحکام خاصة بها.

والفقهاء یدرجون هذه الموضوعات تحت بعض العمومات، ویجرّون حکم العمومات هذه علیها، ومن نماذج هذه الموضوعات الجدیدة: سوق الأوراق المالیة، والحقوق المعنویة والملکیة الفکریة (حقّ التألیف، حقّ الاختراع، حقّ الطبع وحقّ النشر ...) فکلّ واحد منها بحاجة لحکم خاصّ، وهی تندرج بشکل عام تحت الإطلاقات والعمومات الواردة فی النصوص، مثل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(2) و «أَوْفُوا بِالْعَهْدِ»(3).

وفی الحقیقة أنّ مثل هذه الموضوعات تعتبر من المسائل المستحدثة، ولکن من جهة ترتبط بأثیر الزمان والمکان فی الموضوعات، بمعنی أنّ العصر الحاضر أوجد مصادیق جدیدة لتلک العمومات والإطلاقات.

2. تأثیر الزمان والمکان فی الأحکام
اشارة

تقدّم أنّ الأحکام ثابتة وأنّ حکم کلّ واقعة ورد فی الشرع المقدّس إمّا بشکل عامّ أو خاصّ، والفقیه یمکنه استخراج الحکم الشرعیّ من خلال استنباطه من هذه النصوص أو تطبیق القاعدة علی المصداق.

ومرادنا من تأثیر الزمان والمکان فی الأحکام، هو التأثیر فی «کیفیة إجراء الحکم»، «وأسالیب إجراء الأحکام»، «واستبدال الحکم الأوّلی بالحکم الاضطراری الثانوی بشکل مؤقّت» أو «ترجیح حکم إلهی علی حکم آخر فی مقام التزاحم» وفیما یلی تفصیل هذا الکلام:

أ) تأثیر الزمان والمکان فی کیفیة واسلوب تنفیذ الأحکام

طبقاً للمصادر الروائیة، فإنّه یجوز الاستفادة من الأنفال فی زمان الغیبة، وأحد مصادیق الأنفال هو الأراضی الموات والمعادن، وقد شهدت العصور المتأخّرة تطوّراً فی أدوات ووسائل استخراج المعادن بحیث أنّ شخصاً واحداً بإمکانه من خلال استخدام أدوات وأجهزة جدیدة أن یستولی علی معادن کثیرة، وبالتالی یفضی هذا العمل لنفاد المعادن وتشدید الظاهرة الطبقیة فی المجتمع. فهذه الظروف الجدیدة خلقت قیوداً وشروطاً معینة فی تنفیذ الحکم (بدون أن یتغیّر حکم الحلّیّة) ولذلک فإنّ تنفیذ هذا الحکم مقیّد بحفظ النظام وعدم التعدّی علی حقوق الآخرین، وتشخیص واستنباط هذا النوع من القیود هو بعهدة الحاکم الإسلامی الذی هو فقیه جامع للشرائط، وعلی هذا الأساس فإنّ توزیع الأنفال بین الناس یتمّ وفق القیود والشروط التی یضعها الحاکم الشرعی، وبمجرّد أن یؤدّی توزیع هذه الأنفال إلی اختلال النظام والظلم والتمییز فی حقوق الأفراد، فإنّ الحاکم یتحرّک علی مستوی تحدید هذا الحکم. ومع هذا البیان یتّضح أنّ


1- سورة المائدة، الآیة 1.
2- سورة البقرة، الآیة 275.
3- سورة الاسراء، الآیة 34.

ص: 260

حکم حلّیة الأنفال للناس لم یتغیر إطلاقاً، وما تغیّر منه فهو علی مستوی التنفیذ فقط.

ویجری هذا الکلام أیضاً بالنسبة لتقسیم الغنائم أیضاً، فالغنائم- وطبقاً لمضمون المصادر الروائیة- یجب تقسیمها بین المجاهدین، ولکن توزیع الغنائم فی العصر الحاضر کالطائرات الحربیة والدبابات وغیرها لا یکون مشمولًا لأدلّة تقسیم الغنائم بسبب وجود المعطیات الفاسدة، وهذا أیضاً نوع من التقیید فی کیفیة تقسیم الغنائم، ولذلک فإنّ هذا الحکم فی عین کونه ثابتاً فهو مقیّد بعدم إیجاد الخلل فی النظام أو أشکال الفساد الأخری التی یتمّ تشخیصها بإشراف الحاکم الشرعی:

وبالتالی فإنّ الغنائم التی یمکن توزیعها هی التی لا تؤدّی إلی خلل وفساد.

وممّا یجدر ذکره وتوضیحه، کما تبیّن فی البحوث السابقة، أنّ الزمان والمکان إنّما یؤثّران ابتداء وبلا واسطة فی معرفة الموضوع بشکل دقیق. مثلًا بالنسبة للمثال الأوّل، فإنّ الزمان والمکان یتسبّبان أن یکشف الفقیه الموضوع الواقعی والدقیق للمعادن والأراضی الموات، بحیث یکون إحیاء هذه الأراضی أو استخراج المعادن غیر مخلّ بالنظام وبحقوق الناس، وبما أنّ الفقیه الحاکم ضامن لعملیة تنفیذ الأحکام بشکل دقیق وینبغی علیه أن یمنع کلّ أشکال العدوان والظلم، فهنا یتجلّی بصورة واضحة تأثیر الزمان والمکان فی مقام تنفیذ الأحکام، مثلًا أن یقول الفقیه الحاکم: فی هذا الزمان لا یحقّ لشخص واحد إحیاء الأراضی الموات بالاستفادة من الأدوات والأجهزة الجدیدة، بحیث یمکنه إحیاء آلاف الهکتارات فی مدّة قصیرة (بحیث یتسبّب فی إیجاد وتعمیق الفاصلة الطبقیة) أو لا یحقّ له إحیاء أکثر من ذلک المقدار المعین من الأراضی الموات.

وبهذه الطریقة یتّضح دور الزمان والمکان فی کیفیة تنفیذ الأحکام، مثل مسألة «ملکیّة الأرض بسبب الإحیاء»، وهکذا فی مسألة وجوب الدفاع وتأثیر الزمان والمکان فی کیفیة وأسلوب إجراء هذا الحکم وأنّه بأیّ أدوات ینبغی تحقیق الدفاع اللازم، أو فی مسألة «التحکیم» ووجوب فصل الخصومات بین الناس وتأثیر الزمان والمکان فی کیفیة إجراء هذا الحکم، وهل أنّه یتمّ من خلال جماعة من القضاة وبشکل شوری أم یتمّ بصورة فردیة وبعمل قاضٍ واحد؟ وهکذا فی مسألة (الحکومة وولایة الحاکم الجامع للشرائط) وهل تکون الحکومة من خلال استخدام المنهج البرلمانی الذی یبتنی علی آراء الناس وانتخابهم بشکل مباشر، أو من طرق أخری؟

ب) استبدال الحکم الأوّلی بالحکم الثانوی فی موارد الاضطرار

إنّ الحکم الأوّلی فی خصوص تناول اللحوم المحرّمة، حرام، وهذا الحکم ثابت ولا یتغیّر، وعلی کلّ مکلّف امتثال هذا الحکم فی الظروف الطبیعیة، ولکن ربّما یتغیّر هذا الحکم فی سنوات القحط وقلّة المواد الغذائیة إلی الوجوب، وفی الحقیقة أنّ الزمان الخاصّ وهو زمان القحط، یؤثّر فی تغییر الحکم، وهذا الحکم ثانویّ ومقیّد فی هذا المورد بحالة الاضطرار، أی أنّ تناول الأغذیة المحرّمة یجوز بمقدار الضرورة ورفع الاضطرار، وبمجرّد أن ترتفع الأزمة ویزول القحط یعود الحکم الأوّلی فی هذه الأطعمة. وبدیهیّ أنّه لم یتغیر الحکم الشرعی فی هذا المورد، والشارع قد

ص: 261

وضع کلا الحکمین. الأوّلی والثانوی، وهذان الحکمان ثابتان فی کل واحد فی مجاله الخاصّ، وتغییر الظروف وحالات المکلّفین لا یعنی تغییر الأحکام نفسها.

وبالطبع فإنّ العناوین الثانویة لا تنحصر بحالة الاضطرار، وما تقدّم آنفاً کان علی سبیل المثال.

ج) ترجیح بعض الأحکام علی البعض الآخر (قاعدة الأهمّ والمهم)

ربّما یوجد حکم معیّن فی زمان أو مکان خاص، ولکن مع مرور الزمان أو تغیّر المکان یعرض عنوان یؤدّی إلی تغییر الحکم.

ونلاحظ فی المثال المعروف «تحریم التبغ» فی فتوی الفقیه الکبیر المیرزا الشیرازی أنّ التدخین واستعمال التبغ فی الظروف العادیة کان مباحاً فی نظر هذا الفقیه الکبیر، ولکن عندما وقعت تجارة التبغ بید الشرکة البریطانیة، وکان ذلک مقدّمة للسیطرة الاقتصادیة علی البلاد الإسلامیة، فإنّ الحکم بالحلّیة أخذ یتقاطع مع وجوب حفظ الاستقلال الاقتصادی للبلدان الإسلامیة، وتبدّل ذلک الحکم إلی الحرمة.

وبمرور الزمان وبسبب إطاعة الناس لحکم ذلک الفقیه وترحیبهم العظیم بهذه الفتوی، فإنّ الشرکة البریطانیة والحکومة الإیرانیة فی ذلک الوقت اضطرّتا إلی فسخ العقد، وفی ظلّ هذه الظروف الجدیدة فإنّ ذلک الفقیه نفسه حکم بالإباحة والجواز، ففی الواقع أنّ عناوین أهمّ قد ظهرت إلی حیزّ الوجود بتغیّر الزمان أو المکان ودفعت بالعناوین المهمّة إلی الظلّ، وبهذا تمّ العمل بالحکم الأهم.

وکذلک الحال فی الظروف الحالیة التی تسعی فیها أمریکا بجمیع قدراتها لحمایة اسرائیل والعدوان علی البلاد الإسلامیة، فإنّ الکثیر من فقهاء الإسلام حکموا بتحریم بیع وشراء المنتوجات الأمریکیة، لوجود هدف أهم، ممّا یجعل العنوان الأوّلی للاباحة ینزوی إلی الظلّ لیحلّ محلّه الحکم بالأهمّ، ولو عادت الأمور إلی مجاریها فیمکن أن یتغیّر هذا الحکم بتغیّر الظروف.

3. تأثیر الزمان والمکان فی مصالح ومفاسد الأحکام

من المعلوم أنّ الأحکام، وعلی أساس ما ذهب إلیه المحقّقون من الإمامیة وأهل السنّة، تابعة للمصالح والمفاسد، فالخمر إنّما صار حراماً لأنّه رجس وعمل شیطانیّ ویؤدّی إلی العداوة والبغضاء بین الناس، ویصدّ عن الصلاة وذکر اللَّه، لأنّه یزیل العقل، وزوال العقل تتبعه هذه الظواهر والمعطیات، وهکذا بالنسبة للقمار بالآلات الخاصّة به.

والآن لو فرضنا وجود موضوع الحکم الشرعیّ فی بعض الموارد، ولکنّ المصلحة أو المفسدة قد تغیّرت بمرور الزمان أو بتغیّر المکان، فمن الطبیعی أن یتغیّر ذلک الحکم أیضاً، لأنّه کان یترتّب علی ذلک الموضوع مع اقترانه بالمصالح والمفاسد لذلک المحلّ، فإذا زال هذا الوصف، فإنّ موضوع الحکم أیضاً سیزول. مثلًا کان الفقهاء فی الأزمنة القدیمة یفتون بتحریم بیع وشراء دم الإنسان والحیوان، لأنّه لا توجد أیّ مصلحة من ذلک بل تترتّب علیه مفاسد معنویة ومادیة کثیرة، ولکن فی هذا العصر ومع مرور الزمان فإنّ الدم یعدّ عامل نجاة البشر، والکثیر من الناس من المجروحین ومن یخضعون لعملیة جراحیة بحاجة شدیدة إلی الدم

ص: 262

لإنقاذهم من الموت، وعلی هذا الأساس فإنّ الدم هو ذلک الدم، ولکن المفسدة تبدّلت إلی مصلحة مهمّة، وبدیهی أنّ بیع وشراء الدم فی هذه الصورة لا یمکن أن یکون حراماً، بمعنی أنّ ملاک الحکم فیه قد تغیّر.

وهکذا فی مسألة الشطرنج فعندما لا یکون الشطرنج فی زمان أو مکان خاصّ من آلات القمار، ویراه عامّة الناس مجرّد ریاضة فکریة، فمن البدیهیّ أنّه فی هذا الفرض لا تترتّب علیه مفاسد القمار، وبعبارة أخری، فإنّ العنوان الکلّی للقمار الذی کانت تترتّب علیه مفاسد معیّنة، قد زال عنه، وعلیه فلا دلیل علی حرمته.

ومن هنا نلاحظ کیف أنّ الزمان والمکان یمکنهما أن یعملا علی تغییر المصالح والمفاسد فی الموضوعات وبالتالی یتغیّر الحکم تبعاً لذلک.

4. تأثیر الزمان والمکان فی فهم النصوص (التفسیر العصری)

أحیاناً یساهم تغیّر الزمان والمکان فی فهم النصّ الشرعیّ، أعمّ من الکتاب والسنّة، فهماً جدیداً وعمیقاً، بمعنی أنّ الظروف الجدیدة تستدعی فهماً أدّق لذلک النصّ. وهذا فی الحقیقة یبعث علی تقویة الدین الإسلامی والنصوص الدینیة المرتبطة به، لأنّ هذه المسألة تعکس عمق وسعة هذه النصوص بحیث إنّ کلّ جیل یمکنه استنباط مفاهیم جدیدة منها، مثل مسائل البحار والمحیطات، فمع أنّها ثابتة، إلّاأنّ کلّ جیل ینتفع من أسرار وعمق ومحتویات هذه البحار والمحیطات بشکل أفضل من الأجیال السابقة. وبالطبع فإنّ «الفهم الأفضل» یعکس شمولیة وکمال النصّ حیث یملک خطاباً جدیداً لکلّ جیل من الأجیال.

یقول الإمام الصادق علیه السلام عن القرآن الکریم:

«لأنّ اللَّه تبارک وتعالی لمْ یجعله لزمانٍ دون زمانٍ ولا لناسٍ دون ناسٍ، فهو فی کلّ زمانٍ جدید وعند کلّ قومٍ غضٌّ إلی یومِ القیامة»(1).

إنّ وجود تفاسیر متعدّدة متنوّعة، شاهد حیّ علی تأثیر الزمان والمکان فی فهم الآیات القرآنیة، وهذه الخصوصیة موجودة أیضاً فی السنّة التی تأتی بعد الوحی.

والعوامل المؤثّرة فی الفهم الجدید عن النصوص الدینیة عبارة عن:

1. ظهور أسئلة جدیدة.

2. ظهور حاجات جدیدة.

3. ظهور حالات وظروف جدیدة فیما یتّصل بتنفیذ الأحکام الشرعیة وتعقیداتها.

4. ارتفاع المستوی العلمی للمفسّر.

ونلفت النظر إلی أنّ الفهم الجدید لا یعنی فرض الآراء الشخصیّة علی النصّ، بل بمعنی حصول فهم أفضل للناس لم یکن فی السابق، أو کان مغفولًا عنه بسبب سذاجة الحالة الثقافیة وبساطة الأوضاع، ولا بأس أن نذکر بعض الأمثلة علی ذلک:

1. فی الفتوی التی صدرت أخیراً من أحد المراجع العظام للشیعة حول مسألة رمی الجمرات فی الحج حیث کان علی شکل عمود حجریّ قائم ویرمیه الحجّاج، وتقرّر الفتوی هذه جواز الرمی علی الحوض المحیط بالعمود الحجریّ ولا یلزم إصابة العمود(2).


1- بحار الأنوار، ج 17، ص 213.
2- انظر فی هذا الصدد إلی کتاب« الجمرات، فی الماضی والحاضر» تألیف سماحة آیة اللَّه العظمی مکارم الشیرازی.

ص: 263

إنّ الباعث علی هذا الفهم الجدید والذی جعل الفقیه یغیّر الفتوی، هو التأمّل الجدید فی النصوص والزحام الشدید حول الجمرات الذی یقترن غالباً بإزهاق نفوس الحجّاج والإضرار بهم، هذه الأزمة أدّت إلی أن ینظر الفقیه بشکل آخر إلی النصوص الإسلامیة الأصیلة، ویحقّق أکثر فی معنی «الجمرة» حیث اتّضح أنّ الجمرة فی اللغة لا تعنی العمود الحجری، بل بمعنی مجمع الحصی، وعلی أیّة حال فإنّ الظروف الجدیدة والازدحام الشدید وخلال سنوات مدیدة أثارت هذا السؤال ودعت الفقهاء للبحث فی مطاوی النصوص من موقع التعمّق و التدبّر حیث انتهی هذا التحقیق لکسب فهم جدید للنصّ ومدلول مفردة «جمرة» واتّضح أنّ هذه الفتوی لم تصدر علی أساس العسر والحرج، بل تقوم علی أساس فتح أفق جدید فی المراد من النصّ یستخدمه الفقیه فی مقام الاستنباط.

2. إنّ کلمة «بیع» کانت تعنی فیما مضی نقل الأعیان أو تبادل مال بمال، ولکنّ ظهور المتغیرات الجدیدة وبروز ما یسمّی بالحقوق المعنویة أدّی إلی فهم جدید للبیع، حیث أصبح یصدق علی المعاوضة فی دائرة الحقوق، کبیع حقّ «السرقفلیة» أو «بیع حقّ النشر»، أو «بیع حقّ الاختراع»، «حقّ التألیف» وأمثال ذلک.

إنّ المتغیرات الجدیدة وظهور حقوق جدیدة فی فضاء المجتمعات البشریة جعلت الفقیه یتحرّک علی مستوی إعادة النظر فی حقیقة البیع، وبالتالی یفتی بجواز بیع الحقوق والامتیازات (1).

3. ظهور الحکومة الدینیة بمنهجها الفقهیّ، وحکومة الفقه والفقیه أدّی إلی خلق رؤیة جدیدة للنصوص الدینیة بحیث فتح الکثیر من التعقیدات فی طریق الحکومة الدینیة وإیجاد حلول للمشاکل الموجودة فی إطار الأحکام الإسلامیة بالمسائل المستحدثة کما فی مسألة المصارف، التضخّم الاقتصادی، ضعف القدرة الشرائیة للنقود، المسائل المتعلّقة بمؤسّسة الإذاعة والتلفزیون، الفنّ، السینما والمسرح، حضور النساء فی عرصة النشاطات الاجتماعیة والسیاسیة، وغیر ذلک، بل إنّ بعض الفتاوی السابقة تمّ تجدید النظر فیها علی أساس هذه المتغیّرات.

وأحد النماذج البارزة لهذا الفهم الجدید ما یتعلّق بطهارة أهل الکتاب، فالکثیر من الفقهاء المعاصرین، وخلافاً لفقهاء مرحلة ما قبل الحکومة الإسلامیة، أفتوا بطهارتهم، وإن کانت هذه الفتوی لها سابقة لدی القدماء وبشکل نادر. ویبدو أنّ مشکلات العصر وکذلک سعة الارتباط الثقافی والسیاسی مع أهل الکتاب فی اللقاءات الخارجیة، أدّت إلی أن یتحرّک الفقیه من موقع العمق والدقّة فی فهمه للنصوص التی کان یستوحی منها نجاسة الکفّار سابقاً وجعلته یفتی بطهارتهم. ولیس ذلک إلّابسبب الحاجة الملحّة وضغوط التحدیّات المفروضة علی الواقع الإسلامی والنشاط السیاسی للحکومة الإسلامیة وزیادة الإرتباط مع أهل الکتاب، ومن المعلوم أنّ ذلک لا یعنی تغییر حکم اللَّه وفرض الآراء الشخصیة علی الشریعة، بل بمعنی الکشف عن الحکم الواقعی الذی کان مطموراً فی السابق وغیر ظاهر للعیان (فتدبّر).

4. الزحام الشدید فی الطواف وزیادة عدد الحجّاج بشکل ملحوظ، أدّی إلی تجدید النظر فی حدود دائرة المطاف، وهذا أیضاً لیس من باب العسر والحرج، بل


1- طبقات الفقهاء لآیة اللَّه جعفر السبحانی، مقدّمة، ص 324.

ص: 264

من باب الکشف الدقیق عن موضوع المطاف، أی أنّ الفقیه بعد التدقیق فی الأدلّة التی تقول إنّ حدّ المطاف یقع بین البیت و مقام إبراهیم، اتّضح له أنّ هذا الحکم لیس حکماً وجوبیاً ویتبیّن أنّ عدم وجود الزحام الشدید فی السابق لم یکن یستدعی التدقیق فی النصوص وتحصیل رؤیة جدیدة.

ومن هذا القبیل مسألة الهدی وذبح الأضاحی فی الحجّ وکیفیة الاستفادة من لحومها.

5. والمثال الآخر علی هذا المعنی تأکید علماء أهل السنّة علی کسر حاجز التعبّد بالمذاهب الأربعة وفتح باب الاجتهاد علی الفقهاء المعاصرین، لأنّ کتب القدماء لم یرد فیها الکثیر من المسائل، أو التحدّت عن بعض المسائل بشکل إجمالی، بینما فی عصرنا الحاضر ظهرت مسائل جدیدة وتحدّیات جدّیة، أدّت إلی أن یتحرّک علماء المذاهب المختلفة علی مستوی التدقیق والتدبّر فی أدلّة انسداد باب الاجتهاد أو حصر المذاهب فی أربعة، وبالتالی توصّلوا إلی هذه الحقیقة، وهی عدم وجود أیّ دلیل معتبر علی انسداد باب الاجتهاد ولا علی حصر المذاهب فی المذاهب الأربعة السائدة(1).

وبالطبع فإنّ فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام کانوا یرون منذ البدایة انفتاح باب الاجتهاد وعدم حصره.

إنّ الأمثلة والنماذج المذکورة آنفاً تشیر إلی عدم وجود طریق مسدود فی دائرة الأحکام الإسلامیة، وما کان من فتاوی غیر منسجمة، إنّما کان بسبب عدم وجود الباعث علی التدقیق أکثر فی النصوص، والتغییرات الجدیدة أوجبت علی الفقیه التدقیق أکثر فی النصوص وبالتالی اکتشاف الأحکام الواقعیة، وهذا بحدّ ذاته من آیات وتجلّیات خاتمیّة الإسلام وشمولیته.

الأمر الرابع: طریقة تأثیر الزمان والمکان

اشارة

بعد أن تعرّفنا علی مساحة وکیفیة تأثیر الزمان والمکان، لا بأس بإلقاء نظرة أخری علی کیفیة «تأثیر الزمان والمکان فی دائرة المفاهیم القرآنیة» وفی «السیرة النظریة والعملیة للمعصومین» وفی «فتاوی قدماء الفقهاء والمعاصرین» لأنّ طریقة تأثیر الزمان والمکان فی کلّ واحد من الموارد المذکورة، مختلفة.

1. طریقة التأثیر فی دائرة المفاهیم القرآنیة

ألف) القرآن الکریم نزل بالتدریج علی امتداد 23 سنة وفی أمکنة متعدّدة، والأغلب فی مکّة والمدینة. فلا عجب أن یؤثّر مرور الزمان واتّساع رقعة المکان فی طبیعة فهم الآیات القرآنیة، بحیث أنّ الآیات المکّیة تمتاز بعدّة خصوصیات علی الآیات المدنیة وفقاً لبعض التفاسیر، مثلًا الآیات المکّیة بشکل عام تتمحور حول مسألة الإنذار والتبشیر بالمبدأ والمعاد، لأنّها یجب أن تهییّ ء العرب الجاهلیین لقبول الإسلام، ومن جهة أخری فإنّ الضغوط التی فرضها المشرکون استدعت نزول آیات الصبر والمقاومة. فی حین أنّ الآیات المدنیة هی الآیات التی نزلت فی أجواء تشکیل حکومة، وبالتالی فهی ناظرة إلی عنصر الجهاد بشکل أساس، من أجل حفظ واستمرار الحکومة الإسلامیة، وکذلک تتضمّن تعلیمات أخلاقیة ومدنیة وعبادیة واجتماعیة للناس. فلو قیل إنّ الموضوع الأصلی فی نزول الآیات فی مکّة لبیان أصول الدین، وفی المدینة لبیان فروع الدین، کان کلاماً غیر مجانب للصواب.


1- انظر إلی بحث« انفتاح باب الاجتهاد» فی هذا الکتاب.

ص: 265

ب) النحو الآخر من تأثیر الزمان والمکان فی المفاهیم القرآنیة، نسخ بعض الآیات، فالنسخ فی الحقیقة هو رفع الحکم بسبب انقضاء مدّته، فالحکم الذی یوضع علی المکلّف فی موارد النسخ هو فی الواقع مقیّد بزمان خاصّ، وذلک الزمان معلوم عند اللَّه وإن کان مجهولًا عند الناس (1) وبعد انتهاء مدّته یعلن الشارع عن ذلک بشکل رسمی.

إنّ آیات القبلة والنجوی تمثّل نموذجاً بارزاً لعملیة النسخ هذه.

ج) والنحو الآخر من تأثیر الزمان فی بحوث القرآن هو وجود موارد خاصّة، حیث تبیّن للناس بعد مدّة انقضاء زمانها طبقاً لبعض المصالح، مثلًا جاء فی القرآن الکریم: «کُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلَالًا طَیِّباً»(2) وهو حکم عام بالنسبة لحلّیة الأطعمة والمواد الغذائیة. ثمّ بیّن القرآن بالتدریج موارد التخصیص مع مرور الزمان، لأنّ المصلحة کانت تقتضی التدرّج فی بیان الأحکام، مثلًا کما فی الآیة الکریمة: «حُرِّمَت عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِیرِ ...»(3) أو ما نجده فی تدریجیة الحکم بتحریم الخمر من أجل تهیئة الأجواء لإیجاد التأثیر القویّ والقطعیّ فی نفوس المخاطبین. إنّ ما تقدم آنفاً یصدق أیضاً علی موارد المطلق والمقیّد والمجمل والمبیّن أیضاً.

د) النحو الرابع من التأثیر بعد إتمام نزول الآیات القرآنیة والذی یتعلّق بفهم الآیات علی امتداد الزمان فیما یتّصل بالحاجات والمتغیّرات الجدیدة، کما ورد هذا المعنی فی الروایة التی ذکرناها سابقاً عن الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ اللَّه تبارک وتعالی لم یَجْعَلْه لزمان دونَ زمانٍ ولا لناسٍ دون ناسِ، فهو فی کلّ زمانٍ جدیدٌ، وعند کلّ قومٍ غضٌّ إلی یومِ القیامة»(4)

. أی أنّ المفاهیم القرآنیة هی بشکل تستوعب جمیع الأزمنة والأمکنة بحیث تنطبق علی جمیع الموارد التی تواجهها المجتمعات البشریة علی امتداد التاریخ، ومنح الإنسان جمیع ما یحتاجه فی واقع الزمان والمکان، وطبقاً لروایة الفضیل عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«یجری کما تَجری الشّمسُ والقمر»(5).

واللافت أنّ ما یقع علی امتداد الزمان من تفسیر للآیات الشریفة إمّا أن یکون فهماً جدیداً لهذه الآیات أو تطبیقاً علی مصداق جدید. ولا ینبغی الغفلة عن أنّ المراد بالفهم الجدید هو ما یقع فی إطار قواعد باب الألفاظ والأدبیات العربیة.

***

إنّ الأشکال الأربعة لتأثیر الزمان والمکان المذکورة آنفاً لها دور أیضاً فی مقام استنباط الأحکام، وإن کان الدور الأهمّ لها فی فهم الآیات الشریفة، حیث سبق بیانه فی فهم النصوص.

وممّا تجدر الإشارة إلیه أنّه مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ القرآن هو أحد المنابع الدینیة فی عملیة الاستنباط بل هو الأصل لهذه المنابع فإنّ تأثیر الزمان والمکان فی فهم الآیات القرآنیة وخاصةّ فی القسم الرابع، یعنی تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الاستنباط أیضاً فی الکثیر من الموارد.


1- بدایة المعارف الإلهیّة فی شرح عقائد الامامیّة، ص 200.
2- سورة البقرة، الآیة 168.
3- سورة المائدة، الآیة 3.
4- بحار الأنوار، ج 17، ص 213.
5- المصدر السابق، ج 23، ص 197.

ص: 266

2. کیفیة تأثیر الزمان والمکان فی السیرة النظریة والعملیة للمعصومین علیهم السلام
اشارة

إنّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام، منزّهون من الخطأ والنسیان فی دائرة النظر والعمل. وفی نفس الوقت نلاحظ وجود بعض الاختلافات التی تحدث أحیاناً فی عمل ورأی المعصومین علی امتداد الزمان وبالنسبة لأماکن مختلفة، وهذا الاختلاف ناشی ء من متطلّبات عنصر الزمان والمکان لا شی ء آخر:

أ) کیفیة التأثیر فی السیرة النظریة والقولیة

إنّ هذا الاختلاف ناشی ء من اختلاف الظروف وشأن صدور الروایات، حیث ینعکس ذلک أحیاناً بشکل تعارض فی الروایات، وقد عمل الفقهاء أوّلًا من موقع التخصیص والتقیید فی عملیة الجمع الدلالی بین هذه الروایات، وفی صورة عدم إمکان الجمع الدلالی فإنّهم یتوجّهون نحو العمل بالأخبار العلاجیة والمرجّحات السندیة، ومن خلال الاستفادة من منهج التعادل والتراجیح. وبالتالی فإنّهم یرجّحون بعض هذه الروایات أو أحدها علی البعض الآخر لوجود بعض المرجّحات فیها، وفی صورة التکافؤ بینها وتساویها فإنّهم یعملون بالتخییر، أو یقولون بالتساقط، وبالتالی یتوجّهون نحو الأصول العملیة، المهمّ أنّ هذه التأثیرات والتغییرات لاتؤدّی إلی الخدشة بعصمة الإمام المعصوم، لأنّ هذ الاختلاف فی الکلام والقول ناشی ء من واقع الظروف الزمانیة والمکانیة الخاصّة، ویخضع لمقضیات زمان ومکان کلّ إمام بالنسبة للإمام الآخر، مثلًا ربّما یعیش أحد هؤلاء الأئمّة فی ظروف التقیة بسبب الضغوط والتحدّیات من قِبل الحکومات الجائرة، والآخر لایعیش مثل هذه الظروف والحالات، أو أنّ الخصوصیات الزمانیة والمکانیة لأحد الأئمّة تقتضی إصدار حکم بنحو عام أو مطلقّ بینما الخصوصیات الزمانیة والمکانیة للإمام الآخر تقتضی التقیید أو التخصیص.

وقد مرّت فی- الأمر الخامس- الإشارة إلی بعض النماذج من هذا التعارض الظاهریّ وطریقة حلّه.

ب) کیفیة التأثیر فی السیرة العملیة للمعصومین علیهم السلام

إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان یستعمل الخضاب، بینما کان أمیرالمؤمنین علیه السلام یتجنّب استعمال الخضاب (1) أحیاناً، وکان یلبس اللباس الخشن، بینماالإمام الصادق علیه السلام یلبس اللباس الناعم والفاخر(2) وقد استلم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وعلیّ علیه السلام أزمّة الحکم، بینما لم یستلم سائر الأئمّة علیه السلام زمام الحکومة. ونری أنّ الإمام الحسین علیه السلام قد ثار ضدّ السلطة الأمویة، بینما الإمام الحسن علیه السلام تصالح معها.

وعشرات النماذج والأمثلة من هذا القبیل، التی تحکی عن تأثیر ظروف الزمان والمکان فی السیرة العملیة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام. وبدیهیّ أنّ کلّ واحد من هؤلاء المعصومین لو کان یعیش فی ظروف أخری کان یتحرّک ویسلک ذلک السلوک أیضاً، إذن فالتغییر فی السیرة لا یعنی التغییر فی القیم أو الأحکام أو الأصول.


1- نهج البلاغة، الحکمة 17. وسئل علیه السلام عن قول الرسول صلی الله علیه و آله« غیّرواالشیبَ ولا تشبَّهوا بالیهودِ» فقال علیه السلام: إنّما قال صلی الله علیه و آله ذلک والدّین قُلّ فأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار.
2- الکافی، ج 5، ص 65؛ مجموعة آثار الاستاذ المطهری، ج 21، ص 152( بالفارسیّة)؛( وللمزید من الاطلاع انظر إلی بحث« منابع اختلاف الفتاوی» فی هذا الکتاب).

ص: 267

3. کیفیة تأثیر الزمان والمکان فی فتاوی الفقهاء

بالرغم من أنّ قسماً عظیماً من اختلافات فتاوی الفقهاء لا یتّصل بالظروف الزمانیة والمکانیة، نظیر الاختلافات التی تنشأ من الاختلاف فی المبانی الرجالیة، والدرایة، وفقه اللغة، وتفاوت السطوح والمستویات العلمیة للفقهاء، ونظیر الاختلافات التی تنشأ من الاختلاف فی بعض المبانی الأصولیة من قبیل الاختلافات الکثیرة بین فتاوی ابن إدریس وفتاوی شیخ الطائفة، والباعث علی ذلک المیل الشدید لابن إدریس فی اتّباع الاستدلال العقلی واجتناب أخبار الآحاد خلافاً للشیخ الطوسی الذی یری حجّیة خبر الواحد(1).

وبعض هذه الاختلافات فی الفتاوی ناشئة من تأثیرات المتغیّرات الزمانیة والمکانیة، نظیر الاختلافات فی نوع الأسئلة والاستفتاءات التی تنشأ من حاجة زمان خاصّ أو مکان خاصّ لهذه الأسئلة، ومطالبة الفقهاء بالجواب عنها، مثلًا کان الفقهاء ولعدّة أجیال یفتون بنجاسة أهل الکتاب، بینما الأجیال اللاحقة أفتوا بطهارتهم، وفقهاء عصر الحکومة الدینیة یختلفون فی فتاواهم مع فقهاء عصر غیر الحکومة الدینیة، وفقهاء عصر الانترنیت والکامبیوتر فیما یواجهون من أسئلة وحاجات عالمیة، فیما سنحت لهم الفرصة بالقیام بأسفار متعدّدة إلی مناطق أخری من العالم، فمن الطبیعی أن یصدروا أحکاماً أخری. ولا ینبغی توهم أنّ المراد من ذلک أنّ هؤلاء الفقهاء یقعون تحت تأثیر المحیط والظرف الاجتماعی والثقافی وتتلّون فتواهم بلون المحیط هذا، بل المقصود أنّهم أدرکوا حاجات جدیدة ومسائل مستحدثة جعلتهم یتحرّکون فی فهم النصوص والأدلة من موقع التعمّق والتدبّر أکثر، وبالتالی استخراج فتاوی جدیدة من عمق هذه الأدلّة.

والجدیر بالذکر أنّ هذا النوع من الاختلاف فی الفتاوی موجود أیضاً بین فتاوی أئمّة المذاهب الأربعة حیث أنّ هذا الاختلاف ناشی ء أحیاناً من تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الاستنباط، وأحیاناً أخری ناشی ء من الاختلاف فی المبانی. وأحیاناً یقوم إمام مذهب معیّن بتغییر فتواه أیضاً، وأحیاناً یبرز اختلاف بین فقهاء المذهب الواحد أیضاً، مثلًا نری أنّ نمط تفکیر أبی حنیفة عقلانیّ إلی حدّ الإفراط؛ أی أنّه یتحرّک فی الفقه بالاعتماد بشکل کبیر علی الاستدلال، بحیث أنّه قلّما یعتمد فی فتواه علی الأخبار والأحادیث، ولذلک فإنّ مسلک أبی حنیفة یعتمد علی القیاس ومرکزه العراق والکوفة.

بینما نری أنّ معاصره مالک بن أنس ومرکزه المدینة. کان یعتمد علی الحدیث بشکل أکبر، وفی صورة عدم وجود الحدیث یعمل بسیرة الصحابة، وإلّا فإنّه یأخذ بسیرة التابعین، وکان الشافعی متوسّطاً بینهما، فإنّه تلمیذ أبی حنیفة، والظاهر أنّه کان تلمیذ أبی یوسف. وقد درس عنده فقه أبی حنیفة فی العراق مدّة معیّنة، ثمّ درس عند مالک، ثمّ توجه إلی مصر، وأخذ أهالی مصر بفتاواه وعملوا بها، ومنذ ذلک الزمان یعتنق أهالی مصر المذهب الشافعی.

وقد کان أحمد بن حنبل معاصراً للإمام الهادی علیه السلام.

وکان فقهه جامداً إلی حدّ کبیر، بل إنّه أساساً لا یعتقد بالعقل ولا یری له شأناً فی الأحکام (2).


1- السرائر، ج 3، ص 46 و 51.
2- مجموعة آثار الاستاذ المطهری، ج 21، ص 80- 82( بالفارسیّة).

ص: 268

ویتّفق جمیع الفقهاء أنّ کتاب «الحجّة» أو «البغدادی» تضمّن المذهب القدیم للإمام الشافعی، وهذا الکتاب کتبه الشافعی لأحد أتباع مالک الذی کان مجتهداً فی ذلک المذهب، إذن فالمذهب القدیم للإمام الشافعی هو مذهب مالک، والمذهب الجدید له یعتبر مذهباً اجتهادیاً مستقلّاً دوّنه الشافعی فی کتابه «الامّ»(1).

وقد ذکر الشافعی فی فتاواه القدیمة آراء تخالف فتاواه الجدیدة، ومن جملة فتاواه القدیمة والجدیدة کالتالی:

أ) أفتی فی القدیم أنّ الماء الراکد إذا کثر لا ینجس بملاقاة النجس (2)، ولکن فی کتابه «الامّ»، (ج 1، ص 4) أفتی بنجاسته.

ب) کان یری استحباب قول آمین [بعد قراءة سورة الحمد] فی الصلوات الجهریة(3) ولکنّ ظاهر کلامه فی کتاب «الامّ»، (ج 1، ص 109) یوحی بوجوب قول آمین مطلقاً.

ج) إذا نوی الصیام فی اللیلة السابقة، ثم جُنّ، فصومه صحیح إذا شفی من جنونه فی بعض ذلک الیوم (4)، ولکن یتّضح من کتاب «الفقه علی المذاهب الأربعة» (ج 1، ص 576) أنّ فقهاء المذاهب الأربعة متّفقون علی أنّ صومه باطل مطلقاً، وفی قضائه اختلاف، فالشافعیة تری أنّه إذا تناول شیئاً فی اللیل یؤدّی إلی جنونه فی النهار فیجب علیه قضاء ذلک الیوم، وإلّا فلا.

وبالنسبة لعقد النکاح، فالإمام الشافعی یری لزوم التکافؤ بین الزوجین فی الدین الإسلامی والأخلاق فقط، ولکنّ جماعة أخری من الفقهاء الشافعیة کأبی إسحاق الشیرازی، إمام الحرمین، والغزالی والقفّال قالوا بعدم کفایة المماثلة فی الدین والأخلاق، بل أضافوا إلیها أموراً أخری کالحریة، والنسب، والکسب والمکانة الاجتماعیة وغیرها، وطبقاً لرأی البعض أنّ التکافؤ ینبغی أن یکون فی الثروة والمال والشأنیّة(5).

الأمر الخامس: نتائج التأثیر

اشارة

إنّ القول بتأثیر الزمان والمکان له فوائد کثیرة، نشیر هنا إلی موارد منها:

أ) حلّ التعارض الظاهری الموجود فی السیرة النظریة والعملیة للمعصومین علیهم السلام

إنّ الهدف من بحث دور الزمان فی علاج التعارض هو الوصول إلی جمع دلالیّ وعرفیّ بین النصوص وبالتالی رفع التعارض الظاهری، لا أن یکون المراد ترجیح روایة علی روایة أخری، وبالتالی بجدّیة صدور إحداهما وعدم جدّیة صدور الأخری، کما فی الحمل علی التقیة. وببیان آخر: إنّ المراد هو أنّه مع فرض صدور کلا هاتین الروایتین وجدّیة صدورهما واستعمالهما، فإنّ کلّ واحدة منهما تتعلّق بزمان أو مکان أو ظروف خاصّة، ولذلک لا تعارض بینهما.

والأمثلة علی تأثیر الزمان والمکان فی حلّ التعارض فی السیرة النظریة والعملیة للمعصومین علیهم السلام من قبیل فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام، عبارة عن:

1. الأخبار الواردة فی الخمس تنقسم إلی طائفتین،


1- تجزئة وتحلیل لحیاة الإمام الشافعی، ص 157- 160.
2- المصدر السابق، ص 152- 154؛ الإمام الشافعی فی مذهبیه القدیم والجدید، الدکتور أحمد الغراوی عبدالسلام، ص 551.
3- المصدر السابق، ص 152- 154؛ الإمام الشافعی فی مذهبیه القدیم والجدید، الدکتور أحمد الغراوی عبدالسلام، ص 551.
4- المصدر السابق، ص 152- 154؛ الإمام الشافعی فی مذهبیه القدیم والجدید، الدکتور أحمد الغراوی عبدالسلام، ص 551.
5- انظر: تجزئة والتحلیل فی حیاة الإمام الشافعی، ص 309- 311.

ص: 269

ومن بین الروایات التی تقرّر تحلیل الخمس والعفو عنه فهناک أخبار صحیحة من حیث السند وصریحة من حیث الدلالة، مثل صحیحة فضل (1) عن الإمام الباقر علیه السلام الذی ینقل عن أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام أنّه قال:

«... إنّ شیعتنا من ذلک وآباءهم فی حلّ»(2).

والطائفة الثانیة تؤکّد علی ضرورة دفع الخمس والمطالبة به؛ مثل روایة محمّد بن زید الطبری عن الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام فی جوابه عن أحد تجّار فارس فی سؤاله عن حکم الخمس قال:

«إنّ الخمس عوننا علی دیننا وعلی عیالنا وعلی موالینا وما نبذله ونشتری من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه عنّا ...»(3).

ولا شکّ فی أنّ اختلاف هاتین الطائفتین من الروایات ناشی ء من الاختلاف فی الظروف الزمانیة لکلّ من الإمام الباقر والإمام الرضا علیهما السلام.

2. مضافاً إلی الآیات القرآنیة، فإنّ الروایات الإسلامیة تدلّ أیضاً علی أنّ المسلمین فی صدر الإسلام أُمروا بالهجرة، أی أنّهم یجب علیهم التحرّک والتوجه إلی المدینة من أیّ مکان أسلموا فیه، ولکن ورد فی بعض الروایات عدم وجوب الهجرة، بل إنّ هذا الحکم مقیّد بأن لا هجرة بعد فتح مکّة.

هنا لا یوجد أیّ تنافٍ وتعارض بین هاتین الروایتین، لأنّ الهجرة کانت مختصّة بزمان کان عدد المسلمین فیه قلیلًا وکانت المدینة مرکز الإسلام ویجب تقویة هذا المرکز، ولکن بعد فتح مکّة وسیطرة الإسلام علی جزیرة العرب، فإنّ الهجرة فقدت غرضها وانتهی مفعولها.

3. ونقرأ فی حدیث شریف أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله کان یری استحباب الخضاب للرجال، ولکن عندما سئل الإمام علیّ علیه السلام عن الخضاب قال:

«إنّما قال صلی الله علیه و آله ذلک والدّینُ قُلّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار»(4).

4. اختلاف کلّ واحد من المعصومین علیهم السلام فی أسلوب مواجهته للحکومات الظالمة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف الزمانیة والمکانیة والقدرة القتالیة لأتباعهم، ومن هنا یختار أحدهم «الحرب» والآخر «الصلح والحیاد».

5. ورد فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام فی جوابه عن سؤال حفظ لحوم الأضاحی فی منی أکثر من ثلاثة أیّام، فقال:

«لا بأس بذلک الیوم، إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إنّما نهی عن ذلک أوّلًا لأنّ النّاس کانوا یومئذٍ مجهودین»(5).

6. أحیاناً نری أنّ السیرة العملیة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله أیضاً تختلف بحسب الأوضاع والمتغیرات الزمانیة، مثلًا السنوات الأولی من البعثة أجاز رسول اللَّه صلی الله علیه و آله للمسلمین فی تلک الظروف الصعبة وفی مقابل أذی المشرکین أن لا یواجهوهم من موقع القوةّ واستخدام العنف، بل أمرهم بالصبر والثبات، ولکن بعد هجرته إلی المدینة وتشکیل الحکومة وتوفّر العدّة والعدد، فإنّه فی مقابل أذی المشرکین أمر المسلمین بالجهاد والمقاومة الشدیدة(6).


1- محمّد بن مسلم، زرارة وأبوبصیر.
2- وسائل الشیعة، ج 6، ص 379، ح 1.
3- المصدر السابق، ج 6، ص 375، ح 2.
4- نهج البلاغة، الحکمة 17.
5- وسائل الشیعة، ج 10، ص 149، ح 5.
6- وقد شرعت مراحل الجهاد بالتدریج أیضاً، المرحلة الأولی. إذن الدفاع:« أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ...».( سورة الحج، الآیة 39). المرحلة الثانیة. إبعاد المتعرضین عن المسلمین:« فَإِنْ لَّمْ یَعْتَزِلُوکُمْ وَیُلْقُوا إِلَیْکُمُ السَّلَمَ ...».( سورة النساء، الآیة 91). المرحلة الثالثة. قتال مَن حولهم من الأعداء:« ... قَاتِلُوا الَّذِینَ یَلُونَکُمْ مِّنَ الْکُفَّارِ ...».( سورة التوبة، الآیة 123). المرحلة الرابعة. الحرب الضاریة:« وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّی لَاتَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ للَّهِ».( سورة البقرة، الآیة 193).

ص: 270

وکذلک ما وقع للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی غزوة بدر وأُحد والأحزاب، وموقفه الشدید من أعدائه المشرکین والتشدید فی عقابهم، بینما نری تغیّر الموقف فی فتح مکّة علی أساس المتغیّرات الجدیدة، حیث تعامل معهم من موقع اللطف والإکرام وتجنّب موقف الانتقام واستخدام القوّة.

ب) التسهیل فی الأحکام الحکومیة

إنّ الأحکام الشرعیة تنقسم بشکل عام إلی ثلاثة أقسام: الأحکام الأوّلیة، الأحکام الثانویة، والأحکام الحکومیة.

ومن البدیهی أنّ ملاک وضع الحکم بالنسبة للأحکام الحکومیة لیس سوی مصلحة الإسلام والمسلمین، ومن الواضح أنّ هذه المصلحة تتغیّر مع تغیّر العلاقات السیاسیة، ومدی التطوّر التکنولوجی والعلمی.

إنّ الأوامر الاجتماعیة والسیاسیة لقادة الإسلام وبسبب صدورها من أجل مراعاة هذه المصلحة، لا یمکن القول بثباتها. ویری المرحوم الشهید المطهّری، أنّ فلسفة الأحکام الحکومیة فی الشریعة تتناغم دائماً مع القوانین الإسلامیة وتهدف إلی تکریس حاکمیة الدین مع کلّ المتغیرات الزمانیة والمکانیة(1)، ومن خلال فهمنا لمقولة تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد، فإنّ مسألة الحکم والسلطة التی هی فی غایة التعقید، ستکون سهلة ومیسورة، وکمثال علی ذلک نشیر إلی الموارد التالیة:

1. مسألة ضمان العامل فی صورة تلف المال بیده، وهذه المسألة تعدّ من المسائل التی یمکن رؤیة تأثیر الزمان والمکان فی صیاغة الحکم فیها بوضوح.

فالعمّال وأصحاب الحرف المختلفة عندما یستلمون بضاعة المراجع لهم لغرض تعمیرها وإصلاحها ویحتفظون بها عندهم، ربّما یحدث أمر یؤدّی إلی تلف هذه البضاعة، فإذا کان ذلک العامل أو المهنیّ أمیناً فإنّه لا یضمن، هذا فی حین أنّ الإمام أمیرالمؤمنین علیّاً علیه السلام قال بلزوم الضمان بنحو مطلق وضرورة حفظ أموال الناس (2)، مع الالتفات إلی أنّ الید هنا ید أمینة، وطبقاً للقاعدة: لا ضمان فی صورة عدم التقصیر، ولکنّ الإمام مع ذلک حکم بالضمان بنحو مطلق.

وهذا یشیر إلی أنّ روحیة الإهمال فی زمان الإمام بین أصحاب الحرف المختلفة تجاه حفظ أموال الناس کانت هی الغالبة، والإمام کان یری نفسه- کما یقول العلّامة المجلسی: موظّفاً بتأدیب الناس،(3) ومن أجل مواجهة هذه الحالة حکم بالضمان بنحو مطلق (بحیث شمل الأقلیّة الأمینة أیضاً) وهذا شاهد آخر علی دور الزمان فی الأحکام الحکومیة للحاکم.

2. فی صلح الحدیبیة، فحسب الظاهر إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله منح بعض الامتیازات للکفّار، ومن هنا فقد اشتدّ هذا الأمر علی بعض الصحابة(4) ولکن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مع الالتفات إلی مصالح الإسلام والمسلمین کان یعلم أنّ


1- الإسلام ومقتضیات الزمان، ج 2، ص 90 و 91( بالفارسیّة).
2- وسائل الشیعة، ج 13، باب 29 من أبواب أحکام الإجارة، ح 4 و 12.
3- مرآة العقول، ج 19، ص 296.
4- تاریخ الطبری، ج 2، ص 634- 638.

ص: 271

هذا الصلح یحقّق منافع کبیرة للإسلام والمسلمین. ومن الواضح أنّ المصلحة التی یراها الحاکم فی مثل هذه الموارد تابعة لمقضیات الزمان والمکان، وعلی أساسها یتمّ إصدار الحکم.

ج) التسهیل فی أمر المعیشة

مع قبول تغییر الأحکام علی أساس تغییر الموضوع، یمکن العثور علی نماذج کثیرة من تأثیر هذه القضیّة فی تسهیل أمور الناس المعاشیّة:

1. ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی جوابه عن إشکال سفیان الثوری علی طریقة لباسه حیث قال الإمام علیه السلام:

«... أُخبرک أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان فی زمان مقفر جرب، فأمّا إذا أقبلت الدنیا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها ومؤمنوها لا منافقوها ومسلموها لا کفّارها ...»(1).

2. قال أبوبکر الحضرمیّ: دخلنا علی أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) فقاله له حکم السرّاج: ما تری فیمن یحمل السروج إلی الشام وأداتها؟ فقال:

«لا بأس، أنتم الیوم بمنزلة أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، إنّکم فی هدنة، فإذا کانت المباینة، حرم علیکم أن تحملوا إلیهم السروج والسلاح»(2).

3. بالنسبة لآداب المعیشة نری أیضاً تأثیر الزمان والمکان، ویستفاد هذا المعنی بوضوح من الروایة المنسوبة إلی أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام أنّه قال:

«لا تُقسِروا أولادَکم علی آدابِکم فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غیر زمانکم»(3).

4. إنّ العمل والکسب فی السابق لم تکن له حدود معیّنة من عمر الشباب والصبیان، ولم یرد فی الشرع أمر خاصّ فی هذا المجال، ولکن فی هذا العصر فإنّ الکثیر من المحافل العالمیة ومن أجل حفظ الصبیان ودفعهم باتجاه التحصیل العلمیّ، فإنّها تضع سنّاً معیّنة للعمل وتمنع من استخدام الأطفال فی العمل، وقد وافقت علی ذلک بعض المحافل الإسلامیة لوجود مصالح قطعیّة فی مثل هذه القوانین.

د) تناسب الأحکام الإسلامیة مع الحاجات الواقعیة للعصر

وأحد المسائل الجدیدة فی عصرنا الحاضر، استبدال ما کان علیه الناس من البیعة للحاکم فی العصور القدیمة إلی أخذ رأی أفراد الشعب، واستبدال المصافحة بالید فی البیعة بإلقاء أوراق الاقتراع فی الصندوق.

والفقیه الذی یری تدخّل عنصر الزمان والمکان فی عملیة الاجتهاد یقول: إنّ الموضوع فی هذ القضیة هو «إعلان الطاعة» للقائد أو الفقیه الحاکم، هذا الموضوع کان فی نظر العرف سابقاً یتحقّق بالمصافحة، والیوم یتحقّق بصورة أخری من خلال وضع آراء الناس فی صنادیق الانتخاب، وبذلک تُحلّ المسألة.

وببیان آخر: بما أنّ الإسلام یجیب عن احتیاجات الإنسان، فإنّ شکل الإستجابة لهذه الحاجات یختلف من زمان لآخر. هذا المعنی یتحقّق من خلال التأکید علی تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد، وما نراه الیوم من وجود «مسائل مستحدثة» إنّما هو من معطیات عنصر الزمان، وهکذا فی أرباح العقود المصرفیة، بیع وشراء أعضاء الإنسان، بیع وشراء الدم، التأمین


1- الکافی، ج 5، ص 65.
2- المصدر السابق، ص 112.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 2، ص 267.

ص: 272

الاجتماعی، قانون العمل، مقرّرات المرور، البیئة، المعادن، الحقوق العالمیة، والرحلات الفضائیة، التوأمین الملتصقین، المشارکة فی الانتخابات عن طریق الاقتراع، کلّها من جملة المسائل التی لم تکن فی صدر الإسلام وعند صدور الأحکام الشرعیة، ومع القول بتأثیر عنصری الزمان والمکان فی الاجتهاد یمکن استنباط أجوبة هذه المسائل من النصوص الدینیة.

ه) رفع العسر والحرج

إنّ العسر والحرج یعدّان من العناوین النسبیة والإضافیة، حیث تتغیّر مع تغیّر الظروف الزمانیة والمکانیة (اختلاف الأشخاص وحالاتهم) إنّ قاعدة نفی العسر والحرج حاکمة علی الکثیر من الأحکام الحکومیة، والفقیه یمکنه بتشخیص موارد العسر والحرج التی تختلف باختلاف الزمان والمکان، أن یمنع وقوع الناس فی المشقّة والعسر، وفی هذا العصر وبسبب استعمال الناس لوسائل النقل الجدیدة، فإنّ السفر للحجّ بالطریقة القدیمة (مشیاً علی الأقدام أو رکوب الدوابّ) یعتبر عملًا صعباً جدّاً وفیه نوع من الحرج قطعاً، وبالتالی فإنّ الحکم بوجوب الحجّ علی من یفتقد وسائل النقل الحدیثة، مرفوع بحکم قاعدة «لا حرج».

الفصل الثانی: الشبهات و علامات الإستفهام

أ) الإشکال علی خلود الأحکام الأوّلیّة للإسلام

إذا قلنا بتأثیر الزمان والمکان فی الأحکام وأنّها تؤدّی إلی تغییر هذه الأحکام، فذلک یعنی أنّ الإسلام لیس دیناً أبدیّاً ولیست أحکامه خالدة، وهذا الأمر یتقاطع مع أصل أبدیة الأحکام:

«حَلالُ محمّدٍ حَلالٌ إلی یوم القیامةِ وحَرامُه حَرامٌ إلی یومِ القیامةِ».

الجواب: لقد تبیّن فی البحوث السابقة بوضوح أنّ الأحکام الإسلامیة لا تقبل التغییر، وإنّما یصیب التغییر موضوعات الأحکام، وحینئذٍ لا یرد الإشکال علی أحکام الإسلام وأبدیّتها، مثلًا إذا تبدّل الخمر إلی الخلّ وتبدّل الحکم بحرمته إلی الإباحة، فلا یقال حینئذٍ أنّ الأحکام الإسلامیة غیر أبدیّة.

ب) محوریّة المصلحة والمصالح المرسلة

علی أساس ما تقدّم من کون المصلحة هی المحور لصدور الأحکام، والفقیه إنّما یصدر الحکم الشرعیّ من خلال تشخیصه للمصلحة، وهذا هو ما ورد من المصالح المرسلة لدی أهل السنّة عند فقدان الدلیل الشرعی المعیّن.

وبعبارة أخری: إنّ فقهاء أهل السنّة یتمسّکون فی الموارد التی لا یوجد نصّ أو حکم شرعیّ فیها، بالمصالح المرسلة، فی حین أنّ هذا المطلب غیر مقبول لدی فقهاء الإمامیة.

الجواب: إنّ أصول الفقه لدی الشیعة وإن کانت تؤکّد علی تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد الواقعیة فی مقام الثبوت، إلّاأنّها فی مقام الإثبات لا تقرّر أنّ کلّ مصلحة یراها الإنسان ما لم تکن مفیدة للعلم، هی ملاک استنباط الحکم الإلهیّ الکلیّ (1)، وبعبارة أخری: إنّ المقصود من المصلحة التی یتمسّک بها الفقیه الشیعی


1- أصول الفقه للمظفر، ج 3، ب 4، الدلیل العقلی.

ص: 273

هی المصلحة التی یعلم بأنّها یقینیّة فی الحکم الشرعیّ، فی حین أنّ المصالح المرسلة عند أهل السنّة تشمل المصالح الظنّیة أیضاً.

ج) محوریّة العرف وانقلاب الأحکام الشرعیّة إلی عرفیّة!

الشبهة الأخری، أنّه مع تدخّل الدین فی مجال السیاسة وتأثیر الزمان والمکان فی الأحکام، فإنّ ذلک یؤدّی إلی انقلاب الدین الإلهیّ إلی دین عرفیّ، وحینئذٍ سیفقد قداسته لدی الناس، وببیان آخر: إنّ ارتباط المدرسة الفقهیة بجهاز الحکومة والسلطة یؤدّی إلی تحمیل السیاسة ومقضیاتها علی الدین، والسلطة خاصّة فی العصر الحاضر تعتبر أهم مرکز عرفیّ فی المجتمع، وعلیها من أجل حفظ بقائها فی العالم المعاصر أن تتحرّک فی خطّ المحاسبات العقلانیة، وتعمل وفق المصالح والمنافع وتحسب مقدار النفقات والمحدودیات والقدرات التی تملکها، وکلّ هذه المتغیّرات ستنعکس علی الدین فی الحکومة الدینیة وبالتالی لا یبقی للدین شی ء إلّاوانقلب إلی عرف وحسابات مصلحیة.

الجواب: إنّ العرف یعدّ من العناصر التی یعتمدها الفقیه لمعرفة موضوعات الأحکام لا الأحکام نفسها فالعرف یساهم فی الکشف بشفّافیة عن الموضوعات من أجل استنباط أحکامها فی إطار الضوابط الدینیة، وأمّا مورد الإشکال هنا فتبعیّة الدین للعرف، ومثل هذا الأمر لا یتحقّق بمجرّد تدخّل العرف فی تشخیص الموضوعات.

وتوضیح ذلک: إنّ الضرورات وأشکال الأزمات والتحدّیات التی تواجه الحکومة الدینیة إذا دخلت فی إطار العناوین الثانویة، فحکمها واضح، وهذا لا یرتبط بشکل أو بآخر بعرفیة الأحکام، مثلًا عندما نری فی الظروف الحالیة أنّ عملیة الشوری فی أمور المسلمین لا تتیسّر إلّامن خلال انتخاب المجلس التشریعی من قِبل الناس، فنحن نتحرّک أیضاً بهذا الاتّجاه، لأنّ الضرورة هنا تستوجب ذلک، والضرورات من العناوین الثانویة. کما ورد فی الحدیث المعروف:

«لیس شی ء ممّا حرّم اللَّه إلّاوقد أحلّه لِمَن اضطُرّ إلیه»(1)

، وبدیهیّ أنّ من الممکن أن یکون الشی ء فی ذاته مباحاً کالانتخابات، ولکنّ الضرورات تدعو للقول بوجوبه.

ومن جهة أخری، فإنّ الرجوع للعرف لتشخیص موضوعات الأحکام، غیر ما یقال عنه فی مسألة العرف الذی یقصد به اتّجاه ایدیولوجی لمواجهة الإیمان الدینی لدی الناس.

والملاحظة المهمّة فیما نحن فیه هی أنّ القضایا الشرعیة، کما هو ثابت فی علم الأصول، صادرة علی نحو القضایا الحقیقیة التی تنظوی فی دائرة شمولها جمیع الأفراد الموجودین فی زمان الحکم وما بعده، وفی الواقع إنّها تعود إلی القضایا الشرطیة. فالبرغم من إمکانیة أن یتغیّر خصوص موضوع مثل هذه القضایا علی امتداد الزمان، أو تظهر له مصادیق جدیدة، وتبعاً لذلک یتغیر الحکم الشرعی، ولکنّ الشرطیة والتلازم الموجود فی مثل هذه القضایا (إذا کان کذا فیکون کذا) ثابتة دائماً، وروح وجوهر هذه القضایا یعود إلی تلک الشرطیة والتلازم الموجود، ومن الواضح أنّ تغییر الموضوع أو المصداق وحتّی تغییر المحمول فی القضیة


1- مستدرک الوسائل، ج 12، ص 258.

ص: 274

تبعاً للموضوع، لا یتنافی مع ثبات ودوام الحکم (المشروط) فی هذه القضیة.

مثلًا: الحکم الکلّی بأنّ

«بیع الدم حرام»

یعود لأصل کلّی هو

«إنّ اللَّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه»(1)

. فإذا تغیّر الشرط، یعنی أنّ ما کان له منفعة محرّمة فقط فی السابق کما فی مثال الدم وقد ظهرت له منافع مباحة فی زماننا هذا تتسبب فی نجاة نفوس الناس، فمن الطبیعی أنّ جزاء هذا الشرط، الذی هو حرمة البیع والشراء، سیتبدّل قهراً.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الإتقان فی علوم القرآن، جلال الدین السیوطی، دار ابن کثیر، بیروت، 1416 ه. ق.

4. الإسلام ومقتضیات الزمان، العلّامة الشهید مرتضی المطهّری، انتشارات صدرا، الطبعة الثامنة، 1373 ش.

5. أصول الفقه الإسلامی، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر، دمشق، 1406 ق.

6. الإمام الشافعی فی مذهبیه القدیم والجدید، الدکتور أحمد الغراوی عبدالسلام.

7. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

8. بحث حول المرجعیة والعلماء، العلّامة السید محمد حسین الطباطبائی، شرکة انتشار المساهمة، طهران، 1341 ش.

9. بدایة المعارف الإلهیّة فی شرح عقائد الإمامیّة، محسن الخرّازی، جماعة المدرّسین قم، الطبعة السابعة، 1420 ق.

10. تاریخ الطبری، أبوجعفر بن محمد بن جریر الطبری، تحقیق محمد أبوالفضل ابراهیم، دارالتراث، بیروت، الطبعة الثانیة، 1378 ق.

11. تحریر المجلة، کاشف الغطاء، المکتبة المرتضویّة، مکتبة النجاح، طهران، ومکتبة فیروزآبادی قم، 1359 ق.

12. تجزیه وتحلیل زندگانی إمام شافعی، عبداللَّه أحمدیان، نشر إحسان (بالفارسیة).

13. تفسیر القرطبی، (الجامع لأحکام القرآن)، أبوعبداللَّه محمّد ابن أحمد القرطبی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1405 ق.

14. التنقیح فی شرح العروة الوثقی، آیة اللَّه الخوئی، المطبعة العلمیّة، قم، الطبعة الثانیة، 1407 ق.

15. تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، دارالکتب الإسلامیّة، الطبعة الرابعة، 1365 ش.

16. جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، دارالاحیاء التراث العربی، بیروت، 1981 م.

17. دروس فی علم الأصول، الشهید محمّد باقر الصدر، مجمع الشهید الصدر، إسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1408 ق.

18. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1385 ق.

19. طبقات الفقهاء، آیة اللَّه جعفر السبحانی، مکتبة توحید، قم، الطبعة الأول، 1418 ق.

20. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسائی، تحقیق السیّد المرعشی ومجتبی العراقی، مطبعة سید الشهداء، قم، الطبعة الأول، 1403 ق.

21. الفقه علی المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزیری،


1- عوالی اللئالی، ج 2، ص 110، ح 301؛ تفسیر القرطبی، ج 2، ص 220.

ص: 275

دارالفکر، بیروت.

22. الفروق، العلّامة القرافی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی 1418 ق.

23. فوائد الأصول، المیرزا محمّد حسین النائینی، جماعة المدرّسین قم، 1414 ق.

24. القواعد والفوائد، محمد بن مکی (الشهید الأوّل)، تحقیق عبدالهادی الحکیم، مکتبة الشیخ المفید، قم الطبعة الاولی.

25. الکافی، أبوجعفر محمد بن یعقوب الکلینی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1367 ش.

26. کتاب المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری، منشورات دار الذخائر، قم، الطبعة الثانیة، 1411 ق.

27. کیهان اندیشه، العدد 29 (بالفارسیة).

28. مجمع الفائدة و البرهان، المحقّق الأردبیلی، جامعة المدرّسین قم، 1411 ق.

29. مجموعة آثار الاستاذ الشهید العلّامة مرتضی المطهّری رحمه الله، انتشارات صدرا.

30. المختصرالنافع، المحقّق الحلّی، مؤسّسة المطبوعات الدینیة، 1376 ش.

31. المدخل الفقهی العام، محمّد مصطفی الزرقاء، مطبعة طربین، دمشق، 1968.

32. مرآة العقول، العلّامة محمّد باقر المجلسی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الأولی 1366 ش.

33. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الأولی 1407 ق.

34. المعجم الأوسط، سلیمان بن أحمد الطبرانی، تحقیق إبراهیم الحسینی، دارالحرمین.

35. مفتاح الکرامة، العلّامة السیّد جواد العاملی، جماعة المدرّسین قم، الطبعة الأولی 1424 ق.

36. مصباح الفقاهة، آیة اللَّه الخوئی، الوجدانی، الطبعة الأولی 1368 ش.

37. الموافقات، الشاطبی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

38. الموسوعة الفقهیة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة، الکویت، الطبعة الاولی، 1416 ق.

39. المیزان، مؤسسة تفسیر القرآن، العلّامة السید محمد حسین الطباطبائی، مؤسسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الثالثة، 1394 ق.

40. نهایة الحکمة، العلّامة الطباطبائی، جماعة المدرّسین قم، الطبعة الحادیة عشرة، 1415 ق.

41. وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، المکتبة الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1395 ق.

ص: 276

ص: 277

11

القسم الحادی عشر: العلوم الّتی یتوقّف علیها الإجتهاد

اشارة

الاجتهاد فی اللغة

الاجتهاد فی الاصطلاح

أقسام الاجتهاد

المراد من الاجتهاد فی عنوان البحث

لزوم تعلّم بعض العلوم کمقدّمة للاجتهاد

العلوم التی تعتبر مقدّمة للإجتهاد

ص: 278

ص: 279

العلوم الّتی یتوقّف علیها الإجتهاد

مقدّمة:

إنّ عملیة الاجتهاد والاستنباط حالها حال العلوم الأخری، تحتاج إلی مقدّمات لیتمکّن الفقیه من استنباط الفروع الفقهیة بشکل صحیح ومنهجیّ، وقبل البحث فی هذه العلوم، نری من الضروری إلفات النظر إلی عدّة نقاط:

1. الاجتهاد فی اللغة

2. الاجتهاد فی الاصطلاح

3. أقسام الاجتهاد

4. المراد من الاجتهاد فی عنوان البحث

5. لزوم تعلّم بعض العلوم کمقدّمة للاجتهاد

1. الاجتهاد فی اللغة

الاجتهاد فی اللغة من مادة «جَهْد» بفتح الجیم، أو من «جُهد» بضمّ الجیم؛ یقول الفیّومی: «الجُهد بالضم فی الحجاز وبالفتح فی غیرها: الوسع والطاقة»(1) ویقول ابن فارس: «الجیم والهاء والدال، أصله المشقّة ...

والجُهد الطاقة»(2) ویقول ابن منظور: «الجَهْد و الجُهد بمعنی الطاقة» وقد جاء فی هذا الکتاب أیضاً أنّ «جَهْد» بمعنی التعب والألم و «جُهد» بمعنی الطاقة والقدرة(3).

ویقول الراغب الاصفهانی:

«الجَهْد والجُهد الطاقة والمشقّة»

، وأیضاً:

«الجَهْد الطاقة»

و

«الجُهد الوسع»

وأخیراً قال: «

الاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقة»(4).

والحقیقة أنّ تحمّل المشقّة والصعوبة من لوازم استخدام غایة القدرة والطاقة، فالاجتهاد فی اللغة بمعنی الاستفادة من جمیع کوامن القدرة والطاقة، ولازمه الوقوع فی المشقّة(5).

وقد جاءت الآیة الشریفة: «لَایَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ»(6) إشارة لهذا المعنی أیضاً، أی أنّهم لا یجدون أکثر من طاقتهم. وجاء هذا المعنی فی «نهج البلاغة» أیضاً:

«ولا یؤدّی حقّه المجتهدون»(7).

وهذه المفردة تستعمل أحیاناً فی الموارد التی یحمل


1- المصباح المنیر، مادّة« جهد».
2- مقاییس اللغة، مادّة« جهد».
3- لسان العرب، مادّة« جهد».
4- المفردات، مادة« جهد».
5- أنوار الأصول، ج 3، ص 596.
6- سورة التوبة، الآیة 79.
7- نهج البلاغة، الخطبة 1.

ص: 280

فیها الإنسان أشیاء ثقیلة أو یرفعها.

ذلک لا یقال لمن تعلّم ضروریات الدین أنّه اجتهد ولکن یقال للفقیه الذی یتحرّک علی مستوی حلّ تعقیدات المسائل الفقهیة ویستنبط تفاصیل الأحکام الشرعیة، أنّه مجتهد(1).

2. الاجتهاد فی الاصطلاح

وقد ذکر علماء الأصول للاجتهاد معانی وتعاریف مختلفة، نشیر إلی جملة منها:

أ) استفراغ الوسع فی تحصیل الظنّ بالحکم الشرعیّ (وفی هذه الصورة یطلق علیه الاجتهاد أو المجتهد)(2).

وهذا التعریف وإن ورد فی کلمات بعض علماء الإمامیّة(3) ولکنّ أصله موجود فی کلمات غیر الإمامیة «أهل السنّة»(4)، لأنّ أهل السنّة یرون أنّ الظنّ بالأحکام حجّة شرعیة بشکل مطلق، وأمّا ما هو معتبر لدی الإمامیّة فهی الظنون الخاصّة التی قام الدلیل الخاص علی حجّیتها.

والإشکال الآخر علی هذا التعریف هو أنّه لا وجه لتقییده بتحصیل الظنّ بالحکم الشرعیّ، لأنّه فی صورة بذل الوسع والطاقة فی تحصیل العلم بالحکم الشرعی، یصدق علیه أنّه اجتهاد(5).

ب)

«الإجتهاد هو استفراغ الوسع فی تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعیّ»(6).

وأحد الإشکالات الواردة علی هذا التعریف هو أنّه لا یلزم فی تحقّق الاجتهاد بذل غایة السعی والقوّة فی مقام الفحص، بل إذا تحرّک علی مستوی الفحص والتحقیق بمقدار بحیث یئس من وجود دلیل مخالف أو وجود المخصّص أو المقیّد، فیکفی ذلک للأخذ بظاهر الدلیل الأوّل، ولا حاجة لبذل کلّ طاقته فی مقام الفحص والتحقیق (7)، إلّاأن یکون المراد من استفراغ الوسع هو الفحص بالمقدار المتعارف.

ج) التعریف الوارد فی «التنقیح»، وهو عبارة عن «تحصیل الحجّة علی الحکم الشرعی»(8).

وهذا التعریف وإن کان أفضل وأکمل من التعاریف الأخری، ولکنّ الإشکال الذی یرد علیه هو أنّه شامل لعمل المقلِّد أیضاً لأنّ المقلّد یحصِّل الحجّة علی الحکم الشرعیّ من خلال قول المجتهد، غایة الأمر بطریق الدلیل الإجمالی.

د) التعریف المقبول لدی مشهور علماء الاصول ولا یرد علیه الإشکالات السابقة حیث قالوا:

«الإجتهاد هو استخراج الحکم الشرعیّ الفرعیّ أو الحجّة علیه من أدلّتها التفصیلیة»(9).

3. أقسام الاجتهاد

اشارة

قسّم الاجتهاد إلی عدّة أقسام، ولیس غرضنا فی هذا المقام بیان جمیع الأقسام، بل الغرض بیان مفهوم الاجتهاد فی عنوان البحث، ولذلک نشیر إلی جملة منها:


1- المستصفی، ج 2، ص 350؛ الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 396؛ الأصول العامة للفقه المقارن، ص 561؛ إرشاد الفحول، ص 417؛ المحصول للفخر الرازی، ج 2، ص 425.
2- کفایة الأصول، ج 2، ص 422؛ إرشاد الفحول، ص 250؛ الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 396.
3- مبادی ء الوصول إلی علم الأصول، ص 240.
4- شرح مختصر الحاجبی، ص 460.
5- أنوار الاصول، ج 3، ص 597.
6- المصدر السابق، ص 598.
7- المصدر السابق.
8- التنقیح فی شرح العروة الوثقی، ج 1، ص 22.
9- أنوار الأصول، ج 3، ص 599.

ص: 281

الأوّل: الاجتهاد المطلق والمتجزّی ء

ألف)

الاجتهاد المطلق

هو أن یملک الإنسان القدرة والملکة التی یمکنه بواسطتها استنباط واستخراج الأحکام الفعلیة (تکالیفه وتکالیف مقلِّده العملیة) من الأمارات المعتبرة أوالأصول العملیة المعتبرة، ویمکنه استخراج جمیع الأحکام النظریة والعملیة من منابعها.

وبعبارة أخری، أن تکون لدیه القدرة علی الاجتهاد فی جمیع أبواب الفقه من کتاب الطهارة إلی کتاب الدیات، ویمکنه استنباط واستخراج حکم أیّ مسألة من هذه المسائل، وتسمّی مثل هذه القدرة والملکة

ب «الاجتهاد المطلق»

ویسمّی من یملک هذه الملکة

ب «المجتهد المطلق».

ب)

الاجتهاد المتجزّی ء

: عبارة عن امتلاک الإنسان القدرة والملکة علی استنباط بعض الأحکام الشرعیة من منابعها (مثلًا یجتهد فی باب الطهارة أو فی جمیع العبادات) ولکنّه لا یملک مثل هذه القدرة فی سائر أبواب الفقه، ومثل هذا الفقیه یطلق علیه

ب «المجتهد المتجزّی ء»(1).

الثانی: الاجتهاد العامّ والخاصّ

ألف)

الاجتهاد الخاصّ

، ویعنی إعمال الفقیه لرأیه ونظره فی موارد فقدان النصّ، فلو أنّ الفقیه وجد الحکم الشرعیّ بطریقة الاستنباط من الدلیل القرآنیّ أو من السنّة الشریفة، فإنّه یعمل به، وإلّا فیأخذ برأیه الشخصیّ ویحقّق فی المصالح والمفاسد والمرجّحات فیها ویفتی علی هذا الأساس. وهذا النوع من الاجتهاد مرفوض لدی علماء الإمامیة، والقائلون به هم علماء أهل السنّة فقط(2).

ب)

الاجتهاد العام

، وهو المعنی المعروف الذی ذکر آنفاً، أی القدرة علی الاستنباط فی جمیع الأحکام الفقهیة واستخراجها من أدلّتها التفصیلیة(3).

4. المراد من الاجتهاد فی عنوان البحث

والمراد من الاجتهاد مورد البحث تبیین العلوم التی تعتبر مقدّمة للإجتهاد، هو الإجتهاد المطلق بالمفهوم العام لا الاجتهاد المتجزّی ء ولا الاجتهاد الخاصّ بمعنی الإستفادة من الرأی والقیاس والاستحسان وما إلی ذلک فی موارد فقدان النصّ.

5. لزوم تعلّم بعض العلوم کمقدّمة للاجتهاد

إنّ تعلّم أیّ فرع من الفروع العلمیة کالطبّ، والریاضیات، والکیمیاء وغیرها، بحیث یملک الإنسان درجة التخصّص فی ذلک العلم، بحاجة إلی سلسلة من العلوم المقدّماتیة والتی لا یصل طالب العلم إلی مرتبة التخصّص بدونها، مثلًا إذا أراد الشخص الاستمرار فی دراسته الجامعیة والحصول علی مراتب علیا فی التحصیل العلمیّ فی الطبّ والریاضیّات أو غیرها، فلا بدّ أن یکون له إلمام بمقدّمات هذه العلوم فی مرحلة سابقة.

والاجتهاد المطلق بالمفهوم العام أیضاً غیر مستثنی من هذه القاعدة، أی أنّ الاجتهاد بدوره یمثّل مرحلة تخصّصیة وخبرویّة، والمجتهد بوصوله إلی هذه


1- شرح کفایة الأصول، ج 5، ص 361 و 362؛ إرشاد الفحول، ص 424؛ المستصفی، ج 2، ص 305؛ الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 397 و 398؛ قوانین الأصول، ج 2، ص 342؛ مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص 243؛ مصباح الأصول، ج 3، ص 441.
2- ورد حول هذا النوع من الاجتهاد فی بحث« منابع الاستنباط فی نظر فقهاء الإسلام» وبحث« منابع مورد الاختلاف فی الاستنباط».
3- دروس فی علم الأصول، الحلقة الاولی ص 54- 58.

ص: 282

المرحلة، یمکنه استنباط الأحکام الشرعیة الفرعیة من أدلّتها التفصیلیة، ولذلک إذا أراد الشخص مواصلة دراساته العلمیة للوصول إلی هذه المرحلة التخصّصیة فلابدّ أن یکون له إلمام بمجموعة من العلوم التی تمثّل مقدّمة للاجتهاد(1).

وربّما یکون الإنسان- کما سنشیر إلیه- عالماً ببعض العلوم بشکل فطریّ، کما أنّ بعض العلماء یدّعون مثل هذه الحالة لعلم المنطق. وقد ورد فی کتاب «التنقیح» الاعتراف بهذه الحقیقة، وخلاصة قوله هو أنّ ما نریده من علم المنطق،

حجیّة الشکل الأوّل وشروطه

التی تتمثّل فی کون

الکبری کلیّة والصغری موجبة،

وهذا المعنی واضح لجمیع الناس، کأن یقال: هذه نار وکلّ نار محرقة، إذن هذه النار محرقة(2).

ولکنّ الحقیقة هی أنّ الإنسان إذا کان یعلم ببعض القواعد المنطقیة المهمّة بشکل طبیعیّ وفطری، فذلک لا یعنی أنّه لا یحتاج فی عملیة الاجتهاد إلی علم المنطق، بل بمعنی أنّ تحصیل هذا العلم غیر لازم.

6. العلوم التی تعتبر مقدّمة للإجتهاد

اشارة

إنّ العلوم الممهدّة للإجتهاد، وفی نظر المشهور من علماء الإسلام،

أربعة عشر علماً،

ویمکن إدراجها جمیعاً فی ثلاث طوائف أو مجموعات:

علوم الأدبیات العربیة

، العلوم العقلیة، العلوم النقلیة.

أ) أدبیات اللغة العربیة

اشارة

وهذه العلوم بمجموعها علی أربعة أقسام:

1. العلم بلغة العرب

إنّ العلم باللغة العربیة التی تبیّن معانی المفردات وتفسر موادّ الألفاظ، هو أحد العلوم المقدّمیة للاجتهاد والاستنباط، ومعرفة اللغةالعربیة لغرض الاستنباط واستخراج الأحکام الشرعیة الفرعیة من منابعها الأصلیة یمثّل ضرورة فی حرکة العلوم الدینیة(3)؛ لأنّ أهمّ منابع استنباط الأحکام الشرعیة، أی الکتاب والسنّة، وردت باللغة العربیة. إذن فلابدّ للفقیه أن یعلم بمعانی المفردات العربیة لکی یمکنه فهم مراد ومقصود المتکلّم من عبارات الکتاب والسنّة، ولا یختلف الحال فی أن تکون معرفته هذه باللغة العربیة من طریق الاجتهاد فی اللغة أو من خلال مراجعته لأقوال العلماء والمختصّین فی هذا الفنّ (4).

مثلًا یقول القرآن الکریم: «فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً»(5)؛ فإذا لم یکن معنی کلمة «الصعید» معروفاً للفقیه وهل أنّ المراد منه مثلًا

مطلق وجه الأرض

أم خصوص

التراب

، فإنّه لا یتمکّن من الإفتاء بشکل صریح بجواز التیمّم علی مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب. بمعنی أنّه فی المرحلة الأولی یجب أن یفهم معنی کلمة

«الصعید»

إمّا بطریق الاجتهاد أو بمراجعة آراء علماء اللغة لیتمکّن من الإفتاء بجواز التیمّم علی أحد هذین الموردین.

وهکذا الحال بالنسبة لکلمة «الغنیمة» التی قرّرها القرآن الکریم (6) فی موضوع الخمس، فهل یراد منها


1- أنوار الاصول، ج 3، ص 621؛ قوانین الأصول، ج 2، ص 392؛ إرشاد الفحول، ص 418؛ البحر المحیط، ج 6، ص 199؛ المحصول( الفخر الرازی)، ج 2، ص 433؛ مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص 241.
2- التنقیح فی شرح العروة الوثقی، ج 1، ص 25.
3- انظر المصادر المذکورة فی الصفحات السابقة.
4- وعلیه فإنّ رأی اللغوی فی تفسیر وتبیین معانی الألفاظ حجّة علی الآخرین، کما ورد بحثه فی علم الأصول.
5- سورة المائدة، الآیة 6.
6- « وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ...» سورة الأنفال، الآیة 41.

ص: 283

الغنائم الحربیة فقط، أم کلّ منفعة وربح یحصل علیه الإنسان؟ أو مثال «

الجمرة

» فی مناسک الحجّ، فهل تعنی «محلّ اجتماع الحصی» أم «العمود الحجری الخاصّ».

2. علم الصرف

إنّ علم الصرف هو العلم الذی یمنح الإنسان عند معرفته، القدرة علی تغییر الکلمة بأشکال مختلفة لیحصل من ذلک علی معانٍ مختلفة، مثلًا کلمة «علم» فإنّه یمکن تبدیلها من خلال القواعد الصرفیة إلی صور عدیدة من قبیل «عَلِمَ» و «یَعْلَمُ» و «اعْلَمْ» وغیر ذلک، وبالتالی یستفید منها فی معانٍ مختلفة، وعلیه فإنّ فائدة علم الصرف، معرفة الکلمات من زاویة الهیئة والصیغة، یعنی أنّ الإنسان عند معرفته بتفاصیل هذا العلم یمکنه تشخیص أنّ هذه الصیغة مثلًا واردة علی سبیل النفی أو الجحد أو اسم فاعل، أواسم زمان ومکان أو اسم آلة ...

لیکون بإمکانه التوصّل إلی مراد المتکلّم.

ویتّضح من ذلک أنّ علم الصرف ضروریّ لفهم ألفاظ القرآن والسنّة وتحصیل ظهور ومراد المتکلّم.

وبالطبع فإنّ المقدار اللازم الذی یحتاج إلیه الاجتهاد المطلق بمفهومه العامّ من هذا العلم هو أن یتمکّن الشخص من إحداث هذه التغییرات المختلفة فی الکلمة الواحدة وتشخیصها علی أساس القواعد الصرفیة، وقد صرّح جماعة کثیرة من علماء الإسلام بتوقّف الاجتهاد علی معرفة علم الصرف (1).

3. علم النحو

إنّ علم النحو هو العلم الذی یتمکّن الإنسان بواسطته من معرفة أحوال أواخر الکلمات الثلاث (الاسم، الفعل، والحرف) من حیث کونها معربة أو مبنیّة وکیفیة إعرابها وترکیب بعضها مع البعض الآخر، وبما أنّ الکلمة الواحدة أحیاناً تکون قابلة لاستخلاص عدّة معانٍ مختلفة حتّی فی حالة واحدة، مثلًا إذا کانت منصوبة فیحتمل أن تکون مفعولًا أو تمییزاً أو حالًا، وإذا کانت مرفوعة فلعلّها فاعل أو نائب فاعل، وکلّ واحد من هذه الاحتمالات مؤثّر فی صیاغة المعنی، وبالتالی یؤثّر کذلک فی عملیة الاستنباط والاجتهاد، ومن هنا فإنّ عملیة تحصیل علم النحو ضروری لتحقیق ملکة الاجتهاد فی الإنسان.

مثلًا بالنسبة لمسألة المسح فی الوضوء فیما یتّصل بقوله تعالی: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ»(2) فهناک اختلاف بین الإمامیة وأکثر أهل السنّة فی وجوب المسح أو غسل القدم، وذلک یعود إلی أنّ «

أرجلَکم

» هل هی عطف علی «

برؤوسکم

»، أو علی «

أیدیکم

»؟ وبالطبع فإنّ معرفة الحقّ فی هذه المسألة یبتنی علی المعرفة الدقیقة بالقواعد النحویة.

إنّ توقّف الاستنباط من الکتاب والسنّة الصادرین باللغة العربیة علی معرفة القواعد النحویة إلی درجة من الوضوح بحیث إنّ کلّ من بحث العلوم المرحلیة للاجتهاد تعرّض إلی هذه المسألة أیضاً(3).


1- نهایة الأفکار، ج 4، ص 227؛ دراسات فی علم الأصول، ج 4، ص 426؛ قوانین الأصول، ج 2، ص 392؛ مبادئ الوصول إلی علم الاصول، ص 243. المحصول، ج 2، ص 435؛ ارشاد الفحول، ص 420؛ البحر المحیط، ج 6، ص 202؛ الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، ص 25.
2- سورة المائدة، الآیة 6.
3- أنوار الاصول، ج 3، ص 621؛ المحصول فی علم أصول الفقه للفخر الرازی، ج 2، ص 433؛ المستصفی من علم الأصول، ج 2، ص 351؛ مبادی ء الوصول إلی علم الأصول، ص 243.

ص: 284

4. علم البلاغة (المعانی والبیان والبدیع)

ویعتبر علم البلاغة من العلوم اللازمة معرفتها فی استنباط الأحکام الفقهیة(1)، یقول العلّامة الوحید البهبهانی فی «الفوائد الحائریة»: إنّ السیّد المرتضی، الشهید الثانی والشیخ أحمد بن متوّج البحرانی، یرون علم المعانی والبیان من شرائط الاجتهاد، بل إنّ الشیخ أحمدوالشهید الثانی ذهبا إلی أنّ علم البدیع أیضاً من شرائط الاجتهاد»(2).

وقد استدلّ هؤلاء بأنّ أحد المرجّحات فی باب التعارض بین الخبرین، هو البلاغة والفصاحة فی الخبر بمعنی أنّه إذا کان الخبران المتعارضان متساویین من جمیع الجهات، فإنّ الخبر الأبلغ والأفصح یکون هو المقدّم، وبدیهیّ أنّ معرفة هذا الأمر تتوقّف علی المعرفة بعلم المعانی والبیان والبدیع.

وفی مقابل هذه الطائفة ذهب البعض إلی أنّ الفصاحة والبلاغة لیستا من مرجّحات باب التعارض، لأنّ کلمات المعصومین علیهم السلام تختلف فی الفصاحة والبلاغة، فأحیاناً تکون الروایة واردة فی مقام الوعظ والخطابة، وأحیاناً أخری فی مقام بیان الأحکام الفرعیة والمسائل العملیة التی تلقی للناس بلسان العرف وباللغة السائدة.

وفی الفرض الأوّل، فإنّ المعصومین علیهم السلام یستخدمون قواعد البلاغة والفصاحة فی کلماتهم وخطاباتهم من قبیل خطب «نهج البلاغة» وأدعیة «الصحیفة السجّادیة» وأمثال ذلک.

وأمّا فی الفرض الثانی وهو مقام بیان الأحکام الفرعیة والعملیة، فإنّ کلماتهم تلقی للناس بشکل عادی وبدون الالتزام برعایة قواعد البلاغة والفصاحة.

وهذا المطلب من قبیل النسبة بین الآیات القرآنیة والأحادیث القدسیّة، ففی الآیات القرآنیة نلاحظ مراعاة قواعد البلاغة والفصاحة فی مراتب علیا حتّی أنّها وردت فی مقام التحدّی أیضاً، ولکنّ الأحادیث القدسیّة لیست علی هذا الشکل، مع أنّ کلیهما یمثّلان کلام اللَّه تعالی.

ومن الجدیر بالذکر أنّ بعض مباحث المعانی والبیان، مثل تقدیم ما حقّه التأخیر (مثل المفعول) الذی یفید الحصر، وأبواب المجاز والحقیقة والکنایة والاستعارة، لها تأثیر کامل فی فهم المقصود من الآیات والروایات وفهم الأحکام من الأدلة اللفظیة، ولکنّ مثل هذه البحوث تبحث عادة فی علم الأصول. وعلیه فلا یحتاج المجتهد إلی دراسة وتحصیل علم البلاغة بشکل مستقلّ (3).

والحقیقة أنّ هذه العلوم- کما تقدّمت الإشارة إلیه- تملک بحوثاً وأبواباً مختلفة، فبعضها مؤثّر فی أصل عملیة الاجتهاد مثل مباحث القصر ومباحث الإنشاء والخبر فی المعانی، والمباحث المتعلّقة بالحقیقة والمجاز وأقسام الدلالات والکنایة وأقسام التشبیه فی علم البیان.

ومع أنّه من الممکن أن یبحث المجتهد فی علم الأصول ذلک المقدار اللازم للاجتهاد من علوم البلاغة، ولکنّ هذه المسألة لا تتنافی مع أصل توقّف الاجتهاد علی هذه العلوم.


1- الفوائد الحائریة، ص 341؛ الأصول العامة للفقه المقارن، ص 574؛ الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، ص 25.
2- الفوائد الحائریة، ص 341 و 342.
3- أنوار الاصول، ج 3، ص 627 و 628.

ص: 285

وعلی هذا الأساس فقد ذکر بعض العلماء فی تقریره لهذا الموضوع:

«إنّ تعلّم قواعد اللغة العربیة من قبیل الصرف والنحو والبلاغة، واجب، وإلّا لا یمکن فهم کتاب اللَّه وسنّة رسوله»(1).

وقال البعض الآخر: «إنّ المجتهد إنّما یکون قادراً علی معرفة المعانی وخواصّ تراکیب القرآن ولطائف الامتیازات والآیات القرآنیة فیما إذا کان عالماً بالنحو والصرف والمعانی والبیان، بحیث یکون فی هذه العلوم صاحب ملکة، وفی هذه الصورة یمکنه استخراج الأحکام بشکل صحیح».(2) وورد نظیر هذا المطلب فی کتاب «الأصول العامة للفقه المقارن» أیضاً(3).

ب) العلوم العقلیة

اشارة

والمراد من العلوم العقلیة هنا، علم المنطق، والفلسفة والکلام، ومن أجل بیان ضرورة تعلّم هذه العلوم کمقدّمة للاجتهاد، نبحث کلّ واحد منها بشکل مستقلّ:

1. علم المنطق

علم المنطق عبارة عن: مجموعة من قوانین تعصم مراعاتها ذهن الإنسان من الخطأ فی التفکّر والاستدلال (4).

وبما أنّ الاستنباط واستخراج الأحکام الشرعیّة من مصادرها ومآخذها الأصلیة بحاجة إلی عملیة استدلال وإقامة البرهان، فإنّ الاستدلال الصحیح وإثبات المطلوب بالبرهان القاطع بحیث یکون منزّهاً من المغالطة والاشتباه، لا یتحقّق إلّامن خلال معرفة القواعد المنطقیة واستخدامها فی عملیّة الاستدلال.

وهذه القواعد من قبیل: «أنواع القیاس» و «الأشکال الأربعة»، «الموضوع»، «المحمول»، «العکس»، «النقیض» وغیر ذلک.

وعلی هذا، فإنّ لزوم تحصیل هذا العلم کمقدّمة لتحصیل علم الاجتهاد أمر ضروریّ، وقد أذعن لهذه الحقیقة جماعة من علماء الإسلام (5) ولکنّ بعض العلماء یشکّکون فی ضرورة تعلّم المنطق کمقدّمة للاجتهاد ویرون أنّ المقدار اللازم من علم المنطق فی عملیة الاجتهاد والاستدلال موجود لدی الإنسان بشکل فطریّ، لأنّ أهم مسائل المنطق التی یحتاج إلیها الإنسان فی مقام الاستدلال والبرهان هی الأشکال الأربعة المعروفة بالقیاس، وأکثر الاستدلالات تعود إلی الشکل الأوّل من الأشکال الأربعة، والشکل الأول فی وصوله إلی النتیجة وإثبات المطلوب یعتبر بدیهیاً، ولذلک لا حاجة لتعلّم المنطق بعنوانه مقدّمة للاجتهاد فی الفقه واستنباط الأحکام الشرعیة والفرعیة.

ولکن بالرغم من أنّ بعض مسائل المنطق من قبیل «عکس المستوی» و «عکس النقیض» وأمثالها قلّما یحتاج إلیها الإنسان فی مقام الاستدلال، ولکن لا یمکن إنکار ضرورة الإحاطة بالأقسام الأخری، مثل:

«النسب الأربعة

» و «

الکلیّات الخمسة

» و «

الشروط المعتبرة فی التناقض

» حیث یتمکّن الفقیه بواسطتها من


1- الوجیز فی أصول التشریع الإسلامی، ص 499 و 500.
2- إرشاد الفحول إلی تحقیق علم الأصول، ص 420.
3- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 574.
4- المنطق، ج 1، ص 11.
5- مبادی ء الوصول إلی علم الأصول، ص 243؛ المحصول فی علم أصول الفقه للفخر الرازی، ج 2، ص 435؛ المستصفی من علم الأصول، ج 2، ص 351؛ البحر المحیط فی أصول الفقه، ج 6، ص 201؛ الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیّة، ج 3، ص 63؛ حاشیه کفایة الأصول للمحقّق المشکینی، ج 2، ص 430.

ص: 286

تحقیق الاستدلال والبرهنة بشکل أفضل وأیسر، وإن کانت بشکل إذا لم یعلم بها الإنسان فإنّه لا یعیقه ذلک من الوصول إلی المرتبة السامیة للاجتهاد(1).

وفی نظرنا أنّ البیان المذکور لا ینفی أصل توقّف الاجتهاد علی معرفة علم المنطق، غایة الأمر أنّ البعض یری عدم لزوم تعلّم علم المنطق، لأنّه موجود فی طبیعة الإنسان بالفطرة، وإن کان هذا الکلام بدوره قابل للمناقشة، لأنّ الذهن البشریّ أحیاناً وبسبب ارتباطه بالمؤثرات الخارجیة یبتلی بانحراف الذوق والاعوجاج فی السلیقة، وبالتالی یتحرّک فی وادی المغالطة والاشتباه، ومن أجل نجاته من التورّط فی الخطأ والمغالطة وتشخیص المغالطة فی البراهین، لابدّ من الاستعانة بعلم المنطق لیتمکّن الإنسان فی النهایة من اجتناب هذه المغالطات فی مقام الاستنباط والاستدلال.

ومن مجموع ما تقدّم یتبیّن:

أوّلًا، إنّ الإطّلاع علی علم المنطق یعتبر مقدّمة لعملیة الاجتهاد فی استنباط الأحکام الشرعیة،

ثانیاً، إنّ قسماً مهمّاً من علم المنطق معلوم لدی الإنسان بشکل فطریّ.

ثالثاً، إنّ بعض أقسام علم المنطق یمکنها تسهیل عملیة الاستنباط للمجتهد وإن کانت غیر ضروریة.

رابعاً، ربّما یبتلی الإنسان أحیاناً بانحراف فی القسم الفطری للمنطق فی واقعه ویتکفّل علم المنطق الحیلولة دون ذلک.

2. علم الفلسفة

الفلسفة عبارة عن مجموعة مسائل تبحث عن الأحکام الکلّیة للوجود، بدون أن تلاحظ الخصوصیات الطبیعیة أو الریاضیة فیها(2).

وأحد خصائص علم الأصول فی العصر الحاضر هو الاستفادة فی مجال بحوثه من القواعد الفلسفیة لتبیین أو إثباب القواعد الأصولیة، بحیث إنّ بعض مباحث الأصول تجلّی فیها الاستیحاء والاستمداد من القواعد الفلسفیة بوضوح.

أمّا هل یمکن أن تکون الفلسفة من العلوم التی تعتبر مقدّمة للاجتهاد؟ هناک آراء مختلفة، فبعض یرون أنّ ذهن الفقیه یجب أن یکون منزّهاً عن المباحث الفلسفیة لضمان سلامة عملیة الاجتهاد، کما یقول المرحوم الملّا النراقی:

«قیل یشترط أن لا یکون مستأنساً بطریق الحکمة والریاضی ونحوهما»(3).

وذهب جمع آخر إلی أنّ الاجتهاد لا یحتاج إلی معرفة الفلسفة، ولکنّ معرفتها لا تخلّ بعملیة الاجتهاد بل ربّما تؤثّر إیجابیاً فی فهم وتعمیق عملیة الاستدلال (4).

ویری بعض آخر أنّ الاجتهاد العقلی یتوقّف علی معرفة القواعد الفلسفیة والمنطقیة(5).

وفی هذا البین سلک جماعة من العلماء طریقاً وسطاً وذکروا طریقة مناسبة للاستفادة من القواعد الفلسفیة فی هذا الشأن، فالعلّامة الطباطبائی رحمه الله ابتکر مسألة عدم الخلط بین القضایا الحقیقیة والقضایا الاعتباریة وفصل بینهما(6)، وکذلک الإمام الخمینی رحمه الله، من جملة السالکین


1- أنوار الأصول، ج 3، ص 626.
2- دروس الفلسفة، ص 2.
3- مناهج الأحکام والاصول، ص 269( مقتبس من مجموعة مقالات مؤتمر الفاضلین النراقیین، ج 1، ص 95 و 96).
4- أنوار الأصول، ج 3، ص 627.
5- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 571.
6- حاشیة الکفایة للعلّامة الطباطبائی، ج 1، ص 107.

ص: 287

فی هذا الطریق الوسط(1).

ولا شکّ فی أنّ خلط المسائل الفلسفیة التی تبحث عن «الحقائق» بالقواعد الأصولیة التی تبحث عن «الأمور الاعتباریة» یثیر فی کثیر من الموارد مشاکل وتعقیدات مهمّة، نستعرض علی سبیل المثال الموارد التالیة:

1. إنّ أحد القواعد الفلسفیة التی یستفاد منها فی الاصول، قاعدة:

«التضادّ بین الأحکام الشرعیّة».

توضیح ذلک

: إنّ بعض علماء الأصول ذهبوا إلی أنّ الأحکام الشرعیة هی أمور وجودیة ومتضادّة مع بعضها، وعلی هذا الأساس قالوا:

لا یجوز اجتماع الأمر والنهی

فی مورد واحد، وکذلک فإنّ الوجوب والحرمة، وهما حکمان مستفادان من الأمر والنهی، متضادّان.

وبما أنّه قد ثبت فی المنطق والفلسفة أنّ اجتماع الضدّین فی موضوع واحد ممتنع، إذن فاجتماع الأمر والنهی علی موضوع واحد ممتنع أیضاً.

ولکن الحقّ أنّ الأحکام الشرعیّة أمور اعتباریة، والنسبة المذکورة إنّما تجری فقط فی الأمور الحقیقیة والتکوینیة، والقواعد الفلسفیة إنّما تجری فی الأمور التکوینیة لا فی القضایا الاعتباریة(2).

2. ومن الموارد الأصولیة التی تستوحی من القواعد الفلسفیة، هی أنّ بعض العلماء ذهبوا إلی أنّ العلاقة بین «الموضوع» و «الحکم» هی من قبیل العلاقة بین «العرض» و «المعروض». أی قالوا:

إنّ الحکم

بمنزلة

العرض

و

الموضوع

بمنزلة

المعروض

، وبالتالی فإنّ


1- الرسائل للإمام الخمینی، ج 1، ص 115- 117.
2- أنوار الاصول، ج 3، ص 627.

ص: 288

أحکام العرض والمعروض تجری فی هذا المورد أیضاً(1).

کما ذهب آخرون إلی أنّ العلاقة بینهما من قبیل العلاقة بین العلّة والمعلول، بمعنی أنّ الموضوع بمنزلة العلّة، والحکم بمنزلة المعلول، وبالتالی تجری أحکام العلّة والمعلول المختصّة بالأمور الحقیقیة والتکوینیة، فی مورد الحکم والموضوع. وهذا المورد یواجه الإشکال السابق أیضاً(2).

3. قاعدة

«الواحد لا یصدر منه إلّاالواحد»

وکما هو معلوم فإنّ هذه القاعدة فلسفیة وتتعلّق بالواحد البسیط والحقیقی، ولا ترتبط بالمسائل والأمور الاعتباریة، ولکن مع هذا فإنّ بعض علماء الأصول تمسّکوا بهذه القاعدة لإثبات بعض القواعد والمسائل الأصولیة التی تدخل فی دائرة الاعتباریات.

مثلًا، هل یجب أن یکون لکلّ علم موضوع واحد أم لا؟ ذهب البعض إلی لزوم ذلک، واستدلّوا بأنّ لکلّ عمل غرض واحد، والغرض الواحد یجب أن یصدر من موضوع واحد، وذلک بدلیل قاعدة «الواحد ...».

وطبقاً لهذه القاعدة فإنّه لابدّ أن یکون هناک قدر جامع بین جمیع موضوعات ومسائل العلم الواحد، وهذا القدر المشترک یمثّل موضوع ذلک العلم، فإن لم یکن هناک قدر جامع، فیلزم منه أنّ «الواحد» یصدر من «الکثیر»(3).

فی حین أنّ هذه القاعدة، کما تقدّمت الإشارة إلیها، ترتبط بالأمور التکوینیة والحقیقیة ولا علاقة لها بالأمور الاعتباریة. ومعلوم أنّ جمع سلسلة من المسائل تحت عنوان «علم واحد» هو عمل اعتباری.

النتیجة: أنّ القواعد الفلسفیة المذکورة وقواعد أخری فی الفلسفة امتزجت أخیراً بعلم الأصول، ولعلّه لهذا السبب یجب علی الفقیه والمجتهد، من أجل اجتناب الخلط بین البحوث الفلسفیة والبحوث الأصولیة وبالتالی إجراء أحکام الأمور التکوینیة فی مورد الأمور الاعتباریة، أن یکون مطّلعاً علی مقدار من الفلسفة وقواعدها کیما یتمکّن من اجتناب الوقوع فی الخطأ المحتمل والخلط بین بحوث العلمین (4).

وبعبارة أخری، إنّ تعلّم الفلسفة لیس ضروریاً علی أساس کونه مقدّمة للاستنباط والاجتهاد، ولکن من أجل التفکیک بین البحوث واجتناب الخلط بین الأمور التکوینیة والأمور الاعتباریة التی وقع فیها الأصولیون فی الآونة الأخیرة.

3. علم الکلام

علم الکلام هو العلم الذی یبحث فی دائرة المعارف والأصول الاعتقادیة، أی الأمور التی یکون الهدف منها معرفة العقیدة والإیمان الذی یتّصل بأمور القلب والفکر، من قبیل مسائل المبدأ والمعاد، النبوّة، الوحی، الملائکة، الإمامة وغیر ذلک.

السؤال إذن: هل أنّ علم الکلام من جملة العلوم التی یتوقّف علیها الاجتهاد؟ هناک قولان فی هذه المسألة:

القول الأوّل. إنّ علم الکلام مؤثّر فی عملیة الاستنباط والاجتهاد الفقهیّ، ولذلک فمن الضروری الإلمام به والتعرّف علی مسائله، وقد استدلّوا لإثبات هذا المطلب بأدلّة مختلفة، نشیر هنا إلی جملة منها:

ألف) إنّ إثبات حجیّة کلام وفعل وتقریر المعصوم علیه السلام متوقّف علی إثبات النبوّة والإمامة والعصمة لهؤلاء المعصومین فی مرتبة سابقة، أی یجب فی البدایة إثبات عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام حتی یکون بإمکاننا إثبات حجّیة فعلهم وقولهم وتقریرهم. کما أنّ إثبات حجّیة ظواهر القرآن تبتنی علی أساس حقّانیة أصل الکتاب، وإثبات أنّ القرآن کلام اللَّه لا کلام المخلوق، ومعلوم أنّ محلّ البحث فی هذه الأمور یندرج فی علم الکلام، ولذلک فمن الضروریّ التعرّف علی هذا العلم وتعلّم مسائله (5). وکما یقول المرحوم العلّامة النراقی:

«ودلیل اشتراط الکلام، توقّف الاجتهاد علی إثبات الصانع والنبیّ صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام ووجوب إطاعتهم وتعیین الإمام وصدق النبیّ صلی الله علیه و آله وعلی نفی القبیح عنه»(6).

ب) وذهب بعض آخر فی الاستدلال علی هذا الموضوع ولزوم تعلّم علم الکلام کمقدّمة للاجتهاد: إنّ وظیفة المجتهد هی البحث والتحقیق فی کیفیّة التکلیف، وهذا المعنی متفرّع علی معرفة أصل التکلیف والمکلِّف (الشارع المقدس) وعلیه فإنّ معرفة ما یکون إثباته متوقّف علیه یعدّ ضروریاً.

بمعنی أنّ إثبات حدوث العالم وحاجة الحادث إلی محدث وصانع، ثمّ إثبات أنّ هذا الصانع العالِم منزّه عن الأوصاف السلبیة ومتّصف بجمیع الأوصاف الکمالیة والجمالیة، وإثبات أنّ اللَّه تعالی قد بعث الأنبیاء ومنحهم المعجزات لإثبات صدقهم وصحّة دعواهم، وجمیع هذه الأمور، وإن کانت بصورة إجمالیة، یجب إثباتها بالدلیل، والاستدلال علی هذه البحوث یدخل فی دائرة علم


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.
3- المحصول فی علم الأصول لآیة اللَّه جعفر السبحانی، ج 1، ص 25.
4- أنوار الأصول، ج 3، ص 627.
5- المصدر السابق، ص 622.
6- مقتبس من مجموعة مقالات مؤتمر الفاضلین النراقیین، ص 78.

ص: 289

الکلام (1). وهذا الدلیل بدوره یعود فی الواقع إلی الدلیل السابق.

مضافاً إلی أنّ جماعة أخری من علماء الإسلام ذهبوا إلی ضرورة تعلّم علم الکلام لتحصیل ملکة الاجتهاد أیضاً(2).

القول الثانی: إنّ علم الکلام لا یعتبر من مقدّمات الاجتهاد، وقد ذهب إلی ذلک بعض علماء المذاهب الإسلامیة وأشاروا إلی هذه النقطة فی کلامهم، مثلًا:

یقول الغزالی فی کتابه «المستصفی»:

«فأمّا الکلام وتفاریع الفقه فلا حاجة إلیهما»(3)

أی فی الاجتهاد.

ویقول الفخر الرازی:

«أمّا الکلام فغیر معتبرٍ لأنّا لو فرضنا إنساناً جازماً بالإسلام تقلیداً لأمکنه الاستدلال بالدلائل الشرعیة علی الأحکام»(4).

ویقول الشیخ زین الدّین بن علیّ، المعروف بالشهید الثانی فی کتابه «الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیّة»:

«صرّح جماعة من المحققین بأنّ الکلام لیس شرطاً فی التفقّه، فإنّ ما یتوقّف علیه منه مشترک بین سائر المکلّفین»(5).

فی حین أنّ المرحوم ضیاءالدین العراقی وآیة اللَّه الخوئی فی کلّ من «نهایة الأفکار» و «مصباح الأصول»، عندما بحثا مقدمات الاجتهاد، لم یشیرا إلی کون علم الکلام یمثّل مقدّمة للاجتهاد(6).

ولکنّ الحقّ أنّ تعلّم علم الکلام أمر لازم وضررویّ لتحصیل الاجتهاد، لأنّ الأساس لبعض المسائل الأصولیة یقوم علی جملة من القضایا العقائدیة والکلامیة، مثلًا فی مسألة أنّ اللَّه تعالی حکیم والحکیم لا یصدر عنه فعل القبیح، إذن لا یمکن أن یکلّف البشر فوق طاقتهم وقدرتهم، وهذه مسألة کلامیة تمثّل أساس وقاعدة لبعض مسائل علم الأصول مثل حجیة الظواهر وعدم جواز تأخیر البیان عن وقت الحاجة.

وتوضیح ذلک: إذا صدر خطاب من متکلّم حکیم کاللَّه تبارک وتعالی وکان لهذا الخطاب ظهور معیّن، فهل یمکن أن یرید خلاف ظاهر کلامه بدون الإتیان بقرینة علی ذلک؟

والجواب بالنفی، لأنّ إرادة خلاف ظاهر الکلام بدون قرینة یعتبر لدی العقلاء عملًا قبیحاً، وبما أنّ اللَّه تعالی حکیم ولا یمکن صدور عمل قبیح من الحکیم، إذن فلا یمکن أن یرید خلاف ظاهر کلامه بدون قرینة، والنتیجة أنّ ظاهر کلام الحکیم وخطابه حجّة علی المخاطبین، وعلی هذا الأساس فإنّ بحث حجّیة ظواهر الکلام، الذی هو بحث أصولی، یستخرج من قاعدة کلامیة.

وبعبارة أخری: وردت فی علم الأصول هذه المسألة: هل یجوز تأخیر البیان عن وقت الحاجة أم لا؟ ذهب البعض إلی امتناع ذلک، لأنّ هذا العمل یعتبر عملًا قبیحاً لدی العقلاء، والشارع الحکیم لا یرتکب فعل القبیح، ولذلک فإنّ تأخیر البیان عن وقت الحاجة لا یجوز، وعلیه فإنّ کلّ ما یقتضیه ظاهر اللفظ، من الإطلاق أو العموم فهو حجّة.

ویتّضح من هذا البیان أنّ الکثیر من الفتاوی الفقهیة


1- قوانین الأصول، ج 2، ص 392.
2- کنموذج، یمکن مراجعة هذه المصادر: الإحکام فی أصول الأحکام، ج 2، ص 397؛ الفوائد الحائریة، ص 336؛ مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص 241.
3- المستصفی، ج 2، ص 202.
4- المحصول للفخر الرازی، ج 2، ص 435.
5- الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، ج 1، ص 277.
6- نهایة الأفکار، ج 4، ص 227؛ مصباح الأصول، ج 3، ص 443.

ص: 290

سواء من خلال العموم أو الإطلاق تستنبط من مسألة عقائدیة، من قبیل «إنّ اللَّه تعالی حکیم ولا یرتکب العمل القبیح».

یتبیّن ممّا تقدّم آنفاً ومن مسائل أخری أشرنا إلیها فیما سبق أنّه لا یمکن إنکار ضرورة تعلّم علم الکلام کمقدّمة لعملیة الاجتهاد(1).

ج) العلوم النقلیة (أو العقلیة والنقلیة)

اشارة

وهی العلوم التی وصلت إلینا عن طریق الوحی وکلمات المعصومین علیهم السلام أو التی تبحث حول هذا الموضوع، وهی عبارة عن:

«التفسیر، الحدیث، الدرایة، الرجال، أصول الفقه (2)،

الفقه، والعلم بالقواعد الفقهیّة».

1. علم التفسیر

لا شکّ فی أنّ من أحد أهم مصادر الاستنباط والاجتهاد، هو القرآن الکریم، والأکثریة الساحقة من علماء الإسلام یرون أنّ القرآن الکریم أحد مصادر الاجتهاد والاستنباط، ویعتقدون بحجّیته، ومن هذا المنطلق تکون المعرفة بالتفسیر ضروریة لعملیة الاستنباط والاجتهاد، ومن الطبیعیّ أنّ بعض البحوث القرآنیة من قبیل حجّیة ظواهر الکتاب وجواز تخصیص الکتاب بالسنّة، تعتبر من مواضیع علم الأصول حیث تبحث فی هذا العلم ولا ترتبط بعلم التفسیر، ولکن هناک طائفة أخری من البحوث القرآنیة من قبیل معرفة المحکم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، ومعرفة مفردات ومعانی الجمل القرآنیة، وبالأخصّ معرفة أسباب النزول والموارد التی نزلت فی شأنها الآیات القرآنیة، وکذلک معرفة الآیات المتعلّقة بالأحکام الشرعیة «آیات الأحکام» وغیر ذلک ممّا لا تبحث فی علم الأصول، بل ینبغی بحثها فی دائرة العلوم القرآنیة وعلم التفسیر. ومن الواضح توقّف الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیة الفرعیة علی الاطّلاع علی هذه البحوث القرآنیة، وقد صرّح بهذا الأمر المهمّ کثیر من علماء الإسلام (3)، یقول مؤلف کتاب «الاجتهاد الجماعی»:

«یشترط فی المجتهد أن یکون عالماً بالقرآن الکریم ودقائق آیات الأحکام فیه، عامّها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، مطلقها ومقیّدها، محکمها ومتشابهها وسائر ما یتعلّق بآیات الأحکام»(4).

وجاء فی کتاب «أنوار الأصول»:

«وأمّا علم التفسیر ... فلا إشکال فی دخله فی استنباط الأحکام»(5).

2. علم الحدیث

والمراد من هذا العلم، معرفة أدبیات وسیاق الروایات، وشأن ورود الأحادیث والظروف الزمانیة


1- قوانین الأصول، ج 2، ص 392؛ الفوائد الحائریة، ص 436.
2- یتضمن أصول الفقه مباحث مختلفة، یستند بعضها إلی النقل، مثل: إثبات حجّیة الاستصحاب عن طریق الأخبار وإثبات حجّیة خبر الواحد عن طریق السنّة وإثبات حجّیة البراءة الشرعیة والاحتیاط الشرعی وغیر ذلک ویستند البعض الآخر إلی الأدلّة العقلیة، مثل: مباحث« إجتماع الأمر والنهی فی شی ء واحد»،« الإجزاء» و ....
3- قوانین الأصول، ج 2، ص 397؛ الفوائد الحائریة، ص 337؛ أنوارالأصول، ج 3، ص 621؛ المحصول فی علم أصول الفقه للفخر الرازی، ج 2، ص 433 و 434. المستصفی، ج 2، ص 351؛ الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیة، ص 28.
4- الاجتهاد الجماعی، ص 37- 38.
5- أنوار الأصول، ج 3، ص 621.

ص: 291

والمکانیة لصدورها، وخصائص راوی الحدیث ومعرفة الطائفة من الروایات والأحادیث المتعلّقة بالأحکام الشرعیة.

إنّ السنّة النبویة صلی الله علیه و آله وروایات أهل البیت علیهم السلام تمتاز بطابع خاصّ وسیاق معین یختلف عن عبارات الفقهاء وسائر کلمات الادباء، وبالتالی یمکن القول إنّ علم الحدیث بمنزلة التفسیر بالنسبة للقرآن، حیث یمکن وبواسطته معرفة الحدیث من غیر الحدیث والناسخ من المنسوخ والمحکم من المتشابه. وکذلک معرفة عبارات المعصومین الخاصّة، ومصطلحات کلماتهم من خلال التتبّع والتعمّق فی کلمات هؤلاء الأولیاء، حتّی فی صورة عدم تدوینها، کلّ ذلک یتمّ التعرف والاطّلاع علیه بواسطة علم الحدیث، وعلی هذا الأساس فإنّ الاطّلاع علی هذا العلم للمجتهد ضروریّ ولازم فی عملیة استنباط الحکم الشرعیّ الفرعیّ (1).

ولا یخفی کفایة أن یملک المجتهد معرفة وافیة بالأحادیث المتعلّقة بالأحکام ومعرفة مواردها لیتمکّن عند الحاجة من الرجوع إلیها، ولا یجب علیه حفظها فی مدار الذهن.

وقد ذهب جماعة من علماء الإسلام إلی التأکید علی ضرورة الاطّلاع علی هذا العلم لغرض الحصول علی ملکة الاجتهاد(2).

وقد جاء فی کتاب «الاجتهاد الجماعی»:

«یجب علی المجتهد أن یکون عالماً بجمیع الأمور التی یحکم فیها بطریق الاجتهاد بالنسبة للسنّة الشریفة أعمّ من القول والفعل والتقریر، کما یجب علیه أن یکون عالماً بالنسبة للناسخ والمنسوخ من السنّة والعام والخاصّ والمطلق والمقیّد فیها، وعلی معرفة بطرق الروایات وأسناد الأحادیث»(3).

یقول المحقّق القمّی رحمه الله فی کتابه «قوانین الأصول»:

«الثامن: العلم بالأحادیث المتعلّقة بالأحکام، سواء حفظها أم کان عنده من الأُصول المصحّحة ما یرجع إلیها عند الاحتیاج، ویعرف مواقع أبوابه»(4).

3. علم الدرایة

وهو العلم الذی من خلاله تعرف تفاصیل الحدیث ومراتبه من قبیل: المتواتر، المستفیض، الصحیح، الضعیف، الموثّق، الحسن، المرسل، المقطوع، المضمر وأمثال ذلک.

وبما أنّ المیزان والمعیار لحجّیة الحدیث لدی جماعة من الأکابر هو الوثوق بصدور هذا الحدیث، وأحد طرق تحصیل ذلک، هو الوثوق والاطمئنان بصدق الرجال المذکورین فی سند الحدیث، ولذلک ذهب البعض إلی اشتراط وثاقة الرواة، ومن هنا کان من اللازم علی من یتحرّک فی خطّ الاجتهاد أن یملک معرفة بأقسام الحدیث علی أساس رجال السند لکی یتمکّن من تمییز الحدیث الموثوق الصدور من غیره وذلک من خلال درجة اعتبار الحدیث علی حسب الأقسام المشار إلیها، وهذا المعنی لا یتیسّر إلّامن طریق علم الدرایة(5).


1- أنوارالأصول، ج 3، ص 622.
2- مناهج الأحکام والأصول، ص 265؛ عین الاصول للملّا أحمد النراقی، ص 227؛ قوانین الأصول، ج 2، ص 397؛ الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، ص 27؛ المحصول للفخر الرازی، ج 2، ص 434.
3- الاجتهاد الجماعی، ص 38.
4- قوانین الأصول، ج 2، ص 397.
5- أنوار الأصول، ج 3، ص 622؛ منتهی الأصول، ج 2، ص 794.

ص: 292

النتیجة: إنّ علم الدرایة یعتبر أیضاً أحد المقدّمات العلمیة للاجتهاد، لأنّه یمنح الفقیه معرفة بأنواع الأحادیث ومیزان اعتبارها والمشکلات الموجودة فی أسنادها.

4. علم الرجال

هو العلم الذی یتمکّن الفقیه بواسطته من معرفة أحوال الأشخاص والرواة للأحادیث، یعنی یتمکّن بواسطة هذا العلم أن یتعرّف علی أنّ الراوی الفلانی ثقة ومورد اطمئنان وعادل، وأنّه هل یمکن الاعتماد علی الروایات التی یرویها هذا الشخص أم لا؟.

إنّ المشهور والمعروف هو عدم إمکانیة استنباط الأحکام من الروایات بدون الاطّلاع علی علم الرجال (رغم أنّ جماعة قلیلة من العلماء ذهبوا إلی عدم حاجة الفقیه لعلم الرجال).

وتوضیح ذلک: إنّ الخبر إمّا أن یکون متواتراً یفید القطع بصدوره أو خبراً واحداً، وخبر الواحد إمّا أن یکون محفوفاً بالقرینة المفیدة للعلم بصدوره أو مجرّداً عن القرینة.

وبالنسبة للخبر المتواتر وخبر الواحد المحفوف بالقرینة لا حاجة للتحقیق فی السند ومعرفة أحوال الرجال المذکورین فی سند الحدیث، والحاجة فی التحقیق للسند إنّما تکون فی الخبر الواحد المجرّد من القرینة لمعرفة حالة الصدور، وهذا إنّما تتمّ معرفته من خلال علم الرجال.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما ذکر آنفاً، فإنّ فقهاء الإسلام انقسموا إلی طائفتین علی أساس رؤیتین مختلفتین:

1. المعروف بین علماء أهل السنّة أنّ جمیع ما ورد من أخبار فی کتب الصحاح الستّة أو علی الأقلّ صحیح البخاری ومسلم، معتبرة ولا حاجة للتحقیق فی أسنادها، ولهذا السبب أطلقوا علیها صفة «الصحیح»(1)، ومن بین علماء الإمامیة هناک طائفة ذهبوا إلی أنّ الأخبار والروایات الواردة فی الکتب الحدیثیة المشهورة وخاصّة الکتب الأربعة (الکافی، التهذیب، الاستبصار، من لا یحضره الفقیه) کلّها صحیحة ولا حاجة للتحقیق فی أحوال رواة هذه الأحادیث، وعلیه فلا حاجة فی ذلک لعلم الرجال. ومن جملة من ذهب إلی هذا القول، الأخباریون، ومنهم محمّد أمین الاسترآبادی (2).

وقد استدلّ الاسترآبادی علی عدم الحاجة لعلم الرجال بالتالی:

«إنّ جمیع أخبار الآحاد فی روایاتنا محفوفة بالقرائن المختلفة التی توجب القطع بصدورها من المعصوم، ومع وجود هذه القرائن والقطع بالصدور، فلا حاجة إلی علم الرجال بعد ذلک»(3).

والحقیقة أنّ جمیع الأحادیث، وخلافاً لما ذکره من وجود القرینة الموجبة للقطع بصدور هذه الأحادیث، غیر مقترنة بالقرینة، وبعض منها لها قرینة لفظیة وقد فقدت هذه القرینة علی امتداد التاریخ والزمان بسبب تقطیع الأحادیث من جهة المحدّثین، والعوامل الأخری، ولذلک فنحن مضطرّون لغرض معرفة الأحادیث الصحیحة والضعیفة إلی الاعتماد علی علم الرجال.

وبالطبع فالمقصود هو معرفة أحوال رواة الأحادیث؛


1- تدریب الراوی، ص 45- 57.
2- انظر: قوانین الأصول، ج 2، ص 397.
3- المصدر السابق.

ص: 293

سواء من خلال الرجوع إلی الکتب الرجالیة، أومن خلال الطریق الشفاهی وسماع ذلک من المتخصّصین فی علم الرجال أو من طرق أخری، وعلیه فإنّ الرجوع إلی کتب الرجال بالخصوص لا موضوعیة له وإن کان الطریق المتعارف هو هذا الطریق.

2. وفی مقابل هذه الطائفة فإنّ المشهور من فقهاء وعلماء الإسلام أنّهم یعتقدون بأنّ الأحادیث الموجودة فی الکتب الأربعة وسائر کتب الأحادیث المشهورة، لیست جمیعها قطعیة من حیث الصدور، بل یوجد فیما بینها الصحیح والضعیف والحسن والموثّق وغیر ذلک، ومن أجل تمییز الأحادیث المعتبرة من غیرها یجب الاستعانة بعلم الرجال، لیتمکّن الفقیه من التمسّک بالأحادیث الصحیحة والمعتبرة فی مقام الاستنباط والاجتهاد.

والحقّ لزوم تحصیل الوثوق والاطمئنان بصدور الحدیث من خلال معرفة رجال السند أو من طرق أخری.

وتوضیح ذلک: إنّ الوثوق بروایة معیّنة یحصل من طرق مختلفة، فأحیاناً من خلال الوثوق بالراوی، وأخری من طریق موافقة الروایة لعمل المشهور، وثالثة من خلال المضامین العالیة والمحتویات السامیة الواردة فی الروایة، ورابعة من جهة تظافر الحدیث وکثرته، وعلی أیّة حال فهناک حاجة أکیدة لعلم الرجال لتحصیل هذا الوثوق المذکور.

والنتیجة أنّ علم الرجال یعتبر أحد العلوم المهمّة التی تقع فی مقدّمات الاجتهاد، وهذا القول له مؤیّدون کثیرون (1)،

ومن جملتهم:

یقول الغزالی فی کتابه «المستصفی»:

«الثانی: وهو یخصّ السنّة، معرفة الروایة وتمییز الصحیح منها من الفاسد والمقبول من المردود، فإنّ ما لا ینقله العدل عن العدل فلا حجّة فیه»(2).

ویقول الفخر الرازی أیضاً فی مقام ذکر العلوم التی یتوقّف الإجتهاد علیها:

«والآخر یتعلّق بالسنّة وهو علم الجرح والتعدیل ومعرفة أحوال الرجال»(3).

ویقول المرحوم آیة اللَّه الخوئی فی کتابه «مصباح الاصول»:

«إن قلنا أنّ الملاک فی جواز العمل بالروایة إنّما هو ثبوت وثاقة رواتها وأنّه لا عبرة بعمل المشهور بها أو إعراضهم عنها، فحینئذٍ تکثر الحاجة إلی علم الرجال واستعلام حال الرواة من حیث الوثاقة وعدمها»(4)

. (ولکننا نعتقد کالکثیر من الفقهاء بأنّ عمل المشهور یعتبر معیاراً لقوّة الأحادیث).

ویقول المحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار»:

«إنّ علم الرجال من عُمدة ما یحتاج إلیه الاجتهاد فی مقام استنباط الأحکام ...»(5).

ملاحظة: وممّا یجدر ذکره أنّ الفقیه إذا کان بنفسه مجتهداً وصاحب رأی ونظر فی علم الرجال، ففی هذه


1- قوانین الأصول، ج 2، ص 397؛ أنوار الأصول، ج 3، ص 621؛ منتهی الأصول، ج 2، ص 794؛ مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص 243؛ مصباح الأصول، ج 3، ص 443؛ نهایة الأفکار، ج 4، ص 227.
2- المستصفی، ج 2، ص 352.
3- المحصول للفخر الرازی، ج 2، ص 435.
4- مصباح الأصول، ج 3، ص 443 و 444.
5- نهایة الأفکار، ج 4، ص 227. وللاطلاع علی آراء علماء آخرین انظر: قوانین الأصول، ج 2، ص 397؛ أنوار الأصول، ج 3، ص 621؛ منتهی الأصول، ج 2، ص 794؛ مبادی ء الأصول إلی علم الأصول، ص 243؛ مصباح الأصول، ج 3، ص 443؛ نهایة الأفکار، ج 4، ص 227.

ص: 294

الصورة یعمل باجتهاده (فی علم الرجال) وإن لم یکن مجتهداً فی علم الرجال، فإنّه یرجع إلی أقوال المتخصّصین وأهل الخبرة فی علم الرجال ویأخذ بها.

5. علم أصول الفقه

هو عبارة عن مجموعة من القواعد التی تقع نتیجتها فی طریق استنباط الأحکام الشرعیة والتی لم تبحث فی مکان آخر.

أدلّة توقّف الاجتهاد علی علم الأصول:

یعتبر علم الأصول أحد أهمّ مقدّمات الاجتهاد بحیث إنّ الشخص إذا لم تکن لدیه معرفة بهذا العلم فلا یمکن أن یجتهد فی الأحکام، کما أنّ الشخص إذا لم تکن لدیه معرفة بالمعادلات الریاضیة فإنّه لا یتمکّن من حلّ الکثیر من المسائل والمشاکل لعلوم کثیرة کالفیزیاء والکیمیاء والهیئة وعلم الفلک وأمثال ذلک، وکذلک فی باب الاجتهاد إذا لم یتعرّف الشخص علی قواعد علم الأصول فإنّه لا یمکنه أن یکون مجتهداً، فلابدّ فی البدایة أن یکون مجتهداً فی قضایا هذا العلم ویری فیها رأیه من موقع الاجتهاد والنظر لا من موقع التقلید، أی أن یکون بنفسه صاحب رأی ونظر فی المسائل الأصولیة، لأنّه نظراً إلی أنّ علم الأصول یرتبط برابطة وثیقة مع الفقه، والاجتهاد بالفقه غیر ممکن عملًا بدون الاجتهاد فی الأصول، لهذا یجب علی الفقیه أن یکون مجتهداً فی کلا العلمین خلافاً للعلوم الأخری کاللغة والرجال والأدبیات العربیة، حیث یستطیع الفقیه الاستناد فیها إلی قول أهل الخبرة ولا یلزمه أن یکون مجتهداً فی هذه العلوم.

علی أیّة حال فالدلیل علی توقّف الاجتهاد علی علم الأصول یمکن تحصیله من تعریف علم الأصول وموضوعه، لأنّ موضوع علم الأصول عبارة عن الأدلّة الأربعة: (الکتاب، السنّة، الإجماع، والعقل) أو بشکل أکثر شمولیة هو «الحجّة فی الفقه»، أیّ کلّ دلیل کلّی یستفاد منه فی الفقه، وعلیه فإنّ حجیة ظواهر کتاب اللَّه والسنّة وحجّیة خبر الواحد والإجماع ودلیل العقل لا یمکن إثباتها بدون علم الأصول. ولابدّ من البحث فی تفاصیل کلّ واحد من هذه الأدلّة فی دائرة علم الأصول، مثلًا إنّ أحد أدلّة الأحکام الشرعیة هو العقل، فلابدّ من معرفة المقصود من العقل هنا، وهل أنّه العقل النظری أم البدیهی، العقل المستقلّ عن الکتاب والسنّة أم غیر المستقلّ وفیما یخصّ الإجماع الذی هو أحد الأدلة أیضاً، یجب توضیح المراد منه، هل أنّه الإجماع بمعنی اتّفاق جمیع علماء الأعصار أم علماء عصر واحد؟ وهل یکون من الإجماع الدخولی أم الکشفی أم الحدسی؟

وهکذا الکلام بالنسبة لحجیّة خبر الثقة، فأحیاناً تقع روایات الثقات متعارضة فیما بینها، فما هی الأمور التی تسبّب ترجیح إحداها علی الأخری عند التعارض؟

لم نصل إلی نتیجة فی دائرة الترجیح، فهل ننتقل إلی التخییر بین الخبرین المتعارضین أم نقول بسقوطهما، فکلّ، هذه البحوث تدخل فی دائرة علم الأصول.

مضافاً إلی ذلک فإنّ بعض المصادیق لظواهر الألفاظ التی لم یتبیّن حکمها فی مکان آخر (کالصرف والنحو واللغة» من قبیل ظهور صیغة الأمر فی الوجوب أو الفوریة، وظهور صیغة النهی فی الحرمة والدوام، وأیضاً ظهور العامّ المخصّص فی الباقی من الموارد وأمثالها،

ص: 295

حیث تبحث هذه الأمور بشکل کامل فی علم الأصول.

ومع غضّ النظر عن کلّ ذلک، إذا لم یتوصّل الفقیه إلی أیّ من تلک الأدلّة الاربعة وبقی فی حالة الشکّ وهل أنّ العمل الفلانی حرام أم حلال أم واجب أم مستحبّ؟ فما هو تکلیفه؟ هل یعمل بالبراءة أم بالاحتیاط، بالاستصحاب أم بالتخییر، فکلّ هذه المسائل یتمّ تبیینها فی علم الأصول، وکلّ فقیه لا یحیط علماً بهذه المسائل بشکل کامل فإنّه یواجه مشکلة فی عملیة استنباط الحکم الشرعی.

وبکلمة واحدة یمکن القول: إنّ حاجة الفقیه ل «علم الأصول» فی استنباط الأحکام الشرعیة أکثر من حاجته إلی جمیع العلوم الأخری، لأنّه فی کلّ خطوة فی هذه العملیة یواجه أصلًا أو قاعدة لا تتبیّن إلّافی علم الأصول.

وعلیه فإنّ الحاجة لعلم الأصول للتوصّل إلی الاجتهاد تعدّ أمراً ضروریاً ولازماً، ویعترف جمیع علماء الإسلام سوی جماعة قلیلة بأنّ علم الأصول یعتبر أحد العلوم الأساسیة التی تقع فی مقدّمة الاجتهاد(1)، إلی درجة أنّ الفخر الرازی أیضاً یقول:

«إنّ أهمّ العلوم للمجتهد، علم أصول الفقه»(2).

ویقول المرحوم آیة اللَّه الخوئی:

«وأمّا علم الأُصول فتوقّف الاستنباط علیه أوضح من أن یخفی»(3).

مخالفة الأخباریین لعلم الأصول:

وبالرغم من أنّ حاجة الفقیه لعلم الأصول تعدّ من البدیهیات، ولکن فئة قلیلة تدعی ب «الأخباریین» وبسبب وجود بعض الشبهات، شکّکوا فی هذا الأمر.

ویعتقد الأخباریون بأنّ علم الأصول لم یکن مدوّناً فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله وعصر الأئمّة علیهم السلام، بل إنّه تمّ تدوینه بعد عصر المعصومین، ونحن نعلم یقیناً بأنّ المحدّثین الذین یحملون ویروون أخبار النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین علیهم السلام کانوا یعملون بتلک الأخبار لا بعلم الأصول، وقد أیّد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام عملهم هذا.

وقد استمرّت هذه االحالة إلی القرن الرابع الهجری حیث قام البعض فی هذا الزمان بتدوین علم الأصول بشکل مستقلّ، ففی الواقع أنّ علم الأصول یعدّ بدعة فی الدین ولا ینبغی التمسّک بالبدعة!(4).

الجواب:

أوّلًا: إنّ ما ذکره هؤلاء هو فی الواقع مجرّد ادّعاء، وإذا لم یکن الأخباریون مطّلعین علی وجود علم الأصول بین أصحاب الحدیث بشکل کافٍ، فإنّ ذلک لا یعدّ دلیلًا علی عدم وجود هذا العلم بینهم. مضافاً إلی ذلک فإنّ عدم تدوین علم معیّن فی عصر خاصّ لا یدلّ أیضاً علی عدم وجود ذلک العلم، مثلًا نحن نعلم أنّ أمیرالمؤمنین علیّاً علیه السلام أمر

أبا الأسود الدؤلی

بتدوین علم النحو. فهل معنی ذلک أنّ العرب لم یکونوا یتحرّکون فی کلامهم ومحاوراتهم من موقع رعایة قواعد النحو إلی ذلک الزمان؟


1- مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص 242؛ نهایة الأفکار، ج 4، ص 227؛ الفوائد الحائریة، ص 336؛ منتهی الأصول، ج 2، ص 793؛ إرشاد الفحول، ص 420؛ المستصفی، ج 2، ص 351؛ الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، ص 29.
2- المحصول للفخر الرازی، ج 2، ص 435.
3- مصباح الأصول، ج 3، ص 444.
4- الفوائد المدنیّة للمولی محمّد أمین الاسترآبادی، ص 29 و 30.

ص: 296

وببیان آخر: یتبیّن من خلال التتبّع فی أخبار النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام أنّ قواعد هذا العلم کانت تستخدم بشکل متناثر وبسیط بین أصحاب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت الطاهرین علیهم السلام من قبیل أحکام الخبرین المتعارضین، الاستصحاب، العامّ والخاصّ، المطلق والمقید، الناسخ والمنسوخ، المحکم والمتشابه، جواز نقل الحدیث بالمعنی ومسألة الإفتاء وتقلید العوام وأمثال ذلک. فهذه کلّها من مسائل علم الأصول التی کانت سائدة فی تلک العصور.

أجل، هذه کلّها أصول وقواعد کانت تستخدم فی ذلک الوقت وبشکل بسیط وغیر مدوّن، وهذا لا یعنی عدم وجود علم الأصول والقول بأنّه بدعة یجب اجتنابه!!

ثانیاً: تمّ تدوین کتب متعدّدة فی تلک العصور ولم تقع مورد إنکار الأئمّة المعصومین علیهم السلام وفقهاء الإسلام، مثل کتاب «اختلاف الحدیث ومسائله» لیونس بن عبدالرحمن (م 208) الذی یبحث فی مسألة التعادل والتراجیح، وهی من بحوث علم الأصول. وکان یونس هذا من أصحاب الإمام موسی بن جعفر وعلیّ بن موسی الرضا علیهما السلام (1).

والکتاب الآخر الذی ألّفه أبو سهل النوبختی، إسماعیل بن علیّ بن إسحاق، وسمّاه «الخصوص والعموم»، ویتضمّن أحد بحوث علم الأصول (2).

نزاع لفظیّ:

الحقّ أنّ النزاع بین الاصولیین والأخباریین فی هذه المسألة لیس واقعیاً أو ماهویاً، بل هو علی نحوین:

أحدهما لفظیّ والآخر معنویّ.

أمّا القسم الأوّل. فیتضمّن البحوث التی تحدّث فیها ودافع عنها الأخباریون ومنهم محمّد أمین الاسترآبادی وتعدّ هذه البحوث من جملة مواضیع علم الأصول.

وتوضیح ذلک: بما أنّ الأخباریین یرون انحصار الدلیل علی الأحکام بالکتاب والسنّة، والسنّة بدورها لیست متواترة فی جمیع الموارد ولا توجد قرینة مفیدة للعلم مع جمیع الأخبار، فلهذا تمسّک الأخباریون بأخبار الآحاد وادّعوا أنّ حجیتها قطعیة، وکذلک لابدّ من قبولهم بحجّیة ظواهر الألفاظ، وفی موارد تعارض الأخبار لابدّ لهم من العمل بقواعد باب التعادل والتراجیح، وفی مورد فقدان المرجّح العمل بالتخییر، وفی مورد فقدان النصّ لابدّ لهم من الرجوع إلی الأصول العملیة رغم أنّ الأصل العملی الذی یقول به الأخباریون فی هذا المورد هو أصل الاحتیاط.

ولا شکّ فی أنّ هذه المسائل تعدّ من مباحث علم الأصول، إذن فالأخباریون من أجل تنقیح قواعد التعادل والتراجیح وإثبات حجّیة خبر الواحد وظواهر الألفاظ وأصالة الاحتیاط، بحاجة أکیدة للاستعانة بعلم الأصول وإن لم یطلقوا علیه علم الأصول. إذن فإنکارهم لهذا العلم فی مثل هذه الموارد غیر واقعیّ، بل بمثابة نزاع لفظیّ، لأنّهم یتحرّکون عملًا علی مستوی الاستفادة من هذا العلم (3).

والشاهد علی ذلک ما ذکره المحدّث البحرانی رحمه الله صاحب کتاب «الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة علیهم السلام» فی مقدّمة هذا الکتاب. ومع أنّ هذا المحدّث یعدّ من جملة المحدّثین والأخباریین


1- معجم رجال الحدیث، ج 20، ص 199.
2- رجال النجاشی، رقم 68، ص 31.
3- أنوار الأصول، ج 3، ص 623.

ص: 297

المعروفین، إلّا أنّه ذکر فی مقدّمة کتابه اثنی عشر بحثاً وأکثرها من بحوث علم الأصول، مثلًا تحدّث فی المقدّمة الثانیة عن حجّیة خبر الواحد، وفی المقدّمة الثالثة تحدّث فی بحث مدارک الأحکام الشرعیة ومنها حجّیة ظواهر الکتاب والإجماع وأصالة العدم وأصل البراءة فی الشبهات الوجوبیة، ومقدّمة الواجب، ودلالة الأمر بالشی ء علی النهی عن ضدّه، وقیاس الأولویة وقیاس منصوص العلّة، ومعلوم أنّ جمیع هذه البحوث تعدّ من مسائل علم الأصول.

وذکر فی المقدّمة السادسة، بحثاً فی تعارض الأدلّة، وفی المقدّمة السابعة تحدّث عن دلالة الأمر والنهی علی الوجوب والحرمة، وفی المقدّمة الثامنة، بحث فی الحقیقة الشرعیّة، وفی المقدّمة التاسعة بحث فی معنی ومفهوم المشتق، وفی المقدّمة العاشرة استعرض حجّیة الدلیل العقلی وعدمها، وفی المقدّمة الحادیة عشر ذکر بعض القواعد الفقهیة(1). وأغلب هذه الأمور هی من مسائل علم الأصول.

وتبیّن لحدّ الآن أنّ کلا الفریقین (الأخباریّ والأصولیّ) بالنسبة لهذه المسائل والبحوث یریان لزوم التحقیق فیها، وهی تمثّل أهم مسائل علم الأصول. إذن فهذا النزاع فی الواقع لا یدور حول محور إنکار علم الأصول بشکل واقعی ومعنوی، بل بشکل لفظیّ وصوریّ.

القسم الثانی. الموارد التی دار الکلام فیها وکان النزاع فیها معنویاً وحقیقیاً رغم أنّها قلیلة جدّاً، ورغم أنّ البعض کالشیخ عبداللَّه بن صالح البحرانی فی کتابه «منیة الممارسین فی أجوبة مسائل الشیخ یاسین» ذکر أنّ موارد الاختلاف ثلاثة وأربعین مورداً(2)، ولکنّ الحقّ أنّ هذا العدد لا یمثّل رقماً واقعیاً لأنّ عدداً کبیراً من هذه المسائل هی فی الواقع من فروع دلیل العقل الذی ینکره الأخباریون، وعلیه فالصحیح هو القول أنّ موارد الاختلاف بین الأصولیین والأخباریین لا تتجاوز عدد الأصابع، والعمدة فیها ثلاثة موارد:

1. الخلاف فی عدد الأدلّة الشرعیّة، حیث أنّها عند الأصولیین أربعة أدلّة؛ الکتاب، السنّة، الإجماع والعقل.

وأمّا لدی الأخباریین فتنحصر الأدلة بالکتاب والسنّة، ولکن مع قلیل من التأمّل یتّضح أنّ هذا الاختلاف جزئیّ، لأنّ الکثیر من أصولیی الإمامیة یرون أنّ الإجماع حجّة من باب کاشفیته عن رأی المعصوم علیه السلام ونظره لا أنّه حجّة بنفس اتّفاق وإجماع العلماء والفقهاء. وبالتالی فإنّ الإجماع الذی یمثّل أحد الأدلّة عند الأصولیین یعود إلی السنّة أیضاً.

وأمّا دلیل العقل، فالأخبایون لا ینکرون حجّیته بشکل مطلق، بل إنّهم فی بعض الموارد یقولون بحجّیة العقل ولا ینکرونها إلّافی بعض الموارد، مثلًا بالنسبة للأحکام البدیهیة العقلیة والأحکام النظریة التی تبتنی علی مقدّمات حسّیة کالریاضیات والفلک فالأخباریون یرونها حجّة، ولکنّ الأحکام العقلیة النظریة التی لا تقوم علی أساس مقدّمات حسّیة أو قریبة من الحسّ فإنّهم لا یرونها حجّة، ویستدلّون لذلک بوجود أخطاء کثیرة فی الأدلة العقلیة النظریة، ومن هنا فلا یمکن الاعتماد علیها فی عملیة التفقه.

ولهذا السبب فإنّ الأخباریین وافقوا علی جملة من المسائل العقلیة الأصولیة، من قبیل مقدّمة الواجب ومسألة اجتماع الأمر والنهی ودلالة الأمر علی النهی


1- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 133.
2- المصدر السابق، ص 167.

ص: 298

عن ضدّه وأمثال ذلک من المسائل التی تدخل فی دائرة الاستدلال بالعقل.

2. فی مورد الشبهات الحکمیّة التحریمیّة فی صورة فقدان النصّ. فإذا لم یعثر المجتهد علی دلیل معتبر بعد الفحص والتحقیق الکامل، فإنّ الأصولیین یذهبون إلی جواز التمسّک بأصل البراءة فی هذا المورد فی حین أنّ الأخباریین یرون لزوم العمل بالاحتیاط، وفی مورد الشکّ بالحرمة حکموا أیضاً بوجوب الاحتیاط.

3. بالنسبة لحجّیة ظواهر الکتاب؛ قیل أنّ الأخباریین لا یرون ظواهر الکتاب حجة، ولکنّ الأصولیین یعتقدون بحجّیتها.

وینبغی الالتفات هنا إلی أنّ هذا النزاع فی هذه المسألة صغروی لا کبروی (1)، أی أنّ کلا الفریقین یری أنّ سیرة الشارع المقدّس فی إفهام المخاطبین هی نفس سیرة العقلاء والناس العادیین فی محاوراتهم الیومیة فی التمسّک بظواهر کلام المتکلّم، بمعنی أنّه کما أنّ سائر الناس یعتمدون فی مقام تفهیم المخاطبین علی أصل عدم القرینة، فإنّ الشارع المقدّس فی سیرته ونهجه یتبع هذا المنهج أیضاً، ولکن الأخباریین یدّعون أنّ الخطابات القرآنیة لیست فی مقام إفادة المقصود والمراد وما لم تقترن بتفسیر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام، فإنّها لا ظهور لها لوحدها، لا أنّ لها ظهوراً ولکنّه غیر حجّة(2).

ویتبیّن ممّا تقدّم آنفاً أنّ موارد الخلاف بین الأصولیین والأخباریین نادرة جدّاً ومحدودة، وهذا المقدار من اختلاف النظر بین فقهاء وعلماء الإسلام یعدّ طبیعیاً وعادیاً، کما هو الحال فی وجود خلاف فی الرأی بین علماء الإسلام فی مسائل مختلفة، وهذا المقدار من الخلاف لا یوجب أن یتحرّک العلماء الأخباریون فی إنکارهم علی آراء علماء الأصول من موقع الذم والتقبیح، وکذلک الحال بالنسبة لإشکالات علماء الأصول علی الأخباریین غیر صحیحة أیضاً، والشاهد علی هذا المطلب ما ورد فی کتاب الحدائق الناضرة، للشیخ یوسف البحرانی الذی یعتبر من المحدّثین المشهورین فی القرن الثالث عشر(3).

وعلی هذا الأساس فإنّ الخلاف بین الأخباریین والأصولیین حاله حال الخلاف بین الأصولیین أنفسهم حول بعض مسائل علم الأصول، وهذا الخلاف فی النظر والرأی لا یوجب أن یتّخذ کلّ واحد منهما جبهة فی مقابل الآخر.

إنّ هذه الاختلافات موجودة بنحو آخر وبشکل أعمق بین أهل الحدیث وأهل الرأی، أو بین الظاهریین وأهل الرأی فی دائرة علماء أهل السنّة أیضاً.

فأصحاب مدرسة الحدیث الذین یرفضون استخدام الرأی والقیاس، ینقلون أحادیث وکلمات فی ذمّ أصحاب الرأی والتشنیع علیهم (4).

کما أنّه یوجد بین علماء أهل السنّة من یخالف علم الأصول ویطرح شبهات فی هذا المجال أیضاً(5).


1- فرائد الأصول، ص 34.
2- أنوار الأصول، ج 3، ص 623 و 624.
3- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 169.
4- ومن أجل الاطلاع علی تهاترات واختلافات أهل الحدیث وأهل الرأی انظر: اعلام الموقعین، ج 1، ص 43- / 49؛ الملل والنحل للشهرستانی، ص 166 و 167. وقد صرّح الشهرستانی: بأنّه برزت بین هذین الفریقین( أهل الرأی وأهل الحدیث) اختلافات کثیرة فی الفروعات وألفت کتب کثیرة حول أفکارهم وجرت مناظرات کثیرة أیضاً.
5- انظر: المهذّب فی علم أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم النملة، ج 1، ص 45- 52.

ص: 299

6. علم الفقه

والمقصود من علم الفقه الذی یندرج فی مبانی ومقدّمات الاجتهاد واستنباط الأحکام، هو عملیة التمرّن والممارسة علی الاجتهاد فی المسائل الفقهیة واستنباط الأحکام، وبالطبع ربّما یتوهّم البعض أنّ الإجتهاد مقدّمة ووسیلة لتحصیل الفقه وأنّ الفقه ذو المقدّمة، إذن کیف یمکن أن یکون الفقه مقدّمة للاجتهاد؟(1)

والجواب: إنّ أحد شروط تحقّق وفعلیة الاجتهاد، هو أن یملک الإنسان استعداداً وقوّة قدسیة لملکة الاجتهاد، أی قوّة ردّ الفروع إلی الأصول وبالعکس، ولا یکفی أن یحیط الإنسان علماً بالعلوم التی تقع فی مقدّمة الاجتهاد لتحقیق هذا الأمر المهمّ، بل مضافاً إلی ذلک لابدّ من توفّر قوّة وملکة فی هذا الشأن بحیث یتمکّن هذا العالم من ردّ الفروع إلی الأصول وإرجاع الجزئیات إلی الکلّیات، مثلًا عند تعارض الدلیلین، فإنّ هذا الشخص ینبغی أن یملک قوّة تشخیص وترجیح أحدهما علی الآخر.

وتعدّ ملکة الاجتهاد أو بعضها من المواهب الإلهیّة التی تمنح إلی من تتوفّر فیه القابلیة والصلاحیة لهذا الأمر، فإذا کان الشخص لا یملک هذه الموهبة الإلهیة فإنّه لا یتمکّن من التحرّک فی عملیة الاستنباط من موقع الاجتهاد الصحیح والکامل. کما أنّ الفاقد لطبع الشعر لا یمکنه إنشاد قصیدة شعریة حتی لو کان عالماً بجمیع القواعد الأدبیة وقوانین الشعر والقافیة وغیر ذلک، لأنّ الطبع السلیم والمساعد، له تأثیر کبیر فی إنشاد الشعر(2)، وقسم منه یعود لعملیة التکرار والتمرّن وبحاجة إلی تجربة عملیة فی هذا المورد، کما أنّ هذا المعنی یجری فی جمیع العلوم والمعارف البشریة التی لا تحصل لدی الإنسان ملکة خاصّة بها بدون تمرین وممارسة فی عملیة التطبیق العملی فی الواقع الخارجی، مثلًا بالنسبة لطلّاب علم الطبّ فإنّهم یعملون علی ممارسة عمل الطبابة فی المستشفیات بالتزامن مع تحصیلهم العلمی فی الجامعات لیحقّقوا لأنفسهم تجربة عملیة فی الواقع الخارجی مضافاً لتحصیلهم العلمی وبذلک تکمل قوة وملکة الطبابة عندهم، وعلی هذا الأساس فإنّه من أجل تحقیق ملکة الاجتهاد فی واقع الإنسان فلابدّ من التمرّن والممارسة العملیة فی طبیعة المسائل الفقهیة والعمل علی ردّ الأصول إلی الفروع وبالعکس.

مثلًا إذا سئل المجتهد أنّ المکلّف إذا صلّی الظهر والعصر، وحصل لدیه علم إجمالی بأنّ إحدی هاتین الصلاتین وقعت بدون طهارة ولکنّه لا یعلم أیّ واحدة منهما علی سبیل التعیین، فما تکلیفه؟

هنا ینبغی علی المجتهد أن یعلم أنّ مورد السؤال هل هو من قبیل موارد تطبیق قاعدة الاحتیاط أم قاعدة الفراغ حتی یمکنه ترتیب الأثر الخاصّ لکلّ منهما فی معرفة الحکم الشرعی، وهذه المعرفة تحصل لدی المجتهد من خلال التمرّن والممارسة العملیة، ولذلک فإنّ بعض علماء الإسلام ذکروا هذا الشرط، أی الممارسة فی الفقه کمقدّمة للاجتهاد(3).


1- عنایة الأصول، ج 6، ص 192؛ المحصول فی علم أصول الفقه للفخر الرازی، ج 2، ص 435؛ وورد فی المحصول للفخر الرازی:« وأمّا تفاریع الفقه فلا حاجة إلیها لأنّ هذه التفاریع ولّدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد فکیف تکون شرطاً فیه؟».
2- قوانین الأصول، ج 2، ص 405.
3- الفوائد الحائریة، ص 337؛ المستصفی، ج 2، ص 353؛ إرشاد الفحول، ص 420؛ أنوار الأصول، ج 3، ص 626.

ص: 300

7. العلم بالقواعد الفقهیة

لا شکّ فی أنّ إحدی المقدّمات المهمّة للاستنباط والاجتهاد فی الأحکام، العلم بالقواعد الفقهیة(1)، ولا یخفی علی أحد التأثیر العظیم والواسع لهذا العلم فی عملیة الاجتهاد والاستنباط، ولکن مع الأسف فإنّنا لا نجد لهذا العلم بالقواعد ذکراً لدی العلماء بعنوانه مقدمة للاجتهاد، ولعلّ ذلک یعود إلی أنّهم یتصوّرون أنّ القواعد الفقهیة هی الفقه نفسه ولیست شیئاً آخر، فی حین أنّ القواعد الفقهیة علم مستقلّ یختلف عن علم أصول الفقه وعن علم الفقه نفسه، ولیس هنا مجال بیان تفاصیل هذا المطلب، ولذلک نکتفی ببیان تعریفه والإشارة لبعض القواعد الفقهیة بشکل إجمالی:

تعریف القواعد الفقهیة(2): القواعد الفقهیة عبارة عن الأحکام العامة الجاریة فی أبواب مختلفة من الفقه، وبمثابة برزخ بین أصول الفقه وعلم الفقه، وعلیه فإنّ اختلافها مع مسائل علم الأصول هو أنّ المسائل الأصولیة تتضمّن دائماً حکماً من الأحکام الکّلیة التی تدور حول موضوع کلّی، وتختلف عن المسائل الفقهیة فی أنّ الفقه یتحدّث دائماً عن الأحکام الخاصّة المترتبة علی الموضوعات الجزئیة.

أقسام القواعد الفقهیة(3): إنّ بعض القواعد الفقهیة یختص بأبواب خاصّة من أبواب الفقه، کقاعدة «الطهارة» التی تجری فی أبواب الطهارة والنجاسة وقاعدة «لا تعاد» وقاعدة «الفراغ والتجاوز» التی تجری فقط فی أبواب الصلاة والعبادات، وقاعدة «ما یُضمن بصحیحه یُضمن بفاسده» و «ما لا یُضمن بصحیحه لا یُضمن بفاسده» التی تجری فی أبواب المعاملات بالمعنی الأخصّ، والبعض الآخر من القواعد الفقهیة لا یختص بباب دون باب بل یجری فی أکثر أو جمیع أبواب الفقه إلّاإذا وجد مانع فی بعض الموارد مثل قاعدة «لا ضرر» و «لا حرج». فبالرغم من أنّ هذه القواعد تختصّ بموضوع معیّن، لأنّ هاتین القاعدتین تدوران حول الموضوعات الضرریة والحرجیة، ولکن یستفاد منهما فی جمیع أبواب الفقه تقریباً، ومن خلال هذه الإشارة السریعة للقواعد الفقهیة یتبیّن أنّ الإحاطة بهذه القواعد کمقدّمة للاجتهاد لازمة وضروریة.

یقول «ابن السبکی»: «یلزم للمجتهد أن یکون عارفاً بالقواعد الفقهیة المهمّة حتّی یمکنه من خلال ممارسة هذه القواعد وکسب قوة الاستنباط، تحصیل مقصود الشارع».

ثمّ یشیر إلی نماذج من القواعد الفقهیة من قبیل:

1. «الضرر یُزال»، (قاعدة لا ضرر).

2. «الیقین لایزول بالشّک»، (قاعدة الاستصحاب).

3. «الضرورات تبیح المحظورات».

4. «الضرر الأشدّ یزال بالضرر الأخفّ»، (قاعدة الأهمّ والمهم)

5. «درء المفاسد أولی من جلب المنفعة».

6. «الحرج شرعاً مرفوع»، (قاعدة لا حرج)(4).

ملاحظة:

إنّ أحد شروط ومقدّمات الاجتهاد واستنباط


1- أنوار الأصول، ج 3، ص 628؛ جمع الجوامع لابن السبکی، ج 2، ص 401.
2- القواعد الفقهیّة، ج 1، ص 11- 18.
3- المصدر السابق.
4- جمع الجوامع لابن سبکی، ج 2، ص 401، نقلًا عن کتاب اجتهاد وسیر تاریخی آن( بالفارسیة).

ص: 301

الأحکام هو أن یحیط الشخص علماً بموارد إجماع الفقهاء لیتمکّن من اجتناب الفتوی المخالفة للإجماع، وهذا الأمر لا یتحقّق إلّامن خلال الارتباط المستمر بالکتب الفقهیة الاستدلالیة، بل مع ا لمتون الفقهیة، ولذلک فإنّ معرفة الفقه وفتوی الفقهاء تعدّ من شروط الاجتهاد الصحیح لا من مکمّلاته. بل إنّ الحقّ والإنصاف أنّ فهم الأخبار والأحادیث بشکل صحیح لا یحصل کذلک بدون متابعة الکتب الفقهیة والحدیثیة، فکیف الحال إذا أراد المجتهد أن یتحرّک علی مستوی تشخیص أنّ الحدیث الفلانی هل هو موافق للکتاب والسنّة أم لا، أو أنّه مخالف لفتوی طائفة معینة من الفقهاء أم لا؟

وقد أشار بعض العلماء إلی هذا الشرط، أی معرفة موارد الإجماع لتحصیل الاجتهاد الصحیح، ومن هؤلاء:

الفخر الرازی فی «المحصول»(1)، الغزالی فی «المستصفی»(2)، المیرزا القمّی فی «قوانین الأصول»(3)، والسیّد محمّد المجاهد فی «مفاتیح الأصول»(4).

خلاصة ونتیجة:

إنّ العلوم التی بإمکانها أن تکون مقدّمة للاجتهاد والتی وردت فی کلام وأبحاث العلماء والفقهاء، تقدّم أنّها علی قسمین: العلوم التی یری أکثر أو جمیع علماء الإسلام أنّها مقدّمة للاجتهاد، وهی عبارة عن:

1. علم اللغة 2. علم الصرف 3. علم النحو 4. علم التفسیر فی دائرة آیات الأحکام 5. علم أصول الفقه 6. علم الفقه 7. القواعد الفقهیّة.

وهناک بعض العلوم اختلف العلماء فی اعتبارها مقدّمة للاجتهاد، مثل علم الکلام، الفلسفة والمنطق، البلاغة، الرجال.

هل هناک علوم ومعارف أخری لازمة لعملیة الاجتهاد؟

إنّ تطور العلوم والمعارف فی فروع مختلفة فی هذا العصر، له تأثیر کبیر فی تنوّع وظهور موضوعات مختلفة ومتعدّدة ربّما لم تکن مطروحة فی السابق، وهذه الظاهرة أدّت إلی أن یتحرّک الفقهاء وعلماء الإسلام علی مستوی تخصیص بعض تحقیقاتهم ونشاطهم العلمیّ فی مورد معرفة هذه الموضوعات.

ولذلک ینبغی علی المجتهد- حسب الظاهر- أن یملک معرفة بالعلوم السیاسیة والاقتصادیة والطبیة والریاضیات وسائر العلوم الأخری.

والسؤال الذی یثار هنا هو: هل یجب علی الفقهاء وعلماء الدین أن یکونوا أصحاب رأی فی العلوم التی تتّصل بمعرفة موضوعات الأحکام أم لا حاجة لهذا المقدار من الإحاطة العلمیة، بل یکفی الرجوع فی کلّ موضوع خاصّ إلی المتخصّص فی ذلک الموضوع؟

علی سبیل المثال، إنّ بعض مسائل علم الفلک ترتبط بکرویة الأرض، وکرویة الأرض بدورها سبب للاختلاف فی رؤیة الهلال فی أمکنة مختلفة. فهل یجب علی الفقیه أن یکون عالماً بعلم الفلک وصاحب رأی فیه لیتمکّن بذلک من معرفة أنّ شهر رمضان مثلًا یکون 29 یوماً لبعض المجتمعات البشریة و 30 یوماً لبعض آخر من المجتمعات الأخری، وهل یلزم من أجل تشخیص یوم عید الفطر وعید الأضحی وتشخیص جهة


1- المحصول فی علم الأصول الفقه للفخر الرازی، ج 2، ص 435.
2- المستصفی، ج 2، ص 351.
3- قوانین الأصول، ج 2، ص 404.
4- مفاتیح الأصول، ص 577.

ص: 302

القبلة فی أمکنة مختلفة أن یحیط الفقیه علماً بعلم الفلک؟(1)

مثال آخر، هل یُحسب من اصیب بسکتة دماغیة میّتاً، وبالتالی یجب علی زوجته الشروع بعدّة الوفاة وتقسم أمواله بین الورثة، أم أنّه لا زال حیّاً، وبالتالی لا یجوز ترتیب الآثار المذکورة آنفاً، أم هو میّت من بعض الجهات فیترتّب علیه حکم المیّت، وحیّ من جهة أخری ویترتّب علیه حکم الحیّ؟

هل یجب علی الفقیه من أجل تشخیص هذا المورد أن یتعلّم علم الطبّ وأن یکون صاحب رأی فیه؟

وکذلک الحال بالنسبة للأمراض التی تسلب القدرة لدی المکلّف علی الصیام، أو العیوب التی تتّصل بفسخ النکاح وأمثال ذلک، فإنّ هذا السؤال یثار أیضاً.

هل یجب علی الفقیه أن یتعلّم الریاضیات لیتمکّن من تقسیم الأموال وتعیین سهام کلّ واحد من الورثة وکذلک حلّ مسائل الإرث والإقرار التی تتّصل إجمالًا بمعرفة المسائل الریاضیة؟

مثلًا، إذا قال شخص:

«لزید علیّ عشرة إلّانصف ما لبکر، ولبکر علیّ عشرة إلّانصف ما لزیدٍ»

، فهل یجب علی الفقیه أن یعلم المبلغ الثابت علیه بسبب هذا الإقرار؟ وبالطبع فإنّ معرفة ذلک یتوقّف علی معرفة قواعد علم الریاضیات، أم نقول إنّ وظیفته أن یفتی فقط وفقاً لقاعدة

«إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز»(2)

وأنّ هذا الإقرار صحیح ویثبت به الدَین، وأمّا تعیین مقدار ذلک فإنّه بعهدة خبراء علم الریاضیات؟

والحاصل أنّه هل یجب علی الفقیه من أجل تشخیص موضوعات الأحکام أن یکون له إلمام بعلوم أخری من قبیل علم الفلک والطبّ والریاضیات وغیرها ویکون فیها خبیراً وصاحب نظر، أم لا یحتاج إلی ذلک، بل یکفی فی تشخیص مصادیق الموضوعات الرجوع إلی الخبراء والمختصّین فی ذلک العلم؟

والجواب عن هذا السؤال یتوقّف علی بیان مقدّمتین:

1. إنّ وظیفة الفقیه، تشخیص الموضوعات الکلّیة للأحکام فی مقام الاستنباط، وأمّا تطبیق تلک الکلیات علی المصادیق والأفراد الخارجیة فلیست من شؤون الفقیه، لأنّ تشخیص الأفراد والجزئیات لا یؤثّر فی عملیة الاستنباط، رغم أنّ بعض موارد ومصادیق هذه الموضوعات الکلّیة مبهمة، وعلی الفقیه أن یتصدّی لإزالة هذا الإبهام، ولکنه لیس أمراً کلّیاً. مثلًا لو قال الفقیه: إنّ الدم نجس. ففی هذا المثال لدینا موضوع کلّی یدعی ب «الدم» وحکمه «النجاسة» وتشخیص هذین الأمرین من شأن الفقیه، أمّا أنّ السائل الفلانی هل هو دم أم لا؟ فبیانه خارج عن عهدة الفقیه.

أو إذا قال الفقیه: إنّ المرض المضرّ بالشخص یرفع وجوب الصوم، ولا یجوز حینئذٍ للمکلّف أن یصوم.

فاستنباط الموضوع الکلّی فی هذا المثال (المریض الذی یضرّه الصوم) وحکمه (عدم جواز الصوم لهذا الشخص) یستخرجها المجتهد من منابع الأحکام الشرعیة، أی الکتاب والسنّة، وبالتالی فهی من شأن المجتهد والفقیه، وأمّا أنّ هذا المریض الخاصّ هل یضرّه الصوم أم لا؟ فهذا لا یرتبط بالفقیه، بل إنّ تشخیص هذا المعنی بعهدة الطبیب الحاذق.

2. إنّ تشخیص الموضوعات الکلّیة للأحکام، الذی


1- قوانین الأصول، ج 2، ص 408 و 409.
2- وسائل الشیعة، ج 16، ص 111، الباب 3 من أبواب کتاب الاقرار، ح 2.

ص: 303

هوبعهدة الفقیه، لا یحتاج إلی معرفة تفصیلیة بعلوم الریاضیات والطبّ والفلک والکیمیاء وما إلی ذلک، بل ما یخصّ الفقیه هو الموضوعات الکلّیة التی یستخرجها ویستنبطها الفقیه من منابع الأحکام، أی الکتاب والسنّة، نعم إنّ ما یحتاج إلیه المکلّف من تلک العلوم هو ما یتّصل بتشخیص المصادیق والجزئیات لتلک الموضوعات الکلیة، وهذه لیست بعهدة الفقیه.

ومع الالتفات إلی هاتین المقدّمتین، نستنتج أنّ الفقیه لا یحتاج فی تشخیص الموضوعات الکلیة إلی تعلم سائر العلوم کالریاضیات والکیمیاء والطبّ وما إلی ذلک، وإلّا لزم من ذلک أن یقوم المکلّف من أجل نیل مرتبة الاجتهاد بتعلّم ودراسة الکثیر من العلوم البشریة، وهذا الأمر محال عادة ویؤدّی إلی سدّ باب الاجتهاد وحرمان أغلب الأفراد من تحصیل القوّة الفکریة للاجتهاد، والحال أنّه لم یقل بذلک أحد من الفقهاء، بل قالوا بعکس ذلک.

یقول المرحوم المحقّق النراقی فی هذا المجال:

«دیدن الفقهاء، الرجوع فی الموضوعات إلی أهل خبرتها»(1)

. وذکر آخرون أیضاً ما یشبه هذا الکلام (2).

النتیجة، أنّ الموضوعات التی تتکفّل تشخیص الجزئیات والمصادیق، تعتبر من العلوم التخصّصیة التی یستطیع الفقیه بالرجوع إلی أهل الخبرة فی ذلک الفن، أن یحلّ المشکلة ولا یحتاج إلی التعمّق فی تلک العلوم (3).

کما أنّ الموضوعات التی لا تحتاج إلی تخصّص علمٍ خاص ولکن یجب التعرّف علیها بالرجوع إلی ارتکاز العرف بشکل دقیق، ولا شکّ أنّ الفقیه وبسبب ممارسته المستمرّة لهذه المسائل یکون أقوی من غیره فی تشخیص هذه الموضوعات، ففی هذه الصورة یتولّی الفقیه مسؤولیة تشخیص المصادیق وإصدار الحکم الشرعی فیها ویفتی به إلی المقلِّدین.

والأمثلة علی ذلک فی الفقه لمثل هذه الموضوعات کثیرة، منها ما یقال من حرمة استعمال آنیة الذهب والفضة، فهذا الحکم ثبت من الأدلّة الشرعیة بشکل عام، ولکن هناک شکّ فی تعیین مصادیقه، فهل أنّ إطار الساعة الیدویة، قارورة الکحلة، الملعقة، وما إلی ذلک، هل تعدّ من الآوانی المذکورة أم لا؟ وکذلک بالنسبة لوجوب السجود علی الأرض وما ینبت منها سوی الأطعمة والألبسة، فهذه المسألة معلومة بشکل لحکم کلّیّ، ولکن هل أنّ الأدویة النباتیة أو قشور الفواکه وأمثالها تعدّ من المأکولات؟ وهل أنّ أوراق الأشجار کالنخیل التی یحاک منها قبعة، مثلًا، هل تعدّ من الملبوسات أم لا؟ وکذلک فی التغییر التقدیری للماء غیر النقی الذی وقع فیه مثلًا مقدار من الدم، فهل یعدّ من مصادیق التغییر الموجب لنجاسة ماء الکرّ أم لا؟ أو ما یلاحظ فی موارد المسائل الجدیدة کظهور النساء المتبرجات فی التلفزیون بشکل بثّ مباشر، فهل یحسب ذلک من مصادیق (النظر إلی غیر المحارم) أو عند سماع آیة السجدة من الإذاعة أو أجهزة الإعلام العامّة، فهل هو من قبیل استماع آیات السجدة الموجب للسجود، أم لا؟ وأمثال هذه الموضوعات الموجودة فی جمیع أبواب الفقه. وبدیهیّ، أنّ تشخیص هذه الموضوعات لو فوّض إلی المقلِّدین فإنّ الکثیر منهم سیعیش الحیرة فی تشخیص وظیفته الشرعیة.


1- مستند الشیعة، ج 2، ص 121.
2- مهذّب الأحکام، ج 11، ص 386 و 387.
3- أنوار الأصول، ج 3، ص 629.

ص: 304

تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد:

لا شکّ فی أنّ عنصر الزمان والمکان یمکنه أن یؤثر بشکل خاصّ فی اجتهاد الفقیه، وهناک بحوث کثیرة فی إطار دراسة وتحقیق هذا الأمر المهم، من قبیل: ما هو المقصود بالزمان والمکان والمراد من تأثیرهما فی عملیة الاجتهاد، أو دائرة وکیفیة تأثیر الزمان والمکان، وبحوث أخری من هذا القبیل، فلذلک تعرّضنا هنا لبحث تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد وقد أسلفنا بحثه فی هذا الکتاب.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. اجتهاد وسیر تاریخی آن از دیدگاه اهل سنّت، أحمد نعمتی، نشر احسان، الطبعة الأولی، 1376 ش (بالفارسیة).

4. الاجتهاد أصوله وأحکامه، محمّد بحرالعلوم، دارالزهراء، بیروت، الطبعة الثالثة، 1412 ق.

5. الاجتهاد الجماعی، الدکتور شعبان محمّد إسماعیل (استاذ جامعة أم القری)، دار البشائر الإسلامیّة- دار الصابونی، بیروت، الطبعة الأولی 1418 ق.

6. الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، الدکتور محمّد فوزی فیض اللَّه، مکتبة دارالتراث، الکویت، الطبعة الأولی 1404 ق.

7. الاجتهاد والتقلید، الإمام الخمینی، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی 1418 ق.

8. الاجتهاد والتقلید والاتباع والنظر، یحیی محمّد، مؤسّسة العربی، لندن، الطبعة الأولی 2000 م.

9. الاجتهاد ومقتضیات العصر، محمّد هشام الأیّوبی، دارالفکر، عَمّان، الأردن.

10. الإحکام فی أصول الأحکام، سیف الدین علی بن أبی علی الآمدی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

11. إرشاد الفحول إلی تحقیق علم الأصول، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی، دارالسلام، مصر، الطبعة الأولی، 1418 ق.

12. الأصول العامة للفقه المقارن، السیّد محمّد تقی الحکیم، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الثانیة، 1979 م.

13. إعلام الموقعین عن ربّ العالمین، ابن قیم، دار الکتاب العربی، بیروت، الطبعة الأولی، 1416 ق.

14. أنوار الأصول، تقریرات درس آیةاللَّه مکارم الشیرازی بقلم أحمد القدسی، مدرسة الإمام علی بن أبی طالب، الطبعة الأولی، 1424 ق.

15. البحر المحیط فی أصول الفقه، بدر الدین محمّد بن بهادر ابن عبداللَّه الشافعی المعروف بالزرکشی.

16. تدریب الراوی فی شرح تقریب النواوی، جلال الدین السیوطی، تحقیق عرفان العشا حسونة، دار الفکر، بیروت 1420 ه.

17. التنقیح، تقریرات درس الفقه لآیة اللَّه الخوئی، بقلم المیرزا علی الغروی التبریزی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الثانیة.

18. حاشیة الکفایة، العلّامة السید محمد حسین الطباطبائی، بنیاد علمی فکری، للعلّامة الطباطبائی.

19. الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحرانی، مؤسّسة النشر الإسلامی (التابعة لجماعة المدرّسین الحوزة العلمیّة قم)، قم، الطبعة الأولی، 1363 ش.

20. دراسات فی علم الأصول، تقریرات درس آیة اللَّه السیّد أبی القاسم الخوئی، بقلم السیّدعلی الهاشمی الشاهرودی، مؤسّسه دائرة معارف الفقه الإسلامی، الطبعة الأولی، 1419 ق.

ص: 305

21. دروس فی علم الأصول، الشهید السیّد محمّدباقر الصدر، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الأولی.

22. الرسائل، الإمام الخمینی، مطبعة مهر، قم، الطبعة الأولی، 1385 ق.

23. الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیّة، زین الدین المعروف بالشهید الثانی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الأولی، 1403 ق.

24. سنن ابن ماجة، الحافظ أبوعبداللَّه محمّد بن یزید القزوینی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الأولی، 1395 ق.

25. شرح کفایة الأصول، علی المحمّدی الخراسانی، دار نشر الإمام الحسن بن علی علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1379 ش.

26. شرح المختصر، للحاجبی.

27. عنایة الأصول، السیّد مرتضی الحسینی، الفیروزآبادی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الأولی، 13952 ق.

28. عین الأصول، الملّا أحمد النراقی.

29. الفوائد الحائریة، آیةاللَّه الوحید البهبهانی، مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الأولی، 1415 ق.

30. الفوائد المدنیّة، المولی محمّد أمین الاسترآبادی، دارالنشر لأهل البیت.

31. القواعد الفقهیّة، آیةاللَّه ناصر مکارم الشیرازی، منشورات دارالعلم، قم، 1382 ق.

32. قوانین الأصول، آیةاللَّه المیرزا أبوالقاسم القمی، الطبعة الحجریة.

33. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

34. کفایة الأصول، آیةاللَّه الشیخ محمّدکاظم الخراسانی، مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الثانیة، 1417 ق.

35. لسان العرب، العلّامة ابن منظور.

36. مبادی ء الوصول إلی علم الأصول، العلّامة الحلّی (أبومنصور حسین بن یوسف بن علی بن المطهر الحلی)، المطبعة العلمیة، طهران، الطبعة الثانیة، 1404 ق.

37. مجموعه مقالات مؤتمر الفاضلین النراقیین، جماعة من المؤلفین، مکتب مؤتمر الفاضلین النراقیین، الطبعة الأولی، 1381 ش.

38. المحصول فی علم أصول الفقه، فخرالدین محمّد بن عمر ابن الحسین الرازی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

39. المحصول فی علم الأصول، تقریرات درس أصول آیةاللَّه الشیخ جعفر السبحانی، بقلم السیّد محمود الجلالی، نشر مؤسّسة الإمام الصادق، قم، الطبعة الأولی، 1414 ق.

40. المستصفی، أبوحامد محمّد بن محمّد الغزالی، دارالفکر، بیروت.

41. مستند الشیعة، الملّا أحمد النراقی، مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الأولی، 1415 ق.

42. مصباح الأصول، تقریرات درس أصول آیةاللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، بقلم السیّد محمّد سرور بهسودی، مکتبة داوری، قم، الطبعة الثانیة، 1412 ق.

43. المصباح المنیر، أحمد بن محمّد الفیّومی.

44. معالم الدین فی الأصول، الشیخ الحسن بن زین الدین، مؤسّسة نشر الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1406 ق.

45. معجم رجال الحدیث، آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، الطبعة الخامسة، 1413 ق.

46. مفاتیح الأصول، السیّد محمّد المجاهد.

47. المفردات، الراغب الاصفهانی.

48. مقاییس اللغة، أبوالحسین أحمد بن فارس.

49. منابع استنباط الحقوق إلاسلامیة، الدکتور أبوالحسن

ص: 306

محمّدی، انتشارات جامعة طهران، الطبعة الثامنة، 1373 ش.

50. مناهج الأحکام والأصول، الملّا أحمد النراقی.

51. المنطق، محمّد رضا المظفر، دارالتعارف، بیروت، 1400 ق.

52. منع الموانع عن جمع الجوامع، عبدالوهاب بن علی السبکی، دار البشائر الإسلامیة، بیروت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

53. منتهی الأصول، آیةاللَّه السیّد المیرزا حسین البجنوردی، مؤسّسة عروج، الطبعة الأولی، 1421 ق.

54. المهذّب فی علم أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم النملة، مکتبة المرشد، الریاض، الطبعة الأولی، 1420 ق.

55. مهذّب الأحکام، آیةاللَّه السیّد عبدالأعلی السبزواری، مؤسّسة المنار، قم، الطبعة الرابعة، 1416 ق.

56. نهایة الأفکار، تقریرات درس أصول آیةاللَّه ضیاءالدین العراقی، بقلم آیةاللَّه الشیخ محمّدتقی النجفی البروجردی، مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1405 ق.

57. الوجیز فی أصول التشریع الإسلامی، الدکتور محمّدحسین الهیتو، مؤسّسة الرسالة، بیروت، الطبعة الأولی، 1421 ق ..

58. وسائل الشیعة، محمّد بن حسن الحرّ العاملی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 307

12

القسم الثانی عشر: أسباب الإختلاف فی الفتوی

اشارة

الإختلاف فی بعض منابع إستنباط الأحکام

العثور أو عدم العثور علی النصّ

الإختلاف فی معیار وثاقة الرواة

الإختلاف فی جهة صدور الحدیث

الإختلاف فی نسخ الحکم

الإختلاف فی قراءة الآبات أو نقل متون الأحادیث

الإختلاف فی فهم وتفسیر الآیات والروایات

الإختلاف فی ترجیح الأدلّة المتعارضة

الإختلاف فی موارد حجیّة الأصول العملیّة

الإختلاف فی مساحة القواعد الفقهیّة

الإختلاف فی دائرة حجیّة العقل

الإختلاف فی أقسام الإجماع

تأثیر الظروف الإجتماعیّة فی فتوی المجتهد

ص: 308

ص: 309

أسباب الإختلاف فی الفتوی

مقدّمة:

أ) الحکم الإلهی واحد لا أکثر

معلوم أنّ الشریعة الإسلامیة الواقعیة والتکالیف والقوانین السماویة التی أنزلها اللَّه تعالی علی رسوله الکریم محمّد صلی الله علیه و آله، واحدة لا أکثر،: وإذا کان هناک اختلاف بین الفقهاء فی الأحکام الفقهیة والفتاوی الشرعیة فإنّه ناشی ء عن اختلاف استیحائهم وقراءتهم للنصوص الواردة فی المنابع الفقهیة للشریعة المقدّسة.

ب) کثرة المشترکات الفقهیة

والجدیر بالذکر أنّ الکلام عن عوامل اختلاف الآراء الفقهیة ومساحته بما لها من تنّوع، تقع فی «دائرة صغیرة» من «الفقه والشریعة الإسلامیة الکاملة»، ومن هنا یتّفق فقهاء المذاهب الإسلامیة فی أکثر المسائل الفقهیة، فمن المشترکات فی الفقه الإسلامی المتّفق علیها فی جمیع المذاهب الإسلامیة: کلّیّات جمیع أبواب الفقه من قبیل: الصلاة، الصوم، الخمس، الزکاة، الحجّ، الجهاد، أنواع المعاملات والعقود الاجتماعیة والمسائل الأُسرة، وکذلک کثیر من العناصر وأحکام وشروط کلّ من: أرکان الصلاة، التکبیر، النیّة، القراءة، الرکوع، السجود، التشهّد، التسلیم وشروط الصلاة کالطهارة والقبلة وما إلی ذلک، وأیضاً جمیع الأحکام التی ورد التصریح بها فی الآیات القرآنیة أو الأحادیث النبویة المتواترة، وسائر ضروریات الفقه الإسلامی أیضاً.

ومن الطبیعی أن تقع بعض المسائل الفرعیة لهذه الأبواب الفاقدة للدلیل القطعیّ المتّفق علیه، فی دائرة (اجتهاد فقهاء الإسلام) وبإمکان کلّ مجتهد العمل وبذل الجهد لکشف حکمها الشرعیّ من خلال البحث فی الأدلّة المناسبة، وبالتالی یختار أقوی هذه الأدلّة ویفتی وفْقَهُ، ومن هنا فإنّ اختلاف الفتوی یقع فی هذه الدائرة فحسب.

ج) اختلاف المذاهب و اختلاف الفقهاء لمذهب واحد

إنّ المسائل الخلافیة علی نوعین: فبعضها یمثّل اختلافاً بین المذاهب الإسلامیة التی تختلف فیما بینها فی المبانی المذهبیة والفقهیة، وبالتالی یسری ذلک إلی وقوع الاختلاف فی دائرة الفقه، والنوع الآخر من المسائل الفقهیة مورد الخلاف بین فقهاء مذهب واحد

ص: 310

تتِّصل بالعوامل الجزئیة الموجبة لاختلاف رأی الفقهاء، وعادة تهتمّ کتب «الفقه المقارن» ببیان النوع الأول من موارد الخلاف، والکتب الفقهیة المفصّلة لکلّ مذهب تتکفّل بیان النوع الثانی من المسائل الخلافیة.

د) قابلیة الخطأ فی رأی المجتهد

إنّ الأکثریّة الساحقة لفقهاء المذاهب یرون قابلیة رأی المجتهد للخطأ علی أساس أصل «التخطئة فی الاجتهاد» ونفی نظریة التصویب، ولذلک فإنّ کلّ مجتهد یتحرّک فی استنباط الأحکام للمسائل الفقهیة الفرعیة من أدلّة غیر قطعیة لا یدّعی «أنّ هذا الحکم هو حکم اللَّه قطعاً، وأنّ سائر فتاوی الفقهاء الآخرین مخالفة للإسلام»، بل یری أنّ فتواه أقرب للواقع من غیرها وأنّها حجّة علیه وعلی أتباعه، مع أنّه فی ذات الوقت یحتمل صحّة فتاوی الآخرین أیضاً، وهذه الخصوصیة، وهی سلامة الفقهاء من عنصر الجمود، تعدّ من افتخارات الفقه والتفقّه فی الإسلام.

وعلی هذا الأساس فلیس فقط أنّ الفقهاء الواعین یتعاملون مع الآراء والفتاوی المخالفة لهم من موقع التحمّل وشرح الصدر، بل إنّ الفقیه الذی یقع أحیاناً فی فتاواه فی خطأ معیّن رغم بذله الجهد والسعی والتتبّع علی أساس منهج التفقّه الخاصّ؛ فإنّه یعتبر مأجوراً عند اللَّه:

«للمُصِیبِ أجرانِ وللمُخْطِی ء أجرٌ واحد»(1).

ه) إلتزام الفقهاء الشدید باتّباع المنابع الشرعیة

لا ینبغی توهّم أنّ اختلاف الآراء والفتاوی للفقهاء لایقوم علی أساس معقول، وأنّ کلّ فقیه یفتی وفق میله وحدسه الشخصیّ، بل یری أنّه تابع للقرآن الکریم والسنّة الشریفة والمصادر الدینیة، ولا یعلن عن حکم شرعیّ إلّاما یستوحیه من المصادر المذکورة. بل فی صورة عدم اطمئنانه من صحّة استنباطه، فإنّه لا یفتی بهذه المسألة، بل یبیّنها بعبارات من قبیل: «الإحتیاط واجب، الإحتیاط مستحبّ، محلّ تأمل»، وإذا صدرت أحیاناً فتاوی معدودة وقلیلة من فقیه معیّن بوحی من أهوائه النفسیة فإنّ الفقهاء الآخرین سیتحرّکون علی مستوی استنکار هذا العمل.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هذا الالتزام الشدید لفقهاء الإسلام باتّباع الأدلّة من المصادر الشرعیة یمکن القول أنّ اختلاف الفتاوی بین فقهاء المذهب أو بین فقهاء المذاهب الأخری، معلول لعوامل فنّیة تتسبّب فی اختلاف فهم المجتهدین للحکم الشرعیّ عند استنباط هذا الحکم من المنابع الشرعیة ولاختلاف النظر فی الأصول والقواعد المختلفة فی عملیة الاجتهاد والاستنباط.

إنّ اطّلاع القرّاء الأعزّاء علی طبیعة هذه العوامل والعلل الفنیة فی اختلاف الفتاوی بین الفقهاء، یبیّن عظمة وصعوبة الاجتهاد ودقّة الفقهاء الشدیدة فی عملیة الاستنباط، وذلک یستدعی مزید الاحترام والتقدیر لهذه الجهود المضنیة وأن ننظر إلی هذا الاختلاف فی الفتاوی من موقع التکریم والتقدیر.

و) استفادة الفقهاء من آراء الآخرین

إنّ المجتهد فی الفقه الإسلامی یتحرّک دائماً علی أساس الرؤیة المتقدّمة من أجل تحصیل الحکم الواقعی


1- هذه الجملة المعروفة مستقاة من الحدیث النبویّ. قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:« إذا حکم الحاکم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حکم فاجتهد فأخطأ، فله أجر واحد»( کنزالعمّال، ح 14597 و 15019).

ص: 311

بشکل أفضل، وبالتالی فهو بحاجة للدراسات والتحقیقات العلمیة للمجتهدین الآخرین ولو من المذاهب الأخری، وبذلک یتمکّن فقهاء المذاهب الإسلامیة ومن خلال الاستفادة من هذا المنهج، الاستفادة من المعطیات العلمیة لدراسات الفقهاء الآخرین، لأنّ

«أعلم النّاس أعلمهم باختلاف النّاس».(1)

أسباب اختلاف الفتوی:

إنّ مصدر اختلاف الفتاوی یمکن بیانه کالتالی:

1. الاختلاف فی منابع الاستنباط من قبیل البحث حول حجّیة العقل النظری وحجیة رأی الصحابی والقیاس والاستحسان وأمثال ذلک.

2. عدم توصّل بعض الفقهاء إلی بعض الأحادیث الشریفة وتوصّل فقهاء آخرین إلیها.

3. اختلاف الرأی فی حجّیّة أسناد بعض الروایات للاختلاف فی معیار وثاقة الرواة وأمثال ذلک.

4. الاختلاف فی جهة صدور الحدیث، مثل احتمال التقیّة أو کون الحکم مؤقتاً.

5. الاختلاف فی نسخ الحکم بسبب الاختلاف فی ضوابط نسخ الأحکام، مثل نسخ القرآن بخبر الواحد.

6. الاختلاف فی قراءة بعض الآیات القرآنیة من جهة الإعراب وما إلی ذلک، والاختلاف فی نقل متون بعض الأحادیث.

7. الاختلاف فی نوعیة وکیفیة الاستنباط من الآیات والروایات الشریفة والاختلاف فی فهمهاوتفسیرها.

8. تعارض الأدلّة والاختلاف فی کیفیة المرجّحات.

9. الاختلاف فی بعض الأصول العملیة وحجّیة الاستصحاب، والبراءة فی الشبهة التحریمیة، وغیر ذلک.

10. الاختلاف فی سعة دائرة ومساحة القواعد الفقهیة.

11. الاختلاف فی حکومة العقل فی بعض المسائل.

12. الاختلاف فی کیفیة تحقّق الإجماع وحجّیّته.

13. تأثّر بعض الفقهاء بالمسبوقات الذهنیة أو الثقافیة الحاکمة علی الأجواء الفکریة للفقیه أو ما یتّصل بحالة التعصّب غیر المنطقیّ لدی بعض الفقهاء بالنسبة لمذهب معیّن أو مدرسة فقهیّة خاصّة.

وربّما یظنّ القاری ء الکریم عندما یری جمیع هذه العوامل المثیرة للاختلاف فی الفتوی أنّه لا ینبغی أن تکون مسألة فقهیة تقع مورد اتّفاق فقهاء الإسلام إلّا نادراً، ولکن بإلقاء نظرة علی الکتب الفقهیة لفقهاء الإسلام ومذاهبه، یتبیّن أنّ هذه العوامل الموجبة للاختلاف لا تتّصل بکلّیات أبواب الفقه، بل إنّ الفقهاء متفقون فیما بینهم فی الکلّیات الفقهیة فی الإسلام، وتنحصر دائرة الخلاف فی الفتوی فی إطار بعض المسائل الفرعیة.

وبدیهیّ أنّ هذا المقدار من الاختلاف فی الفهم یعتبر طبیعیاً وسائداً فی جمیع العلوم النظریة والعقلیة، وحتّی العلوم التجریبیة التی تقوم علی أساس التجارب الحسّیة التی لا یتوقّع وجود اختلاف فی النظر لدی هؤلاء العلماء، فإنّ الکثیر من المشاهدات تحکی عن اختلاف الرأی بین الأطبّاء مثلًا فی تشخیص مرض معیّن بعد المعاینة الطبیة وإجراء الفحوص المختبریة.

إنّ هذه العوامل تمثّل أهم عوامل الاختلاف فی الفتوی، وکلّ واحد من هذه العوامل له نصیب معیّن فی اختلاف الفتاوی بین المجتهدین الشیعة وفقهاء سائر


1- بحارالأنوار، ج 47، ص 218، ح 4.

ص: 312

المذاهب الإسلامیة، وهنا فی هذه المقالة نسعی لبیان مقدار المساهمة الواقعیة لکلّ عامل من هذه العوامل فی إیجاد الاختلاف فی الفتوی، وذلک من جهات مختلفة:

1. بیان کلّ واحد من هذه العوامل مع توضیح مختصر لبعض تفاصیله.

2. بیان أهم الآراء والنظریات المختلفة حول کلّ واحد من هذه العوامل مع ذکر القائلین بها.

3. بیان أهم الأدلّة التی تذکر غالباً لکلّ نظریة.

4. نذکر مثالًا أو عدّة أمثلة فقهیّة تبیّن دور اختلاف الفقهاء فی نظرهم إلی هذه الأمور والذی یتسبّب فی إیجاد الاختلاف فی الفتاوی الفقهیة، حیث یتبیّن واقعاً أنّ اختلاف الفتاوی فی تلک المسألة ناشی ء من اختلاف الفقهاء فی تلک العوامل.

العامل الأوّل: الإختلاف فی بعض منابع إستنباط الأحکام

اشارة

إنّ أساس الاختلافات الفتوائیة لفقهاء المذاهب الإسلامیة ناشی ء من اختلاف نظرهم فی منابع استنباط الأحکام والتی سنشیر إلی أهمّها فیما یلی:

أ) ظواهر الآیات القرآنیة

إنّ أوّل وأهمّ منبع لاستنباط أحکام الفقه الإسلامی لدی جمیع فقهاء المذاهب الإسلامیة، هو القرآن الکریم، ولا توجد أیّة فرقة إسلامیة أو فقیه مسلم یختلف أو یتردّد فی هذا الأصل المسلّم. کما أنّ مئات الآیات القرآنیة التی تتضمّن أحکاماً فقهیة- والتی تسمّی آیات الأحکام- لها دور أساسیّ فی الفقه والشریعة الإسلامیة.

وبالطبع فإنّ بعض الآیات تملک دلالة صریحة علی الحکم الشرعیّ، مثل: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(1) التی تدلّ بصراحة علی حلّیة البیع وحرمة الربا، وآیة:

«وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِیهَا»(2) والتی تدلّ بصراحة علی حرمة قتل الإنسان المؤمن، ولکن هناک بعض الآیات التی لا تملک دلالة صریحة علی الحکم الشرعیّ، بل إنّ ظاهرها لدی العرف یدلّ علی حکم شرعیّ معیّن، مثل: «وَأَشْهِدُوا ذَوَی عَدْلٍ مِّنْکُمْ»(3) حیث إنّها تدلّ بظاهرها علی وجوب حضور شاهدین عدلین فی إجراء عملیة الطلاق، لأنّ ظاهر الأمر یدلّ علی الوجوب، رغم أنّ البعض یستوحی منه الاستحباب.

وبالطبع فإنّه لا اختلاف بین الفقهاء فی حجّیة النوع الأوّل من الآیات التی لها دلالة صریحة علی الحکم الشرعی، وأمّا بالنسبة للنوع الثانی من الآیات وحجّیة الظهور فیها، فهناک خلاف یسیر بین الفقهاء، لأنّ الأکثریة الساحقة من جمیع فقهاء المذاهب الإسلامیة یعتقدون بحجّیة ظواهر القرآن، (إلّا أن تقوم قرینة علی خلاف ذلک). ولکنّ عدداً قلیلًا من فقهاء الشیعة الأخباریین قالوا: بما أنّ القرآن الکریم ینطلق من موقع بیان کلّیات الأحکام الشرعیة، وقد فوّض أمر بیان تفاصیلها للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام، فإنّ الفقیه المجتهد لایحقّ له الاستناد والعمل بظواهر الآیات القرآنیة فی فتواه بدون مراجعة الأحادیث


1- سورة البقرة، الآیة 275.
2- سورة النساء، الآیة 93.
3- سورة الطلاق، الآیة 2.

ص: 313

الشریفة، ولا یحقّ له أن یکتفی فی بیان الأحکام الفقهیة النظریة، التی تحتاج إلی استدلال وتفصیل، بالمفهوم الظاهر من الآیات الشریفة ویری أنّه حجّة، بل یجب علی المجتهد فی مثل هذه المسائل الفقهیة، أن یکون فهمه لظواهر الآیات القرآنیة تابعاً لبیان المعصومین وأحادیثهم ولا یری کفایة الأخذ بظواهر الآیات القرآنیة لوحدها فی عملیة استنباط الأحکام الشرعیة.

وقد ذهب إلی هذا القول محمّد أمین الاسترآبادی (م 1306) فی کتابه الفوائد المدنیّة»(1) والشیخ الحرّ العاملی (م 1104) فی «وسائل الشیعة»(2) والشیخ یوسف البحرانی فی «الحدائق الناضرة»(3).

ومن الطبیعیّ إذا کان المقصود من کلام هؤلاء عدم اکتفاء المجتهد فی استنباط الأحکام الفقهیة بالآیات الکریمة التی تبیّن الأحکام الکلّیة فی الشریعة، مثل:

«وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّکَاةَ»(4)- حیث لم تبیّن هذه الآیات شروط وأجزاء وعدد رکعات الصلاة، وکذلک موارد وجوب الزکاة ونصاب کلّ واحد منها، وکان مقصودهم من ذلک لزوم الرجوع للأحادیث النبویّة وروایات أهل البیت علیهم السلام للتعرّف علی تفاصیل المسائل والفروع الفقهیة وشروطها (کما مرّ فی کلام صاحب الحدائق عند نقله لنظریةالشیخ الطوسی)(5) فهو کلام صحیح، لأنّ جمیع علماء الإسلام متّفقون علی أنّ الفقیه ینبغی علیه الرجوع فی استنباط فروع الأحکام لکلّ واحد من هذه التکالیف الفقهیة القرآنیة إلی السنّة، ولا یکتفی بإطلاق ظاهر الآیات لنفی احتمال وجوب الأجزاء والشروط والأحکام الشرعیة الأخری.

لکن إذا کان مراد هذه الطائفة من الأخباریین أنّ مفاهیم ظاهر الآیات القرآنیة لیست بحجّة وغیر قابلة للاستناد إطلاقاً حتّی بعد الاستعانة بالأحادیث الشریفة، کما یظهر من کلمات الاسترآبادی فی «الفوائد المدنیّة»(6)، فهذا الکلام غیر صحیح.

والظاهر أنّ مقصود الأخباریین هو الاحتمال الأوّل، حیث یتحرّک الفقهاء الأخباریون والأُصولیون فی مقام العمل بتعالیم الآیات القرآنیة الشریفة والمفاهیم العرفیة المستوحاة من ظواهرها بالاستفادة من أصول وقواعد الاستنباط، وکذلک بالاستعانة بالأحادیث النبویة وروایات أهل البیت علیهم السلام الصحیحة فی عملیة استنباط الأحکام الفقهیة، وبالتالی یکون اختلافهم وجدالهم فی هذه المسألة خلافاً لفظیاً فحسب، ولا یوجد هنا خلاف فقهیّ علی مستوی الفتوی سوی فی موارد معدودة.

ب) حجیّة أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام

اشارة

إنّ أحد أهمّ العوامل التی کان لها دور کبیر فی اختلاف الفتاوی بین فقهاء الشیعة وأهل السنّة هو اختلاف فقهاء هذین المذهبین فی حجّیة أحادیث أهل البیت علیهم السلام ومساحة هذه الحجّیة. هناک مجموعة کبیرة من عشرات الآلاف من أحادیث الأئمّة الإثنی عشر علیهم السلام (7) فی مواضیع الفقه والعقائد والأخلاق وغیر


1- الفوائد المدنیّة، ص 47.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 129، باب 13 من أبواب صفات القاضی.
3- الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة، ج 1، ص 27،( المقدمة الثالثة)؛ الدرر النجفیة، ص 171.
4- سورة البقرة، الآیة 43 و 83 و 110، و سورة النساء، الآیة 77، وسورةالنور، الآیة 56، وسورة المزمّل، الآیة 20.
5- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 34.
6- الفوائد المدنیّة، ص 47 و 128.
7- من المناسب إلفات النظر إلی عدد من الأحادیث الواردة فی کتابین فقهیین فقط من مجموع کتب الأحادیث الفقهیة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام: أ) وسائل الشیعة إلی تحصیل الشریعة، تألیف الشیخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملی( م 1104)، ویحتوی علی 35840 حدیثاً. ب) مستدرک الوسائل، تألیف المیرزا حسین النوری( م 1320)، ویحتوی علی 23129 حدیثاً.

ص: 314

ذلک، ممّا یعدّ کنزاً ثمیناً من کنوز المعارف الإسلامیة والسنّة النبویّة، حیث یتحرّک بعض فقهاء الإسلام فی عملیة الاستفادة منها فی الفتوی والتفسیر والعقائد وما إلی ذلک.

وقد قام فقهاء أهل السنّة، من خلال إثبات عدم حجّیة تعالیم وسیرة أئمّة أهل البیت علیهم السلام وأنّ أکثر هذه الأحادیث مرسلة وغیر متّصلة سنداً إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، بترک وإهمال جمیع هذه الأحادیث- سوی عدد قلیل منها- وبالتالی فإنّ فتاواهم الفقهیة لا تتناغم مع مضمون هذه الأحادیث فی بعض الموارد الفقهیة.

أمّا فقهاء الشیعة فمع الالتفات إلی الأدلّة القرآنیة المتعدّدة وما ورد من الأحادیث النبویة الواردة فی کتب أهل السنّة والشیعة، وکذلک ما ورد عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام أنفسهم، فإنّ هؤلاء الفقهاء یرون حجّیة هذه الأحادیث علی أساس أنّها حکم إلهیّ وقرآنیّ، وقد ورد لزوم طاعتهم من قِبل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ولذلک فإنّهم یفتون علی أساس هذه الأحادیث الصادرة من هؤلاء الأئمّة العظام علیهم السلام حیث تختلف بعض هذه الفتاوی أحیاناً مع فتاوی فقهاء أهل السنّة(1).

أمّا الأدلة التی استدلّ بها فقهاء الشیعة علی حجّیة أحادیث أهل البیت علیهم السلام فهی عبارة عن:

1. إنّ أحادیثهم هی أحادیث رسول اللَّه صلی الله علیه و آله

لقد ورد عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام فی الروایات الصریحة التأکید علی أنّه لا شی ء من أحادیثهم وتعالیمهم وفتاواهم مستوحاة من رأیهم الشخصیّ، بل هی معارف انتقلت إلیهم جیلًا بعد جیل من جدّهم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله وجمیع أحادیثهم متّصلة عن طریق آبائهم برسول اللَّه صلی الله علیه و آله، وعلیه فإنّ جمیع أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام هی أحادیث نبویّة صلی الله علیه و آله (2).

2. مقام العصمة

یعتقد الشیعة بأنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام معصومون من کلّ خطأ وذنب، کما ورد فی القرآن الکریم: «إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»(3).

ومع الالتفات إلی أنّ المراد من الطهارة فی هذه الآیة الشریفة لیست هی الطهارة الظاهریة للبدن واللباس، بل


1- وقد جمع السیّد المرتضی علم الهدی فی کتابه« الانتصار» طائفة من الفتاوی المختصة بالشیعة المأخوذة من أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام ولم یذکرها فقهاء أهل السنّة، تحت عنوان« وممّا انفردت به الشیعة الإمامیة ...» وهذه المسائل تقرب من 330 مسألة فقهیة.
2- من قبیل: أ) عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغیره قالوا: سمعنا أباعبداللَّه علیه السلام یقول: « حدیثی حدیث أبی وحدیث أبی حدیث جدّی وحدیث جدّی حدیث الحسین وحدیث الحسین حدیث الحسن وحدیث الحسن حدیث أمیرالمؤمنین وحدیث أمیرالمؤمنین حدیث رسول اللَّه وحدیث رسول اللَّه قول اللَّه عزّ وجلّ.( جامع أحادیث الشیعة، مقدّمة، ص 181، ح 113 و 114). ب) عن جابر قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام: إذا حدّثتنی بحدیث فأسنده لی. فقال:« حدّثنی أبی عن جدّی رسول اللَّه عن جبرئیل عن اللَّه عزّ وجلّ، وکلّ ما أحدّثک بهذا الإسناد وقال: یا جابر! لحدیث واحد تأخذه عن صادق خیر لک من الدنیا وما فیها( المصدر السابق). وعلی هذا الأساس إذا کان صدق ووثاقة الإمام الباقر والإمام الصادق علیهما السلام مورد قبول فقهاء أهل السنّة- وهو کذلک- فإنّ جمیع الأحادیث الصادرة من هذین الإمامین الهمامین وسائر أئمة أهل البیت علیهم السلام حجّة، ومسندة ومنقولة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ویمکن إصدار الفتوی بموجبها. ولکن بما أنّ أکثر علماء المذاهب الأخری لم یطّلعوا علی هذا المعنی، ولذا جاءت فتاواهم غیر مطابقة لهذه الأحادیث.
3- سورة الأحزاب، الآیة 33.

ص: 315

طهارة الروح من التلوّث بأیٍّ من أشکال الذنب والکذب والشرک، وکذلک فإنّ المقصود من الإرادة الإلهیّة هنا، الإرادة التکوینیة والقطعیة للذات المقدّسة التی لا تقبل التخلّف، لأنّ الإرادة التشریعیة للَّه تعالی فی التطهیر من الذنوب شاملة لجمیع أفراد البشر، إذن فمن المتیقّن أنّ المقصود بإرادة التطهیر فی هذه الآیة هو تطهیر أهل البیت علیهم السلام من کلّ ذنب، وهو مفهوم «العصمة».

وقد صرّح عشرات المحدّثین من أهل السنّة وأتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام فی کتبهم بأنّ شأن نزول هذه الآیة هو ما یخصّ «النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والإمام علیّ وفاطمة، والحسن والحسین علیهم السلام»(1).

(وللمزید من التفصیل فی مسألة عصمة أئمّة أهل البیت علیهم السلام لابدّ من مراجعة الکتب الکلامیّة).

3. الأحادیث النبویّة التی تدلّ علی أنّ الإمام علیّاً علیه السلام یعتبر محور الحقّ ومعیار التمییز بین الحقّ والباطل، من قبیل ما أورده الحاکم النیسابوری فی «المستدرک أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«رَحِمَ اللَّهُ علیّاً أللّهمّ أدِرِ الحَقَّ معه حیثُ دارَ».

ویقول الحاکم النیسابوری بعد ذکر هذا الحدیث:

«هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم والبخاری ولم یخرّجاه»(2).

وقد ورد هذا الحدیث فی «صحیح الترمذی»(3) و «الإمامة والسیاسة»(4) بهذه العبارة:

«علیٌّ مع الحقُ

والحقّ مع علیٍّ»

وکذلک ورد فی «تاریخ بغداد»(5) و «تاریخ دمشق»(6) أیضاً مع إضافة هذه جملة:

«ولن

یَفتَرِقا حتّی یَرِدا علیَّ الحَوضَ یومَ القیامةَ»

وقد ذکر فی مصادر أخری من کتب أهل السنّة والمصادر الحدیثیة من کتب أهل البیت علیهم السلام (7).

4. الأحادیث النبویة التی تقرّر أنّ الإمام علیّ علیه السلام «باب مدینة علم النبیّ»، منها ما أورده الحاکم النیسابوری بسنده الذی یقول عنه أنّه سند صحیح فی کتاب «المستدرک» عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«أنا مدینة العلم وعلیٌّ بابُها»(8)

وکذلک الطبرانی فی «المعجم الکبیر»(9) والهیثمی فی «مجمع الزوائد»(10) والسیوطی فی «الجامع الصغیر»(11) والمتّقی الهندی فی «کنز العمّال»(12) وجماعة أخری ممّن روی هذا الحدیث.

وقد جاء هذا الحدیث فی «صحیح الترمذی»(13) وکتب أخری بهذه العبارة

«أنا دارُ الحِکمَةِ وعلیٌّ بابُها».

5. حدیث الثقلین: وهو من الأحادیث المعروفة والواردة بطرق متعدّدة فی کتب کثیرة وخاصّة فی المصادر المعتبرة لدی أهل السنّة، (مضافاً إلی کتب


1- من قبیل روایة ابن عباس: أخذ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ثوبه فوضعه علی علیّ وفاطمة والحسن والحسین وقال:« إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»( المستدرک علی الصحیحین للحاکم، ج 2، ص 158، ح 4705). ورد فی حدیث آخر بعد کلام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بالنسبة إلی أهل البیت علیهم السلام فقالت أمّ سلمة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله:« وأنا معهم یا نبیّ اللَّه!». فقال صلی الله علیه و آله:« أنتِ علی مکانک وأنتِ إلی خیر».( صحیح الترمذی، ج 5، ص 141، ح 3216).
2- مستدرک الصحیحین، ج 3، ص 124.
3- صحیح الترمذی، ج 5، ص 297، ح 3798.
4- الإمامة والسیاسة، ج 1، ص 98.
5- تاریخ بغداد، ج 14، ص 322.
6- تاریخ دمشق، ج 42، ص 449.
7- بحار الأنوار، ج 38، ص 28 وما بعدها.
8- مستدرک الصحیحین، ج 3، ص 126.
9- المعجم الکبیر، ج 11، ص 55.
10- مجمع الزوائد، ج 9، ص 114.
11- الجامع الصغیر، ج 1، ص 415.
12- کنزالعمّال، ج 13، ص 148، ح 36463.
13- صحیح الترمذی، ج 5، ص 301، ح 3807.

ص: 316

علماء الشیعة) ومنها: فی صحیح الترمذی عن أبی سعید الخدریّ وزید بن أرقم أنّهما قالا: قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«إنّی تارِکٌ فیکم ما إن تَمسّکتُم به لن تَضِلّوا بَعدِی أحدُهما أَعظَمُ من الآخَر، کتابُ اللَّهِ حَبلٌ مَمدودٌ من السّماء إلی الأرضِ، وعِترَتی أهلَ بَیتِی ولَن یَفتَرقا حتّی یَرِدا علیَّ الحَوضَ فانظُروا کیفَ تَخلُفونی فیهما»(1).

وقد جاء هذا الحدیث فی «مسند أحمد»(2) بعنوان

«إنّی تارکٌ فِیکم خلیفَتَینِ»

وفی «خصائص النسائی»(3) بعنوان

«إنّی تارکٌ فِیکُم ثَقَلینِ»

وفی «مستدرک الصحیحین»(4) بعنوان

«إنّی تارکٌ فِیکُم أمرَینِ لن تَضِلّوا

إنِ اتّبعتُموهما وهما کتابَ اللَّهِ وأهلُ بَیتی عِترتی»

ویقول ابن حجر الهیثمی فی کتاب «الصواعق المحرقة»(5) أنّه ورد فی الحدیث الشریف:

«إنّی قد تَرکتُ فِیکم الثَّقَلین ...»

ویصرّح بأنّه حدیث صحیح ومعتبر.

واللافت للنظر أنّ ابن حجر الهیثمی یضیف أیضاًما مضمونه: «ثمّ اعلم أنّ لحدیث التمسّک بذلک، طرقاً کثیرة وردت عن نیّف وعشرین صحابیّاً، وفی بعض تلک الطرق أنّه قال النبیّ صلی الله علیه و آله ذلک بحجّة الوداع بعرفة، وفی أخری أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله بالمدینة فی مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفی أخری أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال ذلک بغدیر خمّ، وفی أُخری أنّه قاله لمّا قام خطیباً بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافی، إذ لا مانع من أنّه کرّر علیهم ذلک فی تلک المواطن وغیرها اهتماماً بشأن الکتاب العزیز والعترة الطاهرة».

وبعد أن یبیّن ابن حجر هذا المطلب، یقول: «إنّ جمیع هذه الأحادیث یمکن أن تکون صحیحة، وأنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد ذکر هذا الأمر کراراً وفی أماکن مختلفة لیبیّن أهمیّة کتاب اللَّه والعترة الطاهرة».

وبالطبع فإنّ الکلام عن حدیث الثقلین کثیر ومحلّه فی الکتب الکلامیة، والمراد منه هنا إثبات حجّیة أحادیث أهل البیت علیهم السلام.

ومع وجود کلّ هذه الأحادیث إذا قمنا بتقدیم روایة وردت عن الإمام علیّ علیه السلام علی روایات سائر الصحابة وجعلناها مدرکاً للحکم الشرعیّ، هل نرتکب بذلک خطأً؟ وهکذا بالنسبة لروایات أئمّة أهل البیت التی تنتهی بسندها إلی الإمام علیّ علیه السلام.

ج) رأی وعمل الصحابة

اشارة

الثالث من منابع الاجتهاد الذی أدّی الاختلاف فی حجّیته إلی الاختلاف فی فتوی الفقهاء، هو «رأی وعمل الصحابیّ».

وقبل الدخول فی البحث نری من اللازم تعریف الصحابیّ. یقول ابن حجر العسقلانی فی بدایة کتابه:

«إنّ أصحّ التعاریف، أنّ الصحابیّ هو الشخص الذی التقی برسول اللَّه صلی الله علیه و آله و هو مؤمن، حتی لو کان قد لاقی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مدّة قصیرة ولم ینقل أیّ حدیث منه ولم یشترک معه فی أیّ غزوة»(6). رغم أنّ هذا التعریف لم یقع مورد قبول جمیع فقهاء أهل السنّة.

وهنا ثلاثة أقوال لدی فقهاء الإسلام حول حجّیة رأی وعمل الصحابیّ:

القول الأوّل: عدم حجیّة رأی الصحابیّ، لأنّه وإن


1- صحیح الترمذی، ج 5، ص 663، ح 3788.
2- مسند أحمد، ج 5، ص 182.
3- خصائص النسائی، ص 20.
4- مستدرک الصحیحین، ج 3، ص 109.
5- الصواعق المحرقة، ص 150 و 151.
6- الإصابة فی تمییز الصحابة، ج 1، ص 4.

ص: 317

کانت صحبته لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله تعدّ امتیازاً وفضیلة، ولکن مجرّد لقاء النبیّ لا یدلّ علی عصمة هذا الشخص، ولا یعقل القول بعصمته. بل إنّ الصحابیّ کسائر أفراد الأمة الإسلامیة غیر معصوم ویجوز علیه الخطأ والاشتباه، ولا دلیل علی حجّیة قوله فی عملیة الاجتهاد.

وذهب جماعة من فقهاء ومحقّقی المذاهب الإسلامیة إلی هذا القول، کفقهاء المعتزلة، مثل القاضی عبدالجبّار(1)، وفقهاء الأشعریة، کالکرخیّ (2)، ومن هذا القبیل الفتوی الجدیدة للإمام الشافعیّ (3)، وأحد قولی الإمام أحمد(4)، والآمدی فی «الإحکام»(5)، والغزالی فی «المستصفی»(6) والشوکانی فی «الإرشاد»(7) مضافاً إلی فقهاء الإمامیّة.

القول الثانی: حجّیة مطلق رأی کلّ واحد من الصحابة، واستدلّوا لذلک علی أنّ الصحابة تحرّکوا فی أمورهم الدینیة والمعارف من موقع التبعیّة والطاعة المحضة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ولم ینطلقوا فی فتاواهم من موقع التصرف الذاتی والرأی الشخصیّ، إذن فعندما یسمع منهم رأی أو یصدر منهم عمل خاصّ فیما یتّصل بالشؤون الدینیة، فحینئذٍ یمکننا الحدس القطعیّ أنّ هذا الرأی والعمل إنّما صدر منه بالاستمداد من تعالیم النبیّ صلی الله علیه و آله وأحادیثه. ولذلک فإنّ رأی الصحابة وعملهم حجّة کما هو الحال فی الأحادیث النبویّة، ویعدّ مصدراً من مصادر الاجتهاد والاستنباط الفقهیّ (8).

مضافاً إلی ذلک ما تدلّ علیه الأحادیث النبویة من جواز الاقتداء بالصحابة، مثل

«أصحابی کالنُّجومِ بأیِّهمُ اقتَدَیْتُمُ اهتَدَیْتُم»(9).

وقد اختار هذا القول جماعة من فقهاء الإسلام.

مثل: الإمام مالک (10)، الرازی، بعض أصحاب أبی حنیفة، ویری الفقهاء الأحناف أنّ رأی الصحابیّ مقدّم علی القیاس (11) وهو أیضاً الفتوی القدیمة للإمام الشافعی فی «الرسالة»(12)، وأحد قولی الإمام أحمد(13)، والسرخسی فی «الاصول»(14)، والشاطبی فی «الموافقات»(15)، وأبوبکر الجصّاص فی «الأصول»(16)، وابن القیّم الجوزیّة فی «أعلام الموقّعین»(17).


1- المعتمد فی أصول الفقه، لأبوالحسن البصری المعتزلی، ج 2، ص 942.
2- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 155.
3- المصدر السابق.
4- أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للدّکتور عبداللَّه بن عبدالمحسن الترکی، ص 438.
5- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 155.
6- المستصفی من علم الأصول، ج 1، ص 400. ویقول الإمام الغزالی:« الأصل الثانی من الأصول الموهومة، قول الصحابیّ، وقد ذهب قوم إلی أنّ مذهب الصحابی حجّة مطلقاً، وقوم إلی أنّه حجّة إن خالف القیاس، وقوم إلی أنّ الحجّة فی قول أبی بکر وعمر خاصّة؛ لقوله صلی الله علیه و آله:( اقتدوا باللّذین من بعدی)، وقوم إلی أنّ الحجّة فی قول الخلفاء الراشدین إذا اتّفقوا. والکلّ باطل عندنا. فإنّ من یجوز علیه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجّة فی قوله، فکیف یحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟ وکیف تدّعی عصمتهم من غیر حجّة متواترة؟ وکیف یتصوّر عصمة قوم یجوز علیهم الاختلاف؟ وکیف یختلف المعصومان؟ کیف وقد اتّفقت الصحابة علی جواز مخالفة الصحابة، فلم ینکر أبوبکر وعمر علی من خالفهما بالاجتهاد ...».
7- إرشاد الفحول إلی تحقیق الحقّ من علم الأصول، لمحمّد بن علی الشوکانی، ج 1، ص 247.
8- الأصول للسرخسی، ج 2، ص 108.
9- میزان الاعتدال، ج 1، ص 607.
10- سلّم الوصول فی شرح نهایة السؤول، لمحمّد بخیت المطیعی، فی حاشیة کتابه« نهایة السؤول» للاشتوی، ج 4، ص 408.
11- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 155؛ الأصول للسرخسی، ج 2، ص 108.
12- الرسالة، ص 596، الجملة 1805- 1811.
13- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 155.
14- الأصول للسرخسی، ج 2، ص 108.
15- الموافقات فی أصول الشریعة للشاطبی، ج 4، ص 54.
16- أصول الجصاص، ج 2، ص 173.
17- اعلام الموقعین، ج 4، ص 118.

ص: 318

القول الثالث: إنّ رأی الصحابیّ حجّة فی صورة مخالفة رأیه للقیاس فقط، لأنّه إذا کان رأیه مطابقاً لمقتضی القیاس والقواعد الفقهیة فیمکن الحدس أنّ ذلک الصحابیّ حکم فی ذلک المورد برأیه وعقله بسبب عدم وجود آیة أو حدیث تدلّان علی هذا الحکم، ولذلک تحرّک هذا الصحابیّ من موقع العمل بالقیاس والاستنباط من القواعد الفقهیة العامّة وأبدی رأیه فی هذه المسألة وعمل به، وبالطبع فإنّ رأی الصحابیّ فی هذا المورد لا یکشف عن وجود حدیث نبویّ، ولکن إذا کان رأی الصحابیّ وعمله مخالفاً للقیاس، فیمکن الحدس أنّ منشأ هذا الرأی وجود حدیث نبویّ لم یصل إلینا(1)، وینسب هذا القول إلی الشافعی وأبی حنیفة(2).

نتیجة الاختلاف فی حجیّة رأی الصحابیّ:
اشارة

وقد أدّی الاختلاف فی حجیّة هذا المصدر الفقهیّ إلی اختلاف فتاوی فقهاء الإسلام فی مسائل فقهیة متعدّدة، علی سبیل المثال:

المسألة 1. تعیین أقل مدّة أیّام الحیض

یری الإمام الشافعیّ وأحمد بن حنبل (علی أساس النقل الصحیح) أنّ أقل مدّة الحیض یوم ولیلة، ودلیلهم لذلک «العرف والعادة» حیث ذهبا إلی أنّ هذا المورد من المسائل الفقهیة لم یردفیه النصّ، ولذلک لابدّ من الفتوی علی أساس العرف، وأمّا أبوحنیفة فیری أنّ أقل مدّة للحیض ثلاثة أیّام بلیالیها، ودلیله علی ذلک قول أنس ابن مالک الصحابیّ المعروف (3).

المسألة 2. إرث الزوجة المطلّقة البائنة

إذا طلّق الزوج فی حال مرضه زوجته طلاقاً بائناً ومات فی ذلک المرض قبل إتمام الزوجة لعدّتها، فهل ترث هذه الزوجة من ترکته أم لا؟

ذهب الإمام الشافعی فی فتواه المتأخّرة إلی زوال حقّها فی المیراث، واستدلّ لذلک أنّ هذه المرأة المطلّقة طلاقاً بائناً لا ترث من زوجها لأنّه لا یعتبر زوجها، ولا یختلف الحال فی أن یکون الطلاق فی حال السلامة أو فی حال المرض الذی ینتهی به إلی الموت (4).

أمّا أبوحنیفة ومالک وأحمد فقد ذهبوا إلی أنّها ترث من زوجها، ودلیلهم علی ذلک حکم عثمان بحقّها فی المیراث فی مورد مشابه لهذا المورد(5).

د) الاستحسان

اشارة

أحیاناً لا یجد المجتهد فی مسألة معیّنة أیّ دلیل من الشرع، ففی هذه الصورة یمکنه العمل بعقله ورأیه ویصدر حکماً مناسباً وحسناً لهذه المسألة، وبذلک یسمّی «الاستحسان». فهل هذا «الاستحسان» حجّة ویمکن أن یستند إلیه المجتهد فی فتواه، أم لا؟.

ذهب أبوحنیفة ومالک إلی حجّیته، بل إنّ مالک ادّعی أنّ 10/ 9 من العلم والمعرفة یقوم علی أساس الاستحسان. وقد خالف الشافعیّ وفقهاء الظاهریة بشدّة وقال الشافعیّ

«من استحسن فقد شرّع»(6)

، أی تدخّل فی


1- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 155؛ الأصول العامة، ص 440.
2- إرشاد الفحول، ج 2، ص 274.
3- المغنی لابن قدامة، ج 1، ص 320؛ أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة فی اختلاف الفقهاء، ص 537.
4- الأمّ، ج 1، ص 82؛ القوانین الفقهیّة لابن جزّی القرناطی، ص 64.
5- المغنی، ج 7، ص 228؛ اثرالاختلاف فی القواعد الاصولیة فی اختلاف الفقهاء، ص 537- / 540.
6- الأصول العامة، ص 363؛ المستصفی، ج 1، ص 274.

ص: 319

الشریعة الإلهیّة فی إقدامه علی وضع القوانین.

وکذلک قال: إذا کان الاستحسان جائزاً فی الشریعة، فإنّ کلّ شخص سیکون له فقه وشریعة خاصّة باسم اللَّه تعالی، وکلامه هذا إشارة الی فتوی أبی حنیفة التی تعود لبعض أقسام الشهادة علی الزنا حیث قال: بالرغم من أنّه لاینبغی الرجم وفقاً للقاعدة ولکننا نستحسن رجمه».(1)

وقد ذهب الإمام الغزالی بدوره إلی أنّ الاستحسان یعتبر المنبع الموهوم الثانی للاستنباط(2).

ویری فقهاء الإمامیّة: إذا کان الإدراک العقلیّ لحسن وقبح عمل معیّن بدرجة القطع والیقین، فیمکن لهذا المجتهد الفتوی علی هذا الأساس، وذلک لأصل

«الملازمة بین الحکم القطعیّ للعقل وحکم الشرع»

من قبیل حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والجور، ولکن إذا کان إدراکه بمستوی الظنّ والاحتمال، فلا یمکن أن یکون دلیلًا شرعیاً للفتوی، لأنّه ورد فی آیات متعدّدة من القرآن الکریم النهی الصریح عن اتّباع الظنّ وذمّ الذین یتّبعون الظنّ، مثل: «إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنْ الْحَقِّ شَیْئاً(3)»(4).

ولعلّ هذا هو المقصود فی مصطلح بعض کتب الشیعة من عبارة «الذوق الفقهیّ» و «مذاق الشریعة» حیث یفتی الفقیه علی هذا الأساس إذا حصل له یقین بذلک.

واللافت أنّه وردت تعاریف مختلفة ومتضادّة «للاستحسان»، وکذلک هناک اختلاف فی نسبة الأقوال للمذاهب المختلفة(5).

علی أیّة حال فإنّ اختلاف الفقهاء فی حجیّة الاستحسان یعتبر أحد أسباب اختلافهم فی الفتاوی فی الفقه، من قبیل:

1. حقّ الشفعة

إذا باع الشریک حصّته من الأرض المشترکة بدون علم شریکه، ففی الفقه الإسلامی والروایات الشریفة أنّ الشریک یملک حقّ الشفعة، وبإمکانه إبطال هذه المعاملة وشراء تلک الحصّة لنفسه، ولکن إذا باع الشریک حصّته من الثمار والمحصولات الزراعیة، فنظراً لعدم وجود نصّ خاصّ فی هذه المسألة، وقع خلاف بین فقهاء الإسلام.

فذهب فقهاء الإمامیّة(6)، والشافعیة(7) والحنبلیة(8) إلی أنّ حقّ الشفعة یختصّ بالأموال غیر المنقولة، ولا یوجد هذا الحقّ فی الثمار، لأنّ الأحادیث الواردة تثبت هذا الحقّ فی الموارد غیر المنقولة.

وقال مالک: فی نظری أنّ حق الشفعة یرد أیضاً فی الثمار والمحاصیل الزراعیة من موقع الاستحسان ولا أتصوّر أنّ فقیهاً أفتی بهذه الفتوی قبلی، قال:

«استحسنه وما علمت أنّ أحداً قاله قبلی»(9).

2. جعل الخیار لغیر طرفی المعاملة

من الأمور المسلّمة فی الفقه الإسلامی والحقوق الإسلامیة أنّ طرفی المعاملة یمکنهما جعل خیار فسخ المعاملة لأحدهما أو لکلیهما، ولکن هل یمکنهما جعل


1- نفائس الأصول فی شرح المحصول، ج 9، ص 420.
2- المستصفی، ج 1، ص 274.
3- سورة یونس، الآیة 36.
4- أنوار الاصول، ج 2، ص 531.
5- إرشاد الفحول، ج 2، ص 181؛ الأصول العامة، ص 363.
6- الخلاف للطوسی، ج 3، ص 426.
7- المهذب فی فقه الشافعی، ج 3، ص 446.
8- نیل المأرب، ج 3 و 4، ص 264.
9- بلغة السالک لأقرب المسالک علی الشرح الصغیر، ج 3، ص 405.

ص: 320

الخیار بید شخص ثالث أم لا؟ وقعت هذه المسألة مورد خلاف بین فقهاء الإسلام.

حیث ذهب زفر (من الأحناف)(1) وبعض علماء المذهب الحنبلی (2) وکذلک علی أحد قولی الشافعی (3) إلی عدم الجواز. واستدلّوا لذلک بأنّ طبیعة المعاملة الصحیحة تقتضی أن تکون هناک اختیارات خاصّة لطرفی المعاملة، لا أن یکون الخیار بید شخص خارج هذه المعاملة.

أمّا أبوحنیفة(4) ومالک (5) والشافعی (فی قوله الآخر)(6) فذهبوا إلی الجواز. وقال أبوحنیفة: بالرغم من أنّ مقتضی القاعدة والقیاس هو عدم الجواز، ولکن الاستحسان یقتضی الجواز.

«وأصل هذا إنّ اشتراط الخیار لغیره جایز استحساناً وفی القیاس لا یجوز»(7).

أمّا فقهاء الإمامیّة فذهبوا إلی الجواز أیضاً، ولکنّ استدلالهم لیس علی أساس الاستحسان، بل لعموم وإطلاقات نصوص الشریعة من الآیات الکریمة وروایات المعصومین علیهم السلام، التی تشمل هذه المسألة وتدلّ علی وجوب التزام (8) طرفی المعاملة بأیّ شرط یتّفقون علیه إذا لم یکن مخالفاً للشریعة.

من قبیل قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(9). وفی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «

المؤمنون عند شروطِهم إلّا کُلّ شَرطٍ خالَف کتابَ اللَّهِ عزّ وجلّ، فلا یجوز»(10).

ه) المصالح المرسلة

اشارة

إنّ الحکمة من تشریع الأحکام الفقهیة فی الإسلام هی تحقیق مصالح البشر وإنقاذ الإنسان من المفاسد، وفی نظرنا نحن المسلمون أنّ الأحکام والمقرّرات الفقهیة فی الإسلام تعتبر أفضل منظومة قانونیة لتحقیق مصلحة الإنسان وسعادته فی مختلف أبعاد حیاته المادیة والمعنویة. وقد ذکر الإمام الغزالی أنّ مصالح البشر تقع ضمن خمسة أمور: الدین، النفس، العقل، النسل، والمال، وهذه هی مقاصد الشریعة الإسلامیة المنعکسة علی واقع الأحکام الفقهیة(11).

إنّ المجتمعات البشریة بصورة عامة تری وجود مصالح وأغراض نافعة لأفراد البشر، وعلی هذا الأساس تتحرّک هذه المجتمعات فی عملیة التقنین، وقد أیّد الإسلام المصالح الواقعیة منها ولم یعترف بالمصالح الموهومة وغیر الحقیقیة، وسکت عن بعض المصالح الأخری التی یعیشها الناس فی واقع الحیاة ولم یقرّر لها حکماً معیّناً، أو علی الأقلّ الأحادیث التی تتّصل بهذه المصالح لم تصل إلینا. ویسمّی هذا القسم الثالث من المصالح ب «المصالح المرسلة» وأحیاناً یطلق علیها «الاستصلاح» وتارة تسمّی فی فقه أهل السنّة «الاستدلال»(12).

وقد تحرّک الغزالی علی مستوی تفکیک مراتب ودرجات مصالح أفراد البشر إلی ثلاث مراتب:


1- البنایة فی شرح الهدایة، ج 7، ص 214.
2- المغنی والشرح الکبیر، ج 4، ص 68.
3- المجموع فی شرح المهذب، ج 9، ص 185.
4- البنایة فی شرح الهدایة، ج 7، ص 214.
5- بدایة المجتهد، ج 2، ص 211.
6- المجموع فی شرح المهذب، ج 9، ص 186.
7- البنایة فی شرح الهدایة، ج 7، ص 214.
8- کتاب البیع للإمام الخمینی، ج 4، ص 321.
9- سورة المائدة، الآیة 1.
10- وسائل الشیعة، ج 12، ص 353، کتاب التجارة، الباب 6 من أبواب الخیار، ح 2.
11- المستصفی، ج 1، ص 287.
12- إرشاد الفحول إلی تحقیق الحق من علم الأصول، ج 2، ص 184.

ص: 321

1. المصالح الضروریة، التی یوجب عدم تحقّقها الخلل والإرباک فی حیاة الإنسان، من قبیل تحریم الجرائم ولزوم تنفیذ العقوبة بالمجرمین.

2. المصالح الحاجاتیة، التی یحتاج إلیها الناس وفی صورة عدم تحقیقها فی واقع الحیاة فإنّ ذلک یفضی إلی العسر والضیق وإن کان قابلًا للتحمّل، من قبیل: سلطة الولیّ علی نکاح الصغیر وأحکام المعاملات.

3. المصالح الاستحسانیة، التی تهدف إلی تحقیق الرفاه والراحة فی الحیاة، مثل: آداب المعیشة والعلاقات الاجتماعیة وآداب المعاملات (1).

آراء الفقهاء:

1. ذهب مالک وأحمد إلی جواز استناد الفقیه للمصالح المرسلة فی الفتوی. بل إنّ «الطوفی» مؤلّف کتاب «مصادر الشریعة» یری فی المصالح المرسلة أنّها أساس المصالح الدنیویة فی دائرة السیاسات والمعضلات الاجتماعیة، وأعلی من ذلک أنّه یری تقدّم المصالح المرسلة علی النصوص الشرعیة عند وقوع التعارض بینهما(2).

2. ذهب الشافعی وجمهور أهل السنّة إلی عدم الجواز، فقال: «إلّا أنّه لا استنباط بالاستصلاح ومن استصلح فقد شرّع، کمن استحسن، والاستصلاح کالاستحسان، متابعة الهوی»(3).

3. أمّا الغزالی فإنّه قرّر أنّ المصالح المرسلة هی المنبع الرابع الوهمی والخیالی لعملیة الاستنباط، ولکنّه ذهب إلی جواز العمل بالمصالح المرسلة فی المصالح الضروریة فقط، ولکن فی المصالح الحاجاتیة والتحسینیة فلا یری جواز العمل بالمصالح المرسلة، وقد مثّل للمصالح الضروریة بمثال «تترّس الکفّار» فإذا تتّرس الکفّار بأسری من المسلمین لدیهم حین هجوم المسلمین علیهم ولم یتمکّن المسلمون من تحقیق النصر إلّامن طریق قتل هؤلاء المسلمین الذین تتّرس بهم الکفّار، فإنّ مصلحة الأمّة الإسلامیة تقتضی ذلک وإن لم یرد نصّ خاصّ فی الشریعة فی هذا المورد(4).

4. وذهب فقهاء الإمامیّة إلی أنّه إذا کان تشخیص المصلحة بشکل قطعیّ ویقینیّ وحصل المجتهد علی یقین کامل بذلک، فیجوز العمل علی أساس هذه المصلحة، وذلک لأصل «الملازمة بین الحکم العقلی القطعی وحکم الشرع». وأمّا إذا لم یحصل له سوی الظنّ والاحتمال کما هو الحال فی نظر الکثیر من فقهاء أهل السنّة، فإنّه لا یجوز له الفتوی علی هذا الأساس، لأنّ: «إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنْ الْحَقِّ شَیْئاً»(5). وکما قال الإمام الصادق علیه السلام (6): «

إنّ دین اللَّه لا یُصابُ بالعقولِ الناقِصَة»(7).

الثمرةالفقهیة لاختلاف النظر فی المصالح المرسلة:
اشارة

إنّ اختلاف نظر الفقهاء فی حجیّة المصالح المرسلة کان منشأ اختلاف فی الفتوی فی بعض المسائل الفقهیة. من قبیل:

1. اعتبار شهادة الطفل علی الضرب والجرح

من الثابت أنّ أحد شروط اعتبار شهادة الشهود هو


1- المستصفی، ج 1، ص 290.
2- الأصول العامة، ص 384، نقلًا عن مصادر التشریع، ص 80.
3- المصدر السابق.
4- المستصفی، ج 1، ص 284- 294.
5- سورة یونس، الآیة 36.
6- بحار الأنوار، ج 2، ص 303.
7- أنوار الأصول، ج 2، ص 537.

ص: 322

البلوغ، ولکن إذا کان الشاهد للحادثة والجریمة بعض الأطفال فقط، من قبیل حدوث نزاع وضرب بین الأطفال، فقد اختلف فقهاء الإسلام فی الفتوی فی هذه المسألة، فالشافعی أساساً لا یری صحّة شهادة الأطفال.

أمّا مالک فقد ذهب إلی اعتبارها، وقد استدلّ لذلک بمقولة «الاستصلاح» وقال: «إذا أردنا أن نأخذ بنظر الاعتبار مصلحة المجنیّ علیه والمجروح فلا سبیل لذلک سوی قبول شهادة الأطفال أیضاً».(1)

وذهب فقهاء الإمامیّة إلی أنّ شهادة الطفل فی مثل هذه الموارد معتبرة بثلاثة شروط: الأوّل: أن یکون سنّ الشاهد أکثر من 10 سنوات. الثانی: أن یکون مشتغلًا بعمل أو لعب محلّل. الثالث: أن لا یتفرّق الأطفال بعد اللعب ومشاهدة الحادثة إلی زمان الشهادة عند القاضی.

ومستند فتواهم هذه ما ورد عن أهل البیت علیهم السلام، ومنها قول الإمام علیّ علیه السلام:

«شهادة الصّبیان جائز بینهم ما لم یتفرّقوا أو یرجعوا إلی أهلهم»(2)

، حیث استدلّوا بذلک فی الکتب لفقهیة(3).

2. تعذیب المتّهم بالسرقة لکسب الاعتراف منه

وقد استند مالک بمقولة الاستصلاح للقول بجواز ضرب المتّهم لکی یعترف بالسرقة، لأنّه فی غیر هذه الصورة لا یمکن اکتشاف الأموال المسروقة للناس، ولکن أکثر الفقهاء منعوا من ذلک وقالوا بعدم الجواز(4).

وذهب فقهاء الإمامیّة إلی عدم الجواز أیضاً، لأنّ هذا الأمر لیس من نوع المصالح القطعیة التی لا یترتّب علیها ضرر(5).

و) سدّ الذرائع وفتحها

اشارة

«ذرائع» جمع ذریعة وهی فی اللغة بمعنی الوسیلة، وسدّ الذرائع یعنی منع مقدّمات العمل الحرام، والمراد بفتح الذرائع هو توفیر مقدّمات العمل الواجب.

بالرغم من أنّ علماء المذاهب اختلفوا فی المعنی الاصطلاحی للذرائع، ولکنّ خلاصة نظرهم هی: إنّ کلّ وسیلة تؤدّی إلی ارتکاب حرام وتکون مقدّمة للوقوع فی الحرام، یجب ترکها، وهو «سدّ الذرائع» وکلّ وسیلة یتوصّل بها الإنسان إلی امتثال الواجب، وبعبارة أخری، تکون مقدّمة لتحصیل الواجب، فیجب الإتیان بها (فتح الذرائع).

أقسام سدّ الذرائع:

ویقسّم ابن القیّم الذرائع ومقدّمات الحرام إلی أربعة أقسام ویبیّن کلّ قسم منها:

1. الأعمال المولّدة للمفسدة بذاتها، مثل: شرب الخمر الذی یزیل العقل ذاتاً، والزنا الذی یوجب بذاته اختلاط النسل وهتک حرمة الاسرة.

2. الأعمال التی یقصد بها المقاصد المباحة ذاتاً، ولکن بعض الأشخاص یستخدمونها کمقدّمة لتحقیق المقاصد المحرّمة من قبیل: الحیل فی المعاملات للحصول علی الفائدة الربویة.

3. الأعمال التی یغلب فی أمرها الوقوع فی المفسدة، وإن کانت ذاتاً یتوصّل بها الإنسان لأغراض مباحة، من قبیل: سبّ المشرکین أو إهانة الأوثان التی


1- أثر الأدلّة المختلف فیها، ص 110.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 253، ح 6( کتاب الشهادات، باب 22).
3- جواهر الکلام، ج 41، ص 11؛ ریاض المسائل للطباطبائی، ج 15، ص 227.
4- کتاب الاعتصام للشاطبی، ج 2، ص 84.
5- تحریرالوسیلة، کتاب الحدود، حدّالسرقة، القول فیما یثبت به، المسألة 2.

ص: 323

یعبدها المشرکون حیث کان ذلک غالباً سبب فی إثارة المشرکین لیتحرّکوا، بالمقابل علی مستوی سبّ وإهانة مقدّسات الإسلام.

4. الأعمال التی تغلب فیها المصلحة، ولکنّها أحیاناً تقع وسیلة ومقدّمة لارتکاب الذنب والوقوع فی المعصیة، وبالجملة فإنّ المصلحة فیها أکثر من المفسدة.

ویری ابن القیّم أنّ الذرائع من القسم الأول حرام قطعاً، ومن أجل إثبات القسم الثانی والثالث أقام 99 دلیلًا وشاهداً من الشریعة، وأمّا القسم الرابع فیری جوازها والحکم الشرعی لمثل هذه الذرائع فی وجوبها واستحبابها وإباحتها، تابع للمفاسد الشرعیة فیها(1).

وأمّا المالکیة وبعض الحنابلة فإنّهم یرون أن القسم الثانی فقط هو موضوع البحث فی سدّ الذرائع، أی الأعمال التی لها مصالح لذاتها، ولکنّ بعض الأشخاص یستخدمونها للتوصّل إلی المعصیة(2).

وأمّا فقهاء الإمامیّة، فإنّهم ذکروا فی کتبهم الأصولیة هذا الموضوع بعنوان «مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام» بدل عنوان «فتح وسدّ الذرائع» وذکروا لهذا الموضوع أقساماً مختلفة، ولکلّ قسم منها حکماً معیّناً، من قبیل:

1. المقدّمة الداخلیة والخارجیة.

2. المقدّمة الموصلة وغیر الموصلة.

3. المقدّمة العقلیة، الشرعیة، العادیة.

4. مقدّمة الوجود، الوجوب، الصحّة، العلم.

5. المقدّمة المتقدّمة، المقارنة، المتأخّرة.

6. مقدّمة الواجب المطلق، والمشروط.

7. مقدّمة الواجب المنجّز، والمعلّق (3).

وفی الکثیر من هذه الموارد المذکورة ذهبوا إلی وجوب مقدّمات الواجب وحرمة مقدّمات الحرام.

آراء المذاهب بالنسبة إلی حجیّة سدّ وفتح الذرائع:

لقد ذهب الحنابلة إلی أنّها تعتبر أحد مصادر التشریع.

أمّا ابن القیّم فقد فتح باباً واسعاً فی کتاب «أعلام الموقّعین» لموضوع سدّ الذرائع وذکر أدلّة کثیرة لإثباتها(4) وقال: إنّ سدّ الذرائع یشکّل 14 من أحکام الدین، لأنّ التکالیف الفقهیة فی الإسلام علی أربعة أقسام: أمر نفسیّ، أمر غیریّ، نهی نفسیّ، نهی غیریّ (5).

ومن الطبیعی أنّنا إذا نظرنا إلی «فتح الذرائع» تحت هذا العنوان، فیکون (فتح وسدّ الذرائع) علی هذا الأساس 34 من الدین فی نظر ابن القیّم.

وقد صرّح ابن القیّم بأنّ الأحکام والمسائل الشرعیة تابعة للمقاصد، ولذلک فإنّ أسباب المفاسد ومقدّمات الحرام حرام أیضاً، کما أنّ أسباب المصالح ومقدّمات الواجب واجبة أیضاً.

أمّا الحنفیة فرغم أنّهم لم یصرّحوا بشی ء من ذلک، ولکن یمکن الاستفادة من کلماتهم حجّیة القول بسدّ الذرائع.

ویری فقهاء المذهب المالکی أنّها من مصادر التشریع فی الإسلام.

ولم یرد من فقهاء الشافعیة أیّ نصّ صریح یدلّ علی قبولهم لهذا الأصل، ولکنّهم أفتوا فی بعض الموارد بحیث لا یمکن تخریج هذه الفتوی إلّاعلی


1- أعلام الموقّعین، ج 3، ص 108- 136.
2- الأصول العامة، ص 409.
3- أنوار الأصول، ج 3، ص 353- 376.
4- وبالطبع فإنّ أغلب أدلته تقترن بذکر مصادیق لیس فیها فساد أو حرمةفی نفسها، بل إمّا تکون سبباً للمفسدة وعمل الحرام أو لحرمة أعمال بسبب وجود المفسدة فیها، حیث ترتبط بالبحث الفلسفی فی تحریم أعمال الحرام لمفاسدها الواقعیة.
5- أعلام الموقعین عن ربّ العالمین، ج 3، ص 136.

ص: 324

أساس سدّ الذارئع (1).

ویری فقهاء الإمامیّة أنّ مقدّمات الواجب والحرام وإن کانت فی نظر العقل تتمتّع بحکم معیّن من لزوم الإتیان أو الترک، ولکنّها لا تملک حکماً شرعیاً نفسیاً مستقلّاً عن ذی المقدّمة بحیث إنّ المکلّف إذا أراد ترک مقدّمة الواجب أو الإتیان بمقدّمة الحرام فإنّه یستحقّ عقابین أحدهما بسبب «المقدّمة» والآخر بسبب «ذی المقدّمة»، أجل یمکن الکلام عن الوجوب الشرعی مع غضّ النظر عن استحقاق العقوبة المستقلّة لها، ولذلک ذهب البعض کالآخوند الخراسانی مؤلّف کتاب «کفایة الأصول» إلی الوجوب الغیریّ لمقدّمة الواجب، وذهب بعض آخر کصاحب المعالم إلی أنّ مقدّمة الواجب إنّما تکون واجبة فقط فیما إذا أراد المکلّف الإتیان بالواجب ذی المقدّمة، وذهب بعض کالشیخ مرتضی الأنصاری إلی أنّ مقدمة الواجب واجبة فی صورة أن یقصد المکلّف بالإتیان بها التوصّل إلی ذی المقدّمة الواجب، وبعض آخر کصاحب الفصول وآیة اللَّه مکارم الشیرازی، ذهبوا إلی وجوب المقدّمة الموصلة فقط التی تنتهی للإتیان بالواجب (2).

کما أنّ بعض فقهاء الإمامیة فی موضوع مقدّمة الحرام ذهبوا إلی حرمة جمیع المقدّمات الموصلة للحرام، وکذلک المقدّمات غیر الموصلة التی یأتی بها الإنسان بقصد التوصّل بها إلی الحرام، أمّا الأعمال المباحة التی یمکنها أن تکون مقدّمة للحرام ولکنّ الفاعل لها لم یقصد منها الحرام، فهی لیست بحرام (3).

وقد ورد فی القرآن الکریم النهی عن سبّ أصنام المشرکین وذلک بسبب أنّ هذا العمل یعدّ مقدّمة موصلة للحرام، حیث یثیر المشرکین ویدفعهم إلی سبّ اللَّه تعالی: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَیَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ ...»(4).

ومع ملاحظة الأمثلة التی ذکرها فقهاء المذهبین فی هذا الباب، یمکن مشاهدة الفرق بین اصطلاح «فتح وسدّ الذرائع» لدی أهل السنّة وبین «مقدّمة الواجب والحرام» لدی فقهاء الشیعة، لأنّ المراد لدی أهل السنّة فی الغالب، صدور الحکم بالنسبة للمقدّمات الخارجیة التی تهیّ ء الأرضیة الاجتماعیة والذهنیة لتحقّق الواجب والحرام فی واقع الحیاة، من قبیل نکاح المرأة الذمّیة وعمل القاضی بعلمه، ولکنّ مقصود فقهاء الشیعة فی الغالب المقدّمات الداخلیة للواجب والحرام، من قبیل الوضوء والصلاة والإتیان بمقدّمات السفر للحجّ الواجب، وتهیئة السلاح لقتل الأبریاء الذی یقع فی دائرة المحرّمات أیضاً، رغم أنّ مقدّمة الحرام أو الواجب أحیاناً تأتی فی الفقه الشیعی بالمفهوم العام لهذه الکلمة، وتشمل هذه الموارد والموارد التی یسمّیها أهل السنّة سدّ الذرائع أیضاً.

الاختلافات الفقهیة الناشئة من ردّ وقبول سدّ الذرائع:

1. ذهب بعض فقهاء المذهب الحنبلی إلی حرمة دخول النساء إلی المقابر، لأنّ ذهابهنّ إلی هذه الأماکن لغرض إقامة العزاء یکون عادة مقدّمة لظهور أجسادهنّ للأجانب، وبالتالی الوقوع فی الحرام (5).


1- أثر الأدلّة المختلف فیها فی الفقه الإسلامی، ص 573 و 583.
2- أنوار الأصول، ج 1، ص 426.
3- المصدر السابق، ص 450.
4- سورة الأنعام، الآیة 108؛ التفسیر الکبیر للفخر الرازی، ج 5، ص 110.
5- ورد فی کتاب« شرح الصدور ببیان بدع الجنائز والقبور»، ص 528؛ استفتاء من« اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث العلمیة»؛ بهذه الصورة: تقوم النساء فی المراسم والأعیاد بزیارة القبور ومعلوم أنّ زیارة النساء للمقابر( توجب) قلّة صبرهنّ وتبرّجهنّ، فیقمن بتأجیر شیخ معلوم ... فیقرأ علی کلّ قبر من قصار السور ... الجواب: ... زیارة النساء للقبور محرّمة مطلقاً فی الأعیاد وغیرها ...؛ نیل الأوطار من أحادیث المختار، ج 4، ص 111؛ منابع الإجتهاد لآیة اللَّه جنّاتی، ص 379.

ص: 325

وما ورد فی الحدیث:

«لعن اللَّه زوّارات القبور»(1)

. ناظر إلی هذا المعنی.

ولکنّ أکثر فقهاء المذاهب الأخری یرون جواز زیارة النساء للقبور إذا لم یوجب مفسدة وفتنة، من قبیل زیارة العجائر للقبور، بل إنّ الأحناف والمالکیین یرون استحباب هذا العمل أیضاً، لأنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أمر جمیع أمّته:

«فزوروا القبور فإنّها تذکّر بالموت»(2)

. وضمناً أوصی النسوة باجتناب الأعمال المنافیة للشرع فی تلک الأجواء(3).

2. هل یجوز للقاضی أن یعمل بعلمه، أم لا؟

ذهب مالک وأحمد إلی عدم جواز هذا الأمر، وأحد الأدلّة التی یستدلّ بها لذلک «سدّ الذرائع»؛ لأنّ القاضی إذا أصدر حکمه علی أساس علمه وبدون استناد علی شاهد أو إقرار من قِبل المحکوم علیه، سیکون مورد سوء الظنّ ویتّهم باستلام الرشوة، وربّما یتحرّک واقعاً علی مستوی الانحیاز فی الحکم إلی جهة الظلم والجور.

ولکن الشافعیین والأحناف ذهبوا إلی الجواز، لأنّ إقامة البیّنة تعتبر وسیلة للحصول علی العلم والیقین للقاضی، وعندما یملک القاضی العلم والیقین بنفسه، فلا حاجة حینئذٍ إلی شاهد وإقرار(4).

وکذلک الإمامیّة ذهبوا إلی الجواز، لأنّ القاضی حسب الفرض أمین وعادل، والمعیار فی حکمه هو أن یقوم علی أساس العلم والیقین، سواء من طریق الشاهد والإقرار، أم من غیر ذلک، ولکنّ الإمامیّة ذکروا بعض الضوابط والشروط الخاصّة لتحقّق هذا العلم، ومنها أن یکون حاصلًا من المبادی ء الحسّیّة أو القریبة من الحسّ (5).

3. من البدیهی أنّ المشتری فی المعاملة الباطلة إذا اشتری حسب الظاهر شیئاً وتصرّف فیه، فإنّه لا یعدّ ملکاً له قطعاً، فیجب علیه إعادته إلی مالکه فوراً. ولکن إذا تحمّل بعض النفقات فی إعادة المبیع لصاحبه، فهل تکون هذه النفقات بعهدة المشتری أم لا؟

نقل الشیخ الأنصاری عن العلّامة الحلّی فی «تذکرة الفقهاء» وعن المحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» الفتوی بلزوم دفع المشتری لنفقات النقل واستدلّوا لذلک بوجوب مقدّمة الواجب (6).

ملاحظة:

یتبیّن ممّا تقدّم فی الأبحاث السابقة أنّ «سدّ الذرائع» فی فقه أهل السنّة، یختلف اختلافاً جلیّاً مع «مقدّمة الحرام» فی فقه الشیعة، فأهل السنّة یبحثون فی «سدّ الذرائع» فی مورد إمکان إساءة استغلال الحکم، من قبیل حجّیة علم القاضی، أو زیاة القبور للنساء وأمثال ذلک، فی حین أنّ مقدّمة الحرام لها مفهوم عام یشمل هذه الموارد وموارد أخری من قبیل تهیئة الأرضیة للوقوع فی المعصیة من قِبل المذنبین.


1- فتح الباری، ج 3، ص 118؛ کنز العمّال، ج 16، ص 388.
2- صحیح مسلم، ج 3، ص 65، کتاب الجنائز، باب استئذان النبیّ صلی الله علیه و آله ربّه فی زیارة قبر أُمّه.
3- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 1، ص 540.
4- أثر الأدلّة المختلف فیها، ص 625.
5- تحریرالوسیلة، کتاب الحدود، حدّ الزنا، القول فی اللواحق، المسألة 4.
6- المکاسب للشیخ الأنصاری، ج 7، ص 181.

ص: 326

وهذا الکلام یصدق أیضاً بالنسبة لمقدّمة الواجب و «فتح الذرائع».

ز) مسألة حجیّة القیاس:

وأحد العوامل المهمّة فی اختلاف الفتوی بین الفقهاء مسألة حجّیة القیاس.

القیاس فی اللغة بمعنی الوزن والتساوی (1) وفی اصطلاح الفقهاء والأصولیین بمعنی تساوی حکم الفرع مع الأصل بسبب وجود مشابهة فی العلّة(2). وللقیاس أربعة أرکان: 1. الأصل 2. الفرع 3. الحکم 4. العلّة المشترکة.

وللقیاس أیضاً أقسام: فهناک قیاس منصوص العلّة، وقیاس الأولویة، والقیاس المقترن بوجود علّة الحکم بشکل قطعیّ، والقیاس الظنّی.

أمّا حجیّة الأقسام الثلاثة الأولی فهی مورد اتّفاق جمیع فقهاء الإسلام تقریباً، وأمّا ما وقع مورد الخلاف بینهم فهو ما یخصّ القسم الرابع من القیاس وأحیاناً یطلق علیه بقیاس «مستنبط العلّة» أیضاً، بمعنی أنّ الفقیه یستخرج علّة الحکم بظنّه، ویعمل علی تسریة هذه العلّة من موضوع معیّن إلی موضوع آخر، وهذا القسم من القیاس یعتبر حجّة فی نظر الکثیر من فقهاء أهل السنّة، وخاصّة أتباع أبی حنیفة الذی اعتمد فی الکثیر من فتاواه علی هذا القیاس، ولکنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام خالفوا القیاس الظنّی بشدّة، وقد ورد الکثیر من الروایات عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی خصوص رفض العمل بالقیاس، ومن علماء أهل السنّة «النظّام» وأتباعه وجماعة الظاهریة کابن حزم وداودوأتباعهما وبعض المعتزلة ک «جعفر بن حرب»، و «جعفر بن مبشّر» و «محمّد بن عبداللَّه الإسکافی» أنکروا العمل بالقیاس وقالوا ببطلانه (3).

ومن أجل معرفة تأثیر الاختلاف فی حجیّة القیاس فی فتاوی الفقهاء نشیر إلی نموذجین من ذلک:

1. هل یحرم استعمال آنیة الذهب والفضّة فی غیر الأکل والشرب، (وحرمة استعمالها فی الأکل والشرب إجماعیّ)؟

ذهب الکثیر من فقهاء أهل السنّة إلی حرمة ذلک، واستدلّوا له بقیاس سائرالاستعمالات علی الأکل والشرب.

یقول «ابن قدامة» فی کتابه «المغنی : «إنّ استعمال آنیة الذهب والفضّة حرام وهو مذهب أبی حنیفة ومالک و الشافعی .. والعلّة فی تحریم الشرب فیها ما یتضمّن ذلک من الفخر والخیلاء وکسر قلوب الفقراء وهو موجود فی الطهارة منها واستعمالها فیما کان، بل إذا حرم فی غیر العبادة ففیها أولی»(4).

ولکن داود بن علیّ الظاهری ذهب إلی حصر الحرمة فی مورد النصّ (وهو الأکل والشرب)، لأنّه یری بطلان القیاس، وقد اختار العلّامة الشوکانی أیضاً رأی داود وقال: إنّ القیاس هنا مع الفارق (5).

أمّا فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام فقد ذهب جماعة منهم إلی حصر الحرمة بالأکل والشرب لبطلان القیاس، فی حین ذهب البعض الآخر إلی تعمیم الحرمة لإطلاق روایات أهل البیت علیهم السلام

«نهی عن آنیة الذهب والفضة»(6).


1- قاموس اللغة، مادّة« قیاس».
2- أصول الفقه الإسلامی، ص 190.
3- اتحاف ذوی البصائر فی شرح روضة النواظر، ج 4، ص 2144( انظر: مقالة منابع الاستنباط فی نظر فقهاء الإسلام فی هذا الکتاب).
4- المغنی، ج 1، ص 92.
5- أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة فی اختلاف الفقهاء، ص 490.
6- مستمسک العروة الوثقی، ج 2، ص 164، المسألة 3 من حکم الأوانی.

ص: 327

2. إذا أبطل الصائم صومه فی شهر رمضان المبارک عمداً بالأکل والشرب، فهل یجب علیه، مضافاً إلی القضاء، الکفّارة أیضاً؟

ذهب فقهاء أهل البیت علیهم السلام بالاستفادة من الروایات الواردة عن أهل البیت إلی أنّ جمیع المفطرّات العمدیة توجب الکفّارة، فهؤلاء الفقهاء متّفقون بالنسبة لوجوب الکفّارة علیه (1).

ولکنّ الظاهریة، وأحمد، والشافعیة والغزالی من فقهاء أهل السنّة، یرون وجوب القضاء فقط، فی حین أنّ الأحناف، الثوری وجماعة آخرین ذهبوا إلی وجوب الکفّارة مضافاً إلی القضاء، وهذا الخلاف یعود إلی رأیهم فی القیاس، لأنّ الوارد فی روایاتهم أنّ الکفّارة تنحصر فی مورد الجماع للصائم (2)؛ والقائلین بوجوب الکفّارة علی الأکل والشرب بشکل عمدیّ ذهبوا إلی ذلک بواسطة القیاس، فی حین أنّ الآخرین یرون بطلان هذا القیاس (3).

ح) العرف

اشارة

العرف عبارة عن الآداب والعادات والقوانین والالتزامات الاجتماعیة السائدة فی أجواء المجتمع بصورة عامّة، وکذلک فهم الأفراد بالنسبة لمفاد الکلمات، والفقهاء یستندون غالباً إلی أساس العرف فی عملیة استنباط الأحکام والفتوی.

ویؤثّر «العرف فی عملیة الاجتهاد الفقهیّ فی ثلاث دوائر(4).

1. الآداب والعادات والقوانین والمقرّرات الاجتماعیة لأفراد البشر

لقد تحرّک الإسلام علی مستوی إبطال العادات والمقرّرات الاجتماعیة المضرّة بواقع الإنسان والمجتمع کالمعاملات الربویة، وتحرّک علی مستوی إصلاح البعض الآخر الذی یحتاج إلی إصلاح وتهذیب، من قبیل عقود الزواج، وأیّد ما کان لازماً ونافعاً مثل بیع السلف الذی کان متداولًا فی معاملات المدینة. وترک الباقی بدون منع.

وبالطبع فإنّ فقهاء الإمامیّة یستندون، لإثبات اعتبار مثل هذه الآداب والمقرّرات الاجتماعیة التی تسمّی أحیاناً ب «بناء العقلاء»، إلی توفّر شرط فیها، وهو أنّ هذا العرف والعادة وسیرة العصر الحاضر أو القرون السابقة لو کانت موجودة فی زمن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو المعصومین علیهم السلام وکانت متداولة وسائدة فی ذلک الزمان ولم یتحرّک هؤلاء العظام من موقع النهی والردع عنها، فهی قطعاً مورد «تقریرهم» وقبولهم وبذلک تعتبر مصداقاً ل «السنّة» ویصحّ الإستناد إلیها(5).

2. مفاهیم الألفاظ والکلمات الموجودة فی الکتاب والسنّة

عندما یواجه الفقهاء کلمة من کلمات القرآن والأحادیث الشریفة یتحرّکون علی مستوی التحقیق فی معناها ومعرفة المراد منها، فتارة یرجعون إلی کتب اللغة وأخری إلی فهم العرف ویرونه حجّة، من قبیل:

أ) ما المقصود ب «الفقیر» و «المسکین»؟ وما هو الملاک، أو حدّ الفقر الذی یوجب أخذ الزکاة؟


1- جواهر الکلام، ج 16، ص 264.
2- صحیح البخاری، ج 4، ص 163، کتاب الصوم.
3- انظر: بدایة المجتهد، ج 3، ص 195.
4- الأصول العامة، ص 422.
5- المصدر السابق.

ص: 328

ب) ما هو مفهوم «الماء المطلق» وما مقدار غلظته وعدم خلوصه بحیث لا یتقاطع مع صدق «الماء المطلق» الذی یجوز الوضوء به؟

ج) ما معنی ومفهوم «الکفؤ» الذی یجب مراعاته فی اختیار الزوج؟

وینبغی القول أنّ حجیّة العرف فی فهم المراد من الکلمات مشروط باستمرار وامتداد هذا الفهم إلی زمن المعصومین لیقع بالتالی مصداقاً لتقریرهم وإمضائهم لهذا الفهم، لأنّه إذا کان لکلمة معنی خاصّ فی العرف المعاصر وکانت تستخدم فی زمان نزول القرآن بمعنی آخر، فلا تجوز الفتوی علی أساس الفهم العرفی المعاصر لهذه الکلمة.

وأمّا فی موارد الشکّ، فما یمکنه أن یحلّ المشکلة هو «أصل عدم النقل ، لأنّه إذا لم یعثر الفقیه، بعد الفحص والتتبّع فی الشواهد الموجودة، علی تغییر مفهوم اللفظ علی امتداد التاریخ، فیجوز له، بالاستناد إلی أصل عدم النقل، یعنی عدم انتقال المفهوم السابق إلی مفهوم آخر، أن یفتی علی أنّ هذا المفهوم الحالی هو ما کان مفهوماً من هذه الکلمة فی صدر الإسلام.

3. الدلالة الالتزامیة للکلام علی إرادة المتکلّم

من قبیل حکم العرف بأنّه کما حکم الشارع بطهارة الخمر عندما یتبدلّ إلی خلّ، فهذا الحکم یملک دلالة عرفیّة علی طهارة الإناء الذی کان الخمر موجوداً فیه.

إنّ بعض اختلافات فتاوی الفقهاء فی الفقه یعود إلی اختلافهم فی دائرة وحدود حجّیة العرف فی واحد من هذه الدوائر الثلاث، أو اختلافهم فی شروط حجّیته (مثل شرط استمرار الفهم العرفی إلی زمن حیاة المعصومین علیهم السلام) أو اختلافهم فی معرفة نظر العرف ومصادیقه. مثلًا:

أ) إذا استأجر الوکیل منزل موکّله لمدّة أطول من المتعارف، مثلًا لمدّة 40 سنة، فقد ذهب أبوحنیفة إلی جواز ذلک استناداً إلی إطلاق الوکالة، ولکن تلمیذیه القاضی أبا یوسف والشیبانی ذهبا إلی بطلان العقد، لأنّهما یعتقدان بأنّ أصحاب المنازل عندما یمنحون شخصاً وکالة لإجارة المنزل فإنّهم یتصوّرون مدّة أقلّ من ذلک عرفاً، ولا یفکّرون بإجارة المنزل لمدّة طویلة، فهذه المدّة الطویلة غیر مقصودة للموکّلین، وفی مثل هذه الموارد یمکن الاستناد إلی الحجّیة العرفیّة وبالتالی غ تقیید إطلاق الوکالة(1).

ب) بیع المعاطاة، یعنی أن یتمّ تبادل الثمن والمبیع بین المشتری والبائع بدون قراءة صیغة البیع. وهذا النوع من المعاملة کان باطلًا علی أساس الفقه الحنفی فی بدایة الأمر، لأنّهم قالوا: إنّ البیع الذی ورد تشریعه فی القرآن والسنّة هو ما یقع باستعمال الصیغة، ولکنّهم بالتدریج التفتوا إلی وقوع المعاملة بالمعاطاة فی العرف ولذلک سمحوا ببیع المعاطاة فی المعاملات الجزئیة.

وبعد مدّة أفتی فقهاء المذهب الحنفی بشرعیة جمیع أنواع بیع المعاطاة نظراً لوجود المعاملات المعاطاتیة الثقیلة بین أهل العرف (2).

وقد استند ابن قدامة الحنبلی فی کتابه «المغنی»(3) و خطاب المالکی فی «شرح الخطّاب»(4) فی هذه


1- أسباب اختلاف الفقهاء للزلمی، ص 512 نقلًا عن: تأسیس النظر، ص 22.
2- أسباب الاختلاف للزلمی، ص 512، نقلًا عن: تبیین الحقائق، ج 4، ص 4.
3- المغنی، ج 4، ص 5.
4- شرح الخطاب، ج 4، ص 228.

ص: 329

المسألة إلی العرف أیضاً. أمّا الشافعیّة فلم یقبلوا فی کتاب «نهایة المحتاج فی شرح المنهاج بحجّیة العرف، وذهبوا إلی وجوب الصیغة اللفظیة فی البیع (1).

وذهب بعض فقهاء الإمامیّة أیضاً إلی بطلان بیع المعاطاة(2) وأحیاناً ذهبوا إلی جوازه فی المعاملات الجزئیة، ولکنّ أغلب فقهاء الإمامیة فی الوقت الحاضر یعتقدون بصحّة بیع المعاطاة فی جمیع الموارد، بل ذهب البعض منهم إلی أنّ المعاملات کانت فی بدایة أمرها أیضاً بصورة معاطاة، وبعد ذلک ظهر البیع بشکل تنظیم سند أو وثیقة(3).

ط) شرع الأنبیاء السابقین

اشارة

لا شکّ فی أنّ جوهر الأدیان الإلهیّة واحد، ولکنّها تختلف فیما بینها علی أساس اختلاف الظروف والمقتضیات التاریخیة للمجتمعات البشریة، کما أنّ بعض الأحکام الفقهیة فی الشریعة الإسلامیة، مثل شرائع الأنبیاء السابقین:

«شَرَعَ لَکُمْ مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّی بِهِ نُوحاً»(4).

وبدیهیّ أنّ الفقهاء لا یختلفون فیما بینهم بالنسبة للمسائل التی صرّح الإسلام فیها بإبقاء قوانین الأدیان السابقة علی الأمّة الإسلامیة، مثل وجوب الصوم فی قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ»(5) وکذلک فی الموارد التی ألغی فیها القرآن الحکم الوارد فی الشریعة السابقة، مثل إلغاء حرمة بعض أجزاء الذبیحة بعد ما کان حراماً علی الیهود، کما فی قوله تعالی: «أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعَامِ»(6) لأنّ هذا النهی وذلک الإثبات قد ورد فی القرآن الکریم.

ولکن هل یمکن استصحاب بقاء أحکام الشرائع السابقة التی لم یرد فیها نفی أو إثبات صریح فی القرآن الکریم أو سنّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله؟ وبالتالی اعتبارها حجّة علی المسلمین وینبغی علیهم العمل بها، ویقوم المجتهد بإصدار فتواه علی أساسها؟

ذهب بعض الفقهاء إلی أنّ أحکام الشرائع السابقة حجّة علی المسلمین أیضاً علی أساس أنّها شریعة إلهیّة، وذهب البعض الآخر، کما احتمل المحقّق النائینی، أنّ جمیع أحکام الشرائع السابقة قد نسخت بشریعة الإسلام، وإذا کان هناک تشابه فی بعض الأحکام فإنّ ذلک یعود إلی تشریع حکم جدید یشبه الحکم الوارد فی الشریعة السابقة لا أنّه نفسه وبمثابة استمرار للحکم السابق (7)، وأمّا بالنسبة لأحکام الشرائع السابقة التی لم یرد التصریح بنفیها أو إثباتها فی الإسلام، فهناک قولان لفقهاء الإسلام:

1. ذهب جمهور الأحناف وبعض المالکیین والشافعیین (8) وروایة واحدة عن أحمد، إلی أنّه: کلّ حکم ورد فی القرآن الکریم أو الأحادیث النبویة من أحکام الشرائع السابقة ولم یعلن عن نسخه، فهو حجّة علینا، لأنّه:

أوّلًا: إنّ النقل بنفسه بدون ردّ یعتبر نوعاً من


1- نهایة المحتاج إلی شرح المنهاج، ج 3، ص 375.
2- نقل فی کتاب أنوار الفقاهة، ج 1، ص 51 فی کتاب البیع هذا القول عن العلّامة فی النهایة.
3- أنوار الفقاهة، ج 1، ص 36 و 62، کتاب البیع.
4- سورة الشوری، الآیة 13.
5- سورة البقرة، الآیة 183.
6- سورة المائدة، الآیة 1.
7- مصباح الأصول لآیة اللَّه الخوئی، ج 3، ص 149.
8- الأصول العامة، ص 430؛ الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 146؛ الأصول الإسلامیة منهجها وأبعادها، ص 270.

ص: 330

الإمضاء والتقریر(1).

ثانیاً: إنّ القرآن الکریم یؤکّد فی العدید من آیاته حقّانیّة الشرائع السابقة، (قبل التحریف) ومشارکة المسلمین لأتباع تلک الأدیان فی الأصول الکلیة ویوصیهم بسلوک طریقهم، کما فی قوله تعالی

«إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِیهَا هُدیً وَنُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ»(2).

ثالثاً: إنّ استصحاب أحکام الشرایع السابقة للأُمّة الإسلامیة یمکنه إثبات تلک الأحکام علی المسلمین أیضاً.

2. ذهب الکثیر من فقهاء الإمامیّة(3)، وکذلک الغزالی (4) والآمدی و (جمع من) الأشاعرة والمعتزلة(5) إلی عدم ثبوت أحکام الشرائع السابقة علی المسلمین، لإنّه:

أوّلًا: إنّ «معاذ بن جبل عندما توجّه إلی «الیمن» بأمر من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ذکر للنبیّ أنّه یعمل برأیه کآخر منبع للفتوی والاستنباط بدلًا من «الشرائع السابقة» حیث لم یذکرها فی کلامه (6).

ثانیاً: إذا کانت کتب الشرائع السابقة تعتبر منبعاً للإفتاء، فینبغی أن یوصی النبیّ صلی الله علیه و آله أو الأئمّة علیهم السلام بحفظها وتلاوتها.

ثالثاً: إذا کانت حجّة، فینبغی علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أن یستقی الأجوبة الشرعیة منها لا أن ینتظر وحیاً جدیداً للإجابة عن أسئلة المطروحة.

رابعاً: إذا کانت حجّة، فینبغی أن یتحرّک المسلمون علی مستوی الاستفادة من علماء أهل الکتاب مثل کعب الأحبار وعبداللَّه بن سلام بشکل واسع ویعمل هؤلاء العلماء علی نقل هذه المنابع للشریعة إلی المسلمین وعلی المسلمین أن یتقبّلوها من موقع الإذعان والإیمان (7).

خامساً: إنّ أحکام الشرائع السابقة الثابتة لأتباع تلک الأدیان والمختصّة بالظروف والمناسبات الخاصّة بتلک الأقوام لا یمکن تعمیمها علی أتباع الأدیان الأخری، لتغیّر الموضوع فیها(8).

(وطبعاً هذه الأدلّة تتناسب مع بحث أصل ثبوت أحکام الشرائع السابقة بشکل مطلق وتعمل علی نفیها، لا الأحکام التی صرّح الإسلام بإثباتها أو نفیها).

وعلی أیّة حال، وعلی أساس هذا الاختلاف فی ثبوت أحکام الشرائع السابقة وعدم ثبوتها نری حدوث اختلاف بین الفقهاء فی بعض المسائل الشرعیة، من قبیل:

أ) دفع نصف الدیة فی قصاص الرجل بقتله امرأة

إنّ جمیع فقهاء الإسلام متّفقون علی أنّ الرجل إذا قتل امرأة فإنّ أولیاء الدم یمکنهم المطالبة بالقصاص منه، ولکن مع ملاحظة أنّ دیة المرأة علی النصف من دیة الرجل فی جمیع المذاهب الإسلامیة، فوقع کلام بین الفقهاء فی مسألة: هل یجب دفع نصف الدیة لأولیاء القاتل لیمکن بالتالی القصاص منه فی مقابل قتله المرأة أم لا؟

وقد أفتی فقهاء المذاهب الأربعة(9) علی أساس ما


1- مصباح الأصول، ج 3، ص 149.
2- سورة المائدة، الآیة 44.
3- مصباح الأصول، ج 3، ص 149.
4- المستصفی، ج 1، ص 247.
5- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 147.
6- السنن الکبری، ج 10، ص 114؛ مسند أحمد، ج 5، ص 230.
7- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 148.
8- مصباح الأصول، ج 3، ص 149.
9- أثر الأدلة المختلف فیها، ص 553.

ص: 331

یستوحونه من الآیة الشریفة: «وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَیْنَ بِالْعَیْنِ ...»(1). بتساوی الرجل والمرأة فی القصاص حیث کان هذا الحکم مذکوراً فی شریعة الیهود وبالإمکان سریانه إلی الشریعة الإسلامیة لأنّه لم یرد منع من ذلک من القرآن والسنّة(2).

وأمّا فقهاء الإمامیّة وکذلک عطاء وعثمان البستی وأحمد و الحسن البصری (علی روایة) قالوا:

بلزوم دفع نصف الدیة من قِبل أولیاء دم المقتولة إلی أولیاء القاتل، لأنّ شریعة الیهود لا تعتبر حجّة علی المسلمین فی مورد وجود الناسخ، بل إنّ روایة الإمام علیّ علیه السلام فی هذا المورد هی الحجّة(3) حیث قال:

«ومن الناسخ ما کان مثبتاً فی التوراة من الفرائض فی القصاص وهو قوله تعالی

«وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَیْنَ بِالْعَیْنِ»

فکان الذکر والأنثی والحرّ والعبد شرعاً فنسخ اللَّه تعالی ما فی التوراة بقوله تعالی:

«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَی الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَی بِالْأُنثَی »(4).

وکذلک ما ورد فی الحدیث الصحیح عن عبداللَّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إن شاء أهلها أن یقتلوه قتلوه ویؤدّوا إلی أهله نصف الدّیة وإن شاءوا أخذوا نصف الدّیة خمسة آلاف درهم»(5).

ب) إجبار الشریک علی التوقیت

إنّ أحد الطرق للاستفادة المشترکة من مال معیّن لشریکین هو «توقیت الاستفادة» بأن ینتفع کلّ شریک من ذلک المال بوقت معیّن، ثمّ یأتی دور الثانی، ولکن هل یتمکّن أحد الشریکین إجبار الشریک الآخر بقبول هذه الطریقة، وبالتالی تعیین وقت محدّد لکلّ واحد منهما للاستفادة من العین؟

ذهب بعض فقهاء الإمامیّة، والشافعیّة، والمالکیّة والحنبلیّة(6) إلی الجواز، لأنّ الوارد فی شریعة الیهود جواز ذلک مثل «لَهَا شِرْبٌ وَلَکُمْ شِرْبُ یَوْمٍ مَّعْلُومٍ»(7). و «وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَیْنَهُمْ»(8).

ولکن مع ملاحظة أنّ أکثر فقهاء الإمامیة لا یرون حجّیة استصحاب الشرائع السابقة، فلا طریق أمامنا سوی قبول المصالحة واتّفاق الطرفین.

***

ومع ملاحظة ما تقدّم آنفاً فی بیان منابع اختلاف الفتوی، من جهة منابع الاستنباط، یتبیّن وجود اختلاف ونقاش فی حجّیة وعدم حجّیة الکثیر من هذه المنابع، وطبعاً فإنّ هذا الاختلاف یمکن أن یعود إلی الاختلاف فی مبانی الحجّیة أیضاً، ومن الواضح أنّ أحد العوامل المهمّة اختلاف ینشأ من الاختلاف فی هذه المنابع والمبانی للاستنباط، فکلّ فقیه یقول بحجّیة کلّ واحدٍ من هذه المبانی، یختلف بالتالی فی طریقة استنباطه مع الأشخاص الذین لم یقبلوا هذه المبانی، والفقهاء الذین لایختلفون فی هذه المبانی نراهم یملکون منهجاً واحداً فی عملیة الاستنباط.


1- سورة المائدة، الآیة 45.
2- أثر الأدلة المختلف فیها، ص 553.
3- المصدر السابق.
4- وسائل الشیعة، ج 19، ص 62، الباب 33 من أبواب القصاص فی النفس.
5- المصدر السابق، ص 59، ح 1.
6- أثر الأدلة المختلف فیها، ص 548.
7- سورة الشعراء، الآیة 155.
8- سورة القمر، الآیة 28.

ص: 332

العامل الثانی: العثور أو عدم العثور علی النص

اشارة

إنّ السیر الطبیعی لإطّلاع الصحابة علی أحادیث النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله کان بهذه الصورة، فی البدایة یخاطب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله واحداً أو مجموعة منهم بشکل مباشر ویملی علیه الحدیث، ثمّ ینتقل هذا الحدیث بواسطته إلی الآخرین، ومن الطبیعی أن تقوم تلک الطائفة من الصحابة التی سمعت الحدیث بالعمل به، أمّا من لم یسمعوا هذا الحدیث، فمن الطبیعی أن یعملوا علی أساس علمهم السابق، وهذا الأمر بحدّ ذاته یوجب وقوع الخلاف بینهم، مثلًا:

ألف) إنّ عمر لم یسمع بالحدیث عن «نهی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عن دخول المدینة التی تفشّی فیها الوباء» ولذلک عزم علی دخول الشام التی شاع فیها مرض الطاعون، ولکنّ عبدالرحمن بن عوف الذی کان قد سمع الحدیث الشریف أفتی بحرمة الدخول إلیها(1).

ب) مخالفة عمر لفتوی أبی موسی بالنسبة لحدیث الاستئذان. وتوضیح ذلک أنّ أباموسی کان قد سمع من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ الشخص إذا استأذن ثلاث مرات لدخول دار معیّنة ولم یسمع جواباً فعلیه أن یرجع، ولذلک عندما استأذن علی عمر ثلاث مرات ولم یسمع جواباً عاد من حیث أتی، ولکن بما أنّ عمر لم یکن عالماً بهذا الحدیث فقد اعترض علیه، بل حتّی أنّه بعد أن أخبره أبو موسی بحدیث الإستئذان المذکور لم یقبله. ولکن عندما شهد أشخاص آخرون علی صحّة هذا الحدیث قبله (2).

وهذا المقدار من التفاوت فی مساحة العلم والاحاطة بالأحادیث النبویة استمرّ وامتدّ إلی الأجیال اللاحقة (التابعین وما بعدهم) وعلی هذا الأساس نری وجود اختلاف فی الفتاوی فی القرون اللاحقة، مثل:

أ) إنّ حدیث «القلّتین» بالنسبة لماء الکرّ، وحدیث «خیار المجلس» لم یصلا إلی عامة الفقهاء إلی زمان الشافعی، ولذلک لم تصدر فتوی من الفقهاء بالنسبة «للقلّتین» قبل ذلک الزمان، ولکنّهم أفتوا بعد ذلک بهذه الفتوی (3).

ب) کان الشافعی یصدر فتاواه علی أساس ما اکتسبه من معارف ومبانٍ فقهیة فی مدرسة أبی حنیفة فی بغداد عن طریق محمّد بن الحسن الشیبانی ما درسه عند مالک فی المدینة، ولکن بعد أن سافر إلی مصر ومناطق إسلامیة أخری واطّلع علی أحادیث جدیدة فإنّه قام بتغییر عشرات الفتاوی التی کان یفتی بها فی السابق (4)، من قبیل:

اختلاف فتاوی الشافعی القدیمة والمتأخّرة:

1. فی مورد التیمّم حیث کان یفتی فی السابق بکفایة ضربة واحدة علی التراب للوجه والکفّین، ولکنّه فی فتاواه المتأخّرة ذهب إلی لزوم ضربتین، إحداهما للوجه والأخری للکفین (5).

2. فی مورد تقدّم المأموم علی الإمام، فقد کان یفتی


1- أثر الاختلاف، ص 44.
2- مسند أحمد، ج 3، ص 19( مع اختلاف یسیر)؛ صحیح البخاری، ج 8، ص 157؛ أسباب اختلاف الفقهاء للترکی، ص 28.
3- حجة اللَّه البالغة، ج 1، ص 147.
4- الشافعی، حیاته وعصره لمحمّد أبوزهر، ص 375.
5- المجموع فی شرح المهذب لمحیی الدین بن النووی، ج 2، ص 210.

ص: 333

فی فتاواه القدیمة بصحّة الصلاة، ولکنّه ذهب إلی بطلانها فی فتاواه الجدیدة(1).

3. إذا ذبح المحرم صیداً، فإنّه یعتبر میتة فی فتواه الجدیدة ویحرم التناول من لحمه (2)، ولکنّه طبقاً لفتواه القدیمة فی کتاب الإملاء أنّه لا یعدّ میتة وإن کان یحرم أکله (3).

4. کانت فتواه القدیمة تقرّر وجوب الزکاة علی الزیتون، ولکنّه طبقاً لفتواه المتأخّرة ذهب إلی عدم وجوبها(4).

ج) إنّ الکثیر من الاختلافات الفتوائیة لأبی حنیفة مع سائر الفقهاء ناشئة من قلّة عدد الروایات التی کان یفتی علی أساسها فی الکوفة، خلافاً لمالک الذی کان یملک الکثیر من الروایات فی المدینة والتی کانت مصدر فتاواه الخاصّة.

د) بالنسبة لفتاوی فقهاء الإمامیة نواجه أیضاً هذه الظاهرة، ومن ذلک مسألة قول

«ربّنا ولک الحمد»

بعد الرکوع. حیث نقل الشهید الأوّل فی کتابه «الذکری» حدیثاً عن محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده، قال من خلفه:

ربّنا لک الحمد ...»(5).

ولذلک أفتی الشهید وصاحب الحدائق أیضاً باستحباب هذه الجملة.

ولکنّ المحقّق الحلّی لم یفتِ بهذه الفتوی فی کتابه «المعتبر»، لأنّه یری أنّ هذا الحدیث غیر موجود فی کتب الإمامیة.

ویقول صاحب الحدائق بعد نقله لهذه القضیة:

الظاهر أنّ سبب مخالفة المحقّق لهذه الفتوی أنّه لم یصل إلیه حدیث الإمام صادق علیه السلام (6).

وهناک موارد أخری مشابهة فی الکتب الفقهیة حیث إنّ عدم توصّل بعض الفقهاء لعدد من الأحادیث أدّی إلی اختلافهم فی الفتوی، لأنّ الکتب الحدیثیة کانت فی ذلک الزمان خطّیّة ولم تکن جمیع النسخ متوفّرة عند بعض الفقهاء.

نسیان الحدیث:

أحیاناً یوجب حدیث خاصّ یدلّ علی حکم فقهیّ معیّن أن یفتی الفقیه خلافاً لفتوی الآخرین، مثل حدیث التیمّم فی قضیة نسیان الخلیفة الثانی له، وقد أفتی بعدم وجوب الصلاة للجنب الذی لیس لدیه ماء للغسل:

«إنّ رجلًا أتی عمر فقال: إنّی أجنبتُ فلم أجِدْ ماءً؟

فقال: لا تُصَلِّ. فقال عمّار: أما تذکر یا أمیرالمؤمنین إذ أنا وأنت فی سریّةٍ فأجنَبْنا فلم نَجِدْ ماء، فأمّا أنت فلم تصلّ وأمّا أنا فَتَمَعَّکتُ فی التراب وصَلّیت فقال النبیّ صلی الله علیه و آله:

«إنّما کان یَکفِیک أن تضرِبَ بیدَیک الأرضَ ثُمَّ تَنفُخ ثُمّ تمسَح بهما وجْهَک وکَفَّیک؟» فقال عمر: إتَّقِ اللَّه یا عمّار! قال: إن شئت لم أحدِّث به»(7).

العامل الثالث: الإختلاف فی معیار و ثاقة الرواة

اشارة

لقد تحرّک المحدّثون والفقهاء فی علمی الحدیث وأصول الفقه من موقع تشخیص المعاییر لوثاقة الرواة


1- الأم، ج 1، ص 169؛ المجموع فی شرح المهذب، ج 4، ص 299.
2- المجموع فی شرح المهذب، ج 7، ص 441.
3- المصدر السابق، ص 304.
4- فتح العزیز فی شرح الوجیز لعبدالکریم بن محمّد الرافض، ج 5، ص 561.
5- وسائل الشیعة، ج 4، ص 940، ح 4، باب 17،( أبواب الرکوع).
6- الحدائق الناضرة، ج 8، ص 266.
7- صحیح مسلم، ج 1، ص 193، کتاب الحیض، باب التیمم.

ص: 334

لیتسنّی لهم بالتالی معرفة شروط قبول روایة الراوی، وبالطبع فهؤلاء العلماء یتّفقون فیما بینهم علی بعض هذه الشروط من قبیل: (الصدق» ویختلفون فی بعضها الآخر أیضاً، وهذا الاختلاف بدوره أدّی إلی اعتقاد البعض بفقدان عدد من الأحادیث لشروط الحجّیة، وبالتالی لم یفتوا علی أساسها، فی حین أنّ الآخرین الذین یرون اعتبار ووثاقة هذه الأحادیث أفتوا علی أساسها. والمعاییر مورد الاختلاف عدیدة، مثل:

1. کون الراوی موافقاً فی المذهب

إنّ بعض المحدّثین والفقهاء من الشیعة أو السنّة لم یعتبروا هذا الشرط فی وثاقة الراوی، ولذلک فإنّهم یقبلون بالأحادیث التی وردت عن الرواة الثقات وإن کانوا من مذاهب أخری وأفتوا علی أساسها. ویصطلح علماء الشیعة علی مثل هذه الأحادیث التی یرویها الثقة من أهل السنّة ب «الأحادیث الموثّقة» ویفتون علی أساسها حیث نری الاستفادة من هذه الأحادیث فی مئات المسائل الشرعیة فی جمیع أبواب الفقه الشیعی (1)، ویمکن الإشارة إلی الکثیر من الرواة من أهل السنّة الذین استفاد فقهاء الشیعة من روایاتهم فی عملیة الاستنباط الفقهی (2). کما أنّ جماعة من فقهاء وعلماء أهل السنّة یعتمدون علی الرواة الشیعة الذین ثبت لدیهم صدقهم ووثاقتهم، مثل:

1. أبان بن تغلب 2. إبراهیم بن یزید النخعی 3. أحمد بن مفضّل الکوفی 4. ثابت بن دینار أبی حمزة الثمالی 5. جابر بن یزید الجعفی 6. حبیب بن أبی ثابت الأسدی الکاهلی 7. حمّاد بن عیسی الجهنی 8. حمران ابن أعین 9. سعید بن هیثم الهلالی 10. سلیمان بن صرد الخزاعی 11. شریک بن عبداللَّه بن سنان بن أنس 12. شعبة بن الحجاج 13. صعصعة بن صوحان 14. طاووس بن کیسان 15. عامر بن واثلة وغیرهم کثیر(3).

ولکن بعض الفقهاء لا یملکون سعة الصدر هذه ویشترطون فی قبول روایة الراوی (الموافقة فی المذهب) فحتّی لو کان ذلک الراوی صادقاً وعلی درجة عالیة من النزاهة والتقوی فإنّ هؤلاء الفقهاء وبجرم عدم توافق الراوی فی المذهب معهم لا یقبلون منه حتی الأحادیث النبویّة، من قبیل:

بالنسبة للمرأة التی رأت الحیض لمدّة 12 یوماً مثلًا، وانقطع عنها الدم ظاهراً وشکّت فی أنّها صارت طاهرة لتتمکّن من الصلاة أم لا؟ فقد أفتی مالک بأنّه یجب علیها الاستظهار والانتظار إلی إکمال 15 یوماً ثمّ تغتسل وتصلّی.

وذهب بعض أتباعه إلی أنّ دلیله علی هذه الفتوی هو حدیث «حزام بن عثمان» عن جابر بن عبداللَّه وبعض آخر أشکل علی هذا الحدیث أنّ راوی هذا الحدیث (حزام) غیر ثقة.

ولکن عندما نتحرّک علی مستوی الکشف عن هذه المسألة بمراجعة کتب الرجال المهمّة عند أهل السنّة،


1- راجع: جواهر الکلام فی أبواب مختلفة.
2- لمزید من التفاصیل راجع کتاب« راویان مشترک» تألیف حسین عزیزی و معاونیه، طبع مکتب الإعلام الإسلامی، حیث یشمل سیرة 274 راوٍ مشترک بین الشیعة وأهل السنّة، وفی نهایة الکتاب ذکر أسماء 817 نفراً من الرواة المشترکین الآخرین.
3- نقل السیّد شرف الدین الموسوی فی کتابه المراجعات من ص 50 إلی 160، أسماء 100 نفراً من المحدّثین والرواة الکبار من الشیعة الذین کان لهم دور مهم فی سلسلة سند روایات کتب أهل السنّة مع بعض المؤیدات من قبل علماء أهل السنّة.

ص: 335

نجد أن سرّ عدم وثاقته أنّه کان شیعیاً وإمامیاً.

وقد نقل البخاری فی کتابه «التاریخ الکبیر» عن الزبیر:

«کان حزام یتشیّع»(1).

و یقول الخطیب البغدادی فی «تاریخ بغداد»:

«قال ابن الغلابی: وکان حزام شیعیّاً»(2).

2. الاختلاف فی وثاقة الراوی

وأحیاناً یتّفق الفقهاء فی الضوابط والشروط المقرّرة لوثاقة الرواة، ولکنّهم یختلفون فی توفّر هذه الشروط لدی بعض الرواة للأحادیث، وعلی أساس هذا الاختلاف یری فقیه معیّن أنّ ذلک الحدیث صحیح وحجة ویفتی طبقاً له، بینما یری فقیه آخر أنّ ذلک الحدیث غیر صحیح، وبالتالی فإنّه یفتی استناداً لأدلّة أخری، علی سبیل المثال:

إنّ مقدار دیة قطع جمیع الأصابع لید واحدة هو 500 دیناراً، أی نصف الدیة الکامل للإنسان. ولکن إذا قطع بعض الأصابع، فهل أنّ کلّ إصبع یتساوی فی الدیة مع باقی الأصابع، أم أنّ إصبع الابهام له سهم أکبر؟

ذهب بعض فقهاء الإمامیّة مثل أبی الصلاح فی «الکافی»(3) وابن حمزة فی کتابه «الوسیلة»(4) و الشیخ الطوسی فی کتابه «الخلاف»(5) و «المبسوط»(6) (نقلًا عن أکثر الأصحاب) إلی أنّ دیة إصبع الإبهام تساوی ثلث دیة جمیع الأصابع، (500 دیناراً) وثلثی الدیة یقسّم بین الأصابع الأربعة الأخری بالسویة، ودلیلهم علی ذلک الروایة التی نقلها الشیخ الصدوق فی «من لا یحضره الفقیه» عن کتاب «ظریف» أنّه:

«فی الإبهام إذا قطع ثلث دیة الید مائة دینار وستّ وستّون دیناراً وثلثا دینار ... وفی الأصابع فی کلّ أصبع سدس دیة الید ثلاثة وثمانون دیناراً وثلث دینار ...»(7).

ولکنّ أکثر فقهاء الإمامیّة(8) ذهبوا إلی تساوی دیة الإبهام مع سائر الأصابع الأخری لأنّه أوّلًا: أنّ بعض الفقهاء کالشهید فی «المسالک» یری ضعف طریق «ظریف»(9) فی إسناده، وثانیاً: وجود أحادیث صحیحة تدّل علی التساوی، مثل: حدیث الحلبیّ:

«سألت أباعبداللَّه علیه السلام عن الأصابع أهنّ سواء فی الدیة؟ قال: نعم»(10).

العامل الرابع: الإختلاف فی جهة صدور الحدیث

اشارة

وأحیاناً تکون صحّة صدور الحدیث مورد قبول الفقهاء واتّفاقهم، ولکنّ هذا الحدیث لا یصلح لاستنباط الحکم الشرعی، من جهتین:

أ) الشکّ فی کون الحکم ثابتاً أم مؤقّتاً

اشارة

بالرغم من أنّ أغلب الأحادیث الفقهیة الواردة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام تتضمّن أحکاماً ثابتة وواقعیة وتستوعب جمیع العصور والأزمان، ولکن أحیاناً یصدر الشارع المقدس حکماً علی أساس أنّه


1- التاریخ الکبیر، ج 3، ص 101.
2- تاریخ بغداد، ج 8، ص 274.
3- الکافی، ص 398؛ مسالک الافهام، ج 15، ص 429.
4- الوسیلة، ص 452.
5- الخلاف، ج 5، ص 248، المسألة 50، من کتاب الدیات.
6- المبسوط، ج 7، ص 143.
7- من لا یحضره الفقیه، ج 4، ص 54.
8- جواهرالکلام، ج 43، ص 252.
9- مسالک الأفهام، ج 15، ص 429.
10- وسائل الشیعة، ج 19، الباب 39 من أبواب دیات الأعضاء، ح 3.

ص: 336

حکم حکومیّ أو حکم مؤقّت یختصّ بظروف خاصّة فی دائرة الزمان والمکان.

ومن الطبیعی أنّ الحدیث إذا کان مورد الشکّ فی کونه یبیّن حکماً تشریعیاً أو حکومیاً، فإنّ ذلک یفضی إلی اختلاف المجتهدین فی الفتوی، مثل:

1. الصیام فی «یوم عاشوراء»

لقد وردت أحادیث متعدّدة ومختلفة عن أهل البیت علیهم السلام بالنسبة لحکم الصیام فی یوم عاشوراء، فبعض یدلّ علی استحباب الصوم فیه (1) وبعض آخر ینهی عن ذلک (2).

وعلی هذا الأساس اختلفت فتاوی الفقهاء، فکلّ فقیه استند إلی بعض المرجّحات للأخذ بإحدی هاتین الطائفتین من الروایات وأفتی علی أساسها(3).

وربّما تصوّر المفتون بالاستحباب فی هذه المسألة أنّ النهی عن الصیام فی یوم عاشوراء إنّما کان مختصّاً فی ذلک الوقت لمنع الناس من التشبّه بعمل بنی أمیّة وهذا الموضوع منتفٍ فی هذا العصر.

2. زکاة الخیل

ویری أکثر فقهاء أهل السنّة عدم وجوب الزکاة علی الخیل، خلافاًلأبی حنیفة الذی ذهب إلی وجوب الزکاة علی الخیل لما ورد فی الحدیث النبویّ

«فی الخیل السائمة فی کلّ فرس دینار».(4)

ولکن سائر الفقهاء ذهبوا إلی ضعف هذا الحدیث (5).

وأمّا فی دائرة الفقه الشیعی وبسبب وجود طائفتین من الروایات تدلّ إحداها علی حصر الزکاة فی تسعة أشیاء، وتدلّ الأخری علی وجوب الزکاة فی الخیل، فقد وقع خلاف بین هؤلاء الفقهاء، فذهب الأکثر إلی الاستحباب (6)، ولکنّ البعض احتمل أنّ هذا الحدیث الصحیح الذی یدلّ علی وجوب الزکاة علی الخیل کاشف عن حکم حکومیّ لأمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام بالنسبة للزکاة علی الخیل، لا أنّه أمر إلهیّ دائمیّ، استحبابیّ أو وجوبیّ، وعلیه لا یمکن استنباط حکم ثابت شرعیّ من هذا الحدیث علی وجوب أو استحباب الزکاة علی الخیل، بل هو حکم مختصّ بتلک الفترة الزمنیة الخاصّة(7).

3. حکم صناعة التماثیل

وردت أحادیث کثیرة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی المصادر الروائیة لدی الشیعة وأهل السنّة، وکذلک أحادیث متعدّدة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام تقرّر حرمة صناعة تماثیل الإنسان والحیوانات وسائر الموجودات الحیّة(8).

وقدأفتی أکثر فقهاء المذاهب الإسلامیة من أهل السنّة والشیعة علی أساس هذه الروایات بتحریم صناعة تماثیل الکائنات الحیّة، بل إنّ فقهاء الشیعة کصاحب الجواهر(9)، والشیخ الأنصاری (10) فی کتابه


1- وسائل الشیعة، ج 7، الباب 20 من أبواب الصوم المندوب، ح 3.
2- المصدر السابق، الباب 21 من أبواب الصوم المندوب، ح 3.
3- جواهر الکلام، ج 17، ص 105.
4- سنن الدار القطنی، ج 2، ص 109.
5- المغنی، ج 2، ص 491.
6- جواهر الکلام، ج 15، ص 292.
7- وسائل الشیعة، ج 6، الباب 16 من أبواب ما تجب فیه الزکاة، ح 1 و 2.
8- انظر: شرح النووی علی صحیح مسلم، ج 13 و 14، ص 329، ح 2106؛ وسائل الشیعة، ج 3، ص 560- 563.
9- جواهر الکلام، ج 22، ص 41.
10- المکاسب المحرمة، للشیخ الأنصاری، المسألة 4 من مسائل« النوع الرابع ما یحرم الاکتساب به لکونه عملًا محرّماً فی نفسه».

ص: 337

«المکاسب» وآیة اللَّه الخوئی فی «مصباح الفقاهة»(1) ومن فقهاء أهل السنّة کعبدالرحمن الجزیری فی «الفقه علی المذاهب الأربعة»(2) والدکتور وهبة الزحیلی فی «الفقه الإسلامی»(3) ادّعوا الإجماع علی هذا الحکم الشرعیّ.

ولکن بعض قدماء الإمامیّة مثل الشیخ الطوسی فی «تفسیر التبیان»(4) والطبرسی فی «مجمع البیان»(5) قالوا بالکراهة الشدیدة وأنّ الحکم بالحرمة یختصّ بصناعةالأصنام، وقد ذهب بعض المعاصرین من الفقهاء أیضاً إلی هذا القول (6).

إنّ منشأ هذا الاختلاف فی الفتوی هو الاختلاف فی فهم توقیت الحکم بحرمة صناعة التماثیل والصور الوارد فی الأحادیث المتعدّدة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام. فالطائفة الأولی من الفقهاءتری أنّ هذا الحکم یعدّ حکماً تکلیفیاً ثابتاً علی امتداد الزمان، أمّا الطائفة الثانیة فتری أنّه مؤقّت ومختصّ بظروف صدر الإسلام، حیث کان المسلمون یعیشون رسوبات الجاهلیة عند مواجهة الصور والتماثیل التی کان یعبدها المشرکون ویتعاملون معها من موقع التکریم والتقدیس والاحترام، فهذه المظاهر للشرک والوثنیة کانت تتجلّی أحیاناً بین الفینة والأخری فی سلوکیات الناس فی ذلک العصر.

ویقول أحد الفقهاء المعاصرین: «إنّ ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحکم والموضوع أنّ المراد بالتماثیل والصور فیها هی تماثیل الأصنام التی کانت مورد العبادة، کقوله:

«من جدّد قبراً أو مثّل مثالًا فقد خرج عن الإسلام»(7)

وقوله:

«من صوّر التماثیل فقد ضادّ اللَّه»(8)

وفیه احتمال آخر ینسلک فی الطائفة الثانیة، قوله:

«أشدّ الناس عذاباً یوم القیامة رجل قتل نبیّاً أو قتله نبیّ، ورجل یضلّ الناس بغیر علم، ومصوّر یصوّر التماثیل»(9).

ومن الواضح أنّ هذا العذاب الشدید لا یتناسب مع مجرّد رسم الصور أو صناعة التماثیل، لأنّ إثم هذه الأعمال فی شکلها العادی والطبیعی (فی غیر صورة عبادة الأصنام» لیس أکثر شناعة من قتل النفس والزنا وشرب الخمر وسائر الکبائر والموبقات، فکیف تعدّ من قبیل قتل الأنبیاء؟

وعلیه فالمقصود من تصویر أو صناعة هذه التماثیل أمر یساوق واقعاً قتل النبیّ والحرب مع اللَّه والخروج من الدین ولیس ذلک سوی صناعة الأوثان (10).

ب) الاختلاف فی کون الحدیث واقعیاً أو صادراً عن تقیّة

اشارة

بعد اسشتهاد الإمام علیّ، والإمام الحسن والإمام الحسین علیهم السلام والمجزرة الدامیة فی یوم عاشوراء، اشتدّت وطأة الحکومات الأمویة والعباسیة علی أتباع وشیعة أئمة أهل البیت علیهم السلام بشکل کبیر بحیث أنّ هذه الحکومات الجائرة کانت تقوم بسجن آلاف الأشخاص من أصحاب أئمة أهل البیت وأتباعهم بجرم اتّباعهم


1- مصباح الفقاهة لآیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 286.
2- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 2، ص 39- 41.
3- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 4، ص 2674.
4- التبیان فی تفسیر القرآن، ج 1، ص 236.
5- مجمع البیان، ج 1، ص 212، ذیل الآیة 51 من سورة البقرة.
6- أنوار الفقاهة،( المکاسب المحرمة)، ص 113.
7- وسائل الشیعة، ج 3، ص 208، ح 3424.
8- مستدرک الوسائل، ج 13، ص 210، ح 15134.
9- المصدر السابق،، ح 4، باب 75،( أبواب ما یکتسب به).
10- المکاسب المحرمة للإمام الخمینی، ج 1، ص 257 و 258.

ص: 338

تعالیم مدرسة أهل البیت، وتلقی بهم فی طوامیر الحجّاج بن یوسف الثقفی (1) وأمثاله، أو تقوم بإعدامهم وقتلهم، ومن هنا فإنّ وجوب حفظ النفس یقتضی أحیاناً أن یقوم أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی حال الإحساس بالخطر الجدّی لبعض الشیعة، إصدار حکم طبقاً للمذهب السنّی الحاکم فی ذلک العصر، بدافع التقیة، ویوصون بالعمل بهذا الحکم لتحقیق الانسجام مع تلک الأجواء الثقافیة والاجتماعیة حسب الظاهر. وبالتالی فإنّ الحکومات الجائرة ستترکهم ولا تتعقّبهم. بالرغم من أنّ هذا الحکم مخالف لتعالیم الإمام الواردة عن جدّه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إلّاأنّه یحقّق للمؤمن حفظ نفسه من الوقوع فی الهلکة، ومعلوم أنّ حفظ نفس المؤمن أهم عند اللَّه من حفظ حکم شرعی فرعی. وهذه الظاهرة المرّة فی التاریخ الإسلامی أدّت إلی صدور روایات عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام من موقع التقیة.

ولذلک فإنّ فقهاء الشیعة عندما یواجهون مثل هذه الأحادیث الصادرة بشکل قطعیّ من موقع التقیة فإنّهم لا یفتون علی أساسها، وإذا حصل لدیهم شکّ وتردّد فی حدیث من الأحادیث فإنّ ذلک یؤدّی غالباً إلی اختلافهم فی الفتوی، علی سبیل المثال:

استحباب الصوم یوم عاشوراء:

لقد وردت طائفتان من الروایات عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام بالنسبة لهذا الموضوع. وذهب أکثر القدماء من فقهاء الشیعة إلی ترجیح الروایات التی تدلّ علی الاستحباب وأفتوا بذلک، ولکنّ بعض المتأخّرین حملوا هذه الطائفة من الروایات علی التقیّة، ولإثبات کونها صادرة من موقع التقیة قالوا: بما أنّ فقهاء أهل السنّة یقولون باستحباب الصوم یوم عاشوراء، فإنّ صیام المسلم فی هذا الیوم یعدّ علامة علی عدم تشیّعه، فالظاهر أنّ هذه الروایات قد صدرت من أئمّة أهل البیت انسجاماً مع فقه أهل السنّة وعلی أساس التقیة وضرورة مداراة الشیعة للحکّام من أهل السنّة فی ذلک الوقت.

وعلی هذا الأساس فإنّ مبنی الأحادیث التی تدلّ علی استحباب صوم یوم عاشوراء الموافق لفقه الحکّام فی ذلک العصر، ینبغی حمله علی «التقیة» وبالتالی فهی غیر قابلة للاستناد فی إصدار الحکم الشرعی، وأفتی هؤلاء الفقهاء علی أساس أحادیث النهی ب «الکراهة» وأحیاناً أفتوا بحرمة الصوم فی هذا الیوم (2).

العامل الخامس: الإختلاف فی نسخ الحکم

أحیاناً یتّفق فقهاء الإسلام علی ورود تشریع معیّن فی القرآن أو السنّة، ولکنّهم یختلفون فی هل أنّ هذا الحکم الشرعیّ نسخ بنصّ آخر أم لا؟ علی سبیل المثال:

بالنسبة لآیة الاستمتاع: «... فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ...»(3). فقد ذهب جماعة من علماء أهل السنّة کالشافعی والقرطبی (4) وکذلک یتّفق فقهاء


1- تولی الحجاج بن یوسف الثقفی ولایة العراق وکان عمره 20 عاماً، وقتل 120 ألف إنسان بدون شفقة ورحمة، ومات فی سجنه 50 ألف رجل و 30 ألف امرأة.( مآثر الانافة فی معالم الخلافة، القلقشندی الشافعی( مؤلّف نهایة الأرب وصبح الأعشی)، وبالطبع أنّ حکّام بنی العبّاس لم یکونوا أقلّ فضاعة من حکّام بنی أمیّة فی قمع وقتل الشیعة وأتباع أهل البیت علیهم السلام.
2- جواهر الکلام، ج 17، ص 105.
3- سورة النساء، الآیة 44.
4- تفسیر القرطبی، ج 5، ص 130.

ص: 339

الإمامیّة علی أنّ هذه الآیة تدلّ علی المتعة والزواج المؤقّت.

ولکن یری الشافعی أنّ الآیة 6 من سورة المؤمنون:

«وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَی أَزْوَاجِهِمْ ... فَمَنِ ابْتَغَی وَرَاءَ ذَلِکَ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الْعَادُونَ»(1) ناسخة لهذا الحکم. لأنّ المراد من «أزواجهم» الزوجات الدائمیات، وهذه الآیة الشریفة تعتبر أنّ نکاح غیر الزوجات بالعقد الدائمی، سواءً بالنسبة للأجنبیات أم الزوجات بالعقد المؤقّت، هو تعدٍّ علی حکم اللَّه تعالی، وبذلک أفتی علی هذا الأساس بحرمة المتعة(2).

وأمّا فقهاء الإمامیّة فإنّهم یرون أنّ کلمة «أزواجهم» مطلقة وتشمل الزوجات بالعقد الدائم والمؤقّت، ویعتقدون بأنّه ما لم یقم دلیل قطعیّ علی تقیید هذا الحکم المطلق، فإنّه یجب اتّباع إطلاق النصوص الدینیة هذه ولا ینبغی رفع الید عن إطلاقها، ولم یروا أنّ هذه الآیة ناسخة لآیة الاستمتاع، ولذلک أفتوا باستمرار جواز المتعة، مضافاً إلی أنّ آیة الاستمتاع مدنیة والآیة الواردة فی سورة المؤمنون مکیة(3)، فکیف یمکن لآیة قرآنیة نازلة فی مکّة، أن تکون ناسخة لآیة أخری نزلت بعدها بعدّة سنوات فی المدینة(4).

وهناک آیات أخری أیضاً یطول المقام فی استعراضها وذکرها.

العامل السادس: الإختلاف فی قراءة الآیات أو نقل متون الحدیث

أ) الاختلاف فی قراءة الآیات

وأحیاناً یکون اختلاف القراءة علی مستوی الاختلاف فی إعراب الآیة مثل: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ ..»(5).

فذهب جمع من القرّاء إلی نصب کلمة «أرجلکم» وبعض آخر إلی قراءتها بالجرّ، والنصب من باب عطف «أرجلَکم» علی محلّ «برؤسکم» وبالتالی فإنّه یجب مسح «أرجلَکم» کما فی مسح الرأس، ویحتمل أیضاً أن یکون عطف «أرجلَکم» علی «وجوهکم» وحینئذٍ یجب غسل أرجلَکم کما فی غسل الوجه، فإذا قرئت الأرجل بالجرّ فالظاهر أنّها معطوفة علی «برؤسِکم» ویحکم بوجوب المسح، وهناک أیضاً احتمال أن یکون العطف علی «وجوهکم» فیجب حینئذٍ غسل الأقدام، وعلی أساس هذه الاحتمالات الأربعة فقد ذهب کلّ من الفقهاء إلی فهم معیّن من هذه الآیة وأفتوا به.

ویری فقهاء الإمامیّة وجوب مسح الأرجل، ولکن فقهاء المذاهب الأربعة یرون وجوب غسل الأرجل، والظاهریة یعتقدون بالجمع بینهما فی حین یری الطبری التخییر بینهما(6).

وعلی أساس القراءة بالنصب فی «أرجلکم» فقد استدلّ فقهاء أهل السنّة بأنّ عطف «أرجلکم» فی صورة النصب علی کلمة ظاهرها أنّها منصوبة ک «وجوهَکم» أفضل من العطف علی کلمة تقع مجرورة حسب الظاهر ولکن محلّها النصب مثل


1- سورة المؤمنون، الآیة 4- 6.
2- تفسیر الخازن، ج 1، ص 366.
3- مجمع البیان، ج 10، ص 211( تفسیر سورة الإنسان).
4- تفسیر المیزان، ج 3، ص 274.
5- سورة المائدة، الآیة 6.
6- أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة فی اختلاف الفقهاء، ص 38.

ص: 340

«برؤسکم» لأنّ العطف علی المحلّ خلاف الأصل، ونتیجة عطف «أرجلکم» علی «وجوهکم» یقتضی غسل الأقدام (1).

وقد استدلّ فقهاء الإمامیّة علی قولهم بوجوب المسح بأنّه «بالرغم من أنّ العطف علی المحلّ خلاف الأصل ولا ینبغی الذهاب إلیه بدون دلیل، ولکنّه أمر صحیح وشائع فی أدبیات العرب، ولکنّ عطف «أرجلکم» علی «وجوهکم» یستلزم وقوع جملة کاملة فاصلة بین المعطوف والمعطوف علیه، وما لم تکن هناک قرینة قطعیة علی ذلک، فإنّ مثل هذا العطف یعتبر خطأ بلاغیاً، لاسیما فی کلام بلیغ کالقرآن الکریم، مثل أن یقال:

«قبّلتُ وجهَ زید ورأسَه ومسحتُ بکتفِهِ ویدَه»

فی حین أنّ کلمة «یده» الورادة فی آخر الجملة معطوفة علی «وجه» إنّ العرف العربی والذوق الأدبی لا یری هذا الترتیب فی مثل هذه الموارد صحیحاً، بل ینبغی القول:

«قبّلتُ وجهَ زید ورأسَه ویدَه ومسحتُ بکتفِهِ»

ونقل کلمة «یَدَه» إلی آخر الجملة بحیث تکون بعد جملة «ومسحت بکتفه» غیر صحیح (2).

فکیف یعقل أن یکون القرآن الکریم یرتکب- نعوذ باللَّه- مثل هذا الخطأ الأدبیّ؟! ولذلک من الأفضل أن تکون کلمة «وأرجلکم» معطوفة علی «برؤوسکم».

وأحیاناً یکون الاختلاف فی القراءة فی هیئة الکلمة مثل: «وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الْمَحِیضِ قُلْ هُوَ أَذیً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِی الْمَحِیضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْنَ ...»(3).

فقد قرأ البعض «یَطهُرن» بمعنی انقطاع دم الحیض وبعض آخر قرأها «یطّهّرن» بمعنی الاغتسال، ومن الطبیعی أنّ بعض الفقهاء کفقهاء الإمامیة والحنفیة اختاروا القراءة الأولی وهی المتعارفة فی هذا الزمان وأفتوا علی هذا الأساس بجواز مقاربة الزوج لزوجته بعد انقطاع الدم وقبل الغسل (4)، بینما أفتی فقهاء المذاهب الأخری وعلی أساس القراءة الثانیة، بعدم جواز المقاربة قبل الغسل (5).

ب) الاختلاف فی نقل متن الحدیث

وأحیاناً یوجب اختلاف النقل لمتن الحدیث اختلافاً فی فتاوی الفقهاء، مثل:

1. کیفیة تطهیر الآنیة من ولوغ الکلب، وقد اختلفت فتاوی الفقهاء فی هذه المسألة تبعاً لما ورد فی الأحادیث النبویة:

أ)

عن أبی هریرة إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال: «إذا شرب الکلب فی إناء أحدکم فلیغسله سبع مرّات»(6).

ب)

عن أبی هریره إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال: «طهور إنائکم إذا ولغ فیه الکلب أن یغسله سبع مرّات، أُولاهنّ بالتراب»(7).

ومثل هذا الاختلاف فی النقل أدّی إلی اختلاف فتاوی فقهاء مذاهب أهل السنّة، مثلًا:

ذهبت المالکیة استناداً إلی الحدیث الأوّل بعدم وجوب «التتریب للإناء، کما أنّ الأحناف یرون ذلک واجباً أیضاً، بل أفتوا باستحبابه: وأمّا الشافعیة والحنبلیة فقد أفتوا بوجوب «التتریب» إستناداً للحدیث


1- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، ج 11، ص 149.
2- انظر: تفسیر المیزان، ج 6، ص 222.
3- سورة البقرة، الآیة 222.
4- جواهر الکلام، ج 3، ص 207.
5- التفسیر المنیر، ج 2، ص 297.
6- شرح النووی علی صحیح مسلم، ج 2، ص 186، ح 279، کتاب الطهارة.
7- المصدر السابق.

ص: 341

الثانی (1).

ج) ویری فقهاء الإمامیّة أنّ الواجب غسل الإناء ثلاث مرّات أولاهنّ بالتراب، لأنّه ورد فی أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام (2) وکذلک عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله الأمر بالغسل ثلاث مرّات، مثل:

قال النبیّ صلی الله علیه و آله: «إنْ ولغ الکلب فی إناء أحدکم فلیهرقه ولیغسله ثلاث مرّات»(3).

2. الجمع بین صلاتی الظهر والعصر فی أوّل وقت الظهر فی السفر (جمع التقدیم).

ومأخذ فتاوی الفقهاء فی ذلک، الحدیث النبویّ الذی ورد بنحوین مختلفین، فأدّی إلی بروز اختلاف فی الفتاوی:

الأوّل:

کان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إذا ارتَحَل قبل أن تَزِیغَ الشّمسُ أخَّر الظُّهرَ إلی وَقتِ العَصْرِ ثُمَّ نَزَل فجمَع بینَهُما، فإن زاغَتِ الشَّمسُ قبل أن یَرتَحِلَ صَلّی الظُّهْرَ ثُمَّ رَکِبَ (4).

الثانی:

إنّ النَّبیَّ صلی الله علیه و آله کان إذا ارتَحَل قبل أن تَزِیغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهْرَ إلی وَقتِ العَصْرِ ثُمَّ نَزَل فجَمَع بینَهُما، فإن زاغَتِ الشَّمسُ قبل أن یَرتَحِلَ صَلّی الظُّهْرَ و العَصْرَ ثُمَّ رَکِبَ (5).

وعلی أساس هذا الاختلاف فی متن الحدیث النبویّ ذهب الشافعیة والمالکیة وأهل المدینة إلی جواز جمع التقدیم وجمع التأخیر فی السفر استناداً إلی الحدیث الثانی، وذهب الحنابلة ضمن الفتوی بجواز الجمع وأنّ عدم الجمع أفضل، وذهب الأوزاعیّ والإمام مالک استناداً إلی الحدیث الأوّل إلی جواز جمع التأخیر وعدم جواز جمع التقدیم، بینما ذهب الأحناف إلی عدم الجواز فی أیّ منهما للمسافر(6).

وذهب فقهاء الإمامیّة إلی جواز جمع التقدیم وجمع التأخیر للمسافر وغیر المسافر، وقد استدلّوا لذلک، علاوة علی الأحادیث المتعدّدة الواردة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام التی تصرّح بالجواز(7)، بأحادیث نبویة واردة فی مصادر أهل السنّة(8).

العامل السابع: الإختلاف فی فهم و تفسیر الآیات و الروایات

اشارة

وأحد عوامل الاختلاف فی فتاوی الفقهاء والمجتهدین اختلافهم فی فهم وتفسیر النصوص القرآنیة أو الحدیثیة، وبالطبع هذا التردّد والاختلاف لا ینطلق من فراغ، بل ینشأ من سیاق هذه النصوص نفسها، وعندما نتحرّک علی مستوی دراسة مجمل هذه الاختلافات فی الرؤی والفهم للنصوص الشرعیة نلاحظ وجود عدّة أسباب لاختلاف الرأی فی فهم وتفسیر نصوص الآیات والروایات:

منشأ الاختلاف فی فهم ودلالة النصوص:

اشارة

1. الاشتراک اللفظی فی الکلمة، مثل:


1- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 1، ص 24؛ الاجتهاد فی علم الحدیث وأثره فی الفقه الإسلامی للدکتور علی نایف، ص 443- 457.
2- وسائل الشیعة، ج 2، ص 1090، ح 1، باب 70( أبواب النجاسات).
3- الجوهر النقی،( حاشیة سنن البیهقی)، ج 1، ص 241.
4- مجمع الزوائد للهیثمی، ج 2، ص 159؛ صحیح البخاری، کتاب تقصیرالصلاة، الباب 16، ح 1112؛ فتح الباری، ج 2، ص 741.
5- عون المعبود للعظیم الآبادی، ج 4، ص 61.
6- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 1، ص 483؛ الاجتهاد فی علم الحدیث، ص 474.
7- وسائل الشیعة، ج 3، ص 160، أبواب المواقیت، باب 32، أحادیث الباب.
8- صحیح مسلم، کتاب صلاة المسافرین، باب الجمع بین الصلاتین فی الحضر.

ص: 342

أ) الاشتراک اللفظی لإسم معیّن: «وَالْمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ...»(1).

فإنّ لفظ «قُرء» مشترک بین مفهومین متضادّین هما «الطهر» و «الحیض»، کما أنّ المفهوم السائد لدی الحجازیین لهذه الکلمة هو «الطهر» ولدی الکوفیین «الحیض»(2).

وقد ذهب بعض الفقهاء کأکثر الإمامیة(3)، إلی أنّ کلمة «قُرء» وردت علی أساس وضعها اللغوی بمعنی «جمع» وبما أنّ الدم یجتمع فی الرحم فی حال الطُهر فیکون المراد من هذه الکلمة ما یتناسب وحالة «طهر»، واختاروا أیضاً المفهوم الأول علی أساس ما ورد فی أحادیث أئمّة أهل البیت علیهم السلام (4) أیضاً، وأفتوا علی هذا الأساس بأنّ عدّة طلاق المرأة ثلاثة أطهار، کما أنّ عائشة وعبداللَّه بن عمر وزید بن ثابت والشافعی ومالک أفتوا أیضاً بهذه الفتوی (5).

ولکنّ البعض الآخر کأبی بکر، عمر، عثمان، أبی حنیفة وابن قدامة الحنبلی (6) ومذاهب أخری اختاروا المفهوم الثانی «للقرء» وذهبوا إلی أنّ عدّة الطلاق ثلاث حیضات، أی تستغرق مدّة أطول (7). وقد توقّف مالک فی هذه المسألة لهذا السبب (8).

وهذا الاختلاف نفسه أفضی أیضاً إلی الاختلاف فی حکم فقهیّ آخر (مسألة إرث المرأة المطلّقة فی العدّة)، لأنّه إذا مات الزوج فی هذه الفترة (المرّة الثالثة للحیض) فطبقاً للقول الثانی فإنّ هذه المرأة لا زالت فی العدّة وتعتبر زوجة شرعیة للمتوفّی وترثه، خلافاً للقول الأول (9).

ب) الاشتراک اللفظی لأحد الحروف یسبّب أحیاناً اختلافاً فی الفتوی، مثلًا: الحرف «أوْ» قد یأتی «للتخییر» أو «للتفصیل». من قبیل: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِینَ یُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلَافٍ أَوْ یُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...»(10).

فقد ذهب بعض الفقهاء مثل: الشیخ المفید، سلّار، ابن إدریس، المحقّق والعلّامة(11) من فقهاء الإمامیة، وکذلک الحسن البصری وسعید بن المسیّب ومجاهد من أهل السنّة إلی أنّ حرف «أوْ» فی هذه الآیة للتخییر، والقاضی مخیّر فی تنفیذ أیّة واحدة من هذه العقوبات للمفسد والمحارب، ولکنّ بعض الفقهاء، مثل: الشیخ الطوسیّ (12) من الإمامیّة والشافعی وأکثر علماء أهل السنّة(13) ذهبوا إلی أنّ «اوْ» لتفصیل الحکم، وقالوا: إنّ مقصود الآیة الشریفة وضع کلّ عقوبة لنوع معین من الإفساد والحرابة، وینبغی أن تکون العقوبة متناسبة ومتجانسة مع نوع الجرم، ویختار القاضی أحد هذه الأمور بما یحقّق هذا التجانس والتناسب (14).


1- سورة البقرة، الآیة 228.
2- الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیة لمحمّد صالح موسی حسین، ص 140.
3- الخلاف، ج 5، ص 54؛ جواهر الکلام، ج 32، ص 220.
4- وسائل الشیعة، ج 15، ص 426، باب 15، أبواب العدد؛ تفسیرالمیزان، ج 2، ص 251.
5- الخلاف، ج 5، ص 54.
6- المغنی لابن قدامة، ج 8، ص 480.
7- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 4، ص 443.
8- أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیّة، ص 72.
9- الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیة، ص 143.
10- سورة المائدة، الآیة 33.
11- مسالک الأفهام، ج 15، ص 8.
12- الخلاف، ج 5، ص 461.
13- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، فی ذیل الآیة 33 من سورة المائدة.
14- أثر اللغة فی اختلاف المجتهدین، لعبدالوهاب عبدالسلام الطویلة، ص 210.

ص: 343

وهکذا بالنسبة لحرف «باء» فی الآیة الشریفة:

«وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ»(1).

حیث ذهب بعض فقهاء الإمامیّة والشافعیّة والحنفیّة إلی أنّ حرف «باء» للتبعیض أو الإلصاق، ولذلک یکفی فی الوضوء مسح مقدار من الرأس (2)، ولکنّ فقهاء بعض المذاهب الأخری کالمالکیّة والحنبلیّة ذهبوا إلی أنّ حرف «باء» زائدة وبالتالی یجب مسح کلّ الرأس (3).

ج) الاشتراک اللفظی فی صیغة صرفیة یتسبّب أحیاناً فی اختلاف فتاوی الفقهاء، مثل لفظ «المحیض» الذی هو اسم مصدر علی وزن «مَفعِل» هو مشترک بین «محلّ الحیض» و «زمان الحیض»، وذهب جمع من الفقهاء کالإمامیّة والشافعیة (فی قول قویّ) والثوری ومحمّد بن الحسن الشیبانی وداود والفخر الرازی (4) إلی الاحتمال الأول (أی اسم مکان) علی أساس ما ورد فی الآیة: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ أَمَرَکُمُ اللَّهُ»(5). وکذلک ما جاء فی الحدیث النبویّ (6) بهذا الصدد، وبالتالی ذهبوا إلی جواز الاستمتاع فی مدّة الحیض حتّی فیما بین السرّة والرکبة من غیر المقاربة الجنسیة.

ولکنّ البعض الآخر من الفقهاء کمالک، أبی حنیفة، الأوزاعی وأحد قولی الشافعی رجّحوا الاحتمال الثانی (أی اسم للزمان) وبالتالی أفتوا بحرمة أیّ شکل من أشکال الاستمتاع بالزوجة فی مدّة الحیض (7).

د) اشتراک سیاق الکلام بین مفاهیم متعدّدة یؤدّی أحیاناً إلی اختلاف فتاوی الفقهاء، مثل:

1. الاستثناء بعد جمل متعدّدة

یقول القرآن الکریم فی سورة النور: «وَالَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِینَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِینَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِکَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ»(8).

فیقرّر فی الآیة الأولی ثلاث عقوبات للقاذف حسب الترتیب:

1. 80 جلدة.

2. لا تقبل شهادته فی المحکمة.

3. إنّ هذا الإنسان فاسق.

وفی صدر الآیة الثانیة ورد استثناء لذلک: «إِلَّا الَّذِینَ تَابُوا».

هنا یثار هذا السؤال فیما یتّصل بهذه الآیة: هل أنّ مرجع هذا الاستثناء یعود إلی العقوبة الثالثة فیکون مفاده أنّ القاذف بعد توبته لا یعتبر فاسقاً ولکن عدم قبول شهادته ولزوم إجراء الحدّ علیه باقٍ علی قوّته حتّی بعد التوبة؛ أو أنّ مرجع الاستثناء یعود إلی جمیع الموارد الثلاثة، أی أنّ القاذف إذا تاب من ذنبه فإنّه سترفع عنه هذه العقوبات الثلاث؟

والمسلّم لدی فقهاء المذاهب (9) أنّ هذا الاستثناء لا یشمل العقوبة الأولی، أی أنّ التوبة لا تمنع من إجراء


1- سورة المائدة، الآیة 6.
2- جواهر الکلام، ج 2، ص 171.
3- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 1، ص 63 و 72.
4- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، فی ذیل الآیة 8 من سورة البقرة.
5- سورة البقرة، الآیة 222.
6- تفسیر الدر المنثور، ذیل الآیة الشریفة 222 من سورة البقرد: قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:« جامعوهنّ فی البیوت واصنعوا کلّ شی ء إلّاالنکاح».
7- أثر الاختلاف فی القواعد الاصولیة فی اختلاف الفقهاء، ص 87.
8- سورة النور، الآیات 4 و 5.
9- جواهر الکلام، ج 41، ص 428.

ص: 344

الحدّ علیه، ولکن هناک خلاف بالنسبة للعقوبة الثانیة، فذهب البعض إلی أنّ الاستثناء المذکور یعود علی الجملة الأخیرة فقط، وذهب بعض آخر إلی أنّه یشمل الجملة الثانیة والثالثة.

وقد ذهب الأحناف، الحسن البصری، النخعی وسعید بن جبیر وسائر فقهاء التابعین إلی أنّ الاستثناء المذکور یختصّ بالجملة الأخیرة؛ وعلیه فإنّ شهادته لا تقبل فی المحکمة حتّی بعد توبته، أمّا الإمامیة(1) وجمع من أهل السنّة (مالک، أحمد والشافعی) فذهبوا إلی أنّ هذا الاستثناء یعود علی الجملتین الأخیرتین، وعلیه فإنّ شهادته بعد توبته مقبولة، ویعود هذا الاختلاف إلی قاعدة أصولیة تقرّر هذه المسألة: هل الاستثناء الوارد عقیب الجملات المتعدّدة یعود إلی جمیعها أم یعود إلی الجملة الأخیرة؟

ذهب الشافعی ومالک إلی عودته للجمیع، وذهب أغلب الإمامیّة والأحناف إلی اختصاصه بالجملة الأخیرة(2).

2. الاختلاف فی تقیید موصوفین بصفة واحدة

إذا وقعت صفة معیّنة بین اثنین وکان کلّ منهما له صلاحیة الاتّصاف بتلک الصفة والتقیید بذلک القید، فهل تعود تلک الصفة علی کلا الإسمین فتقیّدهما، أم أنّ القدر المتیقّن أنّها تعود علی الإسم الأخیر منهما، فتقیّده ویبقی الاسم الأول علی إطلاقه؟

والخلاف فی هذه المسألة البلاغیة تسبّب فی الاختلاف فی فتوی بعض الفقهاء بالنسبة لبعض المسائل الفقهیة، مثل: «حکم الزواج من أُمّ الزوجة بعد طلاق الزوجة بدون دخول».

فأصل الحکم بحرمة هذا النکاح من أُمّ الزوجة هو ما ورد فی الآیة 22 من سورة النساء: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهَاتُکُمْ وَبَنَاتُکُمْ وَأَخَوَاتُکُمْ وَعَمَّاتُکُمْ وَخَالَاتُکُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُکُمُ اللَّاتِی أَرْضَعْنَکُمْ وَأَخَوَاتُکُمْ مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِکُمْ وَرَبَائِبُکُمُ اللَّاتِی فِی حُجُورِکُمْ مِّن نِّسَائِکُمُ اللَّاتِی دَخَلْتُمْ بِهِنَ ...».

وقد ذهب بعض القدماء مثل: ابن الزبیر ومجاهد، إلی أنّ صفة «اللّاتی دخلتم بهنّ» تعتبر صفة وقیداً ل «نسائکم» فی قوله «أمّهات نسائکم»(3). وتبعاً لذلک فقد أجازوا للرجل الذی طلّق زوجته قبل الدخول بها، أن یتزوج أُمّ زوجته هذه، کما أنّه نقل عن ابن مسعود أنّه یری هذه الفتوی أیضاً(4).

وأمّا فقهاء الإمامیّة(5) والمفسّرون الشیعة(6) وکذلک فقهاء المذاهب الأربعة(7) وجمهور الفقهاء(8) فیتّفقون علی أنّ هذا القید یختصّ بالاسم الثانی فقط، «رَبَائِبُکُمُ اللَّاتِی فِی حُجُورِکُمْ مِّن نِّسَائِکُمُ» والاسم الأوّل «امّهات نسائکم» یبقی علی إطلاقه، فإذا عقد الرجل علی امرأة عقد الزواج فإنّه لا یجوز الزواج من امّها حتّی إذا طلّق زوجته قبل الدخول بها.

واستدلّ فقهاء المذاهب الإسلامیة، مضافاً للقواعد


1- جواهر الکلام، ج 41، ص 37؛ التفسیر الأمثل، ذیل الآیة 5 من سورة النور.
2- تفسیر آیات الأحکام من القرآن، ج 2، ص 70.
3- تفسیر الجامع لأحکام القرآن للقرطبی، ج 5، ص 106.
4- تفسیر المیزان، ج 5، ص 282.
5- جواهر الکلام، ج 29، ص 350.
6- تفسیر المیزان، ج 5، ص 282.
7- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 4، ص 62 والفقه علی المذاهب الخمسة، ص 308.
8- تفسیر الجامع لأحکام القرآن للقرطبی، ج 5، ص 106.

ص: 345

الأدبیة بروایات متعدّدة وردت فی کتب أهل السنّة(1) وکتب الحدیث لدی الشیعة(2).

3. إبهام اللفظ وقابلیّته للتطبیق علی عدّة مصادیق

مثل:

1. کلمة «ید» التی تقبل الصدق علی أربعة أصابع، والکفّ، وجمیع الید، ومن هنا فإنّ الفقهاء اختلفوا فی المراد من الآیة الشریفة: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا ...»(3). فذهب بعض کفقهاء الإمامیة وبقرینة قوله تعالی: «أَنَّ الْمَسَاجِدَ للَّهِ»(4) وأنّ المراد من الید هنا الأصابع الأربعة فقط بقرینة أنّ الکفّ تعتبر من مواضع السجود السبعة المذکورة فی الآیة الثانیة التی ینبغی بقاؤها ولا یشملها حدّ السرقة، وذهب بعض آخر کجمهور أهل السنّة إلی الفتوی بقطع الکفّ إلی الرسغ (5)، بینما أفتی الخوارج بقطع جمیع الید من الکتف (6).

2. کلمة «فَی ء» فی الآیات 6 إلی 10 من سورة الحشر:

«وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَلَا رِکَابٍ وَلَکِنَّ اللَّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَی مَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ* مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَی وَالْیَتَامَی وَالْمَسَاکِینِ وَابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لَایَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیَاءِ مِنْکُمْ ...».

فطبقاً لهذه الآیة الشریفة فإنّ «الفَی ء» یکون تحت اختیار النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله نفسه یصرفه فیما یراه صلاحاً للإسلام والمسلمین، خلافاً ل «الغنیمة» التی یجب تقسیمها بین المجاهدین.

إنّ إجمال مفهوم کلمة «فی ء» ومصادیقها، والتردّد والاختلاف فی هذا الموضوع، أوجب اختلاف فتاوی الفقهاء فی حکم مصادیق الفی ء.

وقد ورد فی تعریف کلمة «فی ء» ومعناها احتمالات:

أ) ذهب جمع من فقهاء الإمامیّة إلی أنّ الفی ء مع الأخذ بنظر الاعتبار قید «فما أوجفتم علیه ...» یشمل جمیع الأموال المنقولة وغیر المنقولة للکفّار وأراضیهم التی استولی علیها المسلمون بدون قتال.

ب) وذهبت طائفة أخری من فقهاء الإمامیة مع الأخذ بنظر الاعتبار شأن نزول هذه الآیة التی تخصّ أراضی قبیلة «بنی النضیر» إلی أنّ «الفی ء» یختصّ بالأراضی والأموال غیر المنقولة التی استولی علیها المسلمون بدون قتال، وذهب بعض الفقهاء إلی احتمالات أخری فی دائرة مفهوم هذه المفردة(7) وبالتالی أصدروا فتاواهم الفقهیة علی هذا الأساس.

4. التردّد بین المعنی اللغوی والشرعی

المنشأ الثالث لجذور وأسباب الاختلاف فی فهم معنی النصوص الشریفة، هو التردّد والاختلاف فی إرادة المعنی اللغوی أو المعنی الشرعی من کلمة معیّنة، مثل:

التردید فی کلمة «نکاح» بین الزواج الشرعی وغیر الشرعی:

فقد ورد فی القرآن الکریم فی الآیة 22 من سورة


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشیعة، ج 14، ص 354، ح 2 و 7، باب 20 أبواب ما یحرم بالمصاهرة.
3- سورة المائدة، الآیة 38.
4- سورة الجنّ، الآیة 18.
5- تفسیر آیات الأحکام من القرآن للصابونی، ج 1، ص 555؛ الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 5، ص 159.
6- تفسیر آیات الأحکام للصابونی، ج 1، ص 555.
7- مرآة العقول، ج 7، ص 97؛ مهذّب الأحکام، ج 11، ص 489 و 490.

ص: 346

النساء: «وَلَا تَنکِحُوا مَا نَکَحَ آبَاؤُکُمْ مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ کَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِیلًا».

فی هذه الآیة الشریفة نهی القرآن الکریم عن نکاح الأبناء لزوجات الآباء، ولکن هل یشمل هذا الحکم المرأة التی نکحها الأب بطریق غیر مشروع، أم یختصّ بالنکاح المشروع؟

ذهب الشافعی ومالک (فی الموطّأ) إلی أنّه یشمل الزنا أیضاً، وأمّا أبوحنیفة وأحمد فقد ذهبا إلی عدم شموله لحالة الزنا، ولذلک یکون مفاد الآیة حرمة زواج الإبن من زوجة الأب الشرعیة فقط، وأمّا إذا کان الأب قد زنا بها فإنّ الإبن یمکنه الزواج من هذه المرأة.

وأصل هذا الاختلاف یعود إلی مفردة «النکاح» فقد جاءت فی اللغة بمعنی مطلق الوطء والجماع سواءً کان بصورة شرعیة أم غیر شرعیة، وأمّا فی الشرع فقد جاءت بمعنی عقد النکاح الصحیح، ولکن لا یعلم هل مراده تعالی من کلمة «نکاح» فی «ما نکح آباؤکم» هو معناها اللغوی أم الشرعی (1)؟ ولکن الحق أنّ هذه المفردة جاءت فی اللغة والعرف بمعنی العقد، کما ذکر ذلک الراغب فی «مفرداته» ولیس للنکاح معنیان:

شرعی ولغوی.

5. التردّد بین المعنی الحقیقی والکنائی أو المجازی للّفظ

علی سبیل المثال فإنّ القرآن الکریم یقرّر فی الآیة 43 من سورة النساء: «وَإِنْ کُنتُمْ مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْکُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً».

حیث تتحرّک هذه الآیة الشریفة من موقع إصدار الأمر إلی المسلمین أنّکم إذا لامستم النساء ولم یکن لدیکم ماء فیجب علیکم التیمّم، أی أنّ ملامسة النسوة ینقض الطهارة ویبطلها.

فهل المراد من هذه الملامسة معناها الکنائی، أی المقاربة الجنسیة مع النساء، أم المعنی الحقیقی الذی یصدق علی أیّ اتصال بدنی بین الرجل والمرأة؟

ذهب جماعة من الفقهاء مثل: ابن مسعود، ابن عمر، عبیدة، النخعی، الشعبی، عطاء، ابن سیرین والشافعی إلی أنّ المراد هوالمعنی الحقیقی للملامسة سواء ملامسة بدن المرأة بیده أم بمعنی التقاء الختانین (الجماع).

وذهب آخرون، منهم: ابن عباس، الحسن، قتادة ومجاهد من القدماء وکذلک عامة فقهاء الإمامیة(2) إلی أنّ المراد هو المعنی الکنائی یعنی (الجماع).

وعلی هذا الأساس فقد اختار أکثر أهل السنّة مثل:

المالکیة، الشافعیة والحنبلیة، الاحتمال الأوّل وقالوا ببطلان الوضوء بمجرّد وقوع تماس بدنی بین الرجل وأعضاء ظاهرة من بدن المرأة من موقع الشهوة.

وفی مقابل ذلک اختار الإمامیّة والحنفیة والإمام أحمد (علی روایة ثالثة منه) الاحتمال الثانی وذهبوا إلی عدم بطلان الوضوء عند ملامسة جسد المرأة.

والجدیر بالذکر أنّ المالکیة والحنابلة إنّما یرون ملامسة بدن المرأة ناقضاً للوضوء إذا کان عن شهوة، وأمّا الشافعیة یرون أنّ مجرّد تحقّق الملامسة مع بدن غیر المحارم حتّی لو کان بدون شهوة فهو ناقض للوضوء أیضاً(3).


1- اثر الاختلاف فی القواعد الاصولیة، ص 80.
2- الخلاف، ج 1، ص 110 و 111.
3- أثر اللغة فی اختلاف المجتهدین، ص 176 و 177.

ص: 347

العامل الثامن: الإختلاف فی ترجیح الأدلة المتعارضة

اشارة

أحیاناً تکون هناک أدلّة متعدّدة علی مسألة معیّنة حیث یقتضی کلّ دلیل منها حکماً خاصّاً، وبالتالی فإنّ هذه الأدلّة ستکون متعارضة، وربّما ینطلق المجتهد فی فتواه علی أساس الضوابط الترجیحیة التی یراها، بترجیح بعض الأدلّة علی الأخری والفتوی علی أساسها. والنتیجة هی وقوع الاختلاف فی فتاوی الفقهاء من هذه الجهة، من قبیل:

طهارة ونجاسة المنیّ:

أ) ذهب الشافعیون، الحنابلة(1) وأصحاب الحدیث إلی طهارة المنیّ وصحّة صلاة من صلّی بلباس أو بدن ملوّث بالمنیّ.

ودلیلهم لذلک ما ورد فی روایة ابن عباس، عائشة وأحمد، فقد جاء فی روایة ابن عباس مایلی:

«سُئل النبیّ صلی الله علیه و آله عن المنیّ یصیب الثوب. فقال: إنّما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنّما یکفیک أن تمسحه بخرقة أو اذخرة»(2).

ب) وذهب الأحناف والمالکیة إلی نجاسته وبطلان الصلاة به، فأمّا الأحناف فقالوا أنّ المنیّ إذا کان جافّاً وأزاله الشخص عن لباسه وبدنه، فصلاته صحیحة.

وقد استدلّوا لإثبات نجاسة المنیّ أوّلًا: بروایة أخری عن عائشة وکذلک روایة عمّار، فقد ورد فی روایة عمّار أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«إنّما یغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمنیّ، والدّم والقی ء»(3).

وأمّا دلیل قول الأحناف (طهارة الثوب بإزالة المنیّ بعد جفافه): هو ما ورد فی الروایة الثالثة عن عائشة:

قال النبیّ الأکرم:

«إغسلیه إن کان رطباً وافرکیه إن کان یابساً»(4).

ونری أنّ کلّ واحدة من هذه الفتاوی قد قامت علی أساس ترجیح إحدی هذه الروایات المتعارضة علی غیرها.

وأمّا فقهاء الإمامیّة فیتّفقون علی نجاسة المنیّ مطلقاً، ویستدلّون بروایات متعدّدة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی هذا المجال (5).

العامل التاسع: الإختلاف فی موارد حجیة الأصول العلمیة

ومن جملة الأمور التی سبّبت وقوع الخلاف فی الفتوی، الاختلاف فی موارد حجّیة أصل البراءة، وأصل الاحتیاط والاستصحاب والتخییر التی تسمّی بالأصول العملیة، حیث یلجأ إلیها المکلّف بعد عدم التوصّل للحکم الشرعی من الکتاب والسنّة کما ورد تفصیل الکلام فی ذلک فی علم الأصول.

ونظراً للاختلاف فی دائرة ومساحة حجّیة هذه الأصول، فقد وقع الخلاف فی الفتاوی أیضاً، مثلًا:

1. ذهب الأخباریون إلی حرمة جمیع أشکال التدخین، لأنّ هذا الأمر من موارد الشبهات التحریمیة،


1- سنن الدارقطنی، نقلًا عن: أثر الاختلاف فی القواعد الاصولیة، ص 108.
2- الفقه علی المذاهب الأربعة، ج 1، ص 9.
3- نصب الرایة، ج 1، ص 211 نقلًا عن أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة، ص 109.
4- المصدر السابق.
5- جواهر الکلام، ج 5، ص 290.

ص: 348

(مواردالشکّ فی الحرمة) حیث یقال بلزوم الاحتیاط فیها.

ولکنّ الأصولیین یرون جواز التدخین لأنّ هذا المورد من موارد جریان أصالة البراءة(1).

2. ذهب جمع من فقهاء أهل السنّة، مثل: الشافعی وآخرین إلی وجوب طواف الوداع، ولکن یقول العلّامة الحلّی فی «المنتهی» إنّ هذا الطواف مستحبّ بإجماع علماء الإمامیة، ومن جملة ما استدلّوا به علی عدم الوجوب هو التمسّک بأصل البراءة(2).

3. ذهب الشیخ الطوسی فی کتاب «الخلاف»(3)، إلی عدم جواز رمی جمرة العقبة فی أیّام التشریق، قبل الظهر، وهذا الرأی موافق للشافعی وأبی حنیفة، ودلیلهم الإجماع والاحتیاط، ولکن صاحب الجواهر یری عدم صحّة هذا الإجماع، ومن جملة أدلّته علی جواز الرمی قبل الزوال هو التمسّک بأصل البراءة(4).

العامل العاشر: الإختلاف فی مساحة القواعد الفقهیّة

اشارة

إنّ القواعد الفقهیّة بمثابة سلسلة من الأحکام الکلیّة المستقاة من الکتاب والسنّة أو دلیل العقل أو الإجماع، ولکن ربّما یقع الخلاف بین الفقهاء فی مساحة ودائرة هذه القواعد، مثل قاعدة لا ضرر، قاعدة سوق المسلمین، قاعدة الید، قاعدة الضمان، قاعدة الصحّة (حمل فعل المسلم علی الصحّة)، قاعدة نفی الحرج، قاعدة الطهارة، وأمثال ذلک (5).

وهذه القواعد بشکل إجمالی وقعت غالباً مورد قبول جمیع الفقهاء من الشیعة وأهل السنّة، ولکن هناک خلاف فی حدود دائرتها وأبعادها، مثلًا:

1. قاعدة الطهارة

لو قلنا بنجاسة غیر المسلم، فیقع البحث فی الأشیاء التی تعود لغیر المسلمین من ممتلکاتهم کالفرش واللباس والآنیة فی صورة القطع بمماسّة البدن لهذه الأشیاء مع الرطوبة المسریة، فقد ذهب جمع من فقهاء الإمامیة إلی طهارة هذه الأشیاء بالاستناد إلی «قاعدة الطهارة» وأنّ

«کلّ شی ء طاهر، حتّی تعلم أنّه قذر»(6).

فی حین أنّ بعض الفقهاء کابن رجب الحنبلی فی کتاب «القواعد» نقل روایات متعدّدة عن أحمد بن حنبل أنّ هذه الأشیاء محکومة بالنجاسة طبقاً لبعض هذه الروایات. وفی الواقع أنّ ابن رجب الحنبلی أفتی بذلک من باب تقدیم ظاهر الحال علی أصالة الطهارة، لأنّ ظاهر الحال یقتضی أن یقع تماسّ مع هذه الأشیاء من قِبل أصحابها غیر المسلمین (7).

وفی الواقع أنّ الطائفة الأولی من الفقهاء یرون سعة مساحة قاعدة الطهارة بحیث إنّ ظاهر الحال لا یزاحم هذه القاعدة، ولکنّ الطائفة الثانیة تعتقد بأنّ قاعدة الطهارة إنّما تجری فیما إذا لم یکن ظاهر الحال علی خلافها.


1- حرم بعض الفقهاء المعاصرین التدخین بسبب الأضرار المسلّمة التی تترتب علیه وذلک بحکم( لا ضرر).
2- منتهی المطلب، ج 2، ص 177.
3- کتاب الخلاف، ج 2، ص 350.
4- جواهر الکلام، ج 20، ص 18.
5- وللمزید من الاطلاع علی القواعد الفقهیة یمکنکم مراجعة کتاب القواعد الفقهیّة، تألیف آیة اللَّه مکارم الشیرازی، والقواعد الفقهیّة تألیف المرحوم آیة اللَّه البجنوردی، ومن کتب أهل السنّة موسوعة القواعد الفقهیّة، تألیف محمّد صدق الغزّی، والقواعد الفقهیّة تألیف الدکتور یعقوب بن عبدالوهاب.
6- تحریر الوسیلة، ج 1، ص 129.
7- القواعد فی الفقه الإسلامی لعبدالرحمن بن رجب الحنبلی، ص 373.

ص: 349

2. قاعدة الید

وأحد القواعد الفقهیة المعروفة «قاعدة الید»، والمراد منها أنّ استیلاء الشخص علی شی ء معیّن دلیل علی مالکیته لذلک الشی ء، وهذه القاعدة ثابتة فی الأصل بالإجماع وسیرة العقلاء والروایات المختلفة، ولکن هناک خلاف فی بعض تفصیلاتها وشروطها، فذهب بعض الفقهاء إلی أنّ مجرّد «الید» تکفی فی إثبات مالکیة ذی الید علی الشی ء، ولا یشترطون تصرّفه فی ذلک الشی ء، وقد ذهب إلی هذا القول الکثیر من فقهاء الإمامیة(1) وبعض فقهاء الحنفیة(2).

ویعتقد البعض أیضاً بلزوم التصرّف ولو لمدّة قصیرة، وهذا قول جماعة آخرین من فقهاء الحنفیة(3).

واشترط آخرون لزوم التصرّف لمدّة طویلة، وهؤلاء هم فقهاء المذهب الشافعی، ونسب هذا القول إلی مالک أیضاً.

3. قاعدة ضمان الید

المراد من هذه القاعدة هو ما قرّره الحدیث النبویّ المعروف

«علی الید ما أخذت حتّی تؤدّیه».(4)

وهذه القاعدة مقبولة لدی جمیع فقهاء الإمامیّة وجمع من فقهاء أهل السنّة کفقهاء المذهب الشافعی (5) ولکنّ أباحنیفة لا یری الغاصب ضامناً لمنافع العین المغصوبة بأیّ وجه، ویقول: نظراً إلی أنّ الغاصب ضامن للعین فهو غیر ضامن لمنافعها. والمراد من قاعدة الخراج بالضمان هو هذا المعنی (6). وبالطبع فإنّ قاعدة الخراج بالضمان لیست مقبولة لدی أکثر الفقهاء، وکذلک فهی مخالفة لسیرة العقلاء لأنّهم یرون أنّ الغاصب کما أنّه ضامن للعین فهو ضامن لمنافعها.

العامل الحادی عشر: الإختلاف فی دائرة حجیة العقل

إنّ أکثر فقهاء الإسلام سواءً من الإمامیة أو من أهل السنّة، یرون العقل أحد الأدلّة الأربعة فی عملیة استنباط الحکم الشرعیّ وهی (الکتاب، السنّة، الإجماع، والعقل). رغم أنّ فقهاء أهل السنّة یدرجون دلیل العقل غالباً ضمن عنصر القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة وفتح وسدّ الذرائع لا بعنوان دلیل «العقل» وإن ذکر البعض منهم کالغزالی فی «المستصفی» دلیل العقل بعنوانه الدلیل الرابع للاستنباط حیث قال:

«الأصل الرابع دلیل العقل والاستصحاب»(7).

وبدیهیّ أنّ دلیل العقل یظهر تارة بشکل المستقلّات العقلیّة والبدیهیّات (مثل حسن الإحسان وقبح الظلم) وتارة أخری بشکل نظریّ، وهو بدوره ینقسم إلی قسمین: النظریّ القطعیّ (مثل وجوب مقدّمة الواجب) والنظری الظنیّ (مثل القیاس).

ورغم أنّ الأخباریین یقبلون دلیل العقل فی دائرة


1- وسیلة الوسائل للسید محمّد باقر الیزدی،( اواخر الإستصحاب، ملحقات العروة)، ج 2، ص 130.
2- البحر الرائق لابن نجیم، ج 7، ص 82؛ الاختیار للموصلی، ج 2، ص 144؛ تبیین الحقائق للزیلعی، ج 4، ص 216 وجامع الرموز للقهستانی، ج 2، ص 238.
3- درر الأحکام للملاخسرو، ج 2، ص 375.
4- کنز العمال، ج 10، ص 360، ح 29811.
5- ولمزید الاطلاع علی رأی الإمام الشافعی انظر: الأُم، ج 3، ص 249؛ المجموع، ج 14، ص 227.
6- وللمزید من الاطلاع علی رأی الأحناف انظر: بدائع الصنائع، ج 7، ص 211 والمبسوط للسرخسی، ج 11، ص 78.
7- المستصفی، ج 1، ص 217.

ص: 350

المستقلّات العقلیّة والبدیهیات، إلّاأنّهم لا یعتبرون قیمة للعقل النظری ولا یقبلون بالقطع فی هذه الدائرة لأنّهم یعتقدون بأنّ العقل یجوز علیه الخطأ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار خطأ العقل فلا یوجد دلیل قطعی نظری (1).

ویقسّم الأمین الاسترآبادی فی «الفوائد المدنیّة» العلوم النظریة إلی قسمین: أحدهما ما کان قریباً من الحسّ کعلم الهندسة والحساب وأکثر أبواب المنطق، فلا یتصوّر وقوع الخطأ فیها من حیث الصورة والمادّة، والآخر مثل علم الحکمة «الفلسفة» والکلام وأصول الفقه وأمثالها من العلوم التی تبتعد من الحسّ والإحساس. فالقسم الأول یمکن أن یقع مورد الاعتماد لأنّه لا طریق للخطأ فیه، ولکنّ القسم الثانی غیر معتبر لکثرة وقوع الخطأ فیه (2).

ویری بعض آخر من الأخباریین الذین هم أقرب إلی الأصولیین فی هذا الخصوص، أنّه إذا کان الدلیل العقلی من البدیهیات مثل (الواحد نصف الإثنین) فلا شکّ فی صحّة العمل به، وأمّا لو لم یکن بدیهیاً بل کان قطعیاً فیمکن العمل به أیضاً بشرط أن لا یعارضه دلیل عقلی نقلی آخر(3).

بینما یقول الأشاعرة: إنّ الحسن والقبح فی الأفعال لا یمکن إدراکهما وفهمها بشکل مستقلّ بالعقل وبدون استمداد من الشارع، وعلیه أنکروا الملازمة بین حکم العقل والشرع، وهی

«کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع»

، وعلی هذا الأساس فقد قاموا بإلغاء العقل (4) کلّیاً من أدلّة الأحکام، والحال أنّ الفرق الإسلامیة الأخری خاصة الإمامیة یرون العقل رسولًا إلهیاً باطنیاً ویعتقدون بحجّیة الإدراکات العقلیة القطعیة وإن اختلفوا فی دائرة وحدود هذه الحجّیة (وتفصیل هذا الموضوع مذکور فی هذا الکتاب فی بحث منابع الاستنباط فی فصل دلیل العقل، فراجع).

علی أیّة حال، فإنّه علی أساس حکم العقل وإدراکه للحسن والقبح یمکن إثبات الکثیر من الواجبات والمحرّمات بدلیل العقل، مثلًا تحریم الظلم، غصب الحقوق، السرقة، قتل الأبریاء، الکذب، الغیبة، الفساد فی الأرض، وما إلی ذلک، وکذلک مسألة لزوم شکر المنعم، ورجحان تقدیم العون للمحتاجین، وتشکیل الحکومة الصالحة لحفظ الأمن وإحقاق الحقوق، وأمثال ذلک کلّها ثابتة ومسلّمة بحکم العقل رغم ورود تعالیم دینیة فی جمیع هذه الموارد فی الکتاب والسنّة أیضاً، ولکن علی فرض عدم وجود آیة أو روایة فی أحد هذه الموارد فإنّ العقل کافٍ فی إثباتها، ولکنّ الأشاعرة ینکرون هذه القضایا.

إلی هنا کان الکلام عن المستقلّات العقلیّة، ولکن هناک اختلاف فی غیر المستقلّات العقلیّة حیث أدّی بدوره إلی اختلاف النظر فی المسائل الفقهیة مثلًا:

1. هل تبطل الصلاة فی المکان المغصوب؟ ذهب فقهاء الإمامیة إلی الحکم بالبطلان، وقد ادّعی المحقّق الحلّی فی کتاب «المعتبر» إجماع الشیعة علی بطلان هذه الصلاة(5) واستدلّ لذلک علی عدم جواز اجتماع الأمر والنهی، وأنّ حرکات الصلاة من القیام والرکوع والسجود فی المکان المغصوب حرام، ولا یمکن التقرّب إلی اللَّه بفعل حرام، ولکن جماعة من أهل السنّة


1- شرح التهذیب للمحدّث الجزائری( مخطوط)، ص 47.
2- الفوائد المدنیّة، ص 129- 131.
3- الحدائق الناضرة، ج 1، ص 132 و 133.
4- شرح المقاصد للتفتازانی، ج 2، ص 282.
5- المعتبر، ج 2، ص 108.

ص: 351

ذهبوا إلی صحّة الصلاة فی المکان المغصوب. ونقرأ فی کتاب «المجموع» أنّ الصلاة فی الأرض المغصوبة عند (الشافعیین) وعند جمهور الفقهاء صحیحة وإن ارتکب هذا المصلی حراماً بذلک، ولکنّ أحمد بن حنبل والجبّائی وغیرهما من المعتزلة ذهبوا إلی بطلان هذه الصلاة، وقال الغزالی فی «المستصفی»: «والشخص الذی یراه باطلًا فهو بسبب التضادّ بین قصد القربة والمعصیة ویدّعی کون ذلک محالًا بالعقل»(1) یعنی الجمع بینهما.

2. هل یجوز السفر فی یوم الجمعة بعد الزوال وقبل إقامة صلاة الجمعة أم لا؟ اختلف الفقهاء فی ذلک، فذهب بعض علماء الإمامیة کالمحقّق الحلّی فی «المعتبر»(2)، السیّد محمّد العاملی فی «مدارک الأحکام»(3) والعلّامة السبزواری فی «الذخیرة»(4)، إلی التصریح بحرمة هذا السفر، واستدلّوا لذلک علی دلالة الأمر بالشی ء علی النهی عن ضدّه (الضدّ الخاصّ) ولکنّ بعض الأحناف (5) أفتوا بالکراهة، ویظهر من بعض آخر من الفقهاء القول بالکراهة أیضاً(6).

ولکن کما قلنا فی أصول الفقه (7)، إنّ الأمر بالشی ء لا یدلّ علی النهی عن ضدّه الخاصّ، وعلیه فإنّ ترک صلاة الجمعة، وإن کنّا نراه حراماً، إلّاأنّ السفر المذکور غیر حرام.

العامل الثانی عشر: الإختلاف فی أقسام الإجماع

ومن الأسباب الأخری للاختلاف فی الفتوی، مسألة الإجماع. وأصل حجّیة الإجماع مورد اتّفاق علماء الإسلام، والوحید من بین علماء الإسلام ممّن أنکر ذلک، هو «أبواسحاق إبراهیم بن سیّار البصری المعتزلی، المعروف بالنظّام»؛ وقد کتب کتاباً فی ردّ الإجماع باسم «النکت»(8)؛ رغم أنّ الآمدی یری أنّ مخالفته للإجماع من قبیل النزاع اللفظی (9).

وقد ورد فی بعض کتب أهل السنّة أنّ الشیعة من المخالفین للإجماع (10)، فی حین أنّ هذا الکلام مجانب للصواب، بل إنّهم یرون الدلیل علی حجّیة الإجماع غیر ما یراه أهل السنّة فی هذا المورد، ونری فی الکتب الفقهیة لدی الشیعة أنّهم یستدلّون بدلیل الإجماع فی کثیر من المسائل الشرعیة وبشکل واسع (11).

إنّ مسألة الإجماع لدی أهل السنّة تتضمّن أهمّیة بالغة، ولهذا یقال عنهم أنّهم «أهل السنّة والجماعة»(12).

وبدیهیّ فإنّ الإجماع فی نظر أهل السنّة سواءً بمعنی اتّفاق أهل الحلّ والعقد، أو إجماع الصحابة أو بمعنی آخر، لا یعنی أنّ هؤلاء المجمعون یصدرون حکماً من عند أنفسهم، بل لکلّ واحد منهم ما یستند


1- المجموع، ج 3، ص 164.
2- المعتبر، ج 2، ص 294.
3- مدارک الأحکام، ج 4، ص 59.
4- ذخیرة المعاد للسبزواری، ج 2، ص 313.
5- الدر المنثور لعلاء الدین الحصفکی، ج 2، ص 176.
6- المصدر السابق.
7- أنوار الأصول، ج 1، ص 439.
8- انظر: الفتح المبین فی طبقات الأصولیین لعبداللَّه مصطفی المراغی، ج 1، ص 148.
9- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1، ص 167.
10- المحصول فی علم الأصول، ج 2، ص 9 وأصول الفقه الإسلامی للشلبی، ص 157.
11- انظر: کتاب جواهر الکلام، الذی هو من أوسع الکتب الفقهیة لدی الشیعة.
12- مجموعة فتاوی ابن تیمیة، ج 3، ص 346.

ص: 352

علیه فی هذا الرأی ویکون بنظره صحیحاً ومقبولًا، سواء من کتاب اللَّه أم السنّة أم القیاس أم الاستحسان، وما إلی ذلک (1)، ولکن بعد تحقّق الإجماع یمکن الاستناد فی الفتوی علی هذا الإجماع نفسه ولا حاجة للبحث فی دلیل المجمعین، وهذا هو ما صرّح به بعض علماء أهل السنّة(2).

وفی نظر فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام فإنّ الإجماع الذی له قیمة واعتبار هو ما یکون متضمّناً نظر المعصوم ومستنداً إلیه فقط، وعلی هذا الأساس فإنّ الإجماع إنّما یکون معتبراً فیما إذا کان کاشفاً عن رأی ونظر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم علیه السلام (3).

علی أیّة حال فإنّ الموافقین لحجیّة الإجماع یختلفون فیما بینهم فیما یتّصل بکیفیة هذه الحجّیة وسعة دائرة المجمعین وأقسام الإجماع.

إنّ اختلاف النظر هذا ناشی ء من المفهوم والمراد من الأشخاص المجمعین الذین یحصل منهم الإجماع، فهل المراد اتّفاق جمیع أفراد الأُمّة الإسلامیة(4) أم اتّفاق أهل الحلّ والعقد(5)، أم اتّفاق المجتهدین بعد رحلة النّبی (6)، أم اتّفاق المجتهدین فی عصر من العصور بعد رحلة النبیّ صلی الله علیه و آله علی أمر من أمور الدین (7)، أم اتّفاق أهل المدینة(8)، أم إجماع الصحابة فقط(9) وما إلی ذلک (10).

ومن جملة المسائل التی وقع البحث فیها فی دائرة الإجماع، أقسام الإجماع، حیث ینقسم إلی إجماع محصّل، منقول، صریح، سکوتی (الذی یعبر عنه الإمامیّة بعدم الخلاف) والإجماع المرکّب. وکلّ واحد من الإجماع المحصّل والمنقول والصریح، له أقسام أیضاً مثل الإجماع الدخولی، الإجماع التشرّفی، الإجماع اللطفی، الإجماع التقریری، الإجماع الحدسی، والإجماع الکشفی؛ وتفصیل هذه الأقسام والموارد یحتاج إلی وقت طویل، وقد ورد فی کتب علم الأصول لدی الإمامیة البحث فی هذه الموارد بالتفصیل. إنّ الاختلاف فی حجّیة بعض هذه الأقسام للإجماع أدّی إلی وقوع الاختلاف فی الفتوی بالتبع، ونشیر هنا إلی بعض موارد اختلاف الفتوی الناشی ء من الاختلاف فی دائرة حجّیة الإجماع:

1. یری بعض علماء أهل السنّة، کمالک، أنّ إجماع أهل المدینة حجّة بدون قید وشرط، واستدلّوا به أیضاً، ولکنّ جماعة کثیرة من الفقهاء والأصولیین لم یقبلوا بذلک (11)، وعلی هذا الأساس اختلفوا فی مسألة جواز أو عدم جواز القصاص من المسلم فی مقابل قتل الذمّی، فذهب أحمد(12) والشافعی (13) إلی عدم جواز القصاص من المسلم فی مقابل قتل أیّ کافر، وقال مالک أیضاً: إنّ المسلم لا یقتصّ منه فی مقابل الکافر الذمّی إلّافی صورة «الغیلة»(14) واستدلّ علی ذلک


1- انظر: أصول الفقه للشیخ محمّد الخضری، ص 326.
2- انظر: أصول الفقه الإسلامی للشلبی، ص 180.
3- انظر: أصول الفقه للمظفر، ج 3، ص 97.
4- المستصفی، ج 1، ص 173.
5- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1، ص 168.
6- تفسیر الفخر الرازی، ج 9، ص 150.
7- المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 2، ص 900؛ أصول الفقه الإسلامی للشلبی، ص 151.
8- وهو قول مالک( المستصفی، ج 1، ص 187).
9- وهو قول الظاهریة.( المحلی لابن حزم، ج 1، ص 54).
10- انظر: المستصفی، ج 1، ص 187.
11- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1، ص 207.
12- الإقناع فی فقه الإمام أحمد، ج 4، ص 175.
13- الأمّ، ج 4، ص 344.
14- یقول ابن رشد فی بدایة المجتهد: قتل الغیلة أن یضجعه فیذبحه وبخاصّة علی ماله( بدایة المجتهد، ج 4، ص 227) ویطلق مصطلح« الغیلة» الیوم علی« الاغتیال».

ص: 353

بإجماع أهل المدینة(1).

وبالطبع لا ینبغی لنا الغفلة عن أنّ البعض لا یرون أنّ دلیل مالک علی هذه المسألة هو الإجماع، ولا دلیل أبی حنیفة. بل الأدلة النقلیّة(2).

وأمّا علماء الإمامیّة فقد استدلّوا فی هذه المسألة بالنصوص الدینیة، وبما أنّ النصوص الواردة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام مختلفة، فقد ذهب المشهور إلی عدم القصاص، وذهب بعض آخر إلی جواز القصاص استناداً إلی بعض النصوص الواردة فی هذه المسألة(3).

2. إنّ أحد أنواع الإجماع، هو: الإجماع المرکّب، والمراد من الإجماع المرکّب هو أن ینقسم الفقهاء فی فی مسألة معیّنة إلی قسمین، ویفتی کلّ واحد منهما بفتوی معیّنة، فإذا ظهر فقیه وأصدر حکماً ثالثاً یقال عنه بأنّه خرق الإجماع المرکّب، وذهب بعض علماء الإمامیة إلی حجّیة هذا الإجماع، بینما ذهب البعض الآخر إلی عدم حجّیته، مثلًا بالنسبة لحکم الأذان والإقامة، فإنّ الکثیر من علماء الإمامیة یرون استحباب الإتیان بهما، وبعض آخر ذهب إلی وجوبهما، ولکنّ صاحب کتاب الحدائق اختار بالنسبة للأذان، القول بالاستحباب، وبالنسبة للإقامة قال بالاحتیاط الوجوبی، وعندما أشکلوا علیه أنّ هذه الفتوی تعتبر خرقاً للإجماع المرکّب، قال: إنّ الإجماع المرکّب لیس بحجّة(4).

وأمّا العلّامة الحلّی (5) ومؤلّف کتاب «المدارک»(6) والمحقّق السبزواری فی کتاب «الذخیرة»(7) فإنّهم قالوا بوحدة الحکم فیهما، واستدلّوا علی ذلک بالإجماع المرکّب (8).

العامل الثالث عشر: تأثیر الظروف الإجتماعیة فی فتوی المجتهد

اشارة

لقد حدث کراراً أنّ المتغیرات والظروف الاجتماعیة تؤثّر علی فکر الفقیه وتقوم بإبعاده عن المنابع الأصلیة للاستنباط وتجعله یتحرّک من جدید علی مستوی التحقیق فی أدلّة الحکم الشرعی، وهذا التحقیق الجدید ینتهی أحیاناً بإصدار فتوی جدیدة تکون أعمق وأدقّ من الفتوی الأولی.

وبالنسبة لهذا العصر الذی هو عصر المتغیّرات الکثیرة والسریعة فی واقع المجتمعات البشریة، فإنّ هذا الأمر یشاهد بوضوح فی حرکة الحیاة والواقع، علی سبیل المثال:

1. إبطال طلاق الثلاث فی مجلس واحد

عندما سئل مفتی مصر الأکبر الشیخ محمود شلتوت:

«لقد عرف المسلمون من دینهم أنّ أبغض الحلال إلی اللَّه الطلاق، ومع هذا کثر الطلاق فی مجتمعنا کثرةً مزعجةً، فما أسباب هذه الحالة وماذا ترون لعلاجها


1- انظر: المبسوط للسرخسی، ج 13، قسم 2، ص 117.
2- انظر: بدایة المجتهد، ج 4، ص 227.
3- انظر: جواهر الکلام، ج 42، ص 150.
4- الحدائق الناضرة، ج 7، ص 357.
5- المختلف، ج 2، ص 138.
6- مدارک الأحکام، ج 3، ص 258.
7- ذخیرة المعاد، ج 2، ص 251.
8- وللمزید من الاطلاع فی اختلاف الفتاوی فی استحباب و وجوب الأذان و الإقامة انظر: بحار الأنوار، ج 8، ص 108.

ص: 354

فی ظلّ تعالیم الإسلام؟».

فأجاب ذلک العالم الجلیل بقوله:

«... إنّ الشریعة الإسلامیة حینما أباحت الطلاق نظرت إلیه کآخر دواء وذلک بعد أن اتّخذت من الوسائل الإیجابیّة ما یقی الحیاة الزوجیة شرّ التدهور والانحلال، وحسبنا فی هذه الظاهرة أن نتفهّم هذه الوسائل وأن نأخذ أنفسنا بها ونربّی أبناءنا علیها. ونحن إذا تعرّفنا الأسباب الواقعیة التی ترجع إلیها کثرة الطلاق المزعومة، ثمّ بذلنا الجهد فی القضاء علیها بما وضعته الشریعة، لسلمت الأسرة ما یحدّدها فی وقائها وسعادتها وسلمت الشریعة من النقد فی تشریع الطلاق.

وإنّ من یمعن النظر فی أسباب الطلاق لیجدها علی کثرتها ترجع إلی سببین رئیسیّین.

أحدهما: إهمال الوصایا الدینیّة فیما یتعلّق بتکوین الأسرة وسلامتها بعد تکوّنها، من الشقاق بین الزوجین.

وثانیهما التزام مذاهب معیّنة فی الحکم بوقوع الطلاق بالنظر إلی ألفاظه وبالنظر إلی الحالة التی یکون علیها الزوجان، بینما نجد مذاهب أخری قویّة لا تری وقوعه فی کثیر من الحالات ولا بکثیر من الألفاظ، أیّ أنّها تضیّق دائرة وقوعه إلی حدّ یجعله کما شرّعه اللَّه ....

وعلی هذا فلا نحکم بوقوع الطلاق إلّاإذا کان مرّة مرّة وکان منجّزاً مقصوداً للتفریق فی طهر لم یقع فیه طلاق ولا إفضاء وکان الزوج بحالة تکمل فیها مسؤولیّته.

وبهذا لا نحکم بوقوع الثلاث دفعةً واحدةً إذا قال: أنتِ طالق ثلاثاً. ولا نحکم بوقوع الطلاق إذا کان معلّقاً کأن یقول: إن فعلتِ کذا فأنتِ طالق وهو لا یحبّ الطلاق ولا یریده»(1).

وهنا ینبغی الالتفات إلی أنّ هذا المفتی المصری الکبیر قد اقتبس فتواه المذکورة من مذهب الشیعة الإمامیة الذین یرون بطلان الطلاق بالثلاث ویرون وقوع طلاق واحد فقط، فی حین أنّ فقهاء المذاهب الأربعة یتّفقون علی صحّة الطلاق بالثلاث فی مجلس واحد ویتعاملون معه معاملة ثلاث طلاقات.

وأیضاً فإنّ فقهاء الشیعة یرون بطلان الطلاق المعلّق المشروط بشکل عامّ ویعتقدون بأنّ الطلاق یجب أن یقع بصورة منجّزة وفی طهر غیر طهر المواقعة.

وعلی هذا الأساس فإنّ الظروف الاجتماعیة لهذا الفقیه الحاذق جعلته یغیّر من فتواه السابقة ویقتبس حکماً شرعیاً آخر من مذهب ینسجم تماماً مع الظروف الفعلیة.

2. تحدید المذاهب الإسلامیة فی أربعة مذاهب

أنّ کثرة الفتاوی والفقهاء فی القرون الأولی للإسلام، أدّی إلی وقوع حالة التشتّت والاختلافات الشدیدة فی واقع المجتمع الإسلامی فی ذلک الوقت، وقد خلق هذا الأمر هاجساً وقلقاً لدی الفقهاء من جهة، ولدی الحکّام من جهة أخری، حیث اتّفقوا أخیراً علی حصر المذاهب بهذه المذاهب الأربعة رغم أننا نعتقد بعدم وجود دلیل مقبول علی حصر المذاهب بهذا العدد، ولاسیما بإبعادهم مذهب أهل البیت علیهم السلام عن واقع المسلمین، إلی أن تحرّک فی القرن الأخیر مفتی الدیار المصریة الکبیر، الشیخ محمود شلتوت وأعلن بصراحة عدم وجود دلیل قاطع علی حصر المذاهب، وبالإمکان التعبّد بمذهب الإمامیة فی فروع الفقه الإسلامی.

وبالطبع فإنّ بروز المشکلات الاجتماعیة بسبب حصر المذاهب فی أربعة قد أثّر بدوره فی تقبّل المذهب الخامس، أی التعبّد بمذهب الإمامیة.


1- الفتاوی محمود شلتوت، ص 307- 310 مع تلخیص یسیر.

ص: 355

نتیجة البحث

تبیّن من مجموع العوامل الثلاثة عشر لاختلاف الفتاوی أنّ فقهاء الإسلام رغم اتّفاقهم فیما بینهم علی أُمهات المسائل الفقهیة، ولکنّهم یختلفون فی التفاصیل والفروع الجزئیة والأغصان ممّا لا یقبل الإنکار ولا یقبل الاجتناب، لأنّ من غیر الممکن تحقیق اتّفاق فی الآراء فی دائرة المسائل التی تقوم علی سلسلة الأصول النظریة، بل یعدّ هذا الأمر طبیعیاً تماماً وهو ما یشاهد فی جمیع فروع العلوم الإنسانیة والاجتماعیة حتّی فی دائرة العلوم التجریبیة التی یفترض أن تکون بعیدة عن وقوع الاختلاف فیها، والغالب أن یؤدّی هذا الاختلاف فی الرأی إلی مزید التعمّق والبحث المتواصل والدقیق فی المسائل العلمیة، وبالتالی یتسبّب فی ترشید الحرکة العلمیة ونموّها وجعلها تقترب من الواقع أکثر.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. إتحاف ذوی البصائر فی شرح روضة النواظر (أصول الفقه)، الدکتور عبدالکریم النملة، الریاض، مکتبة الرشید، الطبعة الأولی، 1422 ق.

3. أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة فی اختلاف الفقهاء، الدکتور مصطفی سعید الخُنّ، بیروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1414 ق.

4. أثر الأدلّة المختلف فیها فی الفقه الأسلامی، الدکتور مصطفی دیب البُغا، دمشق، دار القلم- دار العلوم الإنسانیة، الطبعة الثالثة، 1420 ق.

5. أثر اللغة فی اختلاف المجتهدین، عبدالوهاب عبدالسلام الطویلة، مصر، دارالسلام، الطبعة الثانیة، 1420 ق.

6. الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیة، محمّد صالح موسی حسین، دمشق، دار طلاس، الطبعة الأولی، 1989 م.

7. الاجتهاد فی علم الحدیث وأثره فی الفقه الإسلامی، الدکتور علی نایف، بیروت، دار البشائر الإسلامیة، الطبعة الأولی، 1419 ق.

8. الإحکام فی أصول الأحکام، الآمدی، بیروت، المکتب الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1402 ق.

9. الاختیار، الموصلی، بمساعدة محمّد عدنان درویش، بیروت، شرکة دار الأرقم بن أبی الأرقم، الطبعة الأولی، 1420 ق.

10. إرشاد الفحول إلی تحقیق الحقّ من علم الأصول، محمّد بن علی الشوکانی، تحقیق محمّد حسن محمّد حسن إسماعیل، بیروت، دارالکتب العلمیة، الطبعة الأولی، 1419 ق.

11. أسباب اختلاف الفقهاء، الدکتور عبداللَّه بن عبدالمحسن الترکی، بیروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1418 ق.

12. أسباب اختلاف الفقهاء، الدکتور مصطفی إبراهیم الزلمی، بغداد، دار الکتب العربیة، الطبعة الأولی، 1396 ق.

13. الإصابة فی تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلانی، تحقیق عادل أحمد عبدالوجود- علی محمّد معوض، بیروت، دار الکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1415 ق.

14. الأصول الإسلامیة منهجها وأبعادها، الدکتور رفیق العجم، بیروت، دار العلم للملایین، الطبعة الأولی، 1983 م.

15. أصول الجصّاص، أحمد بن علی الجصّاص الرازی، تحقیق الدکتور محمّد محمّد التامر، بیروت، دار الکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1420 ق.

16. أصول السرخسی، محمّد بن أحمد بن أبی سهل السرخسی، تحقیق أبوالوفاء الأفغانی، بیروت، دارالکتب العلمیة، الطبعة الأولی، 1414 ق.

ص: 356

17. الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقی الحکیم، قم، مؤسّسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی، 1423 ق.

18. أصول الفقه، الشیخ محمّد الخضری، دارالحدیث، مصر.

19. أصول الفقه، المظفر، قم، مرکز انتشارات مکتب الإعلام الإسلامی، الطبعة الرابعة، 1370 ش.

20. أصول الفقه الإسلامی، الشلبی، بیروت، دارالنهضة العربیة، 1406 ق.

21. أصول الفقه فی نسیجه الجدید، الدکتور مصطفی إبراهیم الزلمی، بغداد، شرکة الخنساء، الطبعة الخامسة، 1999 م.

22. أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الدکتور عبداللَّه بن عبدالمحسن الترکی، بیروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الرابعة، 1419 ق.

23. أعلام الموقعین عن ربّ العالمین، ابن القیّم الجوزی، بیروت، دارالکتب العلمیة، الطبعة الثانیة، 1414 ق.

24. الإقناع فی فقه الإمام أحمد، الشربینی، شمس الدین محمّد ابن أحمد، بیروت، دار المعرفة.

25. الأمّ، الإمام الشافعی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

26. الإمامة والسیاسة، ابن قتیبة الدینوری، تحقیق الدکتور طه محمّد الزینی، مصر، مؤسّسة الحلبی وشرکاءه، الطبعة الأولی، 1413 ق.

27. الانتصار، السید المرتضی علم الهدی، تحقیق مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

28. أنوار الأصول، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، تقریر درس الأصول تدوین أحمد القدسی، قم، نسل جوان، الطبعة الثانیة، 1416 ق.

29. أنوار الفقاهة، آیة اللَّه مکارم الشیرازی، مطبعة هدف، الطبعة الأولی، 1415 ق.

30. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الأولی، 1403 ق.

31. البحر الرائق، ابن نجیم، تحقیق الشیخ زکریا عمیرات، بیروت، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1418 ق.

32. بدایة المجتهد، ابن رشد القرطبی، قم، منشورات الشریف الرضی، مطبعة خانه أمیر، 1416 ق.

33. بدائع الصنائع فی ترتیب الشرائع، ملک العلماء أبوبکر بن مسعود، بیروت، دارالفکر، الطبعة الأولی، 1417 ق.

34. بلغة السالک لأقرب المسالک علی الشرح الصغیر، أحمد الصاوی، بیروت، دارالکتب العلمیّة، الطبعة الأولی، 1415 ق.

35. البنایة فی شرح الهدایة، أبومحمّد العینی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الأولی، 1411 ق.

36. تاریخ بغداد أو مدینة السلام، أبوبکر أحمد بن علی الخطیب البغدادی، بیروت، دارالکتاب العربی.

37. تاریخ دمشق أو تاریخ ابن عساکر، أبوالقاسم علی بن الحسن، بیروت، داراحیاء التراث العربی، الطبعة الثالثة، 1407 ق.

38. التاریخ الکبیر،، أبوعبداللَّه إسماعیل البخاری، دیار بکر، المکتبة الإسلامیة.

39. التبیان فی تفسیر القرآن، الشیخ الطوسی، تحقیق أحمد حبیب قصیر العاملی، قم، مکتبة الإعلام الإسلامی، الطبعة الأولی، 1409 ق.

40. تبیین الحقایق، عثمان بن علی، الزیعلی، مصر، دارالکتب الإسلامی، الطبعة الأولی، 1313 ق.

41. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی، 1421 ق.

42. تفسیر آیات الأحکام من القرآن، محمّد علی الصابونی، حلب، دارالقلم، 1414 ق.

43. تفسیر الخازن، علی بن محمّد بن إبراهیم البغدادی، تصحیح عبدالسلام محمّد علی شاهین، بیروت، دارالکتب العلمیة الطبعة الأولی، 1425 ق.

44. تفسیر القرطبی (الجامع لأحکام القرآن)، محمّد بن أحمد

ص: 357

الأنصاری القرطبی، بیروت، داراحیاء التراث العربی، الطبعة الثالثة، 1405 ق.

45. التفسیر الکبیر، الإمام الفخر الرازی، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الثالثة، 1420 ق.

46. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر المعاصر، الطبعة الأولی 1411 ق.

47. جامع أحادیث الشیعة، الشیخ إسماعیل المعزی، قم، مطبعة مهر، 1414 ق.

48. جامع الرموز، شمس الدین القهستانی.

49. الجامع الصغیر، جلال الدین السیوطی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الأولی 1401 ق.

50. جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، المکتبة الإسلامیة، طهران، الطبعة السادسة، 1397 ق.

51. الجوهر النقی، ابن الترکمانی، بیروت، دارالفکر.

52. حجة اللَّه البالغة، شاه ولی اللَّه المحدث الدهلوی، بیروت، دارالمعرفة.

53. الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة، الشیخ یوسف البحرانی، انتشارات جماعة المدرّسین، قم.

54. خصائص أمیرالمؤمنین، أحمد بن شعیب النسائی، تحقیق محمد هادی الأمینی، مکتبة نینوی الحدیثة، طهران.

55. الخلاف، الشیخ الطوسی، قم، مؤسّسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1415 ق.

56. الدر المختار، علاءالدین الحصفکی، دارالفکر، بیروت.

57. الدر المنثور، علاء الدین الحصفکی، دارالفکر، بیروت.

58. درر الأحکام، ملاخسرو.

59. الدرر النجفیة، الشیخ یوسف البحرانی، قم، مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث.

60. ذخیرة المعاد، محمد باقر بن محمد مؤمن السبزواری، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الحجریة، ایران.

61. الرسالة، الإمام الشافعی، تصحیح وشرح أحمد محمّد شاکر، بیروت، المکتبة العلمیة.

62. ریاض المسائل، السیّد علی الطباطبائی، قم، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الأولی 1422 ق.

63. سلّم الوصول فی شرح نهایة السؤول، محمّد بخیت المطیعی.

64. سنن الترمذی، أبوعیسی الترمذی، تحقیق عبدالرحمن محمد عثمان، دار الفکر، بیروت، الطبعة الاولی، 1424 ق.

65. سنن الدارقطنی، علی بن عمر الدارقطنی، تحقیق مجدی ابن منصور، بیروت، دارالکتب العلمیّة، الطبعةالأولی 1417 ق.

66. السنن الکبری، أبوبکر أحمد بن الحسین البیهقی، بیروت، دار صادر، الطبعة الأولی 1355 ق.

67. الشافعی، حیاته وعصره، محمّد أبوزهر، القاهرة، دار الفکر العربی.

68. شرح التهذیب، (مخطوط) المحدّث الجزائری.

69. شرح الصدور ببیان بدع الجنائز والقبور، عبداللَّه محمّد الحمادی، مکتبة الصحابة، الإمارات- مکتبة التابعین، القاهرة، الطبعة الأولی 1420 ق.

70. شرح المقاصد التفتازانی، تحقیق الدکتور عبدالرحمن عمیرة، قم، منشورات الشریف الرضی، الطبعة الأولی 1370 ش.

71. صحیح البخاری، محمّد بن إسماعیل البخاری، بیروت، دارالفکر، 1401 ق.

72. صحیح الترمذی، محمّد بن عیسی بن سورة الترمذی، بیروت، دار إحیاء التراث العربی، 1409 ق.

73. صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج النیسابوری، بیروت، دارالفکر.

74. الصواعق المحرقة فی الرد علی أهل البدع والزندقة، أحمد ابن حجر الهیثمی، تصحیح وتحشیة عبدالوهاب عبداللطیف، القاهرة، مکتبة القاهرة، الطبعة الثانیة، 1385 ق.

ص: 358

75. الفتاوی، محمود شلتوت، دارالشروق، بیروت، الطبعة الأولی الثامنة. 1395 ق.

76. فتح الباری فی شرح البخاری، ابن حجر العسقلانی، بیروت، دارالمعرفة، الطبعة الأولی

77. فتح العزیز فی شرح الوجیز، عبدالکریم بن محمّد الرافض، بیروت، دارالفکر.

78. الفتح المبین فی طبقات الأصولیین، عبداللَّه مصطفی المراغی، مطبعة المکتبة الأزهریة للتراث، مصر، 1419 ق.

79. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الرابعة، 1409 ق.

80. الفقه علی المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزیری، بیروت، داراحیاء التراث العربی، الطبعة الثامنة، 1406 ق.

81. الفقه علی المذاهب الخمسة، محمّد جواد مغنیة، بیروت، الطبعة السابعة.

82. الفوائد المدنیّة، الملا محمّد أمین الاسترآبادی، دار النشر لأهل البیت.

83. القاموس اللمحیط، العلّامة الفیروزآبادی.

84. القواعد فی الفقه الإسلامی، أبو الفرج عبدالرحمن بن رجب، بیروت، دارالجیل، الطبعة الثانیة، 1408 ق.

85. القوانین الفقهیة، ابن الجُزَیّ القرناطی، صیدا، المکتبة العصریّة، الطبعة الأولی 1420 ق.

86. الکافی، أبوجعفر محمد بن یعقوب الکلینی، دارالکتب الإسلامیّة، الطبعة الثالثة، 1388 ق.

87. کتاب الاعتصام، أبوإسحاق إبراهیم بن موسی الشاطبی، بیروت، مؤسّسة الکتب الثقافیة، الطبعة الأولی 1416 ق.

88. کتاب البیع، الإمام الخمینی، قم، اسماعیلیان، الطبعة الرابعة، 1410 ق.

89. کنز العمّال، المتقی الهندی، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 ق.

90. المبسوط السرخسی، شمس الدین أبوبکر محمّد السرخسی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الأولی 1421 ق.

91. المبسوط فی فقه الإمامیّة، الشیخ الطوسی، طهران، المکتبة المرتضویة، الطبعة الثانیة، 1387 ق.

92. مجمع البیان، أمین الإسلام الطبرسی، بیروت، مؤسّسة الأعلمی، الطبعة الأولی 1415 ق.

93. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ابن حجر الهیثمی، بیروت، دارالکتب العلمیّة، 1408 ق.

94. المجموع فی شرح المهذب، أبو زکریا النووی، بیروت، دارالفکر، الطبعة الأولی 1417 ق.

95. المحصول فی علم الأصول، فخر الدین بن محمّد الرازی، بیروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثانیة، 1412 ق.

96. المحلی، ابن حزم، تحقیق أحمد محمّد شاکر، بیروت، دارالفکر.

97. مختلف الشیعة، العلّامة الحلّی، قم، منظمة الإعلام الإسلامی، الطبعة الأولی 1414 ق.

98. مدارک الأحکام، السیّد محمّد العاملی، قم، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الأولی 1410 ق.

99. مرآة العقول، العلّامة محمد باقر المجلسی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الثانیة، 1404 ق.

100. المراجعات، السیّد شرف الدین الموسوی، المجمع العالمی لأهل البیت، قم، الطبعة الأولی

101. مسالک الأفهام، زین الدین بن علی العاملی، قم، مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1419 ق.

102. المستدرک علی الصحیحین، الحاکم النیسابوری، تحقیق مصطفی عبدالقادر عطاء، بیروت، دارالکتب العلمیّة.

103. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، تحقیق مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الأولی 1408 ق.

104. المستصفی من علم الأصول، محمّد الغزالی، بیروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأولی 1417 ق.

105. مستمسک العروة الوثقی، السید محسن الحکیم، قم، مکتبة

ص: 359

آیة اللَّه المرعشی النجفی، 1404 ق.

106. مسند الإمام أحمد، بیروت، دار صادر.

107. مصباح الأصول، السیّد أبوالقاسم الخوئی، قم، مکتبة الداوری، الطبعة السادسة، 1420 ق.

108. مصباح الفقاهة، السید أبوالقاسم الخوئی، مع تقریر المیرزا محمّد علی التوحیدی التبریزی، قم، سیّد الشهداء، الطبعة الثانیة.

109. المعتبر، العلّامة الحلّی، قم، منشورات مؤسّسة سیّد الشهداء.

110. المعتمد فی أصول الفقه، أبوالحسن البصری المعتزلی، تحقیق محمّد حمیداللَّه، دمشق، المعهد العلمی للدراسات العربیة، 1964 م.

111. المعجم الکبیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی، تصحیح حمدی عبدالمجید، بیروت، الطبعة الثانیة، دار إحیاء التراث العربی.

112. المغنی والشرح الکبیر، ابن قدامة، بیروت، دارالکتاب العربی.

113. المکاسب، الشیخ الأنصاری، مع تعلیقة السید کلانتر، بیروت، مؤسّسة النور للمطبوعات، الطبعة الأولی 1410 ق.

114. المکاسب المحرّمة، الإمام الخمینی، مؤسسة تنطیم ونشر آثار الإمام الخمینی، قم، الطبعة الاولی، 1415 ق.

115. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، بیروت، دارصعب- دارالتعارف، الطبعة الأولی 1401 ق.

116. منتهی المطلب، العلّامة الحلّی، مشهد، مجمع البحوث الإسلامیة، مؤسسة قدس، الطبعة الأولی 1412 ق.

117. مهذّب الأحکام، آیة اللَّه السید عبداللَّه علی السبزواری، دفتر آیة اللَّه السبزواری، قم، الطبعة الرابعة، 1413 ق.

118. المهذب فی أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم بن علی النملة، مکتبة المرشد، الریاض، الطبعة الأولی 1420 ق.

119. المهذب فی فقه الشافعی، ابن اسحاق الشیرازی، دمشق، دارالعلم، الطبعة الأولی 1417 ق.

120. الموافقات فی أصول الشریعة، أبو إسحاق الشاطبی، تصحیح وتحشیة: عبداللَّه درار، محمّد عبداللَّه درار وعبدالسلام عبدالشافی محمّد، بیروت، دارالکتب العلمیة.

121. میزان الاعتدال، شمس الدین الذهبی، تحقیق علی محمّد البجاوی، بیروت، دارالمعرفة، الطبعة الأولی 1382 ق.

122. المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة السیّد محمّد حسین الطباطبائی، قم، إسماعیلیان.

123. نصب الرایة، جمال الدین الزیلعی، تحقیق أیمن صالح الشعبانی، القاهرة، دارالحدیث، الطبعة الأولی 1415 ق.

124. نفائس الأصول فی شرح المحصول، الإمام القرافی، صیدا، المکتبة العصریة، الطبعة الثالثة، 1420 ق.

125. نهایة المحتاج إلی شرح المنهاج، شمس الدین محمّد بن أبی العباس أحمد بن حمزة، بیروت، دارالکتب العلمیّة، 1414 ق.

126. نیل الأوطار من أحادیث المختار، دارالکتب العلمیة، بیروت.

127. نیل المآرب فی تهذیب شرح عمدة الطالب، آل بسّام، مکة المکرّمة، مطبعة النهضة الحدیثة، 1993 م.

128. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی، تحقیق مؤسّسة آل البیت، قم، الطبعة الأولی 1412 ق.

129. الوسیلة، ابن حمزة، قم، مکتبة آیة اللَّه النجفی المرعشی، الطبعة الأولی 1408 ق.

130. وسیلة الوسائل، السید محمّد باقر الیزدی، تبریز، الحاج الملا عباس علی، 1291 ق.

ص: 360

ص: 361

13

القسم الثالث عشر: مکانة فلسفة الأحکام فی الفقه الإسلامی

اشارة

تعریف فلسفة الأحکام

ارتباط فلسفة الأحکام مع الحُسن والقُبح الذاتیین للأشیاء

موقع البحث فی فلسفة الأحکام

طرق الکشف عن فلسفة الأحکام

المقصود من معرفة فلسفة الأحکام

فائدة البحث فی فلسفة الأحکام

الأقوال فی المسألة

الآیات والروایات الّتی تقرّر فلسفة الأحکام والأفعال الإلهیّة

أقسام فلسفة الأحکام

مقاصد الشریعة

ص: 362

ص: 363

مکانة فلسفة الأحکام فی الفقه الإسلامی

مقدّمة:

من المتداول فی جمیع المجتمعات البشریة المعاصرة أنّ، تجلس مجموعة من الخبراء والعلماء لهذه المجتمعات فی مجالس معیّنة تسمّی «مجالس تشریعیة» وتعمل علی وضع القوانین والمقرّرات لإدارة المجتمعات البشریة بما یحقّق لها الرقیّ والتقدّم فی مختلف المجالات، وکلّ هذه المجالس وبدون استثناء تأخذ بنظر الاعتبار المفاسد والمصالح فی کلّ عمل ومنهج یتقرّر وضعه حیّز التنفیذ فی واقع المجتمع، وبعد الاطمئنان من وجود مصالح فی ذلک القانون وعدم وجود مفاسد فیه، أو أنّ المصالح کانت أکثر من المفاسد فإنّهم یقومون بإقرار ووضع هذا القانون.

وأحیاناً تستغرق عملیة التحقیق فی تفاصیل القانون أیّاماً وشهوراً عدیدة فی اللجان المختصّة للوصول إلی النتیجة المطلوبة، ومن ثمَّ إرسال مادّة القانون إلی المجالس التشریعیة.

وکلّ هذه المجالس تدّعی أنّها تأخذ بنظر الاعتبار مراعاة مصلحة المجتمع والناس لا المصالح الشخصیة أو الفئویة أو الحزبیة، رغم أنّ هذا الادّعاء ربّما لا یتمتّع بمصداقیة واقعیة دائماً، ولکن لا توجد أیّ دولة فی العالم تضع القوانین، دون أن تمرّ بمثل هذه المراحل والخطوات (رغم أنّه من الممکن وجود اختلاف فی نوع المجالس وتعیین الأفراد فی هذه المجالس، ومعطیات المراحل القانونیة فی البلدان المختلفة).

ومن الطبیعیّ أن تبرز أحیاناً مشاکل غیر متوقّعة، بسبب محدودیّة علم البشر ومعرفتهم، حیث یتمّ السعی لإصلاح هذا الخلل مباشرة بإضافة بعض الملاحظات والمواد إلی القانون السابق، وإذا لم یرتفع الخلل بهذه الإضافات القانونیة، ولم یتحرّک القانون فی خطّ مصالح ذلک المجتمع، فإنّه سیتمّ إلغاؤه وإبطاله.

والسؤال إذن: هل القوانین الدینیة والأوامر والنواهی الإلهیة تنطلق من ذات الموقع وتتحرّک بهذا الاتّجاه؟ أی هل تأخذ بنظر الاعتبار المصالح والمفاسد للإنسان والمجتمع البشریّ، رغم أنّ المعیار الذی تستند إلیه التشریعات الدینیة فی تشخیص المصالح والمفاسد لأفراد البشر یتّصل بطبیعة العلم الإلهی اللامتناهی الذی لا یحتمل فیه الوقوع فی الخطأ والاشتباه؟

وهل یحقّ لنا متابعة فلسفة الأحکام الشرعیة؟ وهل

ص: 364

معرفتنا بالحکمة فی هذه الأحکام لها آثار إیجابیة فی تعبئة الأفکار والإرادات وجعلها تتحرّک فی خط امثتال هذه الأوامر والنواهی فی واقع الحیاة البشریة أم لا؟

نحن نعتقد بأنّ الجواب عن جمیع هذه الأسئلة بالإیجاب، فالأوامر والنواهی الإلهیّة والقوانین الدینیة تابعة للمصالح والمفاسد من جهة، ومن جهة أخری فنحن نملک الحقّ فی البحث والتحقیق فی هذا المجال، وکذلک فإنّ لهذه المعرفة والاطّلاع علی فلسفة الأحکام آثاراً إیجابیة کثیرة تتجلّی فی معقولیة الأحکام الدینیة وخلق الدافع النفسانی لدی الفرد فی التعامل معها من موقع الامتثال والطاعة. ولکنّ العجیب أنّ جماعة من العلماء (الأشاعرة) ینکرون جمیع هذه المراحل الثلاث التی تقدّمت آنفاً، وسیأتی شرح ذلک مع الأجوبة الشافیة.

وتوضیح ذلک:

إنّ أحد أهم البحوث والموضوعات المطروحة فی علم الکلام، وکذلک فی علم أصول الفقه، مسألة (فلسفة الأحکام) بمعنی هل الأفعال الإلهیّة فی عالم التکوین وکذلک الأحکام والمقرّرات والقوانین السماویة فی عالم التشریع، تنطلق من غایات وأهداف معیّنة أم لا؟

وهذا البحث لا یختصّ بعصرنا الحاضر، بل إنّ الإنسان منذ أن وضع قدمه فی هذا العالم، تحرّک فی هذا الخطّ بدافع البحث عن الحقیقة، وبدافع الرغبة فی الاطّلاع علی الغایة من الخلقة وتحصیل الجواب عن الأسئلة التالیة:

أ) من أین جئتُ؟

ب) ولماذا جئتُ؟

ج) وإلی أین أذهبُ؟(1)

إنّ الأشخاص الذین یعتقدون بعدم وجود عالم ما وراء الطبیعة، ویتصوّرون أنّ عالم الخلقة لا غایة له ولا هدف، لا یملکون أجوبة مقنعة عن الأسئلة المذکورة، ولکنّ التیّار الفکریّ للإلهیین یملک إجابات واضحة فیما یتعلّق بهذه الأسئلة وعلامات الاستفهام.

وهکذا الحال فیما یتّصل بالأحکام والتعالیم الإلهیة، فکلّ إنسان ربّما یتساءل فی نفسه: لماذا یجب أن نصلّی؟ أو نحجّ إلی بیت اللَّه الحرام؟ ولماذا حرّم الإسلام الربا، وما هی الحکمة فی حرمة لحم الخنزیر؟

ولماذا ورد تحریم استعمال آنیة الذهب والفضة؟

وعشرات الأسئلة من هذا القبیل.

ومن أجل استجلاء تفاصیل «هذه المسألة» نتابع البحث فی ست مقدّمات وثلاثة فصول، أمّا مقدمات البحث:

الأولی تعریف فلسفة الأحکام

الظاهر أنّ المراد من «فلسفة الأحکام» هو الحِکم والمصالح والمفاسد التی تدور الأحکام الإلهیّة فی تفاصیلها، حول محورها.

وبعبارة أخری، أنّ المراد من علّة وفلسفة الحکم الشرعی هو الحِکم والمصالح والمفاسد التی ضمّنها الشارع الإسلامیّ المقدّس فی تعالیمه وتشریعاته علی أساس «جلب المنفعة ودفع المضرّة». لا أنّ المراد من فلسفة الحکم وعلّته هو العلل والأسباب الحقیقیة للحکم الشرعیّ التی تذکر فی العلوم الطبیعیة والفلسفیة،


1- قال الإمام علیّ علیه السلام:« رَحِم اللَّه امِرءاً علم من أین وفی أین وإلی أین»( الوافی، ج 1، ص 116).

ص: 365

ولذلک ورد التصریح فی الکتب الأصولیة لمدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّ المصالح والمفاسد بمثابة علل الأحکام (1)، وذهب بعض العلماء من أهل السنّة المعاصرین إلی أنّ مفردات مثل «علّة»، «سبب»، «مناط»، «دلیل»، «باعث» وما إلی ذلک کلّها مترادفة وتقع فی عرض واحد. وبالنسبة لتعریف العلّة والماهیّة للحکم الشرعی یقول:

إنّ علماء الأصول عرّفوا «العلّة» بتعاریف مختلفة ولکن بنظرنا أنّ العلّة هی العلامة الواضحة للحکم، من قبیل الإسکار الذی هو علامة علی تحریم الخمر، حیث ورد فی قوله تعالی: «اجتنبوه» وبالتالی ففی کلّ زمان تتحقّق هذه العلامة عند تناول مشروب معیّن، فإنّ ذلک الشی ء یکون من مصادیق شرب الخمر ویعتبر حراماً(2).

وفی نهایة هذا البحث نری من الضروری الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّه لا ینبغی الخلط بین علّة الحکم والعلّة من الحکم، مثلًا: إنّ علّة القصر فی صلاة المسافر هی ذات السفر- مع شروط معیّنة- وأمّا الحکمة والمصلحة فی هذا الحکم فهو رفع الحرج والمشقّة فی السفر مثلًا، وفی النتیجة إذا کان السفر لبعض الناس لا یسبّب أدنی مشقّة، کما فی موارد السفر بالوسائل الحدیثة حیث أصبح السفر فی هذا الزمان أکثر راحة من السابق؛ فإنّه مع ذلک یجب علیه القصر فی الصلاة، لأنّ علّة الحکم باقیة علی حالها والحکم الشرعی یدور مدار وجود العلّة فیه، ومن هنا فإنّ الشخص لو لم یسافر، وبقی فی وطنه، ولکنّه کان یواجه مشقّة شدیدة من عمله فإنّه لا یحقّ له أن یقصر فی صلاته.

ولعلّ الخلط بین علّة الحکم والحکمة منه وعدم التمییز بینهما، أدّی إلی وقوع الأحکام الإلهیّة فی مشرحة التحریف والتغییر، وبالتالی تلوّن الأحکام السماویة بلون الأحکام الأرضیة والبشریة!

الثانیة: إرتباط فلسفة الأحکام مع الحُسن والقُبح الذاتیین للأشیاء

ویستفاد من خلال مطالعة الکتب الإسلامیة والتدقیق فیها، أنّ مسألة فلسفة الأحکام الإلهیّة والغایة فی الأفعال الدینیة تتفرّع علی مسألة «الحُسن والقبح العقلیین»، وعلی حدّ تعبیر الإمام الصادق علیه السلام: «

إنّه لم یُجعَل شَی ءٌ إلّالِشَیْ ءٍ»(3)

، أی أنّ الشارع لم یضع حکماً شرعیاً إلّاعلی أساس غایة وهدف، ویقول العلّامة المجلسیّ فی ذیل هذه الروایة: «أی لم یشرّع اللَّه تعالی حکماً من الأحکام إلّالحکمة، ولم یحلّل الحلال إلّا لحُسنه، ولم یحرّم الحرام إلّالقُبحه، وإنّ ما ذهب إلیه الأشاعرة أمر نادر، حیث أنکروا الحُسن والقُبح العقلیین»(4) وهذه بدروها من المسائل التی تمتدّ فی جذورها إلی مسألة «العدل الإلهیّ».

وتوضیح ذلک: إنّ العلماء قد بحثوا فی علم الکلام مسألة «الجبر والاختیار» التی تعدّ من أقدم المسائل المطروحة فی هذا العلم، ونعلم أنّ هذه المسألة تتّصل بشکل مباشر بمسألة «العدل الإلهیّ»، لأنّه لا معنی ومفهوم للتکلیف الشرعیّ والثواب والعقاب إلّافی صورة القول بالاختیار، فلو لم یملک الإنسان حرّیة الاختیار ولم یکن له دور فی صیاغة مصیره، فإنّ مسألة


1- انظر: أنوار الأصول، ج 2، ص 495.
2- أصول الفقه الإسلامی، ص 322.
3- بحار الأنوار، ج 6، ص 110.
4- المصدر السابق.

ص: 366

«التکلیف» و «الثواب والعقاب»

ستفقد مفهومها ومعناها فیما تفرضه من آلیات وسلوکیّات علی مستوی الممارسة والعمل.

وقد انقسم المتکلّمون الإسلامیون فی هذه المسألة إلی طائفتین: فطائفة تسمّی «المعتزلة» وهم الذین قالوا ب

«العدل والاختیار»

، وطائفة أخری اطلق علیهم بعد ذلک «الأشاعرة» قالوا ب

«الجبر والاضطرار»(1).

ویعتقد «الأشاعرة» بأنّ مقولة «العدل» لیست حقیقة یمکن وصفها وبالتالی القول بوجود معیار وملاک للأفعال الإلهیّة تقوم علی أساسه، لأنّ مثل هذا الکلام یعدّ نوعاً من تعیین التکلیف للَّه تعالی وتقیید المشیئة الإلهیّة بإطار معیّن، بینما اللَّه تعالی هو الحاکم المطلق وجمیع القوانین مخلوقة له ومحکومة بمشیئته وإرادته المطلقة.

ویقول «المعتزلة»: إنّ العدل یملک حقیقة واقعیة وإنّ اللَّه تعالی عادل وحکیم لا یتصرّف أو یعمل عملًا إلّا وفق معیار العدل. ومن هنا برزت مسألة الحُسن والقُبح الذاتیین للأفعال. وذهب المعتزلة إلی تأیید الذاتیة فی الحسن والقبح وطرحوا مسألة المستقلّات العقلیة فی هذ الحقل المعرفی.

أمّا «الأشاعرة» فکما أنّهم تحرّکوا فی مسألة العدل من موقع الإنکار ونفی أن تکون صفة قبلیّة وذاتیّة للأعمال، فإنّهم أنکروا أیضاً الحُسن والقُبح الذاتیین للأشیاء فی مرتبة سابقة وعلی أساس إدراک العقل لها وقالوا: إنّ العدل والظلم والحسن والقبح وما إلی ذلک إنّما تدرک من خلال بیان الشارع المقدّس، ویجب علینا فی هذه المسائل أن نتعامل مع السنّة الإسلامیة من موقع الإذعان والتسلیم والتبعیّة المطلقة(2).

وعلی هذا الأساس، طرحت مسألة «تعلیل الأحکام» والأغراض الموجودة فی أفعال اللَّه، وهل أفعال اللَّه تتحرّک وتصدر من موقع الغرض والهدف، أم لا؟

ومعلوم أنّ الإنسان فی حیاته العملیة وسلوکیاته یتحرّک باتّجاه هدف معیّن وغرض خاصّ، وکما یقال أنّه یبحث عن «من أجل» لکلّ «لماذا»، مثلًا عندما یواجه سؤالًا: لماذا تعمل هذا العمل؟ فإنّه یجیب: من أجل الحصول علی المال وتدبیر أمور المعیشة و ... وإلّا فإنّ عمله سیکون عبثیاً ولا ینطلق من مبرّرات معقولة.

السؤال إذن: هل أفعال اللَّه تعالی معلّلة بالأغراض والغایات کأفعال الإنسان وتملک فی مضمونها طبیعة انتخاب الأصلح والأرجح لکی تکتسب صفة الحکمة وتتّسم أفعاله بأنّها حکیمة، وبالتالی تخرج عن دائرة العبث، أم لا؟

ذهب «المعتزلة» إلی وجود غایة وغرض للفعل الإلهیّ، أمّا «الأشاعرة» فقد أنکروا هذا المعنی، أمّا کون اللَّه تعالی حکیماً کما ورد ذلک فی القرآن بکثرة، فإنّهم تحرّکوا علی مستوی توجیه هذه الصفة، کما ذکروا فی مسألة العدل الإلهیّ فقالوا: إنّ ما یفعله اللَّه تعالی یعتبر عملًا حکیماً، لا أنّ العمل الحکیم هو الذی یفعله اللَّه تعالی (3).

ومع ملاحظة ما تقدّم، تتبیّن طبیعة العلاقة بین موضوع البحث وبین مسائل «الجبر والاختیار»


1- والغایة من طرح هذا البحث هو من أجل توضیح سبب إنکار علل الأحکام من قِبل الأشاعرة وقبولها من قِبل المعتزلة.
2- ولذلک یسمّون أنفسهم« أهل السنّة» أو« أهل الحدیث» وبذلک سعوا لتقویة نفوذهم الاجتماعی بین الناس وتضعیف مکانة المعتزلة.
3- انظر: کتاب« العدل الإلهی» تألیف العلّامة الشهید مرتضی المطهری( مقدّمة الکتاب).

ص: 367

و «العدل» و «الحُسن والقُبح الذاتیین».

یقول الدکتور «محمّد مصطفی الشلبی» (المتوفی 1401 ق):

«یختلف علماء الکلام فی: هل أنّ لأفعال اللَّه وأحکامه فلسفة وحکمة أم لا؟ هنا توجد أربعة أقوال:

1. ذهب جمیع الأشاعرة أو بعضهم إلی عدم وجود علّة وهدف لأفعال اللَّه.

2. وکذلک لا یری الفلاسفة وجود هدف لأفعال اللَّه ودلیلهم علی ذلک أنّ اللَّه لیس مختاراً فی أفعاله، والهدف إنّما یکون فی عمل الفاعل المختار.

3. ویری المعتزلة أنّ لأفعال اللَّه غرضاً وعلّةً، ولایوجد أیّ فعل إلهیّ بدون هدف.

4. ویعتقد فقهاء «الماتریدیة»(1) أنّ جمیع أفعال اللَّه معلّلة بالمصالح، فبعضها معلومة لنا وبعضها الآخر خافیة علینا، ولکن هذا لایعنی أنّ تعلیل الحکم بالمصلحة واجب علی اللَّه کما یقول المعتزلة، وأنّ هذه المسألة متفرّعةً علی مسألة الحسن والقبح العقلیین علی حسب رأی المعتزلة والذی ینکره الأشاعرة. کما أنّ مسألة «التعلیل» متفرّعةً علی هذه الموضوع أیضاً أی هل أنّ أفعال الناس مخلوقةً للَّه تعالی کما یعتقد بذلک الأشاعرة، «وهی مقولة الجبر». أو أنّها مخلوقةً للعباد کما یقول بذلک المعتزلة، أو أنّ أفعال العباد منصوبة لقدرة اللَّه من جهة، ومنصوبة لقدرة العباد من جهة اخری، کما ذهب إلی ذلک بعض المتکلمین.

والمسألة الأخیرة «وهی مسألة الجبر والإختیار» تعتبر أوّل مسألة وقعت مورداً للنزاع بین المعتزلة وأهل السنة»(2).

وبالطبع لا مجال هنا للبحث فی تفاصیل هذا الموضوع وبیان نقاط ضعف منطق الأشاعرة بالنسبة لنفی العدالة عن اللَّه تعالی والقول بالجبر وکذلک إنکار العلل والأغراض الإلهیّة والأحکام الشرعیة، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ تورّط الأشاعرة فی مأزق الجبر المخوف وإنکارهم للعدل وفلسفة الأحکام والأفعال تنبع من منشأین، الأوّل: الابتعاد عن محتوی ومضمون الآیات القرآنیة أو العمل علی تفسیرها بالرأی، والآخر:

أنّهم تصوّروا أنّ هذه العقیدة ستمنحهم فهماً أفضل لمفهوم التوحید الإلهیّ والحرکة فی خطّ التسلیم المطلق أمام الأوامر الإلهیّة.

هذا فی حین أنّنا نعلم أنّ القرآن الکریم وفی آیات کثیرة قد وصف اللَّه تعالی بأنّه حکیم، ومعنی الحکیم فی العرف واللغة هو الشخص الذی یتحرّک فی أفعاله وأعماله من موقع الحکمة.

وکذلک ما ورد فی الآیات القرآنیة من نفی العبث عن اللَّه تعالی حیث یفهم منه وجود علّة وحکمة فی أفعاله وأحکامه.

وهکذا فإنّ ما ورد فی الآیات الشریفة حول فلسفة الأحکام الشرعیة یؤکّد هذا المفهوم أیضاً، ومن الغریب واقعاً ومع وجود هذه الآیات القرآنیة، أن یختار الأشاعرة طریقاً آخر لهم؟!

الثالثة: موقع البحث فی فلسفة الأحکام

تبیّن ممّا تقدّم فی الأمر الثانی أنّ هذه المسألة تبحث فی علم الکلام تارة، وفی علم أصول الفقه تارة


1- یشیر هذا المصطلح إلی مدرسة کلامیة أسّسها شخص باسم محمّد بن محمّد بن محمود الماتریدی السمرقندی( المتوفّی 333) المنتمی إلی« ماترید» أحدی قری سمرقند.
2- تعلیل الأحکام، ص 97 و 98.

ص: 368

أخری، وأغلب علماء أهل السنّة یبحثون هذه المسألة فی موضوع القیاس الذی یمثّل أحد بحوث علم الأصول، والسبب فی ذلک واضح، لأنّ کلّ من یقول بالقیاس لا یمکنه الاعتقاد بذلک بدون القول بوجود العلل، وأساساً فإنّ القیاس یدور مدار التعلیل، ومن هنا فإنّ بعض علماء أهل السنّة من الذین یقولون بحجّیة القیاس «کالفخر الرازی» (م 606) وإن ذهبوا فی تفسیرهم إلی إنکار التعلیل، إلّاأنّهم فی علم الأصول وفی بحث القیاس انطلقوا من موقع الدفاع عن ذلک بشدّة.

یقول «الفخر الرازی» فی تفسیره للآیة الشریفة:

« «هُوَ الَّذی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الارْضِ جَمیعاً»(1):

«قال أصحابنا: إنّه سبحانه وتعالی لا یفعل فعلًا لغرض لأنّه لو کان کذلک، کان مستکملًا بذلک والمستکمل بغیره ناقص بذاته، وذلک علی اللَّه محال»(2).

ولکنّ هذا العالم فی کتابه الاصولی «المحصول فی علم الأصول» یقیم ستّة أدلّة لإثبات أنّ الأحکام الإلهیّة لها أهداف وأغراض ومصالح للعباد، واللافت هنا أنّه یذکر الآیة الشریفة هذه من جملة الأدلّة لإثبات قوله هذا، ثمّ یقول:

«وهذه الوجوه الستّة تدلّ علی أنّ اللَّه تعالی لم یشرّع الأحکام إلّالمصلحة العباد، ولکنّ العلماء إختلفوا فی ذلک، فذهب المعتزلة إلی امتناع صدور الفعل القبیح والعبث من اللَّه، وأنّه یجب أن تکون أفعاله ذات مصلحة وغرض. ولکن صرّح «بعض» الفقهاء علی أنّ کلّ حکم شرعیّ یملک مصلحة معینةً، ولکن إذا سمعوا من شخصٍ یقول بوجود غرض فی أفعال اللَّه فإنّهم یکفّرونه، مع أنّ حرف اللام فی الآیة المذکورة لیس له مفهوم سوی وجود الغرض وهو الحکمة»(3).

ویتبیّن من کلام الدکتور «مصطفی الشلبی» (م 1401) أیضاً أنّ هذه المسألة تبحث فی علم الأصول وکذلک فی علم الکلام، ویقول فی مقام الطعن فی کلام الفخر الرازی وأمثاله الذین ینکرون واقع تعلیل الأحکام فی «علم الکلام» ثمّ یقبلون بذلک فی بحوث علم الأصول:

«وهذا الکلام لیس بعجیب من مثل الفخر الرازی، لأنّ العالم الذی یقلّد عالماً آخر، عندما یکتب فی علمین فإنّه یقوم بتقویة أشیاء فی أحدهما فی حین أنّه أبطلها فی العلم الآخر، لأنّه یتبع فی کلّ علم عالماً خاصاً، ففی الکلام یتبع الأشعری، وفی الفقه والأصول یتبع الشافعی»(4).

وذکر بعض علماء أهل السنّة أیضاً فی تعریفهم للقیاس:

«إنّ أساس القیاس وجذورة یکمن فی معرفة العلل والأسباب الّتی أقام الشارع أحکامه علی أساسها»(5).

الرابعة: طرق الکشف عن فلسفة الأحکام

إنّ الکاشف عن فلسفة الحکم الشرعی یجب أن یکون دلیلًا قطعیاً، أهمّ من أن یکون دلیلًاشرعیّاً أو عقلیّاً أو کلیهما، لا أن یقوم البعض بالاعتماد علی عنصر الظنّ والتوهّم وبدون أیّ ضابط وقاعدة بالبحث والتحقیق فی «فلسفة الأحکام» لأنّ التحرّک فی هذا البحث من موقع الظنّ والتوهّم من شأنه أن یزلزل


1- سورة البقرة، الآیة 29.
2- التفسیر الکبیر للفخر الرازی، ج 2، ص 154.
3- المحصول فی علم الاصول، ج 2، ص 329 و 330.
4- تعلیل الأحکام، ص 106.
5- أصول الفقه الإسلامی للشلبی، ص 191.

ص: 369

أساس الأحکام الإسلامیة، وهذا المنهج لیس فقط لا یساهم فی توثیق العلاقة وتعمیق الصلة بین الإنسان والأحکام السماویة بل ربّما یکون وسیلة جیدة للقضاء علی القیم الدینیة فیما تمثّله من غایات علیا فی واقع الحیاة البشریة.

مثلًا اعتبار الصلاة نوعاً من الریاضة البدنیة، والأذان وسیلة لتقویة الأوتار الصوتیة للحنجرة، والصیام یمثّل تنظیم غذائی لکسب الرشاقة وإزالة البدنة، والرکوع والسجود حرکات لعلاج فقرات الظهر والوقایة من مرض «انزلاق الفقرات»!

إنّ مثل هذه التوهّمات وأشکال الحدس والظنّ فی صیاغة فلسفة الأحکام تعدّ أمراً مضحکاً و مضرّاً وخطیراً فی ذات الوقت و بعیداً عن المنطق والعقل (1).

یقول أحد علماء أهل السنّة: «لقد ثبت بالاستقراء والتتبع فی المنابع الفقهیة أنّ علل الأحکام إمّا أن تکتشف من النصوص أو من الإجماع أو من طریق الإستنباط الفقهیّة، ثمّ أنّه ینقل نماذج فی ما یتعلّق بالکشف عن علّة الحکم من نصوص القرآن والإجماع ویطرح بحثاً مفصّلًا فی مورد «تنقیح المناط» و «تخریج المناط» و «تحقیق المناط» وبیان الفرق بینها»(2).

الخامسة: المقصود من معرفة فلسفة الأحکام

المراد من معرفة فلسفة الأحکام، العلم، التفصیلی بالهدف والغرض من الحکم الشرعیّ، وإلّا فإنّ العلم الإجمالیّ، الذی یقرّر أنّ جمیع أفعال اللَّه تعالی- سواء فی بُعد التکوین أو فی بُعد التشریع- معلّلة بالأهداف والأغراض، ممّا لا شک فیه فی نظرنا، لأنّ اللَّه تعالی وصف نفسه فی آیات قرآنیة کثیرة أنّه «حکیم» وأنّ جمیع أفعال اللَّه حکیمة وبعیدة عن اللغو والعبث:

«افَحَسِبْتُمْ انَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً»(3).

«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا»(4).

السادسة: فائدة البحث فی فلسفة الأحکام

اشارة

مع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم فی الأمر الخامس فنحن نعتقد بعدم وجود أیّ فعل من الأفعال الإلهیّة فی عالم التکوین وعالم التشریع بدون مبرّر وغرض معقول، والأحکام والقوانین الإلهیّة تدور قطعاً حول المصالح والمفاسد. وعلیه یثار هنا هذا السؤال: لماذا نبحث حینئذٍ عن فلسفة الأحکام؟ ألا یکفی هذا المقدار من العلم الإجمالیّ بأنّه لا یوجد أیّ حکم بدون حکمة- فی حرکتنا فی خطّ الإیمان والعبودیة والانفتاح علی اللَّه والدین؟

والجواب عن ذلک واضح، لأنّ العلم التفصیلی بفلسفة الأحکام تترتّب علیه فوائد لا تحصل من العلم الإجمالی بها، لأنّ الإنسان عندما یحیط علماً بالمصالح الموجودة فی الواجبات الإلهیّة، أو یدرک المفسدة والضرر فی التکلیف المحرم، فإنّ ذلک سیخلق فی نفسه باعثاً قویاً للتحرّک فی خطّ امتثال هذا التکلیف الإلهیّ الواجب وترک ذلک الحرام والابتعاد عنه.

کما أنّ المریض إذا فهم ما یترتّب علی الأدویة التی أوصاه الطبیب بتناولها بشکل تفصیلی، وعلم بالأضرار التی منعه الطبیب منها، فإنّ ذلک من شأنه تقویة الباعث


1- انظر: أجوبة المسائل المذهبیة، ص 272( بالفارسیّة).
2- انظر: أصول الفقه للشلبی، ص 236- 249.
3- سورة المؤمنون، الآیة 115.
4- سورة آل عمران، الآیة 191.

ص: 370

النفسانیّ علی تحرّکه فی خطّ العلاج والوقایة وتناول الأدویة التی أوصاه بها الطبیب، وأحد أسباب طرح هذا البحث فی کلمات المعصومین علیهم السلام أیضاً هو هذا الأمر بالذات.

وأمّا الفصول:

الفصل الأوّل: الأقوال فی المسألة

أ) فلسفة الأحکام فی نظر فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام

یتّفق علماء وفقهاء ومتکلّمو مدرسة أهل البیت علیهم السلام بالإجماع علی أنّ جمیع أفعال اللَّه معلّلة بالأغراض والأهداف.

ویتحدّث «العلّامة المجلسیّ» (م 1111) فی شرحه للحدیث الصحیح الوارد عن الإمام الصادق علیه السلام، بکلام مثیر للاهتمام، فقد ورد فی هذا الحدیث أنّ جمیل بن درّاج قال: سألت الإمام الصادق علیه السلام عن علّة وجوب وحرمة بعض الأفعال، فقال:

«إنَّه لمْ یُجْعَلْ شَی ءٌ إلّالِشَیْ ءٍ».

ویقول «العلّامة المجلسی» فی تعلیقه علی هذا الحدیث:

أی لم یُشَرِّع اللَّه تعالی حُکْماً من الأحکام إلّا لحِکمةً من الحِکَم، ولم یُحَلِّلِ الحَلالَ إلّالِحُسْنِه، ولم یُحَرِّمِ الحَرامَ إلّالِقُبْحِه».

ثمّ یعمم دائرة الحدیث علی موارد عالم التکوین أیضاً ویقول:

«ویمکن أن یَعُمّ بحیث یشمل الخَلق والتَّقدیر أیضاً، فإنّه تعالی لم یخلق شیئاً إلّالحکمةٍ کاملةٍ وعِلّةٍ باعثةٍ»(1).

ویقول الخواجة نصیرالدین الطوسی (م 672) فی «تجرید الإعتقاد»:

«ونفی الفرض یستلزم العبث ولا یلتزم عوده إلیه»(2).

وفی الحقیقة فإنّ الطوسیّ فی کلامه هذا یتحرّک من موقع الردّ علی مقولة الأشاعرة الذین یقولون: إنّ وجود الغرض والهدف فی أفعال اللَّه تعالی یستلزم القول بوجود النقص بحیث یتمّ جبرانه بتلک الأفعال، فی حین أنّ الخواجة نصیرالدین الطوسیّ یری أنّ الغایة، إزالة ورفع النقص فی دائرة المخلوقات والعباد.

ویقول «محمّد بن مکّی» المعروف ب «الشهید الأوّل» (م 786) فی کتابه القواعد»:

«لمّا ثبت فی علم الکلام أنّ أفعال اللَّه تعالی معلّلة بالإغماض، وأنّ الغرض یستحیل کونه قبیحاً، وأنّه یستحیل عوده إلی اللَّه تعالی، ثبت کونه لغرض العود إلی المکلّف».

ثمّ یقسم الأهداف والأغراض إلی أربعة أقسام وخلاصة کلامه بهذه الصورة:

وذلک إمّا جلب نفع إلی المکلّف أو دفع ضرر عنه، وکلاهما قد ینسبان إلی الدنیا، وقد ینسبان إلی الآخرة، فالأحکام الشرعیة لا تخلو من أحد هذه الأربعة.

ثمّ قال: ربّما اجتمع فی الحکم أکثر من غرض واحد، فإنّ المتکسّب لقوته وقوت عیاله الواجبی النفقة أو المستحبّی النفقة، إذا انحصر وجهه فی التکسّب وقصد به التقرّب فإنّ الأغراض الأربعة تحصل من تکسّبه:

أمّا النفع الدنیوی فلحفظ النفس من التلف، وأمّا الأخروی فلأداء الفریضة المقصود بها القربة، وأمّا دفع الضرر الأخروی فهو اللاحق بسبب ترک الواجب، وأمّا


1- بحار الأنوار، ج 6، ص 110.
2- شرح التجرید، ص 331.

ص: 371

دفع الضرر الدنیوی فهو الحاصل للنفس بترک القوت»(1).

وفی هذا المجال یقول «الفاضل المقداد» (م 826):

«إذا اعتقد الشخص بعدم وجود أیّ غرض لأفعال اللَّه، فإنّ لازم ذلک أن تکون أفعال اللَّه عبثیة وبدون هدف، وهذا ینافی کون اللَّه حکیماً».

ثمّ یشیر إلی أدلّة الأشاعرة الذین ینکرون وجود الغایات والأغراض فی أفعال اللَّه تعالی، وبعد أن یقوم بردّ هذه الأدلّة یقول:

«مضافاً إلی ذلک، فإنّ الأدلّة النقلیة تصرّح بأنّ اللَّه لایفعل أیّ فعل بدون هدف، من قبیل قوله تعالی «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ»(2)»(3).

وقد أورد المتکلّم والفقیه المشهور «الحسن بن یوسف» المعروف ب «العلّامة الحلّی» (م 726) بحثاً شاملًا فی ردّ نظریة الأشاعرة وبیان الآثار والتبعات السلبیة لکلامهم، ونشیر هنا إلی بعض هذه اللوازم السلبیة:

1. إنّ لازم هذ الکلام هو أنّ أفعال اللَّه تعالی تصدر من موقع العبث واللاهدفیة، فی حین أنّ اللَّه تعالی یقول:

«وَما خَلَقْنَا السَّمواتِ وَ الارْضَ وَ ما بَیْنَهُما لاعِبینَ»(4).

2. إنّ لازم کلامهم هو أن یکون بعث وإرسال الأنبیاء بدون هدف بشکل عام، وبالتالی لا یمکن الاعتماد علی کلام الأنبیاء ودعواهم ... (لأنّه من الممکن صدور القبیح والمعصیة منهم نظراً لإنکار الحسن والقبح فی الأفعال).

3. والأهمّ من ذلک أنّ کلام «الأشاعرة» یستلزم أنّه لا مانع من أن یقوم اللَّه تعالی بتعذیب أفضل الخلق وأخلصهم إلیه وأشدّهم طاعة له کالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ویعاقبه بأشدّ أنواع العذاب والعقاب، وفی نفس الوقت فإنّه یثیب أشدّ الخلق عداوة له کإبلیس وفرعون! لأنّ المفروض أنّ أفعال اللَّه تعالی لیست معلّلة بغایات وأغراض معقولة، ولا یوجد حسن وقبح فی ذات الأفعال، ولا فرق حینئذٍ بین «سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله» و «إبلیس» من حیث الثواب والعقاب!!(5)

ویقول «ابن میثم البحرانی» (م 679) بعد التصریح بأنّ أفعال اللَّه تعالی معلّلة بالغایات والأغراض: ولا یوجد أی فعل من الأفعال الإلهیّة لا یتضمّن غرضاً معیناً بحیث یکون ذلک الغرض هو الداعی لذلک الفعل وإلّا یلزم منه الترجیح بلا مرجّح وهو محال، ویشیر بعد ذلک إلی دلیلین للمنکرین ویجیب عنهما بشکل مفصّل ومشروح (6).

ویذکر العلّامة مرتضی المطهّری فی باب فلسفة الأحکام تحلیلًا رائعاً وشاملًا ویقول:

«إنّ القوانین الإسلامیة فی عین کونها سماویة، فهی أرضیة أیضاً، أی تقوم علی أساس المصالح والمفاسد الموجودة فی حیاة البشر. بمعنی أنّ هذه القوانین والأحکام لا تملک بعداً خفیّاً وسرّیاً مائة بالمائة بحیث یقول الإنسان: «إنّ حکم اللَّه لا یرتبط بهذه الأسباب والمصالح، وإنّ اللَّه قد وضع قانوناً هو الذی یعرف أسراره فقط» لأنّ الإسلام قام أساساً ببیان أنّ کلّ قانون وحکم ورد فی الشریعة السماویة إنّما یقوم علی أساس مصالح معیّنة تتّصل إمّا بجسم الإنسان أو بروحه وبأخلاقه وعلاقاته الاجتماعیة».


1- القواعد والفوائد، ج 1، ص 33 و 34.
2- سورة الذاریات، الآیة 56.
3- اللوامع الإلهیّة فی المباحث الکلامیة، ص 221.
4- سورة الأنبیاء، الآیة 16؛ سورة الدخان، الآیة 38.
5- نهج الحق وکشف الصدق، ص 89 و 90.
6- قواعد المرام فی علم الکلام، ص 110.

ص: 372

ثمّ یضیف: «إنّ الأحادیث الواردة فی کتاب «علل الشرائع» تشیر إلی أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام کانوا فی صدد بیان فلسفة الأحکام منذ صدر الإسلام. وبما أنّ الأحکام الإسلامیة تقوم علی أساس المصالح والمفاسد الواقعیة، فلهذا السبب وجد العقل فسحة للتدخّل فی تشکیلة وصیاغة القوانین الإسلامیة من موقع التحقیق والتدبّر»(1).

ب) فلسفة الأحکام فی نظر علماء أهل السنّة
اشارة

تقدّم آنفاً أنّ هذه المسألة مترتّبة علی قبول الحسن والقبح الذاتیین فی الأشیاء والأفعال وکذلک تتّصل بمسألة «العدل» و «الاختیار»، فالقائلون بالحسن والقبح الذاتیین «المعتزلة» والذین یذهبون إلی حرّیة الإنسان واختیاره، وکذلک القائلین بحجیّة القیاس، فإنّهم فی هذا المورد یؤیّدون مسألة فلسفة الأحکام ووجود الغایة والعلّة فیها، وینتقدون بشدّة المنکرین لهذه الحقیقة.

وفی مقابل ذلک فإنّ «الأشاعرة» وکذلک الظاهریین مثل «ابن حزم الأندلسی» وأیضاً من لا یری القیاس حجّة، فإنّ هؤلاء ینکرون وجود فلسفة وحکمة فی الأحکام الشرعیة، ویعترضون علی الطائفة الأولی فیما یقرّرونه من مقولات کلامیة.

واللافت أنّ کلّ واحدة من هاتین الطائفتین تتحرّک فی مقابل ادعاءات الطائفة الأخری من موقع الذمّ والتقبیح، وأحیاناً یصل الأمر إلی مقولة التکفیر أیضاً.

بعض أدلّة منکری فلسفة الأحکام:

1. یقول علیّ بن حزم الأندلسی (م 456) وهو من الظاهریین ومنکری القیاس وفلسفة الأحکام، بعد نقله لقصّة خروج آدم علیه السلام من الجنّة المذکورة فی الآیات 19 إلی 23 من سورة الأعراف، وکذلک بعد نقله الآیة 12 من سورة الأعراف: «أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنی مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طینٍ»:

«فصحّ أنّ خطأ آدم علیه السلام إنّما کان من وجهین:

أحدهما: ترکه حمل نهی ربّه تعالی علی الوجوب، والثانی: قبوله قول إبلیس أنّ النهی عن الشجرة إنّما هو لعلّة الإغراء.

فصحّ یقیناً بهذا النصّ البیّن أن تعلیل أوامر اللَّه تعالی معصیة، وأنّ أوّل ما عصی اللَّه تعالی فی عالمنا هذا القیاس، وهو قیاس إبلیس علی أنّ السجود لآدم ساقط عنه، لأنّه خیر منه، إذ خُلقَ إبلیس من نار وآدم من طین، ثمّ بالتعلیل لأوامر اللَّه کما ذکرنا، صحّ أنّ أوّل من قاس فی الدین وعلّل فی الشرائع کان إبلیس».

ثمّ أضاف:

«فصحّ أنّ القیاس وتعلیل الأحکام دین إبلیس، وأنّه مخالف لدین اللَّه تعالی، ونحن نبرأ إلی اللَّه تعالی من القیاس فی الدین وفی إثبات علّة الشی ء فی الشریعة»(2).

وفی مکان آخر بعد نقله أهمّ أدلّة القائلین بفلسفة الأحکام (وبالطبع فی نظر ابن حزم) وهو «الحکیم بیننا لا یفعل إلّالعلّة صحیحة، والسفیه هو الذی یفعل لا لعلّة» ویقول فی جوابهم:

«فقاسوا اللَّه تعالی علی أنفسهم، وقالوا: إنّ اللَّه تعالی لا یفعل شیئاً إلّالمصالح عباده، وراموا بذلک إثبات العلل فی الدیات ... وتکاد هذه القضیة الفاسدة التی جعلوها عمدة لمذاهبهم وعقدة تنحلّ عنها فتاواهم


1- الإسلام ومقتضیات الزمان، ج 2، ص 28 و 29( بالفارسیّة).
2- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 8، ص 574.

ص: 373

تکون أصلًا لکلّ کفر فی الأرض»(1).

والملفت أنّ «ابن حزم» لم یکتف بهذا المقدار من التشدّد بل نسب فی مکان آخر من کتابه، القول بعدم وجود الغایة فی الأفعال والأحکام الإلهیّة إلی جمیع الصحابة والتابعین، بل حتّی تابعی التابعین، وذکر أنّ القول بوجود علّة للأحکام الإلهیة مجرّد افتراء وادّعاء بدون دلیل، ونسب ذلک إلی القائلین بحجّیة القیاس (2).

2. ویقول «الشیخ علیّ» المعروف ب «القوشچی» (م 879) وهو من علماء أهل السنّة المعروفین، وأحد شرّاح کتاب «تجرید الاعتقاد» «للخواجة نصیرالدین الطوسی» بالنسبة لبعض عقائد الأشاعرة، ما یلی:

«والخلاف فی أنّ: هل أنّ أفعال اللَّه معلّلة بالأغراض أم لا؟ ذهب الأشاعرة إلی عدم جواز القول بتعلیل الأفعال الإلهیة بالأغراض، وإلّا لزم منه أن یکون اللَّه ناقصاً فی ذاته ویرید إکمال هذا النقص بوسیلة ذلک الغرض».(3) (هذا مع الغفلة عن أنّ جمیع الذین یقولون بالهدفیة لأفعال اللَّه تعالی یقولون بأنّ الهدف یعود لمصلحة البشر).

أدلّة المنکرین للهدفیة:
أ) الدلیل النقلی

إنّ أهم دلیل نقلیّ لمنکری الهدفیة فی أفعال اللَّه تعالی وعلی رأسهم ابن حزم (م 456) ما ورد فی الآیة 23 من سورة الأنبیاء: «لا یُسْئَلُ عَمَّا یَفْعَلُ وَ هُمْ یُسْأَلُونَ».

ویقول ابن حزم فی استدلاله بهذه الآیة الشریفة:

«وقد قال اللَّه تعالی واصفاً لنفسه: (لایسأل ...) فأخبر تعالی بالفرق بیننا وبینه، وأنّ أفعاله لایجزئ فیها لم؟».

وعلی هذه الأساس فإنّ مسألة الأسباب والتعلیل فی أفعال اللَّه باطلة إلّاأن یصرّح اللَّه بنفسه ویقول:

«إنّه فَعَلَ أمر کذا لأجل کذا».

ثمّ یضیف: وهذا أیضاً ممّا لا یسأل عنه فلا یحلّ لأحد أن یقول: لِم کان هذا السبب لهذا الحکم ولم یکن لغیره؟ ولا أن یقول لِم جعل هذا الشی ء سبباً دون أن یکون غیره سبباً أیضاً لأنّ من سأل هذا السؤال فقد عصی اللَّه عزّوجلّ، وألحد فی الدین وخالف قوله تعالی:

«لا یُسْئَلُ عَمَّا یَفْعَلُ»

. فمن سأل عمّا یفعل فهو فاسق، فوجب أن تکون العلة «یعنی تعلیل الأحکام» کلها منفیة عن اللَّه تعالی ضرورة»(4).

المناقشة:

إنّ «ابن حزم» یتحدّث فی استدلاله هذا بلغة المغالطة، وقد تورّط فی تفسیر معنی الآیة المذکورة والآیات المشابهة لها فی عملیة تحریف معنویّ وخلط بین السؤال الموضوعی عن أسرار وعلل الأحکام الشرعیة من أجل فهمها واستیعابها من موقع الفحص عن الحقیقة، مع السؤال عن فعل من أفعال اللَّه أو قول من أقواله وحکم من أحکامه من موقع الاعتراض والسخریة والاستهزاء (نظیر ما ورد فی سؤال الکافرین فی الآیة 31 من سورة المدّثر) «مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا»).

فی حین یوجد فرق واضح بینهما، لأنّ السؤال


1- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 8، ص 580.
2- المصدر السابق، ص 562.
3- شرح تجرید الاعتقاد، ص 443.
4- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 8، ص 565 و 566.

ص: 374

الأول إنّما یصدر عن إیمان کامل باللَّه تعالی وصفاته الکمالیة وعدله وحکمته، والباعث علی هذا السؤال هو الرغبة فی الاطّلاع علی الحقیقة وتقویة البصیرة والتعرّف علی الحکمة الإلهیّة فی عالم التکوین والتشریع والتدبیر الإلهیّ، وهو سؤال مشروع ولا شکّ فیه، ومثل هذا السؤال یصدر عادة من الأخیار والصالحین والأولیاء الإلهیین، وقد ورد فی القرآن الکریم نماذج کثیرة من هذا القبیل من علامات الاستفهام فی دائرة الأغراض الإلهیة.

مثلًا یتحدّث القرآن الکریم عن سؤال ابراهیم الخلیل علیه السلام من اللَّه تعالی:

«رَبِّ ارِنی کَیْفَ تُحیی الْمَوتَی (1).

وینطلق فی سؤاله هذا من موقع الرغبة فی تقویة وتحصیل الاطمئنان بحقیقة الفعل الإلهیّ، یقول:

«لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِی».

ونقرأ أیضاً عن النبیّ زکریا علیه السلام قوله:

«قال رَبِّ انّی یَکُونُ لی غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِی الکِبَرُ وَامْرَأَتی عاقِرٌ»(2).

ونقرأ کذلک عن مریم علیها السلام:

«قالَتْ رَبِّ انَّی یَکُونُ لی وَلَدٌ وَلَمْ یَمْسَسْنی بَشَرٌ»(3).

وبدیهیّ أنّ هذه الأسئلة لا تنطلق من موقع الاعتراض علی أفعال اللَّه تعالی، بل من موقع فهم الحکمة والغرض الإلهیّ فی واقع هذه الأفعال.

وعلیه فإنّ ما هو مذموم ومرفوض فی دائرة المعارف الدینیة هو السؤال الذی ینطلق من موقع الاعتراض والإنکار أو الاستهزاء، والآیة الشریفة: «لا یُسْئَلُ عَمَّا یَفْعَلُ» ناظرة إلی نوعٍ من الأسئلة اللامسؤولة(4).

ب) الدلیل العقلی
اشارة

وقد استدلّ الأشاعرة علی مدّعاهم بعدّة أدلّة عقلیة أیضاً:

الأول: أنّ القول بالهدفیة یلزم منه أن یتحرّک اللَّه تعالی فی طریق الکمال بواسطة شی ء آخر، وهذا محال لأنّ اللَّه تعالی منزّه من کلّ نقص ولا یحتاج لجبران نفصه لشی ء آخر کما هو الحال فی البشر.

والآخر: أن لازم الاعتقاد بالهدفیة ووجود الغرض فی الأفعال الإلهیة، القول بالتسلسل، وهو محال أیضاً، (لأنّ کلّ هدف یحتاج إلی هدف آخر، وهکذا إلی ما لا نهایة).

الدلیل الثالث للأشاعرة: إنّه لا یمکن تصوّر هدف لفعل من الأفعال سوی طلب اللذّة والمنفعة ودفع الألم وأمثال ذلک، فی حین أنّ اللَّه تعالی قادر منذ الأزل علی کلّ شی ء، إذن لا حاجة له إلی الأسباب والعلل لتحقیق الغرض (5).

ولکنّ خطأ الأشاعرة الکبیر یکمن فی هذه النقطة وهی أنّهم تصوّروا أنّ المصالح والمفاسد فی الأفعال الإلهیة تعود إلی الذات المقدّسة، وبدیهیّ أنّ جمیع هذه الأمور تعود لحاجات العباد وکمال المخلوقات فیما یعیشونه من نقص وحاجة للکمال المطلق.

کلام القائلین بالهدفیّة:

وفی مقابل هذه الطائفة ذهبت جماعة من العلماء


1- سورة البقرة، الآیة 260.
2- سورة آل عمران، الآیة 40.
3- سورة آل عمران، الآیة 47.
4- انظر: کتاب« أهداف الدین فی نظر الشاطبی».
5- تعلیل الأحکام، ص 100.

ص: 375

والمحقّقین من أهل السنّة إلی أنّه لا خلاف بین العقلاء علی أنّ شرائع الأنبیاء تدور حول محور تحقیق مصالح الناس فی أمورهم الدینیة والدنیویة، ومن هؤلاء:

یقول المفسّر المعروف «القرطبی» (م 671) فی تفسیره:

«لا خلاف بین العقلاء أنّ شرائع الأنبیاء قصد بها مصالح الخلق الدینیّة والدنیویّة»(1).

ویقول عالم آخر من أهل السنّة وهو «ابن القیّم» (م 751) فی کلامه عن أنّ القرآن وسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله زاخرة بتعلیل الأحکام بالمصالح والأغراض: «إذا کانت مثل هذه الموارد فی حدود مائة أو مائتین ترکناها، ولکنّها أکثر من ألف مورد».

ثمّ أنّه یتحدّث عن موضوع التعلیل الوارد فی القرآن والأحادیث الشریفة بأنواع مختلفة. فأحیاناً یرد التصریح بالهدفیة ب «

لام التعلیل

» وأحیاناً أخری تتحدّث النصوص عن المقصود الحقیقی للفعل ب «

المفعول لأجله

»، وثالثة ب أداة «

کَیْ

» وغیر ذلک، یقول:

«إنّ القرآن من أوّله إلی آخره زاخر بالحکم والمصالح فی عالم التشریع والتکوین، ولایمکن إنکار ذلک لمن له أدنی معرفة بالقرآن الکریم»(2).

ویتحدّث ابن القیّم أیضاً فی کتابه المعروف «أعلام الموقّعین عن ربّ العالمین» عن موضوع حجّیة القیاس لتأیید مسألة الغرضیة فی الأحکام الإلهیّة، ویذکر عنوانین لهذه لمسألة:

1. «القرآن یعلّل الأحکام»: ویستدلّ فی هذا المجال بآیات کثیرة تدلّ علی وجود الغرضیة فی الأحکام الإلهیة.

2. «النّبیّ یعلّل الأحکام»: وینقل هنا أحادیث کثیرة تتضمّن بیان الأغراض الکامنة فی الأحکام الإلهیة(3).

والآخر من علماء أهل السنّة القائلین بالغرضیة فی الأحکام، والذی بحث هذا الموضوع بشکل مفصّل ومشروح هو: «

أبو إسحاق إبراهیم بن موسی

» المعروف ب «

الشاطبی

» وهو من کبار فقهاء المذهب المالکی وکان یعیش فی

غرناطة

فی القرن الثامن، حیث ولد فی العقد الثالث من القرن الثامن وتوفّی عام 790 للهجرة.

یقرّر «

الشاطبی

» فی کتابه المعروف «الموافقات» أنّ الشرائع السماویة إنّما وضعت من أجل تحقیق المصالح الدنیویة والأخرویة للبشر، ویثبت بآلیة الاستقراء أنّ جمیع التکالیف الواردة فی الشریعة تنطلق من موقع حفظ مصالح العباد، وهذه المصالح إمّا ضروریة، أو مورد حاجة الناس بشکل عام أو من الأمور التی تحقّق لهم الکمال المعنوی والانسانی.

ثمّ یضیف قائلًا: إنّ المصالح إمّا مقاصد ضروریة- والتی تستکشف من خلال استقراء الأحکام فی الشریعة- وهی علی خمسة موارد:

حفظ الدین، حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ المال، وحفظ العقل.

ثمّ یشیر إلی اتّفاق المعتزلة وأکثر الفقهاء المتأخرین علی وجود الهدفیة فی الأحکام ویشیر إلی مخالفة الفخر الرازی فی هذا الصدد، ویقول: والمعتمد إنّما هو أنّا استقرینا من الشریعة أنّها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ینازع فیه الرازی، ولا غیره، فإنّ اللَّه تعالی یقول فی بعثة الرسل وهو الأصل:


1- الجامع لأحکام القرآن، ج 2، ص 63 و 64.
2- مفتاح دار السعادة ومنشور ولایة العلم والإرادة، ج 2، ص 374.
3- أعلام الموقّعین عن ربّ العالمین، ج 1، ص 187- 190.

ص: 376

«وَهُوَ الَّذی خَلَقَ السَّمواتِ وَالارْضَ فی سِتَّةِ ایَّامٍ وَکانَ عَرْشُهُ عَلَی الْماءِ لِیَبْلُوَکُمْ ایُّکُمْ احْسَنُ عَمَلًا»(1).

والآیة: «وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالانْسَ الَّا لِیَعْبُدوُنِ»(2).

والآیة: «ما یُریدُ اللَّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلکِنْ یُریدُ لِیُطَهِّرَکُمْ وَلِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُم (3)»(4).

والآخر من علماء أهل السنّة القائلین بالهدفیة فی الأحکام هو

«تاج الدین أبونصر عبدالوهاب السُبکی»

(م 771) الذی استدلّ لهذه المطلب بالآیات والروایات الشریفة، وقال فی کتابه المعروف «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب» بالنسبة لبیان أهداف ومقاصد الشریعة وتقسیمات هذه المقاصد:

«إنّ مقاصد الشریعة الّتی شرّعت الأحکام لأجلها علی قسمین:

1. ضروریّ

2. غیر ضروریّ

أمّا الضروریّ فهو علی قسمین أیضاً:

الأوّل: أن یکون ضروریّاً فی الأصل، وهذا أعلی مرتبة للمقاصد فی جمیع الأقوام والملل، من قبیل:

حفظ الدین، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال.

مثلًا: تمّ تشریع الجهاد لحفظ الدین، والقصاص لحفظ النفوس، وإجراء الحدّ علی شارب الخمر لحفظ العقل، وحدّ الزنا لحفظ النسل، وحدّ السرقة لحفظ المال، ویقام حدّ المحارب (لحفظ الأمن فی المجتمع).

والأمر الآخر: الأمور المکمّلة للضروریّ، کأن یضع الشارع المقدس حدّاً شرعیّاً حتّی لتناول مقدار قلیل من الشراب، بحیث لا یوجب السکر، وذلک من أجل تکمیل الضروریّ، وهو حفظ العقل، وبالتالی یتطرّق الشارع إلی الأقسام غیر الضروریة(5).

ویقول «

الغزالی

» العالم المعروف من أهل السنّة (م 505) فی الإشارة إلی الأصول الخمسة المذکورة:

«وتحریم تفویت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها یستحیل أن لا تشتمل علیه ملّة من الملل وشریعة من الشرائع التی ارید بها إصلاح الخلق»(6).

والآخر من المحقّقین المعاصرین من أهل السنّة هو الدکتور «

وهبة الزحیلی

» الذی یقول بالنسبة للغرضیة فی الأحکام:

«لقد ثبت بالاستقراء أنّ أحکام الشرع تراعی مصالح الناس».

ثمّ ینطلق لإثبات هذا المدّعی من موقع الاستدلال علی هذا المطلب بالآیة الشریفة:

«وَ ما ارْسَلْناکَ الَّا رَحْمَةً لِلْعالَمینَ»(7).

ویقول: «

ومقتضی الرّحمة تحقیق مصالح الناس»(8).

واللافت أنّ «

وهبة الزحیلی

» یقول فی تفسیره «المنیر» فی ذیل الآیة 32 من سورة المائدة: «مِنْ أَجْلِ ذلِکَ کَتَبْنا عَلی بَنی إِسْرائیلَ ...» حیث قرّرت هذه الآیة وضع قانون القصاص علی بنی اسرائیل، استناداً لما ورد فی قصة هابیل وقابیل والحکمة التی تضمّنتها هذه القصّة، بعد التصریح بأنّ مسألة القصاص واردة فی جمیع الأدیان الإلهیة، یقول:


1- سورة هود، الآیة 7.
2- سورة الذاریات، الآیة 56.
3- سورة المائدة، الآیة 6.
4- الموافقات، ج 2، ص 4 و 5.
5- رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، ج 4، ص 334.
6- المستصفی من علم الأصول، ج 1، ص 416.
7- سورة الأنبیاء، الآیة 107.
8- أصول الفقه الإسلامی، ج 2، ص 762.

ص: 377

«ودلّت الآیة أیضاً علی أنّ أحکام اللَّه تعالی قد تکون معللّة، لأنّه تعالی قال: «مِنْ أَجْلِ ذلِکَ کَتَبْنا»

أی أنّ تشریع تلک الأحکام معلّلٌ بتلک المعانی»(1).

والآخر من علماء أهل السنّة هو «

محمّد أبوزهرة

» (م 1396) یقول:

«إنّ المقصد النهائی الثابت فی جمیع أحکام الشریعة ثابت وهو مصالح الناس، فلم یرد أیّ حکم فی القرآن والأحادیث إلّاوفیه مصلحة حقیقیة فی حفظ هذه الأمور الخمسة: الدین، النفس، المال، العقل، النسل. ثمّ یذکر لکلِّ واحدٍ منها مثالًا.

ثمّ یقول:

وإنّ هذه الأمور الخمسة هی الّتی جاءت من أجل المحافظة علیها الشرائع السماویة وتحاول الشرائع الوضعیة أن تحقّقها».

ثمّ یشیر إلی مخالفة «الأشاعرة» و «الظاهریة» الذین ینکرون الهدفیة فی الأحکام الشرعیة ومراعاتها لواقع المصالح والمفاسد، کما أنّ بعض الشافعیة والحنفیة یعتقدون أیضاً بأنّ المصالح والمفاسد لا یمکنها أن تقف حائلًا دون المشیئة الإلهیّة «فعّال لما یشاء» بحیث تفرض علی اللَّه تعالی أن یتحرّک فی أفعاله وتشریعاته وفق هذه المصالح، ثمّ یقول فی خاتمة هذا البحث:

«إنّ هذا الخلاف نظریٌّ لا یبنی علیه عمل، وهو أقرب إلی الآراء الفقهیة، لأنّ الفقهاء أجمعین قرّروا أنّ الأحکام الشرعیة هی وعاء المصالح الحقیقیّة وأنّه لا حکم جاء به الإسلام إلّاوفیه مصلحة لبنی الإسلام»(2).

والآخر من الکتّاب المعاصرین «

محمّد مصطفی الشلبی

» الذی کتب کتاباً مستقلّاً فی فلسفة الأحکام باسم «تعلیل الأحکام» ویقرّر ضمن عدّة فصول من هذا الکتاب مسألة الهدفیة وتعلیل الأحکام فی نظر القرآن والسنّة والصحابة والتابعین، ویشیر فی الفصل الرابع إلی

«التعلیل فی عصر التدوین وتألیف أصول الفقه»

، ویصرّح فی هذا الفصل بنقطة مهمّة وذلک فی قوله:

«وفی هذه البرهة من الزمان حیث تمّ تألیف وتدوین کتب أصول الفقه، فقد ذهب البعض إلی أنّ مسألة التعلیل هی من اصول العقائد، وذهب بعض آخر إلی أنّها من الفروع، وأنکر آخرون هذا الأصل من أساسه، وقبله بعض آخر فی دائرة محدودة.

ثمّ یقول:

«لا أرای حاجة للدخول فی هذا البحث بعد أن طرحت الأدلّة علی تعلیل الأحکام من القرآن والسنّة والصحابة والتابعین وتابعیهم، ولم أجد من یخالف ذلک فیهم.

وهذا برهان قویّ وحجّة قاطعة علی أنّ أحکام اللَّه معلّلة بمصالح العباد، وهذا الأمر قام علیه الإجماع أو شبه الإجماع قبل ولادة بعض المنکرین للتعلیل.

ونظراً لما تقدّم آنفاً، فکیف یمکن أن یأخذ المسلم عقیدته من مجموعة من العبارات المشوّشة والکلمات الناشئة من التعصّب والمغالطة، أو یقول کلاماً لاأساس له، بل ربّما یکون هناک تضادّ بین کلمات المنکرین للتعلیل، بحیث یری الإنسان الذی یقرأ تألیفاتهم أنّ کلّ واحد منهم یعترف بما أنکره مَن سبقه، لأنّ الحجّة قد تبیّنت وأنّ الحقیقة قد إتّضحت وقد نزع عنه جلباب التقلید والعصبیة، وأکثر من ذلک أنّ أحدهم یبالغ فی بدایة کلامه فی إنکار التعلیل، وفی آخره یذعن له


1- التفسیر المنیر، ج 6، ص 160.
2- أصول الفقه لمحمّد أبوزهرة، ص 316- 322.

ص: 378

ویعترف به ویقبل بالتعلیل بحیث لایبقی مجال حتی للنزاع اللفظی»(1).

***

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم بیانه، یتبیّن جلیّاً أنّ مسألة «تعلیل أحکام اللَّه» تعتبر مسألة إجماعیة بین فقهاء مدرسة أهل البیت علیهم السلام، وکذلک بین الفقهاء والعلماء المعروفین من أهل السنّة. والمنکرون لمسألة التعلیل والهدفیة هم الذین ینکرون حجّیة «القیاس» فحسب، وهذا الإنکار أیضاً لیس بشکل مطلق وفی جمیع الموارد بل الموارد التی یتصوّرون أنّ القائلین بالتعلیل والغائیّة یریدون من خلال هذا المبنی إحیاء مقولة القیاس وإثبات حجّیّته، وفی غیر هذه الموارد فإنّهم یقبلون بالتعلیل المذکور بشکل صریح فی الآیات القرآنیة والأحادیث النبویّة. وعلی هذا الأساس فإنّ النزاع فی هذه المسألة، طبقاً لما قاله بعض علماء أهل السنّة، هو نزاع لفظیّ.

ملاحظات ضروریة:

وهنا نری من اللازم ذکر ثلاث نقاط ضروریة:

الأولی: أنّه کما تبیّن فی البحوث السابقة أنّ مخالفة الأشاعرة لمسألة فلسفة الأحکام لیست مخالفة لفظیة، بل إنّهم ینکرون واقعاً هذا المعنی، ویرون أنّ اللَّه تعالی أعلی من أن تکون أحکامه تابعة للمصالح والغایات «راجع البحوث السابقة»، ولکن بما أنّ ضعف هذا القول قد ثبت بوضوح لدی أغلب العلماء وخاصّة العلماء المعاصرین، فلا سبیل أمامهم سوی التحرّک من موقع تبریر کلامهم فی هذه المسألة وقولهم: «إنّ النزاع فی هذه المسألة لفظیّ»، علی أیّة حال فمن حسن التوفیق أنّ هذا القول قد ثبت بطلانه عملًا، وفی الآونة الأخیرة یکاد یتّفق هؤلاء الفقهاء علی أنّ الأحکام الإلهیّة والأوامر والنواهی الشرعیة ناظرة للمصالح والمفاسد التی تتّصل بأمور البشر، وهذا المعنی یبیّن أنّ الأحکام الإسلامیة تتحرّک فی خطّ العقلانیة والمسوّغات المنطقیّة.

والأخری: أنّ مصالح ومفاسد الأحکام (الواجبات والمحرّمات) تملک فی الکثیر من الموارد جهة عامة لا تتّخذ فی واقعها التطبیقی حالة الشمولیة التامّة ماءة بالماءة بل حالها حال القوانین البشریة التی تنطلق من موقع الحکمة الغالبة والمصلحة العامّة.

مثلًا أنّ الحکمة من تحریم الخمر هی فساد العقل وحدوث أشکال النزاع والبغضاء بین الناس والابتعاد عن ذکر اللَّه (کما ورد هذا المعنی فی القرآن والروایات الإسلامیة) ولکن فی نفس الوقت ربّما یتناول بعض الأشخاص مقداراً قلیلًا من الخمر بحیث لا تظهر علی سلوکیّاتهم هذه التداعیات والآثار السلبیة، ومعلوم أنّ هذا المعنی لا یسوّغ جواز شرب الخمر لهؤلاء الأشخاص، لأنّ موضوع التحریم هو «الخمر بشکل مطلق» والحکمة المذکورة لهذا الحکم لها جهة غالبة، وکذلک بالنسبة للواجبات والمحرّمات الأخری.

الثالثة: أنّ القول بفلسفة الأحکام لا یعنی إطلاقاً قبول القیاسات الظنّیة، لأنّه من الممکن أن نقبل بفلسفة الأحکام، ولکنّنا فی ذات الوقت لا نری حجّیة القیاسات الظنّیة، بل نعتقد بأنّ القیاس إنّما یکون مقبولًا فیما إذا کان قطعیاً ک (قیاس الأولویة). ولهذا السبب فإنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام الذین یقولون بوجود


1- تعلیل الأحکام، ص 96.

ص: 379

الأغراض والغایات فی فلسفة الأحکام لکنّهم فی ذات الوقت لا یرون القیاسات الظنّیة حجّة (وتقدّم تفصیل هذا البحث فی منابع الاستنباط فی نظر فقهاء الإسلام).

الفصل الثانی: الآیات و الروایات التی تقرر فلسفه الأحکام و الأفعال الإلهیة

اشارة

بالرغم من أنّنا تحدّثنا عن هذا الموضوع وأشرنا إلی الآیات والروایات التی تقرّر هذا المطلب، ولکن نری من اللازم البحث فی هذه الآیات والروایات بشکل تفصیلیّ ومن موقع التحقیق والتدبّر.

1. الآیات والروایات الشریفة التی تستعرض عالم التکوین
اشارة

فی هذا الفصل نشیر إلی الآیات والروایات التی تدلّ علی وجود غایة وحکمة فی الأفعال الإلهیّة فی عالم التکوین، لأنّ اللَّه تعالی حکیم ولایخلق شیئاً بدون حکمة وغرض، وأیضاً نشیر إلی الآیات والروایات التی تدلّ علی أنّ عالم التشریع یسیر بموازاة عالم التکوین ویعتبر مکمّلًا له. إذن فعالم التشریع أیضاً یملک الهدفیة والحکمة التی تتلخّص فی إیصال الإنسان إلی کماله المنشود.

وببیان آخر: إنّ التکالیف الإلهیّة والتعالیم السماویة فی عالم التشریع تعدّ مصداقاً من مصادیق الأفعال التکوینیة للَّه تعالی وتتمتّع بالهدفیة والغائیة أیضاً.

أ) الآیات الشریفة

وقد وردت آیات کثیرة فی القرآن الکریم تدلّ علی أنّ عالم التکوین یتمتّع بواقع الحکمة، وأنّ جمیع المخلوقات إنّما خلقت لغایة معیّنة وغرض خاصّ ومن ذلک:

1. « «وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالانْسَ الَّا لِیَعْبُدوُنِ»(1).

2. «افَحَسِبْتُمْ انَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَانَّکُمْ الَیْنا لَا تُرْجَعُونَ»(2).

3. «الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ ایُّکُمْ احْسَنُ عَمَلًا»(3).

4. «انَّا جَعَلْنا ما عَلَی الارْضِ زینَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ ایُّهُمْ احْسَنُ عَمَلًا»(4).

5. «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالارْضَ وَما بَیْنَهُما بَاطِلًا ذلِکَ ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا»(5).

6. «اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ سَبْعَ سَمواتٍ وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ یَتَنَزَّلُ الامْرُ بَیْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلَی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدیرٌ وَانَّ اللَّهَ قَدْ احاطَ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عِلْماً»(6).

7. «وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لَجَعَلَ النَّاسَ امَّةً واحِدَةً وَلا یَزالُونَ مُخْتَلِفینَ* الَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّکَ وَلِذلکَ خَلَقَهُم»(7).

ویتبیّن من مجموع هذه الآیات الشریفة أنّ خلق الإنسان وظاهرة الموت والحیاة وخلق السماوات والأرض، کلّ ذلک من أجل هدف معیّن من قبیل الامتحان وتربیة الإنسان وتکامله فی خطّ المعنویات ومن أجل أن یتعرّف علی قدرة اللَّه وعلمه، وبالتالی یتسنّی له الدخول فی دائرة الرحمة الإلهیّة فی حرکته ومسیرته التکاملیة فی واقع الحیاة.


1- سورة الذاریات، الآیة 56.
2- سورة المؤمنون، الآیة 115.
3- سورة الملک، الآیة 2.
4- سورة الکهف، الآیة 7.
5- سورة ص، الآیة 27.
6- سورة الطلاق، الآیة 12.
7- سورة هود، الآیات 118 و 119.

ص: 380

ب) الروایات الشریفة

وقد وردت روایات کثیرة أیضاً عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام تقرّر بصراحة الهدفیة لعالم الخلقة بشکل عام وخلق الإنسان بشکل خاصّ، منها:

1. ما ورد فی الحدیث النبویّ الشریف أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

«إعْمَلوا فَکُلٌّ مُیَسَّرٌ لِما خُلِق لَهُ».

ویقول «ابن أبی عمیر»: سألت الإمام «موسی بن جعفر علیهما السلام» عن معنی هذا الحدیث، فقال الإمام:

«إنّ اللَّه عزّوجلّ خَلَقَ الجِنّ والإنْسَ لِیَعْبُدوه، ولم یَخْلُقْهُم لِیَعْصوه، وذلک قوله عزّوجلّ

«وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالانْسَ إِلّا لِیَعْبُدوُنِ»

فَیَسَّرَ کلًّا لِما خُلِقَ لَهُ، فَوَیْلٌ لِمَنِ اسْتَحَبَّ العَمی علی الهُدی»(1).

ویستفاد من هذا الحدیث الشریف أنّ اللَّه تعالی خلق البشر من أجل إیصالهم إلی مرتبة «الکمال»، وجعل فی اختیارهم الوسائل والأدوات اللازمة لتحقیق هذا الکمال فی واقعهم سواءً من حیث «التکوین» أم من حیث «التشریع».

وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام عندما سأله الراوی: «لماذا خلق اللَّه المخلوقات؟»

فقال:

«إنّ اللَّهَ تَبارکَ وتَعالی لَمْ یَخْلُقْ خَلْقَهُ عَبَثاً وَلَم یَتْرُکْهُم سُدیً بَلْ خَلَقَهُم لإظْهارِ قُدْرَتِهِ ولِیُکَلِّفَهُمْ طَاعَتَهُ، فَیَسْتَوْجِبوا بِذِلکَ رِضْوانَهُ، وَما خَلَقَهُم لِیَجْلبَ مِنْهُم مَنْفَعةً وَلا لِیَدفَعَ بِهِم مَضَرَّةً، بَلْ خَلَقَهُم لِیَنْفَعَهُم وَیُوصِلَهُم إلی نَعیمِ الأبَدِ»(2).

ویستفاد من هذا الحدیث أیضاً أنّ الهدف النهائی للأفعال الإلهیّة فی عالم التکوین والتشریع هو تحقیق الکمال المعنوی للإنسان فی حرکة الحیاة.

3. فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام (تقدّم ذکره) أنّ الإمام عندما سئل عن الحلال والحرام قال:

«إنَّهُ لَم یُجْعَلْ شَی ءٌ إلّالِشَی ءٍ»(3)

. (أی لغرض معیّن).

وبالرغم من أنّ الراوی سأل عن أمور الأحکام الشرعیة ولکن جواب الإمام علیه السلام عامّ ویشمل الأفعال التکوینیة أیضاً کما احتمل ذلک «العلّامة المجلسیّ».

فقد صرّح بعد نقله هذا الحدیث بأنّ جمیع الأحکام الإلهیة معلّلة بالمصالح والمفاسد وقال:

«وَیُمْکِنُ أن یَعُمَّ بِحَیثُ یَشْملُ الخَلْقَ والتَّقدِیرَ أیضاً فإنَّهُ تَعالی لَمْ یَخْلُقْ شَیْئاً أیْضاً إلّالِحِکْمَةٍ کامِلةٍ وعِلَّةٍ باعِثَةٍ»(4).

وهناک أحادیث أخری فی هذا المضمون یطول ذکرها واستعراضها بأجمعها.

النتیجة أنّ الغرضیة فی عالم الخلقة فی نظر الآیات والروایات الإسلامیة متوفّرة فی جمیع موجودات عالم الخلقة بدون أدنی شکّ.

2. الآیات والروایات المتعلّقة بغائیّة الأحکام الشرعیّة
أ) الآیات

وقد تحدّثت آیات کثیرة عن غائیة وهدفیة جمیع الأحکام الشرعیة فیما تتضمّنه من حِکم وغایات فی طریق المسیرة التکاملیة للبشر، بحیث أنّ بعض علماء أهل السنّة ک «ابن القیّم» یقول:

«القُرآنُ وسُنَّةُ رَسولِ اللَّهِ مَمْلوءانِ من تعلیلِ الأحکامِ


1- توحید الصدوق، ص 347، باب السعادة والشقاوة، ح 3.
2- علل الشرائع، ج 1، ص 9، باب 9، ح 2.
3- المصدر السابق، ص 8، باب 8، ح 1.
4- بحارالأنوار، ج 6، ص 110، ذیل ح 3.

ص: 381

بالحِکَم والمَصالحِ ... ولو کان هذا فی القرآنِ والسُّنّةِ مائة موضع أو مائتین لسُقناها، ولکنّه یزید علی ألف موضوع!»(1).

وعلی أیّة حال نشیر هنا إلی بعض الموارد المذکورة فی سیاق الآیات القرآنیة:

1. «اقِمِ الصَّلَاةَ لِذِکْری»(2).

تشیر هذه الآیة الشریفة إلی إحدی الغایات المهمّة للصلاة وهی: أنّ الصلاة تعمل علی إنقاذ الإنسان من أجواء الغفلة عن اللَّه تعالی إلی أجواء الوعی والیقظة فی واقع الحیاة، ونعلم أنّ الغفلة عن ذکر اللَّه تعدّ من أشدّ العوامل التی تتسبّب فی وقوع الإنسان فی مهاوی الشقاوة والخسران.

واللافت أنّه ورد فی بعض الأحادیث الشریفة: أنّ أعظم الفساد الغفلة عن اللَّه تعالی (3).

2. «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ»(4).

بیّنت هذه الآیة فی سیاقها أنّ عنصر التقوی یمثّل الحکمة من تشریع الصیام.

3. «وَلَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا اولِی الالْبابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ»(5).

تتحرّک هذه الآیة من موقع بیان حکمتین لتشریع القصاص: الأولی، أنّ القصاص یعتبر رأسمال حیاة البشر وعامل أساس لحفظ النفوس، والأخری، أنّه یخلق فی الإنسان حالةالتقوی والانضباط النفسانی فی سلوکه المعنوی.

4. «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِینَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَیْهِمْ طَیِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ»(6).

نستوحی من هذه الآیة أنّ فلسفة بعض أحکام العقوبات والغرض منها أحیاناً ما یقع فی مقابل بعض الذنوب والآثام التی یرتکبها بعض الناس ومن أجل إثارة عوامل الانتباه وعدم الغفلة لدی هؤلاء.

5. ورد فی الشریعة المقدّسة رفع حکم الصیام عن المسافر والمریض، وقد ذکرت النصوص أنّ الغرض من هذا الحکم نفی العسر والحرج عنهما، تقول الآیة:

« «یُریدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُریدُ بِکُمُ الْعُسْرَ»(7).

6. ونقرأ فی الآیة الشریفة بالنسبة لفلسفة تحریم الخمر والقمار: «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِمَا إِثْمٌ کَبِیرٌ»(8).

7. وبالنسبة لفلسفة تقسیم «الفی ء» (أی الغنائم التی یحصل علیها المسلمون) فقد ذکرت الآیات الشریفة الحکمة من ذلک وبعد مراعاة بعض الشروط الخاصة وبیان أصناف المستحقّین له، تقول الآیة: «کَیْ لا یَکُونَ دُوْلَةً بَیْنَ الاغْنِیاءِ مِنْکُمْ»(9).

وتعدّ هذه الآیة الشریفة بمثابة أصل أساسیّ ومهمّ فی دائرة المسائل الاقتصادیة الإسلامیة، حیث ترسم المخطّط العام للاقتصاد الإسلامی الذی یهتمّ بصیاغة برامج الحیاة الواقعیة للمجتمعات البشریة، وفی نفس


1- مفتاح دار السعادة ومنشور ولایة العلم والإرادة، ج 2، ص 374( أشرنا فی البحوث السابقة إلی کلامه).
2- سورة طه، الآیة 14.
3- قال الإمام جعفر الصادق علیه السلام:« أعْظَمُ الفَسادِ أن یَرضی العَبدُ بالغَفْلَةِ عَن اللَّهِ وهذا الفَسادُ یَتولّدُ مِن طولِ الأمَلِ والحِرْصِ والکِبَرِ».( بحار الأنوار، ج 70، ص 395).
4- سورة البقرة، الآیة 183.
5- سورة البقرة، الآیة 179.
6- سورة النساء، الآیة 160.
7- سورة البقرة، الآیة 185.
8- سورة البقرة، الآیة 219.
9- سورة الحشر، الآیة 7.

ص: 382

الوقت یقرّر احترام الملکیة الشخصیة والخصوصیة، وذلک أنّ الإسلام یتحرّک علی مستوی تنظیم الثروات والأموال بحیث لا یجعلها تتمرکز بید فئة خاصّة وشریحة معیّنة، بل یفسح المجال لتداول الثروة بین أفراد المجتمع البشری باستمرار لیتمّ القضاء علی ظاهرة استغلال الثروات من قِبل فئة معیّنة تتحرّک علی مستوی استغلال واستثمار الناس (1).

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ القرآن الکریم قد استخدم أسالیب مختلفة فی بیان علّة وفلسفة الأحکام الشرعیة کما یقول الکاتب المعاصر «محمّد مصطفی شلبی» فی هذا الصدد:

«إنّ منهج القرآن فی بیان علل الأحکام وأسبابها یختلف عن المنهج الجدید الذی أبدعه العلماء المعاصرون، لأنّ القرآن فی مقام بیان علل الأحکام یستخدم أسالیب مختلفة ولا یقتصر فی مسیرة تعلیل الأحکام وبیانها علی طریقٍ واحدٍ کی لا یملّ الناس وتملّ أسماعهم، بل استخدم عبارات متنوعة، تارة بشکل مفصّل، وأخری بشکل مجمل».(2)

ب) فلسفة الأحکام فی دائرة الروایات

وردت عبارات مختلفة فی الأحادیث الإسلامیة تشیر بصراحة إلی فلسفة الأحکام، وهی علی نحوین:

الأول: الروایات التی تتحدّث بشکل عامّ عن أنّ فلسفة الأحکام الشرعیة هی ضمان مصالح العباد، والآخر: الروایات التی تذکر فی سیاقها بعض مصادیق هذه المصالح.

یقول الدکتور وهبة الزحیلی- من العلماء المعاصرین من أهل السنّة-:

«کثیراً ما یذکر النبیّ صلی الله علیه و آله الحکم معلّلًا إیّاه بما یترتّب علیه من المصالح الدینیّة و الدنیویّة»(3).

ومن جملة الروایات من القسم الأول:

1. قال أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام: إنّ اللَّه تبارک وتعالی خاطب عباده:

«أطِیعونی فِیما أمَرْتُکُم بِه وَلا تُعَلِّمُونی بِما یُصْلِحُکُم فإنّی أعْلَمُ بِه وَلَا أبْخَلُ عَلَیکُم بِمَصالِحِکُم»(4).

2. وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«یا عِبادَ اللَّه أَنتُم کالمَرْضی وَرَبُّ العالَمِینَ کالطَّبیبِ، فَصَلاحُ المَرْضی فِیما یَعْلَمُه الطَّبِیبُ ویُدَبِّرُه، لا فیما یَشْتَهِیهِ المَرِیضُ ویَقْتَرِحه، ألا فَسَلِّمُوا للَّهِ أمْرَه تَکونوا مِنَ الفائِزِین»(5).

3. وجاء فی حدیث صحیح عن جمیل بن درّاج أنّه قال:

«سألت أباعبداللَّه علیه السلام عن شَی ءٍ مِن الحَلالِ والحَرامِ.

فقال: إنّه لَم یُجْعَلْ شَی ءٌ إلّالِشَی ءٍ»(6).

4. ونقرأ فی حدیث شریف عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال:

«إنّ اللَّهَ تَبارکَ وتَعالی لَم یُبحْ أکْلًا وَ لا شُرْباً إلّالِما فِیه مِنَ المَنْفَعَةِ والصَّلاحِ، ولَم یُحَرِّمْ إلّامَا فِیهِ مِن الضَّرَرِ والتَّلَفِ والفَسادِ»(7).

5. وجاء فی حدیث مشهور فی «تحف العقول» أنّه:


1- انظر: تفسیر الأمثل، ذیل الآیة 7 من سورة الحشر.
2- تعلیل الاحکام، ص 14.
3- أصول الفقه الإسلامی، ج 2، ص 1010.
4- عدّة الداعی، ص 37.
5- المصدر السابق، ص 47.
6- علل الشرائع، ج 1، ص 8، باب 8، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 60، ص 110( وتمّت الإشارة إلی هذا الحدیث فی البحوث السابقة أیضاً).
7- مستدرک الوسائل، ج 16، ص 165، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح 5.

ص: 383

«وَکُلُّ أمرٍ یَکُونُ فِیهِ الفَسادُ مِمّا هو مَنْهِیٌّ عَنهُ مِن جَهَةِ أکْلِهِ وشُرْبِه ... فَهذا کُلُّه حَرامٌ ومُحَرَّمٌ»(1).

ومن جملة روایات القسم الثانی:

1. یقول الدکتور وهبة الزحیلی فی کتابه: إنّ ابن مسعود نقل عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، أنّه قال فی الغایة من الزواج:

«یا مَعْشَرَ الشَّبابِ! مَنِ اسْتَطاعَ مِنْکُمُ البَاءَةَ فَلْیَتَزَوَّجْ، فإنَّهُ أغَضُّ للبَصَرِ، وأحْصَنُ لِلفَرْجِ وَمَن لَم یَسْتَطِع، فَعَلَیهِ بِالصَّوْمِ».

2. وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بالنسبة للحکمة من تحریم الزواج من زوجتین إحداهما خالة والأخری عمّة،:

«إنَّکُم إنْ فَعَلتُم ذلِکَ، قَطَعْتُم أرْحامَکُم»(2).

3. وینقل ابن القیّم فی کتابه حدیثاً فی بیان فلسفة عدم نجاسة الهِرّة:

«إنّها من الطّوافین علیکم والطَّوّافاتِ»(3)

. وهذا یعنی أنّها إذا کانت نجسة العین فسوف تقعون فی مشقّة وحرج من ذلک.

4. وفی روایة عن الإمام الرضا علیه السلام یقول بالنسبة للغایة من تحریم الدم:

«وَحَرَّم اللَّهُ عزّوجلّ الدَّمَ ... لأنّه ... یُسِی ءُ الخُلْقَ ویُورِثُ القَسْوَةَ للقَلْبِ، وقِلَّةَ الرأْفَةِ والرَّحْمَةِ حَتّی لا یُؤمَنَ أنْ یَقْتُلَ وَلَدَهُ ووالِدَهُ وصاحِبَه»(4).

5. وفی حدیث آخر عن الإمام الباقر علیه السلام فی مجال المفاسد والأضرار المترتّبة علی تناول المشروبات الکحولیة فی واقع الحیاة الفردیة والاجتماعیة.

«... إنَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ کَعابِدِ وَثَنٍ ویُورِثُه الارتِعاشَ ویَهْدِمُ مُرُوَّتَه، ویَحْمِلُه علی التَجَسُّرِ علی المَحارِمِ مِن سَفْکِ الدِّماءِ ورُکوبِ الزِّنا حتّی لا یُؤمَن إذا سَکَر أنْ یَثِبَ علی حُرَمِهِ وهُوَ لا یَعْقِلُ ذلِکَ، والخَمْرُ لا تَزِیدُ شارِبَها إلّا کُلَّ شرٍّ»(5).

6. وکذلک نقرأ فی هذا الصدد ما ورد فی حدیث آخر عن هشام بن الحکم أنّه قال:

«سأل الزندیق أباعبداللَّه علیه السلام فقال: لِمَ حَرّمَ اللَّهُ الخَمْرَ ولا لَذّةَ أفْضَلَ مِنْها؟ قال: حَرَّمَها لأنَّها أُمُّ الخَبائِثِ ورَأسُ کُلِّ شَرٍّ، یأتِی علی شَارِبِها ساعةٌ یُسْلَبُ لُبُّه ولا یَعْرِفُ رَبَّهُ، ولا یَترِکُ مَعصِیةً إلّارَکِبَها وَلا حُرْمَةً إلّاانْتَهَکَها ولا رَحِماً مَاسَّةً إلّاقَطَعَها، ولا فاحِشَةً إلّاأتاها، والسّکرانُ زِمامُهُ بِیَدِ الشَّیطانِ إنْ أمَرَهُ أنْ یَسْجُدَ للأوثْانِ سَجَد، ویَنْقادُ حَیثُ ما قَادَهُ ...»(6).

7. ویقول الإمام أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام فی کلماته القصار فی «نهج البلاغة» برقم 252 مشیراً إلی قسم مهمّ من علل وغایات الأحکام الإلهیة:

«فَرَضَ اللَّهُ الإیمانَ تَطْهِیراً مِنَ الشِّرْکِ والصَّلاةَ تَنْزِیهاً عَنِ الکِبْرِ ... والحَجَّ تَقوِیَةً للدِّینِ والجِهَادَ عِزّاً للإسْلامِ».

8. وفی خطبتها التاریخیة المعروفة قالت فاطمة الزهراء علیها السلام:

«فَجَعَلَ اللَّهُ الإیمانَ تَطْهِیراً لَکُم مِنَ الشِّرْکِ والصَّلاة تَنْزِیهاً لَکُم عَنِ الکِبْرِ ...»(7).


1- تحف العقول، ص 333.
2- أصول الفقه الإسلامی، ج 2، ص 1010 و 1011. والجدیر بالذکر أنّ الحدیث الثانی نقله ابن القیّم أیضاً فی کتابه أعلام الموقعین، ج 1، ص 189.
3- اعلام الموقعین، ج 1، ص 190.
4- بحارالانوار، ج 62، ص 165، ح 3.
5- المصدر السابق، ص 164، ح 2.
6- المصدر السابق، ص 162، باب علل تحریم المحرمات، ح 1.
7- الشافی للسیّد المرتضی، ج 4، ص 69؛ بلاغات النساء لابن طیفور( المتوفّی 380 ق)؛ الأمالی للشیخ الطوسی، ج 2، ص 69؛ الاحتجاج للطبرسی، ج 1، ص 253؛ کشف الغمة، ج 2، ص 108؛ شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 16، ص 210 و 249؛ احقاق الحق، ج 10، ص 296؛ أعلام النساء، ج 4، ص 116؛ الغدیر، ج 7، ص 195.

ص: 384

9. ویستفاد بوضوح من بعض الأحادیث أنّ الأحکام الشرعیة والتعالیم الإلهیة لا تهتمّ فقط بصلاح ومنفعة العباد فی حیاتهم الدنیویة، بل إنّ بعض تعالیم الإسلام تنفع الإنسان فی العالم الآخر وحیاته بعد الموت، ولذلک نقرأ فی حدیث عن الإمام الرضا علیه السلام فی بیان الغایة من صلاة المیّت:

«إنَّما امِرُوا بالصَّلاةِ علی المَیِّتِ لِیَشْفَعُوا لَهُ، وَلِیَدْعوا لَهُ بالمَغْفِرَةِ، لأنَّهُ لَم یَکُنْ فِی وَقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ أحْوَجُ إلی الشَّفاعَةِ فِیه والطّلِبَةِ والاسْتِغْفارِ مِن تِلْکَ السّاعَةِ»(1).

الفصل الثالث: أقسام فلسفة الأحکام

اشارة

إنّ غایات الأحکام والأغراض التی تتضمّنها التعالیم السماویة علی أربعة أقسام:

القسم الأوّل: الغایات والأغراض للأحکام الإلهیة التی تعدّ من البدیهیات والضروریات، وهی واضحة وجلیّة لجمیع الناس منذ بدایة بعثة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله، وکل إنسان یتمکّن بمقدار ما ملکه من فکر ومعرفة أن یدرک مثل هذه الأغراض، من قبیل:

حکمة فی تحریم الکذب، الخیانة، التهمة، قتل النفس، السرقة، الظلم والجور، التطفیف فی المیزان والغشّ فی المعاملات، وکذلک الغایة والحکمة من الأمر بالعدل والفضیلة والصدق، إسداء العون إلی المحتاجین والدفاع عن المظلومین، والإحسان للوالدین والأقربین والجیران وأمثال ذلک، فإنّ کلّ شخص یمکنه استکشاف فلسفة هذه الأحکام والغایة منها علی مستوی فهمه ومعلوماته فی کلّ زمان. وعلی هذا الأساس وبسبب إدراک العقل للکثیر من غایات الأحکام الإلهیة التی تتحدّث عن هذه الأمور، ورد فی الروایة المعروفة فی وصف العقل بأنّه «الحجّة الباطنة» حیث ورد:

«إنّ للَّهِ علی النّاسِ حُجَّتَیْنِ حُجَّةً ظاهِرَةً وحُجَّةً باطِنَةً ...»(2).

القسم الثانی: الأغراض والغایات التی لا یدرکها عامّة الناس بأنفسهم، ولکنّ الآیات القرآنیة أو الأحادیث الشریفة أشارت إلی هذه الغایات، من قبیل الغایة من صوم شهر رمضان المبارک، حیث إنّ عامة الناس، بل أحیاناً بعض العلماء، یجهلون الحکمة من الصیام فی بُعدها الأخلاقی والاجتماعی والصحّی، إلّا أنّ الشارع المقدّس أزاح الستار عن آثار ومعطیات الصوم فی البعد التربوی والأخلاقی وقال: «... لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ»(3).

وبالنسبة لتأثیر الصوم فی البعد الاجتماعی نقرأ فی الحدیث العمیق المضامین الوارد عن الإمام الصادق علیه السلام فی جوابه عن سؤال هشام بن الحکم عن فلسفة الصوم أنّه قال:

«إنَّما فَرَضَ اللَّهُ الصِّیامَ لِیَسْتَوِی بِه الغَنِیُّ و الفَقِیرُ وذَلِکَ أنَّ الغَنِیَّ لَمْ یَکُنْ لِیَجِدَ مَسَّ الجُوعِ فَیَرْحَم الفَقِیر ...»(4).

وبالنسبة لمعطیات الصیام الصحّیة وما یمنحه


1- وسائل الشیعة، ج 2، ص 776، باب 5 من أبواب صلاة الجنازة، ح 21.
2- الکافی، ج 1، ص 16.
3- سورة البقرة، الآیة 183.
4- وسائل الشیعة، ج 7، ص 3، ح 1.

ص: 385

للإنسان من سلامة الجسم ووقایته من الأمراض المختلفة، نقرأ فی الحدیث النبویّ الشریف أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

«صُومُوا تَصِحُّوا»(1).

وهناک الکثیر من هذه النصوص التی تتحدّث عن بعض غایات الأحکام الشرعیة، بحیث أنّ أحد کبار محدّثی الشیعة وهو «الشیخ الصدوق» (م 381) ألّف کتاباً فی هذا المجال باسم «علل الشرائع».

وممّن کتب فی هذا الموضوع من علماء أهل السنّة- کما أشرنا إلی ذلک سابقاً- الاستاذ «محمّد مصطفی شلبی» (م 1401) الذی کتب کتاباً فی هذا الموضوع وأسماه «تعلیل الأحکام».

القسم الثالث: الأحکام التی یتمّ الکشف عن أسرارها وفلسفتها بمرور الزمان وتطوّر العلوم والمعارف البشریة، وهذا بحدّ ذاته یعتبر من الشواهد الحیّة علی حقّانیة الأحکام الإسلامیة وعظمة التعالیم السماویة.

مثلًا نسمع بین الحین والآخر أنّ الأطبّاء والمختصّصین یکشفون المزید من الآثار السلبیة والمضرّة للمشروبات الکحولیة علی المستوی البدنی والروحی والاجتماعی، وتأثیر شرب الخمر حتّی علی «الجینات الوراثیة» وتورد المجلات والصحف والاذاعات المختلفة إحصاءات فی هذا المجال أو بالنسبة إلی الحوادث والوفیات الناشئة من تناول الکحول وکلّ هذه الأمور تتجلّی یوماً بعد آخر بمرور الزمان وارتفاع المستوی الثقافی و العلمی للإنسان المعاصر.

إنّ القرآن الکریم قرّر حرمة تناول لحم الخنزیر(2) والیوم اکتشف العلماء والخبراء التبعات المضرّة والإفرازات السلبیة لأکل لحم الخنزیر، ومن ذلک أنّ لحم الخنزیر یحتوی علی نوعین من المکروبات الخطیرة باسم «دودة کیریشین» و «دودة القرع».

إنّ دودة کیریشین تضع فی شهر واحد 15000 ألف بویضة وتتسبّب فی الإصابة بأمراض مختلفة مثل فقر الدم، الصداع، الحمّی الخاصّة بالإسهال، والأوجاع الروماتیزمیة، خدر الأعصاب، الحکّة داخل البدن، تراکم الشحم، التعب والإرهاق، صعوبة الحرکة والنشاط وبلع الطعام والتنفس، وغیر ذلک.

وربّما یکون فی الکیلو الواحد من لحم الخنزیر 400 ملیون بیضة لدودة کیریشین، ولعلّ هذه الأمور سبّبت فی أن تعلن الحکومة الروسیّة قبل عدّة سنوات منع تناول لحم الخنزیر.

مضافاً إلی أنّ الخنزیر یعتبر مثالًا لانعدام الغیرة ویعیش القذارة البدنیة، وبالتالی فإنّ تناول لحم الخنزیر یؤدّی إلی إصابة الشخص بحالة اللامبالاة وعدم الغیرة فی مسائل تتّصل بالشرف والعرض (3).

وهکذا ما ورد فی الحدیث الشریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه نهی بشدّة عن إتیان الرجل زوجته وفی البیت طفل أو صبی ینظر إلیهما، یقول:

«والّذِی نَفْسِی بِیَدِهِ لَوْ أنَّ رَجُلًا غَشِیَ امْرَأتَهُ وفِی البَیْتِ صَبِیٌّ مُسْتَیقِظٌ یَراهُما وَیَسْمَعُ کَلامَهُما ونَفَسَهُما ما أفلَحَ أبَداً»(4).

ولا یخفی أنّ الحکمة من هذا النهی وکیف أن


1- سیری در فلسفه احکام، ص 122( بالفارسیة).
2- سورةالبقرة، الآیة 173؛ سورة المائدة، الآیة 3؛ سورة النحل، الآیة 115.
3- انظر: تفسیر الأمثل، ذیل الآیة 37 من سورة البقرة.
4- وسائل الشیعة، ج 14، ص 94، الباب 66 من أبواب مقدّمات النکاح، ح 2.

ص: 386

المقاربة الجنسیة التی یراها الطفل (مع أنّه قاصر عن فهم ودرک مضمون ومعنی هذا العمل) تؤدّی إلی تبعات أخلاقیة سیئة کأن تؤدّی به إلی الزنا، فهی مسألة تبیّنت بالتدریج علی مرور الزمان.

القسم الرابع: الحِکم والأغراض التی بقیت غامضة ومجهولة ولم یتمّ الکشف عنها لا فی بدایة الإسلام ولا بمرور الزمان، ولم ترد الإشارة إلیها فی النصوص الإسلامیة، من قبیل عدد رکعات الصلاة، أو حدّ النصاب فی أجناس الزکاة، أو بعض مناسک الحجّ وأمثال ذلک.

ولکن هل تتمکّن الأجیال اللاحقة من خلال التطوّر العلمیّ فی العلوم الجدیدة أن تکشف الستار عن جملة من هذه الأغراض والحِکم فی هذه الأحکام؟ لا یمکن إعطاء الجواب القطعیّ فی هذا الصدد.

ویکفی أن نعلم أنّ حال هذه الأحکام کحال أحکام الأقسام الثلاثة المتقدّمة فی کونها مقدّسة وواجبة الامتثال، لأنّ هذه الأحکام کلّها تنبع من مصدر العلم الإلهیّ والمطلق، وتقتضی أن یتحرّک الإنسان من خلالها فی خطّ الطاعة والعبودیة والإخلاص، ولاسیّما فی مقابل هذا القسم الأخیر من الأحکام التی تستدعی التعبّد المحض فی واقع الحیاة.

وهذا هو ما أشار إلیه القرآن الکریم فی مقام بیان الغایة من تغییر القبلة من «بیت المقدس» إلی «الکعبة» حیث یقول:

«وَ ما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتی کُنْتَ عَلَیْها الَّا لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ انْ کانَتْ لَکَبیرَةً الَّا عَلَی الَّذینَ هَدَیَ اللَّهُ»(1).

فهذه الآیة الشریفة تتضمّن بیان أمرین علی غایة من ا لأهمیّة:

الأول: إنّ السرّ فی تغییر القبلة هو فی الحقیقة لإظهار التبعیة المطلقة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله والتحرّک علی مستوی الامتثال والطاعة لأوامره وإرشاداته، وخاصّة فی ما یتّصل بالعبادة (رغم أنّ هذه الآیة حسب الظاهر تتضمّن جواباً علی ادّعاءات الیهود أیضاً، حیث أشار المفسّرون إلی ذلک).

وجملة:

«لِنَعْلَم مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ»

فی الواقع إشارة إلی هذه النقطة بالذات.

الثانی: إنّ مثل هذا التسلیم المطلق والتعبّد المحض لا یعتبر أمراً سهلًا ومیسوراً، بل یتضمّن الکثیر من المشقّة الروحیة والحرج النفسی إلّالمَن وفقه اللَّه وشملته العنایة الإلهیّة، والآیة الشریفة تشیر إلی هذا المعنی:

«وإنْ کانَتْ لَکبیرةً ...».

وقد ورد فی الحدیث الشریف عن الإمام الرضا علیه السلام ما یؤیّد هذا المعنی أیضاً، حیث قال:

«واعْلَمُوا أنَّ رَأسَ طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ التَّسْلِیمِ لِمَا عَقَلْنَاهُ وَما لَمْ نَعْقِلْهُ ... وَإنَّما امْتَحَنَ اللَّهُ عَزَّوجَلَّ بِطاعَتِهِ لِما عَقَلوهُ وَما لَمْ یَعْقِلُوهُ إیجاباً للحُجَّةِ وقطْعاً للشُّبْهَةِ»(2).

ویتحدّث الإمام علیّ علیه السلام فی إحدی خطبه عن بعض الأحکام الإلهیّة التی لم تتّضح فلسفتها الأصلیة للناس، وأنّ اللَّه تعالی إنّما یرید بذلک اختبار عباده وامتحانهم، حیث یقول:

«... ولکِنَّ اللَّهَ سُبحانَهُ یُبْتَلَی خَلْقَهُ بِبَعْضَ ما یَجْهَلُونَ أصْلَهُ، تَمییزاً بالاختِبارِ لَهُم، وَنَفْیاً لِلاسْتِکبارِ عَنهُم، وَإبعاداً لِلخُیَلاءِ مِنْهُم»(3).


1- سورة البقرة، الآیة 143.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 348.
3- نهج البلاغة، الخطبة 192.

ص: 387

وینقل «الشیخ الصدوق» فی کتابه المعروف «علل الشرائع» روایة طویلة ومفصّلة عن فلسفة بعض الأحکام عن «الفضل بن شاذان» عن الإمام الرضا علیه السلام (1) حیث قال فی بدایة هذا الحدیث الشریف:

«إن سأل سائل فقال: أخبرنی هل یجوز أن یکلّف الحکیم عبده فعلًا من الأفاعیل لغیر علّة ولا معنی؟

قیل له: لایجوز ذلک لأنّه حکیم غیر عابث ولا جاهل.

فإن قال قائل: فأخبرنی لِمَ کلّف الخلق؟

قیل له: لعلل.

فإن قال: أخبرنی عن تلک العلل، معروفة هی أم غیر معروفة ولا موجودة؟

قیل: بل هی معروفة موجودة عند أهلها.

فإن قال قائل: أتعرفونها أم لا تعرفونها؟

قیل له: منها ما نعرفه ومنها مالا نعرفه»(2).

ویستفاد من هذا الحدیث الشریف أولًا: إنّ جمیع الأفعال والأحکام الإلهیّة تتضمّن أغراضاً وحِکماً فی واقعها ومضمونها.

ثانیاً: إنّ جمیع أسرار الأحکام لا تتوفّر لدی جمیع الناس، بل إنّ بعض علل الأحکام خافیة علی الناس العادیین.

ثالثاً: نحن مکلّفون بالعمل بجمیع الأحکام والمقرّرات الإلهیّة من موقع الطاعة والامتثال، لا أنّ هذا العمل یرتبط بمعرفتنا بالحکمة والغرض الکامل فی هذه الأحکام الإلهیّة.

وهناک نقطة جدیرة بالالتفات، وهی أنّ أکثر الروایات التی ترتبط بهذا القسم الرابع من الأحکام تتعلّق بأحکام العبادات وما یصطلح علیه «التعبّدیات» وأمّا الأحکام التی تتّصل بالمعاملات، فإنّ الحکمة منها جلیّة فی الغالب، ولذلک یقلّ السؤال عن فلسفة هذه الأحکام فی النصوص الدینیة.

ولعلّ السبب فی ذلک یعود إلی أنّ الأعمال العبادیة والأحکام التعبدیة یشترط فی قبولها وصحّتها قصد القربة، ومعرفة الحکمة الأخلاقیة والاجتماعیة والصحیة ولا یمکنها أن تکون المحرّک والدافع الأساس لهذا العمل،

«صُومُوا تَصِحُّوا»(3)

فإنّ الفائدة الصحّیة للصوم لا یمکنها أن تکون باعثاً أصلیاً علی ممارسة الصوم، بل ینبغی فی مثل هذه الموارد أن یکون الدافع للإتیان بهذا العمل العبادی هو امثتال الأمر الإلهیّ، أی «قربة إلی اللَّه» وإن أدّی علم المکلّف بفلسفة هذا الحکم إلی توکید هذا الدافع النفسانی للتحرّک باتّجاه امتثال هذا الأمر الإلهی.

تذکیر: فی ختام هذا البحث نری من الضروری الإشارة إلی هذه النقطة، وهی أنّ الفقیه مکلّف فی مقام الاستنباط وتشقیق الفروع، أن یتحرّک فی عمله هذا وفق الأدلّة التی ثبتت لدیه حجیّتها شرعاً وإن کان لم یتوصّل إلی معرفة مصالح ومفاسد الحکم.


1- رغم أنّ الحدیث ورد بشکل« فإن قال قائل»« قیل کذا» عن لسان« الفضل بن شاذان» ولکن یقول فی آخر الحدیث:« علیّ بن محمّد بن قتیبة النیسابوری»: ل« الفضل بن شاذان»- لما سمعت منه هذه العلل- أخبرنی عن هذه العلل أذکرتها عن الاستنباط والاستخراج وهی من نتائج العقل، أم هی مما سمعته ورویته. فقال لی: ما کنت لأعلم مراد اللَّه عزّوجلّ بما فرض، ولا مراد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بما شرع وسنّ، ولا علل ذلک من ذات نفسی، بل سمعتها من مولای أبی الحسن علیّ بن موسی الرضا فی المرّة بعد المرّة والشی ء بعد الشی ء فجمعتها. ثمّ یقول« علیّ بن قتیبة» فقلت: فاحدّث بها عنک عن الرضا؟ قال الفضل بن شاذان: نعم!
2- علل الشرائع، ج 1، ص 251، باب 182، ح 9؛ بحار الأنوار، ج 6، ص 58 و 85.
3- بحار الأنوار، ج 59، ص 267، ح 45.

ص: 388

وببیان آخر: إنّ الفقیه مکلّف بمعرفة موضوعات الأحکام (التی هی بمنزلة علل الأحکام) ویفتی علی أساسها وإن کان لا یدرک الحکمة منها.

وقد صرّح بهذه الحقیقة بعض علماء أهل السنّة أیضاً، ومنهم مؤلف کتاب «أصول الفقه الإسلامی» فإنّه بعد التصریح بأنّ:

«إنّ العلماء والمفکّرین متّفقون علی أنّ اللَّه تعالی شرّع الأحکام تبعاً لمصالح العباد، وهذه المصلحة تارة تکون من قبیل جلب المنفعة وأخری لدفع المفسدة والضرر، ولکن الحکمة من جمیع الأحکام غیر ظاهرة بل تارة تکون خفیّة ولا یدرکها عقل الإنسان» یقول:

«فیکون الفرق بین حِکمة الحُکم وعلّته: أنّ الأولی هی السبب الموجب للتّشریع والغایة المقصودة منه، لما تضمّنت من المنفعة الّتی قصد إلیها الشارع، وأنّ الثانیة أی العلّة هی الأمر الظاهر المنضبط الّذی بُنی حکم الأصل علیه وربط به وجوداً وعدماً».

ثمّ یذکر مثالًا لتوضیح الموضوع المذکور آنفاً وهو:

إنّ حکمة القصر فی الصلوات الرباعیة فی السفر هو عامل التسهیل والتخفیف علی المسافر بسبب المشقّة التی یواجهها، وهذه الحکمة أمر تقدیریّ وغیر منضبط بحدود معیّنة، وبالتالی فإنّ الحکم الشرعی لا یدور وجوداً وعدماً مدار هذا الأمر، ولذلک فإنّ الحمّالین الذین یواجهون مشقّة فی عملهم فی الحضر أکثر من مشقّة السفر لم یسمح لهم الشارع بالقصر فی صلاتهم، ولکنّه أذن للمسافر بالقصر وإن کان یعیش الراحة والرفاهیة فی سفره، لأنّ علّة الحکم «الموضوع» التی هی السفر نفسه، موجودة فی هذه المسألة.

وأخیراً یختم کلامه بقوله:

«وخلاصة البحث: أنّ الأحکام الشرعیة تدور وجوداً وعدماً مع عللها لا مع حکمتها»(1).

وخلاصة الکلام:

أوّلًا: لا شکّ، فی أنّ جمیع الأحکام الإلهیّة تابعة للأغراض والأسرار التی تمثّل علّة تشریع تلک الأحکام وهذه المصالح والمفاسد کلّها تعود إلی العباد أنفسهم.

ثانیاً: بالرغم من أننا نعلم بقسم مهمّ من فلسفة الأحکام وأغراضها- وإن کان ذلک بواسطة الوحی الإلهی وبواسطة النبیّ صلی الله علیه و آله وأوصیائه علیهم السلام- ولکن لازال قسم آخر منها خافیاً علینا.

ثالثاً: إنّ حرکة الإنسان علی مستوی امتثال الأوامر الإلهیّة والسیر فی خطّ الطاعة للأحکام الشرعیة وإن کانت تشتدّ بمعرفة المکلّف للأغراض والحِکم الکامنة فی هذه الأحکام، ولکنّها لا ینبغی أن تتقیّد بها، فنحن یجب علینا امتثال الأوامر الإلهیّة واجتناب النواهی الإلهیّة سواء علمنا بفلسفة الحکم أم لم نعلم، لأنّنا وإن کنّا لا نعلم فلسفتها التفصیلیة إلّاأننا نعلم بفلسفتها علی نحو الإجمال، لأنّ اللَّه الحکیم لایصدر أمراً بدون مصلحة تعود إلی العباد، ولا ینهی عن شی ء بدون مسوّغ.

رابعاً: إنّ الأحکام الشرعیة تدور حول محور موضوعاتها والتی نعبّر عنها ب «العلّة» لا حول محور الأغراض والغایات، لأنّ هذه الأغراض والغایات التی نعبّر عنها ب «الحکمة» لها طابع غالب ولا تتزامن بشکل دائمیّ.

خامساً: إنّنا نملک الحقّ فی البحث عن فلسفة الأحکام الشرعیة بمقدار طاقتنا وقابلیتنا من خلال


1- أصول الفقه الإسلامی لمحمّد أبوزهرة، ص 323.

ص: 389

الأدلّة العقلیة القطعیة وما یتوفّر لدینا فی الآیات والروایات الإسلامیة، وما تمنحنا من أجوبة عن علامات الإستفهام التی ترتسم فی أذهاننا، لأنّ هذا الأمر بإمکانه تقویة الدوافع النفسیة للتحرّک فی خطّ الطاعة والامتثال من جهة، وکذلک إظهار الدین الإلهی بمظهر عقلانی ومنطقی من جهة أخری، ولکن کما تقدّمت الإشارة إلیه آنفاً فلو لم نتوصّل بعد السعی والبحث إلی فلسفة الحکم الشرعی فی بعض الموارد فإنّ ذلک الحکم الشرعی لا یفقد قداسته وحجیّته وبالتالی یجب علی المکلّف امتثال هذا الحکم الإلهی لأنّ الباعث الأصلی لسلوک طریق الطاعة والامتثال یکمن فی طبیعة الطاعة للأمر الإلهی فقط.

مقاصد الشریعة:

تحدّثنا فی البحث السابق عن الآراء المختلفة حول فلسفة الأحکام وعللها ومقاصدها، وکذلک إمکانیة الوصول إلی تلک المقاصد وتحصیلها، والآن نتطرّق إلی هذه المسألة، وهی: هل یمکن فتح الطریق لحلّ المسائل المستحدثة «مسائل ما لا نصّ فیه»؟

توضیح ذلک: یدور الحدیث فی عصرنا الحاضر عن مقاصد الشریعة بوصفها أحد المنابع الفقهیة لحلّ المسائل المعقّدة المطروحة بین فقهاء المذاهب الإسلامیة المختلفة.

وهذا هو ما بحثه أتباع أهل البیت علیهم السلام فی السابق بعنوان «علل الشرائع» وقد استخدم المرحوم الشیخ الصدوق (المتوفی 381 ه.) قبل أکثر من ألف عام هذا العنوان لکتابه المسمی (علل الشرائع)، وهو عبارة عن مجموعة من روایات أهل البیت علیهم السلام الواردة فی باب فلسفة الأحکام ومقاصد التشریع.

ولکن علی رغم أنّ مذهب الأشاعرة، وهو المذهب الحاکم علی المحافل العلمیة لأهل السنّة فی الماضی والحاضر، یری أنّ أفعال اللَّه تعالی، سواءً التکوینیة أو التشریعیة غیر معلّل بالأغراض والمقاصد، بل یرون أحیاناً الاعتقاد بذلک یساوق الکفر، ولکن علی رغم ذلک وقعوا فی مضائق ومآزق فقهیة ومسائل مستحدثة کثیرة لم یجدوا الجواب عنها، ممّا أجبر فقهاء هذا المذهب علی تجدید نظرهم فی هذا الباب وفتح الطریق أمام مقاصد الشریعة.

الشخص الذی بحث هذه المسألة بجدیّة وشکّل بحثه هذا نقطة عطف فی موضوع المقاصد هو ا لشاطبی (المتوفّی 790) وقد ألّف کتاب «الموافقات» لهذا الغرض، فبعد أنّ جمع أقوال العلماء القدماء، تطرّق إلی مسألتین جدیدتین فی دائرة المقاصد، إحداهما ترتیب المقاصد، والأخری طرق الوصول إلی هذه المقاصد وتحصیل أهداف الشریعة.

وبعد الشاطبی لم یهتمّ العلماء ولمدّة قرون عدیدة بهذا الموضوع، إلی أنّ ظهر فقیه آخر قبل قرن ونصف یدعی «ابن عاشور» (المتوفّی 1393) ومن خلال تألیف کتاب باسم «مقاصد الشریعة» أحدث موجة جدیدة وحرکة مهمّة فی هذا الباب، والیوم یدور الحدیث کثیراً فی المحافل الفقهیة عن مقاصد الشریعة ویعتقد أنّه المفتاح لحلّ الکثیر من المعضلات الفقهیة، والبعض یری فی هذا الموضوع علماً جدیداً یسمّیه علم «مقاصد الشریعة» أو «الفقه المقاصد»(1) الذی


1- مثل: علّال الفاسی، مقاصد الشریعة الإسلامیة ومکارمها، محمّد بن سعدابن أحمد بن مسعود الیوبی، مقاصد الشریعة الإسلامیة وعلاقتها بالأدلّة الشرعیة، یوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشریعة الإسلامیة.

ص: 390

یستمدّ مضمونه من کتب القدماء.

والآن کیف یحلّ أتباع المذهب الأشعری هذا التناقض، بأنّ أفعال اللَّه من جهة لا تحتاج إلی أیّ غرض وهدف ومقصد، ولا فی دائرة التشریع ولا حتی فی دائرة التکوین، بل أحیاناً یذهبون إلی الحدیث عن بیان العلّة فی أفعال اللَّه یساوق الشرک، کما تقدّم آنفاً، ولکنّهم من جهة أخری یبحثون بالتفصیل فی موضوع علل أحکام الشرع، وحتی أنّهم بدأوا یطرحون علماً باسم مقاصد الشریعة، هذا هو ما ینبغی الجواب عنه (1).

وطبعاً فإنّ هذه المسألة مطروحة بشکل آخر بین أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام، فهؤلاء یرون وتبعاً للآیات القرآنیة الکثیرة وروایات أهل البیت علیهم السلام أنّه توجد مقاصد وأهداف مهمّة لتشریع الأحکام، وکانوا یعتقدون بذلک منذ زمان أئمّة أهل البیت علیهم السلام وکتبوا فی هذا الموضوع کتباً متعدّدة.

وبعد أنّ نتجاوز هذه المقدّمة التاریخیة المختصرة نتوجّه نحو القائلین بهذه النظریة فی العصر الحاضر، حیث ذکروا المقاصد الأصلیة للشریعة بالاستفادة من کلام القدماء تحت ثلاثة عناوین:

1. الضروریات، مثل حفظ النفس والمال والعقل و ...

2. الحاجیات مثل (المعاملات).

3. التحسینیات (وهی الأمور التی تعتبر من مکمّلات الحیاة مثل آداب الأکل والشرب وما إلی ذلک).

ثمّ إنّهم یستعرضون فی هذا الموضوع المقاصد الضروریة للشریعة ویضعونها فی خمسة أمور:

1. حفظ الدین، 2. حفظ النفس، 3. حفظ العقل، 4. حفظ النسب، 5. حفظ المال.

ویعتقد هؤلاء العلماء أنّ جمیع الأحکام الشرعیة الضروریة الواردة فی القرآن الکریم والسنّة النبویة وقام علیها إجماع العلماء، ناظرة إلی حفظ أحد هذه الأمور الضروریة، وینبغی البحث عن علل ومقاصد الأحکام من بدایة الفقه إلی نهایته واستخدامها فی استنباط الأحکام الفقهیة، مثلًا بیّن أنّ الجهاد إنّما شرّع لغرض حفظ الدین، وشرّع القصاص لحفظ النفس، وحدّ شرب الخمر لغرض حفظ العقل، وحدّ الزنی لغرض حفظ النسب، وحدّ السرقة لحفظ الأموال.

وعندما تتبیّن لنا هذه المقاصد، یکون بإمکاننا فتح باب لهذه المسائل التی لم ترد فی النصوص الإسلامیة.

وطبعاً فإنّ هذه الأقسام الخمسة المذکورة أعلاه ناظرة فقط للضروریات ولا تشمل المعاملات والتی بدورها تشکّل قسماً مهمّاً من الفقه، کما أنّها لا تشمل قسم العبادات المستحبّة والکثیرة من المسائل المتعلّقة بالأخلاق الإسلامیة التی ترسم طریق التکامل المعنوی للإنسان وکیفیة الوصول للقرب الإلهیّ، فهذه تدخل فی قسم التحکیمیات، ولا ینحصر تقسیم ضروریات الحیاة إلی هذه الأقسام الخمسة بالغزالی وابن عاشور، بل وردت فی کلمات الکثیر من قدماء فقهاء الإمامیة ومتأخریهم أیضاً، ومنهم:

1. الشهید الأول (م 786) فی «القواعد والفوائد»،


1- یمکن الجواب عنه:« ما أنکرت الأشاعرة من الغرض والهدف وتعلیل الأحکام کانت قبل جعل الشارع، ولا ینکر أنّ للشارع أن یجعل سلسلة من الأصول الکلیة والأهداف کما یجعل الأحکام، مثلًا جعل الشارع أصول کحفظ الدین، وحفظ النفس، وحفظ العقل وما إلی ذلک، ولاحظ کلّ ذلک فی الأهداف وجعل الأحکام، وعلیه یستطیع الفقیه مع ملاحظة هذه الأصول أن یکشف عن أصول الأحکام الجدیدة».

ص: 391

حیث یقول: الوسیلة الرابعة هو وصلة إلی حفظ المقاصد الخمسة، وهی: النفس والدین والعقل والنسب والمال. وهی الضروریات الخمس (1).

2. ابن أبی جمهور الإحسائی (م 940) فی «الأقطاب الفقهیة» فی باب متعلّقات الحکم (2)، حیث أشار إلی هذا الموضوع أیضاً.

3. الفاضل المقداد (م 826) فی «التنقیح الرائع» لحفظ الشرائع یقول: إنّ الشرائع جاءت لحفظ المقاصد الخمسة، وهی الدین والنفس والمال والنسب والعقل (3).

4. صاحب الریاض (م 1231) حیث أشار فی کتاب «ریاض المسائل» فی باب حدّ الزنا إلی هذا المطلب أیضاً(4).

5. صاحب الجواهر (م 1226) حیث أشار أیضاً فی کتاب الحدود فی باب حدّ الزنا إلی هذا الموضوع أیضاً(5).

ولکن النقطة الجدیرة بالالتفات هی، أولًا: إنّ مقاصد الشریعة لا تنحصر بالضروریات فقط، بل إنّ القسم المهمّ من أحکام الشرع ناظر إلی الحاجیات، من قبیل أنواع العقود والمعاملات، والقسم المهم الآخر یرتبط بالتحسینیات من قبیل القسم الأعظم من المستحبّات والمکروهات والأخلاقیات.

ثانیاً: إنّ الضروریات بدورها لا تنحصر بهذه الأقسام الخمسة، وبالتالی یکون حصرها فیها یعتبر نوعاً من الاستقراء الناقص، وأنّ حفظ العرض والحیثیة یعدّ أحد المقاصد الضروریة للشریعة، وکذلک حفظ الأمن فی مقابل المخاطر التی یعیشها الناس بسبب الأشرار والمفسدین فی الأرض والمحاربین، حتّی لو لم یؤدّ ذلک إلی قتل النفوس وجرح الأشخاص.

کما أنّ حفظ البیئة المستفاد من الأحکام التی تتّصل بسدّ الطریق وعدم الإضرار فی الطرقات وحفظ المیاه وعدم الإسراف فی الاستفادة من المنابع الطبیعیة، یعتبر مقصداً آخر من مقاصد الشریعة، وعلی هذا الأساس تکون المقاصد الضروریة للشریعة ثمانیة مقاصد.

والمهمّ من ذلک کلّه أن نعرف کیفیة الوصول إلی هذه المقاصد لیتسنّی لنا وضع الأحکام لأشباه ونظائر هذه الأمور.

وفی فقه الإمامیة هناک أربع طرق رئیسیة لفهم ومعرفة مقاصد الشرع وعلل تشریع الأحکام:

1. النصوص القرآنیة والروایات المعتبرة التی ورد فیها تسریة الحکم الشرعی لموارد مشابهة له، وهی فی إصطلاح فقهاء الإمامیة «قیاس نصوص العلّة».

مثلًا عندما یتحدّث القرآن الکریم فی آیات تحریم الخمر یقول: «إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ ...»(6)، فیستفاد من ذلک أنّ کلّ شی ء یؤدّی إلی الوقوع فی مثل هذه النتائج والآثار فهو حرام فی الشریعة الإسلامیة، وعلی هذا الأساس فإنّ جمیع أسباب وعوامل إیجاد البغضاء والعداوة بین الناس محکومة بالحرمة أیضاً.

2. الاستنباط العقلی القطعیّ، الذی یعبّر عنه فی اصطلاح فقهاء الإمامیة ب «قیاس مستنبط العلّة»، وهو فی موارد لم تذکر فیها النصوص من الکتاب والسنّة


1- القواعد والفوائد، ج 1، ص 36.
2- الأقطاب، ص 45.
3- التنقیح الرائع، ج 1، ص 15.
4- ریاض المسائل، ج 5، ص 434.
5- جواهر الکلام، ج 41، ص 258.
6- سورة النساء، الآیة 91.

ص: 392

العلّة أو الغرض بشکل صریح کما ورد فی الآیة الآنفة، ولکنّ العقل یستنبط هذه العلّة بشکل قطعیّ ویقینیّ.

علی سبیل المثال، حکم تحریم الخمر، فإنّه یعنی الشراب المستخرج من العنب، ولکنّنا نعلم یقیناً أنّه لا فرق بین الشراب المستخرج من العنب وبین سائر الأشربة والسوائل المسکرة الأخری المستخرجة من سائر الثمار أو الحبوب، ونعلم أنّ مقصد الشارع المقدّس فی ذلک هو حفظ العقول وحفظ النظم والأمن الإجتماعی علی حدّ سواء، وعلی هذه الأساس یسری حکم الخمر فی جمیعها.

3. الطریق الذی یطلق علیه «قیاس الأولویة القطعیة» مثلًا نعلم أنّ القرآن الکریم بمقتضی قوله تعالی: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا»(1)، لا یقبل بأیّة إهانة فی حقّ الوالدین، فیمنع قطعاً السباب وتوجیه الکلمات البذئیة لهما، لأنّ المقصد الأصلیّ فی هذا الحکم یتمثّل فی حفظ احترام الوالدین، ومعلوم أنّ السبّ والشتم یؤذی الوالدین أکثر من کلمة اف.

4. الطریق الذی نسمّیه ب «إلغاء الخصوصیة» أو «تنقیح المناط»، مثلًا فی الروایة المعروفة عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله

«أَنَّهُ خَرَجَ حَاجّاً فَنَظَرَ إلی امْرأَةٍ تَمْشِی بَیْنَ الإبِلِ، فقال: مَنْ هذِهِ؟ فقالوا: اخْتُ عُقْبَةَ بنِ عَامِر، نَذَرَتْ أنْ تَمْشِی إلی مکّةَ حَافِیَةً، فقال رسولُ اللَّه صلی الله علیه و آله: یا عُقْبَةُ انْطَلِقْ إلی اخْتِکَ فَمُرْهَا فَلْتَرْکَبْ، فإنَّ اللَّهَ غَنِیٌّ عَن مَشْیِها وحَفَاها، قال: فَرَکِبَتْ».(2)

ومعلوم أنّ هذا الحدیث ورد فی مورد امرأة سارت من المدینة إلی مکّة مشیاً علی الأقدام وهی حافیة، وکان الطریق والمسیر شاقّاً علیها، وخاصّة مع کثرة الدوابّ والإبل فی هذا الطریق، ولذلک حکم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بإبطال نذرها، ولکنّنا نعلم یقیناً أنّ هذا الحکم یجری أیضاً فیما لو کانت امرأة أخری غیر اخت عقبة، بل حتّی لو کان رجلًا یعیش فی نفس هذه الظروف فإنّه بدوره یقع مشمولًا لهذا الحکم أیضاً، وعلی هذا الأساس ومن خلال العثور علی القرائن القطعیة لموضوع هذا الحکم، یکون بإمکاننا تعمیم هذا الحکم إلی موارد أخری، ومثل هذا الحکم فی سائر أبواب الفقه الإسلامی لیس بالقلیل.

وربّما لا یرد الکلام هنا عن فلسفة الحکم، بل عن بعض الفروع والملحقات للموضوع حیث یتمّ حذفها من خلال فهم العرف واستخراج الحکم الکلّی منها فبذلک نجد حلّاً للکثیر من المشکلات الفقهیة، ومن حیث النتیجة فإنّ هذه المسألة تساوق مسألة تحصیل مقاصد الحکم، ولهذا السبب یکون بإمکاننا إلحاق هذا المورد بطرق کشف المقاصد.

النتیجة: ممّا تقدّم یتبیّن الجواب عن السؤال المطروح فی بدایة البحث (هل یمکن حلّ مسائل ما لا نصّ فیه من خلال طریق مقاصد الشریعة؟) والجواب بالإیجاب، یعنی نستطیع من خلال التوصّل لمقاصد الشریعة حلّ الکثیر من المسائل المستحدثة، بشرط أن تکون تدخل ضمن الطرق الأربعة المذکورة.

ومن المعلوم أیضاً أن هذا الطریق لا یعتبر طریقاً جدیداً فی الفقه کما یطرح ذلک بعض علماء أهل السنّة فی العصر الحاضر، بل هو طریق استخدمه فقهاء الإمامیة طیلة تاریخ الاستنباط الفقهی لغرض فکّ العقد وفتح الأبواب الموصدة فی الفقه، ولکن لا یمکن إنکار


1- سورة الإسراء، الآیة 23.
2- تهذیب الأحکام، ج 5، ص 14، ح 37.

ص: 393

أنّ هذه المسألة قد أخذت طابعاً جدیداً، واللافت أنّ هذا الطریق یختلف عن طریق التمسّک بإطلاقات وعمومات الأدلّة اللفظیة أو تطبیق العناوین الثانویة التی یستفاد منها لحلّ المسائل المستحدثة.

ویستفاد من مجموع ما تقدّم من البحث فی مجال مقاصد الشریعة، ما یلی:

1. إنّ فقهاء وأتباع مذهب الأشاعرة لم یتحدّثوا فی القرون السالفة عن مقاصد الشریعة، ولکن بسبب المضائق الفقهیة والمسائل المستحدثة الکثیرة؛ اضطرّوا لفتح باب هذا العلم، ولغرض الدفاع عن هجوم المخالفین نسبوا بدایة هذا العلم للغزال والشاطبی وفی العصور المتأخّرة إلی ابن عاشور، مع الالتفات إلی وجود جذور هذه المسألة فی کلمات القدماء.

2. إنّ فقهاء الإمامیة کانوا علی علمٍ بمواضیع ومسائل هذا العلم منذ القرون الاولی للإسلام بسبب اعتقادهم بفلسفة وعلل الأحکام الشرعیة، رغم أنّهم لم یذکروا هذا العلم بهذا العنوان.

3. إنّ علم المقاصد فی الحقیقة یمثّل مجموعة من المنابع الفقهیة التی تزیح الستار عن مقاصد الشریعة والتی تتوفر فی الأصل تحت عنوان قیاس منصوص العلّة، مستنبط العلّة القطعیّة، قیاس الأولویة، إلغاء الخصوصیة وتنقیح المناط القطعی، ومن خلال الاستناد علی هذه المنابع فقط یمکننا کشف الأحکام الشرعیة فیما لا نصّ فیه.

4. إنّ مقاصد الشریعة لا تنحصر فی الأمور الخمسة التی ذکرها جماعة فقهاء الشیعة وأهل السنّة، بل مضافاً إلی حفظ الدین والعقل والنفس والمال والنسب، هناک ثلاثة عناوین أخری، وهی حفظ الحیثیة، حفظ الأمن الاجتماعی، حفظ البیئة.

5. إنّ فقهاء الإمامیة وطبقاً لأصل عدم حجّیة الظنّ المطلق کانوا یتجتنّبون أیّ استفادة من الظنّ المطلق فی علم المقاصد، ولکن ربّما کان لدی الفقهاء الآخرین مبنیً آخر یختلف عن هذا المبنی فی مثل هذه المسائل.

وفی الختام نلفت النظر إلی هذه النقطة الضروریة، وهی أنّ القرائن تشیر إلی أنّ علم مقاصد الشریعة یمکن أن یؤدّی فی المستقبل إلی الفوضی الفقهیة ویسوق الفقه باتّجاه السیاقات العرفیة بحجّة «مقاصد الشریعة» یجری تغییر الأحکام الفقهیة الثابتة وبالتالی تتعرّض أصالة الفقه الإسلامیّ للخطر من قِبل البعض، نأمل أن یلتفت الفقهاء الکبار لهذه النقطة للمنع من استغلال هذه البحوث المتعلّقة بمقاصد الشریعة.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الأجوبة عن المسائل المذهبیة، آیةاللَّه مکارم الشیرازی وآیةاللَّه جعفر السبحانی، مدرسة الإمام علی بن أبی طالب، الطبعة الثانیة، 1381 ش.

4. الاحتجاج، أحمد بن علی الطبرسیّ، انتشارات أسوة، 1413 ق.

5. إحقاق الحق، القاضی نور اللَّه التستری، انتشارات المکتبة الإسلامیة طهران، 1418 ق.

6. الإحکام فی أصول الأحکام، علیّ بن حزم الأندلسی، دارالجیل بیروت، الطبعة الثانیة، 1407 ق.

ص: 394

7. الاختصاص، الشیخ المفید، انتشارات مکتبة الزهراء علیها السلام قم، 1402 ق.

8. الإسلام ومقتضیات الزمان، الشهید مرتضی المطهری، انتشارات صدرا، الطبعة الخامسة عشر، 1420 الهجری.

9. أصول الفقه الإسلامی، محمّد أبوزهرة، دار الفکر العربی، القاهرة.

10. أصول الفقه الإسلامی، محمّد مصطفی الشلبی، دار النهضة العربیة بیروت، 1406 ق.

11. أصول الفقه الإسلامی، وهبة الزحیلی، دارالفکر بیروت.

12. أعلام الموقّعین عن ربّ العالمین، ابن القیم، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الاولی، 1416 ق.

13. أعلام النساء، عمر رضا کحّالة، مؤسّسة الرسالة بیروت، الطبعة الخامسة، 1404 ق.

14. الأقطاب الفقهیة، ابن أبی جمهور الاحسائی، تحقیق الشیخ محمد الحسّون، مکتبة آیة اللَّه المرعشی، قم، الطبعة الاولی 1410 ق.

15. الأمالی، الشیخ المفید، انتشارات جماعة المدرّسین قم.

16. أهداف الدین فی نظر الشاطبی، أحمد الریسونی، المترجمان: السیّد حسن الإسلامی، السیّد محمّدعلیّ الأبهری، نشر منظمة الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الأولی، 1376 ش.

17. بحار الأنوار، العلّامة محمّدباقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

18. بلاغات النساء: أحمد بن أبی طاهر المعروف ب «ابن طیفور»، منشورات مکتبة بصیرتی، قم.

19. تحف العقول، الحسن بن علیّ، (المعروف بابن شعبة الحرّانی)، انتشارات جماعة المدرّسین، قم، 1404 ق.

20. تعلیل الأحکام، الدکتور مصطفی الشلبی، دارالنهضة العربیة بیروت، 1401 ق.

21. التفسیر الأمثل، آیةاللَّه مکارم الشیرازی بمساعدة جماعة من الفضلاء، دارالکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة والعشرون، 1367 ش.

22. التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، دارالکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الثانیة.

23. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر دمشق، 1418 ق.

24. التنقیح الرائع لمختصر الشرائع، الفاضل المقداد، مکتبة آیة اللَّه المرعشی، قم، الطبعة الاولی، 1040 ق.

25. تهذیب الأحکام، محمد بن الحسن الطوسی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الرابعة، 1407 ق.

26. التوحید، الشیخ الصدوق، انتشارات جماعة المدرّسین، الطبعة الثامنة، 1423 ق.

27. الجامع لأحکام القرآن، محمّد بن أحمد (المعروف بالقرطبی)، دار الفکر، بیروت.

28. جواهر الکلام، محمد حسن النجفی، دار احیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة.

29. رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، عبدالوهاب السُبَکی، عالم الکتب بیروت، الطبعة الأولی، 1419 ق.

30. ریاض السالکین، السید علی الطباطبائی، مؤسسة آل البیت، قم الطبعة الاولی، 1418 ق.

31. سیری در فلسفه أحکام، السید فضل اللَّه التهامی، انتشارات مهر، قم، الطبعة الثانیة، 1398 ق (بالفارسیة).

32. الشافی فی الإمامة، السیّد المرتضی، منشورات مؤسّسة الصادق، طهران، الطبعة الثانیة، 1410 ق.

33. شرح التجرید، الحسن بن یوسف (المعروف ب العلّامة الحلّی)، منشورات شکوری، قم.

ص: 395

34. شرح التجرید، الشیخ علیّ (المعروف بالقوشچی)، الطبعة القدیمة.

35. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید المعتزلی، مکتبة آیة اللَّه المرعشی النجفی، قم، 1404 ق.

36. عدّة الدّاعی، أحمد بن فهد الحلّی، تحقیق أحمد موحّد القمّی، دارالکتب الإسلامیّة، الطبعة الأولی، 1407 ق.

37. العدل الإلهی، الشهید العلّامة مرتضی المطهّری، انتشارات صدرا، طهران.

38. علل الشرائع، الشیخ الصدوق، انتشارات مکتبة الداوری، قم.

39. الغدیر، العلّامة عبدالحسین الأمینی، دارالکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الثانیة، 1366 ش.

40. قواعد المرام فی علم الکلام، ابن میثم البحرانی، مطبعة مهر قم، الطبعة الأولی، 1398 ق.

41. القواعد والفوائد، محمّد بن مکّی (المعروف ب الشهید الأوّل)، منشورات مکتبة المفید، قم.

42. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دارالتعارف- دارصعب، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

43. کشف الغمّة، علی بن عیسی الأربلی، دار الأضواء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1405 ق.

44. اللوامع الإلهیّة فی المباحث الکلامیة، الفاضل المقداد، انتشارات منظمة الاعلام الإسلامی، قم.

45. المحصول فی علم أُصول الفقه، الفخر الرازی، دارالکتب العلمیة، بیروت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

46. مرآة العقول، العلّامة محمّدباقر المجلسی، دارالکتب الإسلامیة، الطبعة الثانیة، 1363 ش.

47. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، مؤسّسة آل البیت علیهم السلام، قم، الطبعة الأولی، 1407 ق.

48. المستصفی من علم الأصول، أبوحامد محمّد الغزالی، مؤسّسة الرّسالة، بیروت.

49. مفتاح دارالسعادة ومنشور ولایة العلم والإرادة، ابن القیم الجوزیة، دارالحدیث، القاهرة، الطبعة الأولی، 1414 ق.

50. الموافقات، إبراهیم بن موسی (المعروف بالشاطبی)، دارالمعرفة، بیروت.

51. المیزان، للعلّامة السید محمد حسین الطباطبائی، مؤسسة الأعلمی، بیروت، الطبعة الثالثة، 1393 ق.

52. نهج الحق وکشف الصدق، الحسن بن یوسف (المعروف بالعلّامة الحلّی)، مؤسّسة دارالهجرة.

53. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحر العاملیّ، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 396

ص: 397

14

القسم الرابع عشر: بعض الإصطلاحات الفقهیّة المهمة

اشارة

الإصطلاحات المتعلّقة بالأحکام

اصطلاحات الّتی تتّصل بمناصب الفقهاء

اصطلاحات الفقهاء فی بیان الأحکام

اصطلاحات الفقهاء فیما یتعلّق بأداء التکالیف

ص: 398

ص: 399

بعض الإصطلاحات الفقهیّة المهمة

مقدّمة:

«اصطلاح» من مادّة «صَلَحَ» یعنی توافق علی شی ء.

ولفظ «اصطلاح» یقال لتوافق أصحاب فنٍّ أو علمٍ معیّن فی استخدام لفظ خاصّ بمعنیً أومفهوم خاصّ، وبالتدریج یصبح هذا الاستعمال متداولًا بین أصحاب ذلک الفن أو العلم (1)، وهناک عادةً مناسبة ومماثلة بین المعنی الجدید «الاصطلاحی» والمعنی القدیم «اللغوی»(2).

ومع الالتفات إلی أنّ هذه المفردات والألفاظ مورد توافق أصحاب الفنّ والعلم فإنّ استعمال لفظ «مصطلحات» وهو اسم مفعول، لعلّه من جهة کونه أکثر تناسباً من لفظ «اصطلاحات» لأنّ لفظ «اصطلاح» مصدر ویأتی بمعنی «التوافق»، رغم أنّ المتداول فی الاستعمال کلمة «اصطلاحات» أکثر من «مصطلحات» وبالتالی فإنّ المقصود منها أیضاً معنی اسم المفعول.

والغرض من وضع «الاصطلاحات»، تیسیر التفهیم والتفهّم للقضایا المبحوثة فی ذلک العلم أو الفنّ، وهذا الغرض أحیاناً یتوفّر بین الأساتذة والخبراء فی تلک العلوم والفنون، ولکن أحیاناً أخری یقع العامّة من الناس غیر العارفین بهذه الاصطلاحات، مخاطبین من قِبل أصحاب ذلک العلم والفنّ لکی یتسنّی التسریع فی إفهامهم بالمطلوب بواسطة استخدام تلک الاصطلاحات بما تتضمّن من تسهیل عملیة الخطاب، لأنّه یمکن من خلال استخدام هذه المصطلحات، نقل معانی کثیرة للمخاطب بأقلّ مقدار من الألفاظ، وبیان أدقّ المعانی بأسهل طریقة.

إنّ تدوین الاصطلاحات یعتبر أمراً متداولًا فی جمیع اللغات البشریة وفی جمیع العلوم والفنون ولا یختصّ ذلک باللغة العربیة، رغم أنّ بعض اللغات والعلوم تعدّ غنیة جدّاً من حیث توفّر المصطلحات فیها.

والیوم یعدّ علم المصطلحات أمراً فی غایة الأهمّیة وهو عبارة عن الاطّلاع والتعرّف علی مفردات المصطلح العلمیّ والفنّی والعسکریّ والسیاسیّ وما إلی ذلک، لأنّ العلوم والفنون أصبحت تستوعب مساحات واسعة فی واقع الفکر البشری، وعلی هذا الأساس نری من اللازم ومن أجل منع التداخل فی المصطلحات أن


1- قاموس دهخدا، ذیل کلمة« اصطلاح، اصطلاحات»( بالفارسیّة).
2- التعریفات للجرجانی، ص 44.

ص: 400

یقوم المتخصّصون فی کلّ علم وفنّ ببیان المصطلحات المتعلّقة بذلک العلم أو الفنّ.

إنّ «الفقه» الذی یعتبر من أوسع العلوم الإسلامیة مساحة، یملک اصطلاحات کثیرة فی عملیة التفهیم والخطاب، بحیث تغطّی هذه الاصطلاحات جمیع أبواب الفقه من أول کتاب الطهارة إلی آخر الدیات.

وهذه الاصطلاحات متنوّعة وکثیرة جدّاً إلی درجة أنّه یمکن تقسیم مصطلحات کلّ باب منها إلی مفردات أصغر، من قبیل الاصطلاحات الواردة فی الأبواب العبادیة، القضائیة والجزائیة، الحقوقیة، السیاسیة، الاصطلاحات التی تتّصل بالمناصب والمسؤولیات الرسمیة، الاصطلاحات التی تتّصل بالأحوال الشخصیة، الاصطلاحات التی تتّصل بالأمکنة والأزمنة، وکذلک الاصطلاحات التی تتّصل بالأوزان، والمساحات والمقادیر وغیر ذلک.

فلو ألقینا نظرة سریعة إلی باب الطهارة فقط فی الفقه الإسلامی، لرأینا اصطلاحات کثیرة من قبیل: «الکرّ، القلیل والجاری»، «المطلق والمضاف»، «الوضوء والغسل والتیمّم»، «الاستبراء، الاستنجاء»، «أیّام الاستظهار»، «الحیوان الجلّال»، «الاستحالة، والانقلاب، وما إلی ذلک».

وهناک نقطة جدیرة بالذکر، وهی أنّ الاصطلاحات عادة تقع مورد توافق أصحاب الخبرة فی ذلک العلم عادة، ولکن ربّما یختلفون فی مصادیقها، مثلًا «الکُرّ» وهو الماء الذی لا یتنجّس بملاقاة النجس، بعکس القلیل، ولکن ما هو مقدار الکرّ ووزنه؟ هنا یختلف العلماء فی هذا المورد، وأحیاناً نری أنّ العلماء فی عین توافقهم فی المفهوم المراد من ذلک المصطلح، إلّاأنّهم یختلفون من حیث الوجود الخارجی لذلک المفهوم، مثلًا فی مسألة «العول والتعصیب» حیث ذهب جماعة من فقهاء أهل السنّة إلی قبوله، بینما ذهب فقهاء الإمامیة إلی إنکاره.

ویمکن أن ترد بعض المفردات فی الفقه ویراد بها معنیً اصطلاحیاً خاصّاً، فی حین أنّها تستخدم فی علم آخر ویراد بها معنیً اصطلاحیاً آخر، وهذا الأمر یجری فی أغلب العلوم، مثلًا مفردة «القیاس» تستخدم فی علم المنطق بمعنیً خاصّ وهو حجّة وفقاً لذلک المعنی، ولکنّ هذه المفردة فی علم أصول الفقه تأتی بمعنیً آخر ولها مصادیق صحیحة وأخری باطلة.

علی هذا الأساس ربّما تحدث بعض الخلافات العلمیة بسبب نزاع لفظیّ أو بسبب عدم تشخیص المراد من المفردات، مثلًا یقرّر المتکلّمون بحثاً فی موضوع معیّن وینطلق العرفاء والفلاسفة فی الردّ علیهم ورفض مقولتهم فی ذلک الموضوع، فی حین أنّه لو تمّت دراسة ذلک الموضوع من موقع الدقّة والتأمّل، فسوف یتّضح أنّ فهم کلّ طرف من المتنازعین لهذه المفردة یختلف عن فهم الطرف الآخر، وبالتالی تقع هذه المفردة مورد النفی والإثبات ویکون النزاع لفظیاً فحسب.

ونحن فی هذا البحث لسنا بصدد استعراض «اصطلاحات الفقه»، بل نستعرض بعضها فیما یخصّ الاصطلاحات المستخدمة فی الفتوی وکیفیة امتثال الحکم الشرعی وأمثال ذلک، وکذلک فیما إذا کانت هناک اصطلاحات فقهیة تستعمل غالباً فی جمیع أبواب الفقه (ورغم أنّ الکثیر منها اعتبر من الاصطلاحات الأصولیة) ونتجنّب البحث فی الاصطلاحات الخاصّة بکل باب من أبوابه.

ص: 401

ویمکن استعراض الموضوع فی هذه المقالة من خلال تقسیمه إلی أربعة فصول:

الفصل الأوّل: ما یتّصل بالاصطلاحات الواردة فی مقام تشریع الأحکام.

الفصل الثانی: الاصطلاحات التی تتّصل بمناصب ومسؤولیات الفقهاء.

الفصل الثالث: الاصطلاحات التی تستعمل من قِبل الفقهاء فی بیان الأحکام لعامّة المکلّفین.

الفصل الرابع: الاصطلاحات التی تتّصل بالمسائل المرتبطة بأداء التکالیف أو سقوطها عن المکلّف.

الفصل الأول: الاصطلاحات المتعلّقة بالأحکام

اشارة

إنّ الحکم الشرعی نوع من القانون الصادر من قِبل اللَّه تعالی لتنظیم حیاة الإنسان، والاصطلاحات التی تتّصل بالحکم والتشریع (بل عامة الخطابات الشرعیة) کاشفة عن الحکم الشرعی، وبعبارة أخری أنّه یتمّ من خلال هذه الخطابات الکشف عن الأحکام الشرعیة وإبرازها للمکلّف (1).

أ) مراحل تشریع الحکم: الاقتضاء، الانشاء، الفعلیّة، والتنجّز

إنّ الحکم الشرعیّ ینقسم فی مرحلة صدوره إلی أربع مراحل (2):

1. مرحلة الاقتضاء، وهی عبارة عن مرحلة وجود الملاک للحکم الشرعیّ أی المسوّغ والأرضیة المساعدة لجعل الحکم (3).

2. مرحلة الإنشاء، هی فی الحقیقة مرحلة تشکل الحکم وجعل القانون.

3. مرحلة فعلیّة الحکم، وهی مرحلة جعل مسؤولیة امتثال هذا الحکم، حیث یتحقّق ذلک بالإعلان عنه.

4. مرحلة التنجّز، وهی مرحلة ثبوت الحکم علی المکلّف بشکل قطعی بحیث أنّ المکلّف بعد هذه المرحلة یحصل لدیه علم بالتکلیف، ولا یبقی لدیه أیّ عذر فی عدم الامتثال.

وهناک آثار مختلفة لکلّ مرحلة من هذه المراحل الأربع، ویمکن إیجازها کالتالی:

إنّ مرحلة الإنشاء لا تتضمّن أیّة مسؤولیة علی المکلّف، ولیس لها أیّ دافع ومحرّک لامتثال التکلیف.

أمّا مرحلة الفعلیة فتملک مقوّمات امتثال الأمر حیث یتحقّق ذلک من خلال توفّر الشروط اللازمة لتحمّل المسؤولیة والطاعة(4).

أمّا مرحلة التنجّز فهی مرحلة اجتماع وتوفّر الشروط الکفیلة لبعث المکلّف لامتثال الحکم الشرعیّ.

ب) الحکم التکلیفی والوضعی

1. الحکم التکلیفی:

وهو الحکم الذی تعلّق بأفعال المکلّفین مباشرة وبدون واسطة، وبهدف تحریک المکلّف أو منعه أو السماح له من قِبل اللَّه تعالی بفعل معیّن (5)، وتتعلّق هذه الأحکام بمختلف أبعاد الحیاة البشریة، سواء الاجتماعیة منها، أم العبادیة، أم الأُسریة وما إلی ذلک (6).


1- المعالم الجدیدة، ص 99- 101.
2- کفایة الأصول، ج 2، ص 51 و 278.
3- اصطلاحات الأصول لآیة اللَّه المشکینی، ص 122.
4- کفایة الأصول، ج 2، ص 278.
5- منیة الطالب، ج 1، ص 106؛ دروس فی علم الأصول( الحلقةالاولی)، ص 56.
6- المعالم الجدیدة للأصول، ص 100.

ص: 402

2. الحکم الوضعی:

وهو کلّ حکم غیر الأحکام التکلیفیة الخمسة(1)، فمع أنّ الواضع له هو اللَّه تعالی (2) (کما هو حال الحکم التکلیفی) إلّاأنّ هذه الأحکام موجودة فی عرف العقلاء أیضاً من قبیل «الزوجیة» و «الملکیة» و «الولایة».

ب) 1. أقسام الحکم التکلیفی:
[أقسام الحکم التکلیفی:]
التقسیم الإجمالی:

ینقسم الحکم التکلیفی بشکل عام إلی: إلزامیّ وغیر إلزامیّ (3).

التقسیم التفصیلی:

ذهب علماء الإمامیّة(4) وکذلک الشافعیة، المالکیة وأکثر الحنابلة(5)، إلی أنّ الحکم التکلیفی ینقسم إلی خمسة أقسام: الوجوب، الاستحباب، الحرمة، الکراهة، والإباحة. وجوهر هذه الأقسام والأصل فیها هو ما تقدّم من القسمین المذکورین آنفاً- إلزامیّ وغیر إلزامیّ- ولکن الحنفیّة ذهبوا إلی تقسیم التکالیف إلی سبعة(6) أو ثمانیة(7) أقسام. حیث ذکروا قسماً آخر مع الوجوب باسم «فرض» وذکروا إلی جانب الحرمة «الکراهة التحریمیة»، فهناک فرق بینها وبین الکراهة الاصطلاحیة (الکراهة التنزیهیة) وکذلک وجود فرق بین «السنّة المؤکّدة» و «السنّة غیر المؤکّدة» حیث ذکروا هذا الفرق فی موضوع الاستحباب، وسیأتی الکلام عنه فی البحوث اللاحقة، وبالنسبة لکلّ واحد من هذه الأحکام التکلیفیة الخمسة توجد ثلاثة حقول منفصلة:

1. «الحکم أو التکلیف» الذی یصدر من قِبل اللَّه تعالی.

2. «متعلّق التکلیف» وهو فعل المکلّف، لأنّ التکلیف کما تقدّم یتعلّق بأفعال المکلّفین، وبعبارة أخری أنّ عمل المکلّف هو الذی یتّصف بالوجوب والحرمة وما إلی ذلک.

3. «الموضوع» وهو الشی ء الذی یتعلّق به فعل المکلّف، ففی مثال: «حرمة شرب الخمر» فالحکم هو «الحرمة» والمتعلّق هو «الشرب»، والموضوع «الخمر».

وأحیاناً یکون لدینا حکم ومتعلّق فقط بدون موضوع، مثلًا وجوب الصلاة والصوم وأمثال ذلک، فإنّ الحکم هو الوجوب، والصلاة أو الصوم یمثّلان المتعلّق للحکم الشرعیّ.

والآن نستعرض الاصطلاحات المهمّة التی تتّصل بالأحکام التکلیفیة.

ب) 1- 1. تقسیمات الواجب:
الفرض والواجب: ذهبت جماعة من أهل السنّة

(ابن حزم (8) والآمدی (9)) والإمامیّة (العلّامة الحلّی)(10) إلی أنّ هذین الاصطلاحین مترادفین ولا یوجد أیّ فرق بینهما(11) ولکنّ الحنفیة قالوا: إنّ الفعل الذی یثبت بعهدة المکلّف بشکل طلب إلزامیّ ویثبت بدلیل قطعیّ، فهو


1- أجود التقریرات، ج 2، ص 383.
2- المعالم الجدیدة للأصول، ص 100.
3- منیة الطالب، ج 1، ص 106.
4- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 54.
5- الروضة الناضرة، ج 1، ص 103.
6- المصدر السابق.
7- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 63.
8- المحلّی، ج 2، ص 227.
9- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 1، ص 99.
10- منتهی المطلب، ج 1، ص 339.
11- موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمین، ج 2، ص 1074.

ص: 403

«فرض» والفعل الذی هو طلب إلزامیّ وثبت بدلیل ظنّی معتبر فهو «واجب»(1).

وذهب البعض طبقاً لهذا التعریف إلی أنّ «الفرض» یرادف ضررویّ الدین، أمّا «الواجب» فهو مرادف لغیر الضروریّ من الدین (2). ولکنّ هذا الکلام لا أساس له من الصحّة.

والقول الثالث، هو أنّ ما ثبت من الأحکام بواسطة القرآن الکریم فهو «فرض» وما ثبت بالحدیث والإجماع والعقل فهو «واجب»(3).

وقال آخرون: إنّ الطلب الإلزامیّ إذا کان مؤکّداً وذا أهمیة کبیرة فهو «فرض» وإلّا فهو «واجب»(4).

القول الخامس، هو ما ورد فی «مجمع البیان» للطبرسیّ (5) و «أحکام القرآن» للجصّاص (6) حیث قالا:

إنّ الفرض یراد به الواجبات التی ثبت وجوبها بالحکم الشرعیّ، ولکن «الواجب» ما یعمّ ذلک ویشمل الواجبات الأخری التی ثبتت بطریق العقل، نظیر شکر المنعم.

ومعلوم أنّ الاصطلاح مجرّد نوع من التوافق والاعتبار، وکلّ شخص یمکنه أن یعتبر لنفسه اصطلاحاً معیّناً (ولا مشاحّة فی الاصطلاح).

أقسام الواجب:
اشارة

للواجب، الذی یعدّ أهم أقسام التکلیف الشرعیّ، عدّة أشکال من التقسیمات المختلفة:

أقسام الواجب بحسب الذات:
1. الواجب العینی والکفائی:

الواجبات المطلوبة من کلّ مکلّف بشخصه، بحیث أنّ الإتیان بها من قِبل الآخرین لا یسقط عن ذمّة هذا المکلّف، تسمّی ب «الواجب العینیّ» کوجوب الصلاة والصیام علی المکلّفین، وأمّا «الواجب الکفائی» وهو الواجب الذی أراد الشارع تحقّقه فی الواقع الخارجی، ولیس ناظراً إلی صدوره من مکلّف خاصّ، مثل تجهیز المیّت.

ولذلک فإذا قام شخص أو عدّة أشخاص بإتیان هذا العمل؛ فإنّه یسقط عن الباقین، ولکن إذا لم یتحرّک أیّ شخص لامتثال هذا الأمر فالجمیع مسؤولون ومحاسبون.

والواجبات الکفائیة بدورها علی قسمین: واجب کفائیّ عامّ ویشمل جمیع المکلّفین، بحیث أنّ جمیع المکلّفین مطالبون بالإتیان به. والواجب الکفائیّ الخاصّ الذی یتعلّق بفئة خاصّة کوجوب علاج المرضی، حیث یجب هذا التکلیف علی الأطبّاء بنحو الواجب الکفائیّ، ومن هذا القبیل وجوب الإفتاء، أو وجوب القضاء، حیث یجب علی الفقهاء أو القضاة بنحو الواجب الکفائیّ.

2. الواجب النفسیّ والغیریّ:

الواجب النفسیّ هو أن یکون العمل یملک المصلحة والملاک بنفسه، فیجب علی المکلّف بصورة مستقلّة، کوجوب الصلاة والصیام، وأمّا الواجب الغیریّ فهو ما لا یملک مصلحة فی نفسه بل یتوقّف علیه امتثال الواجب النفسیّ، کالوضوء والغسل بالنسبة للصلاة، أو إعداد الزاد والراحلة للحجّ.


1- المحصول للفخر الرازی، ج 1، ص 97.
2- دلیل السالک للمصطلحات والأسماء فی فقه الإمام مالک، ص 12.
3- موسوعة مصطلحات أصول الفقه، ج 2، ص 1074.
4- اصطلاحات الأصول لآیة اللَّه المشکینی، ص 121.
5- مجمع البیان، ج 7، ص 218.
6- أحکام القرآن، ج 2، ص 90.

ص: 404

3. الواجب التعیینیّ والتخییریّ:

فالأوّل عبارة عن العمل الذی تعلّق به أمر الشارع تعیّناً ولیس له بدیل، مثل الصلاة التی لا یقوم شی ء مقامها.

والثانی عبارة عن وجود عدّة أعمال تعلّق بها حکم الشارع علی نحو التخییر، کصوم ستّین یوماً، وإطعام ستّین فقیراً أو تحریر رقبة، فالمکلّف بإمکانه أن یختار أحد هذه الأمور الثلاثة فی کفّارة إفطار الصوم فی شهر رمضان.

4. الذاتیّ والعرضیّ :

4. الذاتیّ والعرضیّ (1):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی تعلّق به الوجوب بدون واسطة فی العروض، مثل وجوب صوم رمضان.

والثانی عبارة عن الواجب الذی تعلّق به الوجوب بواسطة شرط، کنذر وغیره، مثل الصوم الذی الذی یأتی به المکلّف لقضاء حاجة النذر.

5. الأصلیّ والتبعیّ :

5. الأصلیّ والتبعیّ (2):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی لا یتقیّد وجوبه بعد إتمام المقدّمات بواجب آخر کالطواف.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یأتی وجوبه فی رتبة متأخّرة عن واجب آخر وله تبعیة زمانیة، کصلاة الطواف التابعة للطواف نفسه.

6. الاستقلالیّ والضمنیّ :

6. الاستقلالیّ والضمنیّ (3):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی تعلق به الوجوب بنحو مستقلّ، کالسجود الواجب فی القرآن.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یتحقّق وجوبه ضمن وجوب الکلیّ «المرکّب» مثل سجود الصلاة.

أقسام الواجب باعتبار الشروط والقیود:
1. المطلق والمشروط:

1. المطلق والمشروط(4):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی لا یتوقّف وجوبه علی حصول أمر آخر بعد توفّر الشروط العامة من (البلوغ، العلم، القدرة، والعقل) کالصلاة.

والثانی عبارة عن الواجب الذی تتعلّق فعلیّة وجوبه بتحقّق أمر فی الخارج، من قبیل الحجّ الذی یرتبط وجوبه بشرط تحقّق الاستطاعة.

2. المنجّز والمعلّق :

2. المنجّز والمعلّق (5):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی یکون فیه زمان «فعلیة الوجوب» مقترنة مع «الامتثال» مثل صوم رمضان فی هذا الشهر المبارک.

والثانی عبارة عن الواجب الذی تتقدّم فعلیة وجوبه علی زمان امتثاله، کالحجّ الذی یتنجّز وجوبه بعد حصول الاستطاعة، ولکن زمان الإمتثال وأداء مناسک الحجّ یکون فی موسم الحجّ.

3. التعبّدیّ والتوصّلیّ:

الواجب التعبّدی هو أن تکون صحة العمل فیه مقیّدة بقصد التقرّب إلی اللَّه تعالی.

وأمّا الواجب التوصّلیّ فهو ما لم یکن مقیّداً بنیّة قصد القربة وإن کان الإتیان به بقصد الامتثال للأمر الإلهیّ یترتّب علیه الثواب ویوجب التقرّب إلی اللَّه، فالأوّل مثل العبادات الواجبة، والثانی مثل أداء الدَّیْن والعمل لکسب المال للمعیشة والتی یقتضیها النظام الاجتماعیّ، وللواجب التعبّدی معنی آخر أیضاً وهو عبارة عن الحکم الذی لا یدرک العقل البشری العادی تفاصیله ومناسباته، کما فی وجوب الصلاة وعدد


1- أجود التقریرات، ج 1، ص 213.
2- أصول الفقه، ج 1، ص 90 و 264.
3- موسوعة الإمام الخوئی( محاضرات فی علم الاصول)، ج 43، ص 522.
4- اصول الفقه، ج 1، ص 87.
5- المصدر السابق.

ص: 405

رکعاتها والأجزاء والقیود الموجودة فی کلّ رکعة منها ومسألة الجهر والإخفات فیها، فهذه الأمور الواردة فی التشریع الإلهیّ ربّما لا تکون الحکمة والمصلحة فیها واضحة لعامّة الناس، ولذلک یطلق علی مثل هذه الأحکام ب «التعبّدیات»(1).

أقسام الواجب باعتبار الوقت:
1. الموقّت وغیر الموقّت :

1. الموقّت وغیر الموقّت (2):

الواجب الموقّت هو الذی ورد من الشارع تعیین زمان خاصّ لامتثاله، مثل الصلوات الیومیة الواجبة.

أمّا الواجب غیر الموقّت فهو الذی لم یرد فیه تعیین وقت خاصّ من الشارع لامتثاله، مثل وجوب صلاة القضاء أو أداء الدَّیْن المطلق.

2. الموسّع والمضیّق :

2. الموسّع والمضیّق (3):

(وهذا التقسیم من تقسیمات الواجب الموقّت) فالأوّل هو الواجب الذی یملک وقتاً واسعاً لامثتاله، مثل وجوب صلاة الظهر، حیث یتمکّن المکلّف من الإتیان بها فی أوّل الوقت أو فی وسطه أو فی آخره، فکلّ هذه المدّة تسمّی وقت صلاة الظهر.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یتساوی فیه زمان تعیینه مع زمان امتثاله، مثل وجوب الصیام فی أیّام شهر رمضان.

3. الواجب الفوریّ وغیر الفوریّ :

3. الواجب الفوریّ وغیر الفوریّ (4):

(وهذا التقسیم من تقسیمات الواجب غیر الموقّت) والأوّل عبارة عن الواجب الذی لا یجوز فیه تأخیر الامتثال عن أول زمان إمکان الوقوع، مثل إزالة النجاسة عن المسجد أو جواب السلام

والثانی عبارة عن الواجب الذی لا مانع من تأخیر امتثاله، مثل وجوب قضاء الصلوات الیومیة وأداء الدَّیْن الذی لم یطالب به الدائن.

أقسام الواجب باعتبار الدلیل:
1. الشرعیّ والعقلیّ :

1. الشرعیّ والعقلیّ (5):

فالأول عبارة عن الواجب الذی ینحصر إثبات وجوبه عن طریق الدلیل الشرعیّ، کالصلاة الواجبة.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یثبت وجوبه بحکم العقل، من قبیل مقدّمة الواجب.

2. المولویّ والإرشادیّ :

2. المولویّ والإرشادیّ (6):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی یثبت وجوبه بواسطة أمر الشارع بدون تدخّل حکم العقل، مثل الصلاة الواجبة.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یثبت وجوبه بواسطة الأمر الشرعیّ مع التمهید له بحکم العقل، مثل إطاعة اللَّه تعالی.

3. الواقعیّ والطریقیّ :

3. الواقعیّ والطریقیّ (7):

فالأوّل عبارة عن الواجب الذی یثبت وجوبه بالدلیل الشرعیّ ویکون لمتعلّقه مصلحة.

والثانی عبارة عن الواجب الذی یکون وجوبه متعلّقاً بعمل معیّن علی أساس الطریقیة، مثل وجوب الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالیّ الذی یکون طریقاً لتحصیل الواقع.


1- الموسوعة الفقهیة الکویتیة، ج 12، ص 201.
2- أصول الفقه، ج 1، ص 94.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- موسوعة الإمام الخوئی،( محاضرات فی علم الأصول)، ج 44، ص 111.
6- المصدر السابق، ص 189.
7- کفایة الأصول، ج 2، ص 50.

ص: 406

ب) 1- 2. إصطلاحات الحرام وأقسامها:
اشارة

الحرام والمحظور: إنّ الحرمة تعتبر أحد الأحکام الإلزامیّة، و (الحرام) هو العمل الذی طلب الشارع المقدّس من الناس اجتنابه ویقع فی دائرة المبغوضیة للَّه تعالی وهو بمستوی الوجوب فی طبیعة الإلزام (1). ویقال له أیضاً «المحظور» لأنّ المحظور فی اللغة هو الشی ء الذی یتضمن آفات کثیرة ویجب أن یتجنّبه الإنسان، ولذا قیل فی اللغة العربیة «لبن محظور» وهو الذی فیه عیوب کثیرة بحیث ینبغی علی الإنسان اجتنابه وعدم تناوله (2).

أقسام الحرام:
اشارة

إنّ الکثیر من التقسیمات المذکورة للواجب، متصوّر فی الحرام أیضاً. ولکن فی مقام إثبات تقسیمات الحرام لم تطرح مثل هذه الأمور فی الفقه، ولکن هناک موارد قلیلة لأقسام الحرام مذکورة فی کلمات الفقهاء، وهی کالتالی:

1. الحرام الذاتیّ والعرضیّ :

1. الحرام الذاتیّ والعرضیّ (3):

فالأوّل عبارة عن الحرام الذی یستنبط من الدلیل الشرعیّ بشکل مباشر کحرمة شرب الخمر.

والثانی عبارة عن الحرام الذی یعرض علی المکلّف بواسطة النذر أو القسم، من قبیل بعض المکروهات حیث تکون حراماً بعد القسم علی ترکها.

2. الحرام الشرعیّ والعقلیّ :

2. الحرام الشرعیّ والعقلیّ (4):

فالأوّل هو الحرام الثابت بالدلیل الشرعیّ، کحرمة الکذب.

والثانی عبارة عن الحرام الذی ثبت بحکم العقل القطعیّ، مثل تناول الأطعمة المضرّة ضرراً کبیراً، بحیث أنّ العقل یدرک قبح تناولها بشکل واضح، وعلی أساس قاعدة: «کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع» تترتّب علیه حرمة شرعیة.

3. الحرام النفسیّ والغیریّ :

3. الحرام النفسیّ والغیریّ (5):

فالأوّل عبارة عن الحرام الذی تتعلّق به الحرمة بالذات؛ مثل الإضرار بالآخرین.

والثانی عبارة عن العمل المباح الذی یکون مقدّمة للحرام، مثل زرع العنب بقصد صناعة الخمر منه.

4. الحرام المؤبّد وغیر المؤبّد:

4. الحرام المؤبّد وغیر المؤبّد(6):

فالأوّل مثل حرمة نکاح أُمّ الزوجة، والثانی مثل حرمة نکاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة الأولی فی حبالة الزوج.

ب) 1- 3. الاصطلاحات المتعلّقة بالعمل الراجح:
المستحبّ، المندوب، التطوّع، النفل، والسنّة
اشارة

إنّ جمیع هذه الاصطلاحات المذکورة تستعمل فی العمل الذی یملک جهة راجحة، وقد حثّ الشارع المقدّس الناس للإتیان به، ولکنّ مطلوبیته لیست فی مرتبة الإلزام، بمعنی أنّها لیست بدرجة أن یعدّ ترک ذلک العمل ذنباً ومعصیة، ولکنّ الإتیان به یستوجب المدح والثواب (7).

وکلّ واحدة من هذه الاصطلاحات تطلق علی العمل بجهة ومناسبة خاصّة، فمن جهة أنّ اللَّه تعالی یحب


1- دروس فی علم الاصول( الحلقة الاولی)، ص 69 و( الحلقة الثانیة)، ص 15.
2- نهایة الأصول، ص 25.
3- کشف الغطاء، ج 1، ص 200.
4- رسائل فقهیّة للشیخ الأنصاری، ص 116.
5- مصباح الفقیه، ج 2، ص 126.
6- تحریر الوسیلة، ج 2، ص 401.
7- کفایة الأصول، ج 1، ص 63؛ الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 68؛ دروس فی علم الاصول( الحلقة الثانیة)، ص 15 و 16 و( الحلقة الاولی)، ص 68 و 69.

ص: 407

العمل المستحبّ، وأنّ فی الإتیان به فضیلة، فیقال له «مستحبّ» لأنّ الاستحباب من «الحبّ»(1).

ومن جهة أنّ الإتیان بهذا العمل مطلوب من الناس بلحاظ ما یملک من أهمّیة، فیقال له «مندوب» لأنّ «الندب» یأتی بمعنی دعوة الناس لأمر مهمّ (2).

ومن جهة أنّ مثل هذه الأفعال یأتی بها الإنسان تطوّعاً ومن غیر إلزام، بل یتحرّک المکلّف للإتیان بها من موقع إظهار عبودیّته وإیمانه، فلذلک یقال لهذا العمل «تطوّع» لأنّ التطوّع فی اللغة هو العمل الذی یأتی به الإنسان عن رغبة ومیل شخصیّ مع أنّه غیر واجب (3).

ولذلک فإنّ التطوّع أخصّ من الطاعة، لأنّ الطاعة تشمل الإتیان بالعمل الواجب والمستحبّ أیضاً(4).

ومن جهة أنّ الإتیان بالمستحبّات، مضافاً إلی الواجبات یقال له «نافلة» و «نفل» لأنّ النفل فی اللغة بمعنی الزیادة(5)، وبما أنّ الإتیان بالمستحبّات یعتبر عملًا مرغوباً وأسلوباً مطلوباً ومعقولًا، فلذلک یقال له «سنّة» بمعنی المنهج والطریق (6).

وممّا یجدر ذکره أنّه رغم أنّ ترک المستحبّات لا یستوجب ذنباً ولا یترتّب علیه ذمٌّ، ولکن إذا ترکت المستحبّات فی أجواء المجتمع الإسلامیّ بشکل عام فإنّ هذا الترک بهذا الشکل قد یصل إلی مرتبة الحرام ویستحقّ المسلمون الذمّ والتوبیخ علی إهمالهم للمستحبّات، مثل ترک الجماعات وترک إقامة الصلاة فی المساجد بشکل دائم، لأنّ مثل هذا التعامل مع الأحکام غیر الإلزامیة الذی یتّسم بالعموم والشمول یعتبر إهانة بالنسبة ل «أحکام اللَّه»(7)، مضافاً إلی أنّ ترک المستحبّات یفضی تدریجیاً إلی تهمیش الواجبات وقلّة العنایة بها وبالتالی ترک الدین الإلهیّ فی زاویة النسیان ومن هذه الجهة یکون هذا العمل مقدّمة للحرام.

أقسام المستحبّ:

و «المستحبّ» فی الاصطلاح الفقهیّ علی قسمین مستحبّ مؤکّد وغیر مؤکّد.

الأوّل عبارة عن المستحبّ الذی تتعلّق به المحبوبیة بدرجة عالیة، کاستحباب المشارکة فی صلاة الجماعة، والثانیة عبارة عن المستحبّ الذی تعلّقت به المحبوبیة والمطلوبیة بدرجة أقلّ، کاستحباب الإتیان ببعض تعقیبات الصلاة، والجدیر بالذکر أنّ مرتبة المطلوبیة والمحبوبیة لعمل معیّن تستکشف من خلال النصوص الشرعیة.

اصطلاحات المکروه وأقسامها:

«المکروه» هوالعمل الذی یترجّح ترکه، ولذلک فإنّ الشارع فی الوقت الذی لم یلزم المکلّف بترکه، ولکنّه


1- نهایة الوصول إلی علم الأصول، ج 1، ص 96.
2- موسوعة مصطلحات أصول الفقه، ج 2، ص 1574 و ج 1، ص 778؛ نهایة الوصول إلی علم الأصول، ج 1، ص 96.
3- تفسیر المیزان، ج 9، ص 351؛ کتاب الصلاة لآیة اللَّه الخوئی، ص 513.
4- التبیان، ج 2، ص 44.
5- مفردات الراغب، مادّة« نفل»؛ حاشیة ردّ المختار علی الدرّالمختار، ج 1، ص 111.
6- معجم المصطلحات والالفاظ الفقهیّة، ج 2، ص 297. « من الضروری الالتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ السنّة لها معانٍ مختلفة، فهذه المفردة تطلق فی اللغة علی کلّ منهج وطریقة وإن کان الغالب أنّها تستعمل فی المنهج الحسن والمقبول، وفی الاصطلاح لها معانٍ کثیرة، منها: 1. أعمال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله التی دأب علیها( سنن النبیّ). 2. الطلب غیر الملزم ولکنّه مؤکد وفی هذه الصورة سیکون معنی السنّة مرادفاً للمستحبّ المؤکّد. 3. ما فی إتیانه ثواب وفی ترکه اللوم والعتاب، ولکنه لا یعاقب علیه. 4. فعل وقول وتقریر النبیّ صلی الله علیه و آله( أو المعصوم علیه السلام) یقول إبن الحاجب: السنّة فی العبادة هی النافلة، والسنّة فی الأدلّة هی قول وفعل وتقریر النبیّ صلی الله علیه و آله.( معجم المصطلحات والألفاظ الفقهیّة، ج 2، ص 297).
7- نهایة الوصول فی علم الأصول، ج 1، ص 96؛ المحصول للفخرالرازی، ج 1، ص 102.

ص: 408

دعاه لاجتنابه وطلب منه ترکه بحیث أنّ ترکه یستحقّ المدح والتقدیر، ولکنّ الإتیان به لا یستحقّ الذمّ والعقوبة(1). ویری أبوحنیفة أنّ مثل هذا العمل هو «مکروه تنزیهیّ». حیث یری فقهاء هذا المذهب وجود فرق بین «الحرام» و «المکروه التحریمیّ» أیضاً، وقالوا:

إذا ثبتت حرمة العمل بدلیل قطعیّ یقال له «حرام» وإذا ثبتت الحرمة بدلیل ظنّی، فهو «مکروه تحریمیّ»(2).

وما تقدّم من کلام فی المستحبّ یرد هنا أیضاً، وأنّ المکروهات تترتّب العقوبة والمؤاخذة علیها، ولکن إذا کان عمل المکروه متداولًا بین الناس بشکل یصبح ثقافة للمجتمع الإسلامی، فإنّ ذلک المجتمع یستحقّ الذمّ والتقریع، لأنّ مثل هذه الحالة تعکس حالة اللامبالاة وعدم الاهتمام بالتکالیف الدینیة والإلهیّة، مضافاً إلی أنّ ذلک یفضی تدریجیاً إلی نسیان الحکم الإلهیّ وإلغائه من واقع الحیاة الفردیة والاجتماعیة.

وأمّا فی الاصطلاح الفقهیّ، فالکراهة تنقسم إلی قسمین:

1. الکراهة الشدیدة، وهی التی تعلّقت بمورد مبغوض جدّاً، مثل عدم إقراض المحتاجین.

2. الکراهة غیر الشدیدة، وتتحقّق فی العمل بمورد مرجوح وغیر مستساغ، ولکن لا یصل إلی مرتبة شدیدة، مثل لبس السواد. وتؤخذ مراتب الکراهة من النصوص الشرعیة أیضاً.

ب) 1- 4. الاصطلاحات المتعلّقة بالإباحة:

کلّ عمل إذا کان فعله جائزاً یسمی ب «المباح».

وأمّا تقسیمات الإباحة فهی:

1. إباحة شرعیة وعقلیة: فالإباحة الشرعیّة هی التی ورد فیها من الشارع المقدّس جواز الفعل أو الترک، مثل:

«أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیَامِ الرَّفَثُ إِلَی نِسَائِکُمْ»(3).

ففی هذه الآیة ورد من الشارع جواز مقاربة الزوجة فی لیالی شهر رمضان المبارک (وکان هذا الحکم غیر جائز لفترة معیّنة).

أمّا الإباحة العقلیة فیعبّر عنها ب «البراءة الأصلیة» وهی عبارة عن حریة الإنسان واختیاره فی الإتیان بالعمل أو ترکه، بغضّ النظر عن حکم الشرع، وقد ورد التعبیر عنها أیضاً باستصحاب البراءة قبل الشرع (4) (رغم أنّ التمسّک بالاستصحاب فی مثل هذه الموارد لا حاجة له لأنّ مجردّ الشکّ فی وجود المنع الشرعیّ، یکفی بجریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان).

والخصوصیّة فی المباح والجائز فی کلا القسمین هی عدم ترتّب ثواب أو عقاب علی الفعل أو الترک لمتعلّق المباح (5).

2. إباحة عامّة وخاصّة: أحیاناً یعبّر عنها الفقهاء ب «الجواز بالمعنی الأعمّ و الجواز بالمعنی الأخصّ»، فالجواز بالمعنی الأعم أو الإباحة العامّة هی ما إذا کان العمل غیر حرام، سواء کان واجباً أم مستحبّاً أم مکروهاً أم مباحاً. وأمّا الجواز بالمعنی الأخصّ أو الإباحة الخاصّة، فهی ذلک القسم الخاصّ من الأحکام التکلیفیة الخمسة، ویختصّ بحالة ما إذا کان الفعل وترکه بالنسبة للمکلّف متساویاً فی نظر الشارع ولا رجحان لأحدهما علی الآخر إطلاقاً، فهذا القسم من


1- نهایة الوصول إلی علم الأصول، ج 1، ص 97.
2- مصطلحات المذاهب الفقهیّة، ص 47؛ الأصول العامة، ص 63 و 64.
3- سورة البقرة، الآیة 187.
4- معجم المصطلحات والألفاظ الفقهیّة، ج 1، ص 34.
5- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 69.

ص: 409

الجواز یقع فی عرض الأقسام الأربعة الأخری من الأحکام التکلیفیة، (الحرمة، الکراهة، الوجوب، الاستحباب).

3. اقتضائیّة وغیر اقتضائیّة: فالأولی هی ما إذا کان الفعل فارغاً من الملاک ولا یوجد باعث علی الفعل أو الترک، مثل بعض التصرّفات والأعمال غیر الضروریّة للشخص فی أمواله. والثانیة، فیما إذا کان العمل یملک الملاک للإباحة وحریّة الإتیان به أو ترکه، أی أنّ هذا التیسیر علی المکلّفین من حیث حریّة الاختیار یتضمّن مصلحة للمکلّفین مثل حریة الإنسان فی الاستفادة من طاقاته وقدراته!(1)

ب) 2. أقسام واصطلاحات الحکم الوضعیّ:

الحکم الوضعیّ:

وکما تقدّم أنّ الحکم الوضعیّ هو نوع من القانون الشرعی ولکنّه مستقلّ عن الأحکام التکلیفیة الخمسة.

وهناک علاقة وثیقة بین الأحکام التکلیفیة والوضعیة، وهذه العلاقة تتّحقق من جهتین وعلی نحوین:

1. أحیاناً یکون الحکم الوضعیّ موضوعاً للحکم التکلیفی مثل «الزوجیة» التی تقع موضوعاً لوجوب النفقة، وأحکاماً أخری کثیرة، وهکذا «الملکیة».

2. وأحیاناً یکون الحکم الوضعیّ مقتبساً من الحکم التکلیفی، من قبیل انتزاع «الجزئیّة» من وجوب قراءة السورة فی الصلاة(2).

أمّا النوع الأوّل من الحکم الوضعیّ فقد تمّ وضعه بشکل مستقلّ من قِبل الشارع، ولکنّ النوع الثانی لا یملک جعلًا مستقلّاً من الشارع، بل ینتزع من الحکم التکلیفیّ فی مرتبة سابقة(3).

وفی تقسیم آخر فإنّ الحکم الوضعیّ علی نحوین:

1. الحکم الوضعیّ الإمضائیّ: وهو الحکم الذی کان موجوداً بین الناس قبل الشریعة الإسلامیة، وبما أنّه حکم معقول وقامت علیه سیرة العقلاء فی العمل به، فإنّ الشرع أیضاً تحرّک من موقع تأییده وإمضائه، مثل «الملکیّة» و «الزوجیّة».

2. الحکم الوضعیّ التأسیسیّ: وهو عبارة عن الحکم الذی صدر من الشارع المقدّس من موقع التأسیس ولم یکن متداولًا قبل ذلک، مثل «ولایة الفقیه».

وقد ورد تقسیم الحکم إلی تکلیفیّ ووضعیّ فی أصول أهل السنّة أیضاً:

یقول الشاطبی: «الأحکام الشرعیة قسمان: أحدهما یرجع إلی خطاب التکالیف، وهو ینحصر فی خمسة(4) والآخر یرجع إلی خطاب الوضع وهو ینحصرفی الأسباب، والشروط، والموانع، والصحّة والبطلان والعزائم والرخص»(5).

أمّا اصطلاحات هذا القسم فهی کالتالی:

1. الجزء، الشرط، المانع، والقاطع

إذا تعلّق الحکم الشرعیّ بموضوع مرکّب (الموضوع الذی یتشکّل من أجزاء مختلفة) ففی هذا المورد یطلق علی کلّ قسم من أقسام هذا المرکّب «جزء»، وکما أنّ الحکم الشرعیّ یتعلق بجمیع المرکّب، فإنّه یتعلق


1- دروس فی علم الاصول،( الحلقة الثانیة)، ص 16.
2- دروس فی علم الأصول، ص 21 و 22؛ الأصول العامة، ص 51.
3- دروس فی علم الأصول( الحلقة الثالثة)، ص 21 و 22.
4- الموافقات، ج 1، ص 109.
5- المصدر السابق، ص 187.

ص: 410

بأجزاء هذا المرکّب بصورة ضمنیة، علی سبیل المثال:

الصلاة تتشکّل من أجزاء مختلفة (النیّة، تکبیرة الإحرام، الرکوع، السجود، التشهد، وما إلی ذلک)، وعلیه، فکما أنّ الصلاة واجبة کلّها، فإنّ کلّ جزءٍ من أجزائها واجب أیضاً تبعاً لوجوب الصلاة نفسها حیث یکون وجوبه ضمنیاً.

أمّا «الشرط» فیقال لما یقع خارج حقیقة الموضوع ولکن صحّة العمل منوطة به، سواء کان متقدّماً علی العمل نفسه (وهو الشرط المقدم) کالوضوء للصلاة أم مقارناً (الشرط المقارن) کاستقبال القبلة فی الصلاة، أم بعد العمل (کالشرط المتأخّر) مثل الغسل اللیلی للمرأة المستحاضة بالنسبة لصحّة صومها فی ذلک الیوم السابق لتلک اللیلة.

أمّا «المانع» فهو ما یقع وجوده مانعاً من تأثیر صحّة العمل، کاللباس المصنوع من جلد الحیوان الحرام اللحم للمصلّی، أو التزیّن بالذهب للرجال المانع من صحّة الصلاة.

أمّا «القاطع» فیطلق علی ما یهدم الهیئة الاتّصالیة للعمل ویوجد فاصلة بین أجزاء المرکّب، مثل الضحک أو البکاء علی أمور الدنیا أثناء الصلاة(1).

2. السبب، العلّة، المقتضی

إذا کان الأمر یعتبر سبباً تاماً للحکم الشرعیّ بحیث إنّ الحکم الشرعیّ یترتّب علی هذا الأمر بشکل قهریّ، فهو «علّة» و «سبب» و «موجب»، ولکن إذا کان الأمر یمثّل علّة ناقصة للحکم «تهیئة الأرضیة له» ویحتاج فی تأثیره إلی «وجود شرط» أو «فقد مانع» فیقال له «مقتضی»، مثلًا، السرقة «مقتضی» لوجوب إجراء الحدّ، ولکنّ الحدّ لا یجری بدون تحقّق جمیع الشروط وفقدان جمیع الموانع.

وأمّا «العلّة» فأحیاناً تستخدم فی مقابل «الحکمة» مثلًا، یقال: إنّ عدم اختلاط المیاه (لحفظ النسب وإیجاد الإرتباط الأسری بین أفراد الأسرة) یمثّل حکمة تشریع العدّة للمرأة ولا یمثّل علّة لهذا الحکم، وعلی هذا الأساس فإنّ الحکمة فی عین کونها منشأ تشریع الحکم إلّا أنّه ربّما یکون الحکم عامّاً أحیاناً، وشاملًا لبعض الموارد التی تفتقد تلک الحکمة، مثل الموارد التی یقطع فیها الإنسان بعدم اختلاط المیاه فإنّه مع ذلک تجب العدّة علی المرأة المطلّقة(2)، من قبیل أن یکون الزوج مسافراً لمدّة سنة أو أکثر، فمع ذلک یجب علی الزوجة المطلّقة الالتزام بالعدّة بعد الطلاق مع عدم وجود مسألة تداخل المیاه.

أمّا کلمة «سبب فتارة تستعمل فی مقابل «المباشر» فی الأحکام الجزائیة. علی سبیل المثال:

الشخص الذی ارتکب جریمة بنفسه یسمّی «المباشر» وأمّا الذی أمره بارتکاب هذه الجریمة أو أکرهه علی ذلک فیسمّی ب «السبب» ویترتّب علی ذلک أنّه یعاقب علی هذه الجریمة بحسب استنادها إلیه ونسبة تدخله فی ارتکاب الجرم، فأحیاناً یقع (القصاص، الحدّ، الدیة و ...) علی «المباشر» وأحیاناً أخری علی «السبب»(3).

ج) الحکم الواقعی والظاهری:

اشارة

التقسیم المهمّ الآخر للحکم الشرعیّ «سواء الحکم التکلیفیّ أم الوضعیّ) عبارة عن تقسیمه إلی الواقعیّ والظاهریّ.


1- انظر: نهایة الأفکار، ج 2، ص 411.
2- الأصول العامة للفقه المقارن، ص 311.
3- جواهر الکلام، ج 42، ص 47؛ المغنی لإبن قدامة، ج 9، ص 330.

ص: 411

الحکم الواقعیّ هو الحکم الذی ترتّب علی موضوعه بغضّ النظر عن حالة (الشکّ والظنّ) کوجوب الصلاة أو الصیام، وأمّا الحکم الظاهریّ فهو الحکم الذی ترتّب علی موضوعه مع الأخذ بنظر الاعتبار حالة (الشکّ والظنّ) کالحکم الذی یثبت بواسطة الاستصحاب أو البراءة.

أقسام الحکم الواقعیّ:
اشارة

الحکم الواقعی ینقسم إلی: حکم واقعیّ أوّلی وحکم واقعیّ ثانویّ.

فالأوّل عبارة عن الوظیفة الشرعیة للمکلّف فی حالته الطبیعیة ومع کامل اختیاره، کوجوب الوضوء للصلاة.

والثانی عبارة عن الوظیفة الشرعیة للمکلّف فی حال الاضطرار، العسر، الحرج والضرر وأمثال ذلک من العناوین الثانویة التی تثبت بواسطة دلیل شرعیّ معتبر، کوجوب التیمّم بدل الوضوء لمن لا یتمکّن من الوضوء لسبب من الأسباب.

الحکم الظاهریّ وأقسامه:
1. تقسیم الحکم الظاهریّ باعتبار الجعل الحکم الشرعیّ

وینقسم هذا الحکم إلی الحکم الظاهریّ الناظر إلی الواقع والحکم الظاهریّ غیر الناظر إلی الواقع.

فالأول عبارة عن الحکم الظاهریّ فی دائرة الأمارات، کالأحکام الشرعیة المستنبطة من حجیّة خبر الواحد، لأنّ خبر الواحد یعتبر طریقاً للکشف عن الحکم الشرعی الواقعی.

أمّا الثانی فعبارة عن الحکم الظاهریّ فی صورة الشکّ بالحکم الواقعیّ والجهل به بدون أن یعتبر هذا الحکم طریقاً إلی الواقع، من قبیل الحکم بطهارة الشی ء علی أساس قاعدة الطهارة.

2. تقسیم الحکم الظاهری باعتبار الترخیص والإلزام

وینقسم إلی حکم ظاهریّ إلزامیّ، وحکم ظاهریّ ترخیصیّ:

فالأول هو الحکم الحاصل من خلال الاستعانة بقاعدة الاحتیاط أو استصحاب التکلیف.

والثانی هو الحکم الذی ثبت من خلال أصل البراءة والإباحة والحلّیة وأمثال ذلک.

3. تقسیم الحکم الظاهری باعتبار الدلیل الشرعی والعقلیّ

وینقسم إلی حکم ظاهریّ شرعیّ وحکم ظاهریّ عقلیّ:

فالأول هو الحکم الذی ثبت علی المکلّف بواسطة الأصول العملیة الشرعیة، مثل وجوب الاجتناب فی الشبهة التحریمیة بواسطة الاحتیاط الشرعی.

الثانی هو الحکم الذی یتمّ تعیینه بواسطة العقل بعنوانه وظیفة عملیة فی مقام الطاعة والامتثال، مثل الحکم بالتخییر عند دوران الأمر بین محظورین (1).

الفصل الثانی: الاصطلاحات التی تتّصل بمناصب الفقهاء

أ) الفتوی، الحکم، القضاء

اشارة

«الفتوی» عبارة عن الحکم الإلهیّ الکلّی الذی


1- دروس فی علم الأصول( الحلقة الثالثة)، ج 1، ص 35؛ موسوعة الإمام الخوئی، ج 44، ص 67؛ أصول الفقه، ج 1، ص 250.

ص: 412

یستنبطه الفقیه من الأدلّة المعتبرة.

أمّا «الحکم» فیقع فی مقابل الفتوی، وهو عبارة عن الأمر الشرعیّ فی مقام التنفیذ أو تعیین المصداق أو الموضوع، أو تعیین زمان ومکان الحکم الشرعیّ وکذلک إلزام المکلّفین بفعل أو ترک عمل معیّن علی أساس العناوین الثانویة والمصلحة الخاصّة فی زمان معیّن أو مکان خاصّ، من قبیل الحکم بثبوت هلال شهر رمضان المبارک أو شهر ذی الحجّة من قِبل الحاکم الشرعیّ لأداء مناسک الحجّ أو الصوم.

أمّا «القضاء» فهو عبارة عن رفع الخصومة والنزاع والاختلاف بین طرفی النزاع علی أساس تعیین الوظیفة الشرعیة.

و «القضاء» له معنیً آخر أیضاً فی اصطلاح الفقهاء وهو ما سیأتی فی القسم الرابع تحت عنوان «الأداء، القضاء، الإعادة».

وأحیاناً تستعمل مفردة «حکم» لعملیة القضاء بین المتخاصمین أیضاً، کما ورد فی روایة عمر بن حنظلة فی قول الإمام علیه السلام:

«فإنّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَیْکُمْ حاکِماً»(1)

ونفس هذا المورد فی روایة أبی خدیجة جاء بهذه العبارة:

«فإنّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَیْکُم قَاضِیاً»(2)

ومعلوم أنّ کلا هذین التعبیرین ناظران إلی تفویض منصب القضاء من قِبل الإمام علیه السلام إلی الفقهاء.

وقد ورد فی القرآن الکریم أیضاً التعبیر عن «القضاء» ب «الحکم» عدّة مرات، منها ما ورد فی الآیة الشریفة: «یَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(3).

وهذا المعنی للحکم یتطابق مع ما ورد فی کتب اللغة، فیری الفیّومی أنّ «الحکم» بمعنی القضاء(4) وأمّا ابن منظور فیری أنّ الحکم یأتی بمعنی القضاء بالعدل (5).

الفرق بین الحکم والفتوی:

ویختلف الحکم عن الفتوی فی ثلاثة أمور:

1. کیفیة البیان: فالفتوی عبارة عن بیان الحکم الکلّی لعامّة الناس، کالفتوی بحرمة استخدام المخدّرات لجمیع الناس، ولحسن الحظّ أنّ هذه الفتوی تعتبر أکثر فتاوی الفقهاء تأثیراً فی التاریخ المعاصر، وهذا النحو من البیان یطلق علیه بالاصطلاح العلمی «قضیّة حقیقیة».

وأمّا حکم الحاکم فهو عبارة عن إصداره الأمر بالإتیان بعمل معیّن أو ترکه، من قبیل تحریم البضائع الإسرائیلیة وخاصّة فی هذه البرهة الزمنیة الخاصّة، ویطلق علی هذا النحو من البیان فی الاصطلاح العلمی، بیان الحکم بشکل «القضیة الشخصیة».

2. التطبیق: بالنسبة للفتوی الفقهیة فإنّ تطبیق الحکم الشرعیّ علی موارده وتشخیص مصادیق موضوعات الأحکام یقع بعهدة المکلّفین، ولکن بالنسبة لصدور حکم الحاکم فالتطبیق یکون من شأن الحاکم، وأمّا المخاطبون للحکم فلا دخل لهم فی عملیة التطبیق، مثل حکم الحاکم بثبوت هلال شهر رمضان المبارک.

3. الحجیّة: إنّ فتوی المجتهد تعتبر حجّة شرعیة لمقلِّدیه فقط، ویجب علیهم الاتّباع والامتثال، وأمّا بالنسبة لحکم الحاکم الشرعیّ وقضائه، فلا یختصّ بمقلِّده، بل یستوعب فی دائرة حجّیته جمیع الناس الذین یقعون فی دائرة الخطاب، وحتی المجتهد الآخر


1- وسائل الشیعة، ج 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، ح 1.
2- المصدر السابق، ح 6.
3- سورة ص، الآیة 28.
4- المصباح المنیر، مادّة« حکم».
5- لسان العرب، مادّة« حکم».

ص: 413

الذی ربّما یکون أعلم من الحاکم، فإنّه یجب علیه بعد صدور الحکم وتوفّر الشروط اللازمة أن یتحرّک من موقع الطاعة والتبعیّة ولا یجوز له نقض حکم الحاکم الشرعیّ (1).

ب) الإستفتاء والإفتاء

اشارة

«الاستفتاء» عبارة عن السؤال من المجتهد الجامع للشرائط عن حکم شرعیّ، سواء کان السؤال بشکل شفهیّ أم کتبیّ.

«الإفتاء» عبارة عن بیان الحکم الکلّیّ الإلهیّ أو بیان الموضوعات المستنبطة(2) أو بیان الحکم الجزئیّ بحیث یمکن اعتباره بیاناً للحکم الشرعیّ الکلّی. من قبیل أن یقول الفقیه: هذه الصلاة باطلة، لأنّ المصلّی یرتدی لباساً مأخوذاً من جلد حیوانٍ أکلُ لحمهِ حرامٌ.

ففی هذا المثال، وإن بیّن الفقیه حکماً جزئیاً وشخصیاً، ولکنّه یعود إلی بیان حکم کلّی.

الموارد المذکورة إنّما تبرز بشکل إفتاء إذا کان الفقیه قد تحرّک بنفسه فی استنباط هذا الحکم الشرعیّ وبیّنه للناس، وعلیه فإنّ بیان الحکم أو الموضوع بواسطة «غیر الفقیه» یسمّی نقلًا للفتوی، ولیس إفتاءً.

والإفتاء علی نحوین: تارة یکون ابتدائیاً، وأخری بعدالاستفتاء ووقوعه فی جواب السؤال حیث ینبغی إحراز صدوره من مرجع التقلید. وکذلک إذا کان جواب الاستفتاء بشکل کتبیّ فینبغی أن یکون الجواب مقترناً بختم أو إمضاء مرجع التقلید لتأیید صدور هذه الفتوی منه.

شوری الإفتاء:

فی الآونة الأخیرة ذهب جمع من الفقهاء المعاصرین إلی القول بضرورة تشکیل شوری للإفتاء. وذلک بأن یتمّ تشکیل جلسة لمجموعة من الفقهاء، ویتمّ فیها تبادل النظر والرأی من خلال الفحص والبحث فی الأدلّة الشرعیة وإصدار فتوی مشترکة بعنوان فتوی الشوری، وعرضها علی عامّة الناس من مقلِّدیهم وأتباعهم.

وبالرغم من أنّ هذا الموضوع لحدّ الآن لم یتجسّد عملیاً علی أرض الواقع لدی فقهاء الشیعة الکبار، ولکن لا یوجد منع شرعیّ من ذلک، لأنّنا نعلم أنّ المدرک الأصلی لمسألة التقلید والفتوی هو بناء العقلاء فی رجوعهم لأهل الفتوی والتخصّص فی علم من العلوم، وکذلک نعلم أنّ أهل الخبرة والاختصاص فی فرع علمیّ یتّخذون رأیهم النهائی فی مسألة معینة من خلال الشوری وتبادل وجهات النظر بینهم، مثلًا شوری الأطبّاء، شوری الإقتصاد والسیاسة وأمثال ذلک. وعلیه فلا مانع أن یستعین الفقهاء فی إصدار فتاواهم من خلال الشوری، بل إنّ الآراء الصادرة عن جلسات الشوری تکون فی أغلب الموارد أکثر نضجاً وانسجاماً مع الواقع وأقرب إلیه.

مضافاً إلی ذلک فإنّ أغلب مراجع التقلید فی الحوزات العلمیة الشیعیة، لدیهم هیئة للافتاء فی مکاتبهم تعمل عمل الشوری، ومتشکلة من خبراء وأساتذة فی الحوزات العلمیة، حیث یستعین بهم مرجع التقلید لأمر التحقیق فی المنابع الفقهیة، رغم أنّ الرأی النهائیّ بعهدة مرجع التقلید نفسه.


1- موسوعة الإمام الخوئی( تکملة المنهاج)، ج 41، ص 5؛ العروة الوثقی، ج 1، المسألة 57.
2- أنوار الفقاهة، ج 1، ص 438.

ص: 414

ج) الولایة، الحکومة، الحسبة

«الولایة» تعنی صاحب الاختیار ومن یتمتّع بمسؤولیة القیادة، الزعامة، والمرتبة العلیا منها ثابتة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام من اللَّه تعالی، ویمکن إثبات مرتبة معینة من مراتب الولایة للفقیه (1)، کما أنّ الأب والجدّ یتمتّعون بمرتبة نازلة منها بالنسبة للأولاد.

أمّا «الحکومة» فهی قسم من أقسام الولایة، وهی عبارة عن استلام زمام السلطة وقیادة المجتمع وإدارة أمور البلد الإسلامیّ ونظم المدن والقری وحفظ الحدود والثغور والدفاع عن البلد فی مقابل الأعداء، بکلمة: هی زعامة الأمّة فیما یتّصل بالنظام السیاسی والاقتصادی لذلک المجتمع وما یحقق مصالح أفراده بواسطة مشارکة الناس (2).

«الحسبة» فی اللغة بمعنی العدّ والحساب (3) وفی اصطلاح فقهاء أهل السنّة عبارة عن:

«إقامة المعروف والمنع من إشاعة الفساد والرذیلة فی المجتمع، ویختلف هذا مع الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وأهم الفوارق بینهما- کما یری البعض- أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وظیفة شرعیة تجب علی الجمیع، ولکنّ الحسبة وظیفة ترتبط بالجماعة المعیَّنین من قِبل الحکومة والوالی الآمر، والفرق الآخر فی إحراز المنکر فی النهی عن المنکر وهو شرط لوجوب هذه الوظیفة، یعنی النهی عن المنکر فی حین أنّ الواجب فی الحسبة هو التصّدی للمنکر والفساد الواقعی، لهذا یجوز للمحتسبین الفحص والتفتیش عن وجود أو عدم المنکر، بل واجب»(4).

وفی اصطلاح فقهاء الشیعة عبارة عن الأمور التی لا یرضی الشارع الإسلامیّ بترکها ویجب إقامتها بأیّ شکل، وبما أنّه لا یوجد مسؤول خاصّ لمتابعة أمور الحسبة فیجب علی الحاکم الشرعی أن یتصدّی بنفسه أو من خلال وکلائه لمتابعتها، من قبیل الاهتمام بأمور الغائبین والقاصرین والمحجورین کالأطفال والأیتام وکذلک مواجهة المفاسد الأخلاقیة والاجتماعیة والنهی عن المنکر، وفی الواقع فإنّ دائرة الحسبة لدی فقهاء الإمامیة أوسع من دائرتها لدی فقهاء أهل السنّة(5).

الفصل الثالث: إصطلاحات الفقهاء فی بیان الأحکام

اشارة

لیس من الضروریّ أن یکون للفقیه فتویً أو حکمٌ فی جمیع المسائل الشرعیة، لأنّه فی الوقت الذی یملک ملکة الاجتهاد فإنّه ربّما لا یرید إصدار فتوی فی بعض الموارد، ولذلک یتحرّک نحو الأخذ بالاحتیاط.

وهناک تعبیرات واصطلاحات مختلفة ومتنوّعة لبیان الفتوی، وکذلک فی مورد الاحتیاط فی کلمات الفقهاء.

واختیار الفقیه لکلّ واحدة من هذه المفردات والتعبیرات تابع لاختلاف الأدلّة وکیفیة استنباط الفقیه للحکم الشرعیّ علی ضوئها، فأحیاناً تکون دلالة الدلیل علی الحکم الشرعیّ صریحة وقاطعة، وأحیاناً أخری لا تکون الدلالة صریحة وإن کان هناک ظهور قویّ فی الدلیل، وأحیاناً لا تکون لدلیل الحکم تلک


1- انظر: کتاب أنوار الفقاهة، کتاب البیع، ج 1، ص 445- 600.
2- أنوارالفقاهة، کتاب البیع، ج 1، ص 447.
3- لسان العرب، مادّة« حسب»؛ صحاح اللغة، مادّة« حسب».
4- الأحکام السلطانیة للماوردی، ص 240؛ الأحکام السلطانیة لأبویعلی، ص 284.
5- المکاسب للشیخ الأنصاری، ص 154؛ التنقیح، ج 1، ص 423.

ص: 415

القوّة والصراحة اللازمة، بل یحتمل فیه أن یکون دلیلًا علی الحکم، وفی کلّ واحدة من هذه الموارد یستخدم الفقیه اصطلاحاً مناسباً لذلک المورد ویستخدمه فی إصدار الفتوی، والتعابیر المختلفة الواردة فی هذا الشأن کالتالی:

أ) إصطلاحات الفقهاء فی بیان الفتوی

کلّما ورد التعبیر بعبارة «لا یبعد»، «لا یخلو من قوّة»، «علی الأقوی»، «الأحوط الأقوی»، «الأقرب»، «الأصح»، «ظاهراً» و «علی الظاهر» و «علی الأظهر» (أی الأظهر بلحاظ الأدلّة)، و «علی الأشبه» (أی الأکثر انسجاماً مع القواعد الفقهیة) فکلّ هذه العبارات الواردة فی کلمات الفقهاء تعدّ من الفتوی (1).

وتمتاز الفتوی بأنّ المقلِّد لا یمکنه الرجوع إلی مجتهد آخر فی هذه المسألة، لأنّ الرجوع إلی عالم آخر مع فرض أعلمیة مرجع تقلیده لا یجوز إلّافی صورة أن لایظهر المجتهد الأعلم فتواه فی تلک المسألة.

ب) إصطلاحات الفقهاء فی موارد الاحتیاط

وقد وردت کلمات وعبارات فی الکتب الفقهیة والرسائل العملیة بالنسبة لموارد الاحتیاط.

و «الاحتیاط» إنّما یکون فیما لو لم یصدر الفقیه فتوی فی مسألة معیّنة ویختار طریق الاحتیاط فیها له ولمقلِّده.

«الاحتیاط» عبارة عن العمل بحیث یحصل الإنسان علی الیقین بامتثال التکلیف الواقعی. والاحتیاط أحیاناً یستلزم تکرار العمل، مثل الاحتیاط فی الإتیان بالصلاة قصراً أو تماماً، وأحیاناً أخری لا یستلزم التکرار، کأن یأتی المصلّی بالأذان والإقامة احتیاطاً.

والجدیر بالذکر أنّ الاحتیاط بالفتوی یختلف عن الفتوی بالاحتیاط، لأنّ الفتوی بالاحتیاط هی بحدّ ذاتها نوع من الفتوی، ولذلک فالمقلِّد فی الفتوی بالاحتیاط لا یمکنه الرجوع إلی مجتهد آخر(2)، مثلًا أن نعلم أنّ أحد هذین اللباسین نجس، فهنا یتحرّک الفقیه علی أساس وجوب الاحتیاط فی الشبهات المحصورة بإصدار فتوی بالاحتیاط ووجوب اجتناب کلا اللباسین فی الصلاة.

و العبارات المستخدمة فی مورد الاحتیاط علی ثلاثة أنحاء: 1. احتیاط مستحبّ 2. احتیاط واجب 3. احتیاط مطلق، بدون ذکر قید الواجب أو المستحبّ وحینئذٍ فهو یعود عملًا إلی القسمین الأوّلین، لأنّه فی الواقع إمّا مستحبّ أو واجب.

والاحتیاط المستحبّ: هو ما اقترن بقید «استحبابیّ» أو «مستحبّ»، أو یقترن بقرینة أخری تدلّ علی الاستحباب، نظیر «الأَولی والأحوط کذا»(3) أو یذکر الاحتیاط المطلق ولکن قبله أو بعده فتوی علی خلافه.

کأن یقول: الاحتیاط أن یأتی المصلّی بالتسبیحات الأربع ثلاث مرّات وإن کانت المرّة الواحدة تکفی. أو یذکر هذا الاحتیاط بعد ذکر هذه الفتوی.

وهناک تعبیرات أخری غیر ما تقدّم، بعضها یدلّ علی «الاحتیاط الاستحبابیّ»(4) مثل قوله (یجوز علی إشکال) و (یجوز علی تأمّل)، ولکنّ هذا اصطلاح غیر مسلّم.


1- الاصطلاحات الفقهیّة فی الرسائل العملیّة، ص 156.
2- تعلیقة علی منهاج الصالحین للشهید الصدر، ج 1، ص 16.
3- تحریر الوسیلة، ج 1، ص 13.
4- منهاج الصالحین، لآیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 13.

ص: 416

وفی الاحتیاط الاستحبابیّ یکون عمل المقلِّد بهذا الاحتیاط حسناً وجیّداً ولکنّه غیر واجب ولا مجال للرجوع إلی مجتهد آخر.

أمّا الاحتیاط الواجب، فهو فیما إذا ورد قید «وجوبیّ» أو «واجب» مع الاحتیاط، أو یکون الاحتیاط مطلقاً ولکن لا تکون هناک فتوی علی خلافه قبله أو بعده.

وفی موارد الاحتیاط الواجب فإنّ وظیفة المقلِّد هی أن یعمل بأحد أمرین: إمّا أن یعمل بالاحتیاط أو بفتوی مجتهد آخر أدنی مرتبة من ناحیة علمیّة من المجتهد الأعلم، ولکنّه أعلی مرتبة من باقی المجتهدین الآخرین (الأعلم فالأعلم).

الفصل الرابع: اصطلاحات الفقهاء فیما یتعلّق بأداء التکالیف

أ) الإطاعة والعصیان، الانقیاد والتجرّی

«الإطاعة» عبارة عن عمل المکلّف وفق أمر اللَّه ونهیه، بمعنی إتیانه بالعمل الواجب أو المستحبّ، واجتنابه العمل الحرام و المکروه.

«العصیان هو أن لا یتحرّک المکلّف فی خطّ الطاعة لأوامر اللَّه ونواهیه، بمعنی أن یترک الواجب أو یرتکب الحرام، ویطلق علیه أیضاً «المعصیة»، و (لکن مع ترک المستحبّ والإتیان بالمکروه لاتتحقّق المعصیة).

«الانقیاد» وهو أمر قلبیّ یقال فی موارد یقوم الإنسان بعمل معیّن مع علمه أو ظنّه أنّ هذا العمل واجب أو مستحبّ ولکنّه فی الواقع غیر واجب ولا مستحبّ، أو یترک عملًا معیناً علی أساس أنّه حرام أو مکروه ولکن، فی الواقع لیس کذلک. فمثل هذا الشخص وإن کان لم یمتثل أمر اللَّه ونهیه الواقعیین، ولکنّه أبرز انقیاده فی مقابل الحکم الإلهیّ ویستحقّ لذلک التقدیر والمدح.

وأمّا «التجرّی فإنّه یطلق علی من ترک عملًا معیناً مع علمه أو ظنّه بوجوبه، وإن کان فی الواقع غیر واجب، من قبیل أن یظن أنّ هذا الیوم هو آخر یوم من شهر رمضان المبارک ویظنّ أنّ الصوم فی هذا الیوم واجب، ومع ذلک یترک الصیام فیه، ثمّ یتبیّن أنّه کان یوم عید الفطر وأنّ إفطاره کان فی محلّه، أو کان یعلم أو یظنّ بحرمة عمل معین، ومع ذلک یأتی به، کأن یشرب سائلًا وهو یظنّ أو یعلم بأنّه خمر، ثمّ یتبیّن له بأنّه لم یکن خمراً، فمثل هذا الشخص یستحقّ الذمّ أو التوبیخ، لأنّه لیس فقط نوی العصیان، بل تحرّک علی مستوی العمل بهذه النیّة، ولکنّه صادف أن لا یقع فی مخالفة الحکم الواقعیّ.

وقد ذهب بعض الفقهاء الکبار إلی حرمة التجرّی، بینما ذهب بعض آخر إلی کراهته (1).

ب) الامتثال والإجزاء

«الامتثال» هو الإتیان بالعمل المطلوب للَّه تعالی وبنیّة التقرّب إلی اللَّه، و «الإطاعة» مجرّد اتّباع أوامر اللَّه ونواهیه، سواء کان مقترناً بقصد القربة أم لا.

وکما أنّ الامتثال یمکن تصوّره فی الواجبات التعبدیة، فکذلک یمکن تصوّره فی الواجبات التوصّلیة، لأنّ المکلّف ربّما أتی بالواجب التوصّلی بنیّة القربة إلی اللَّه تعالی.


1- فوائد الأصول، ج 1، ص 8؛ بحوث فی الأصول، ج 4، ص 36؛ أنوارالأصول، ج 2، ص 234.

ص: 417

والامتثال علی أقسام:

أ. الامتثال التفصیلیّ: وذلک فی مورد یکون التکلیف فیه جلیّاً ومشخّصاً للمکلّف ولا إجمال فیه ولا فی شرائطه وأجزائه، وهو علی نحوین:

ألف) الامتثال التفصیلیّ القطعیّ، حیث یکون المکلّف علی علم ویقین من هذا التکلیف، ویأتی به علی هذا الأساس.

ب) الامتثال التفصیلیّ الظنّی الذی یثبت لدی المکلّف بالحجّة المعتبرة ویتحرّک علی مستوی الإتیان به.

2. الامتثال الإجمالی: ویکون فی مورد یکون التکلیف فیه مبهماً وغیر مشخّص المعالم، ومردّداً بین أمرین أو أکثر، ولکنّ أصل التکلیف قطعیاً ومسلّماً، من قبیل أن لا یعرف المکلّف جهة القبلة فیجب علیه أن یصلّی لأربع جهات لکی یحرز مراعاة وامتثال التکلیف الواقعیّ القطعیّ، ویطلق علی مجموع الصلوات التی صلّاها بالامتثال الإجمالی.

3. الامتثال الاحتمالی: وذلک یکون فقط فی أطراف العلم الإجمالی، مثلًا فی موارد یکون المکلّف علی یقین من فوت صلاةٍ ولکنّه لا یعلم أنّها هل کانت المغرب أو العشاء، فیأتی بصلاة المغرب فقط(1).

«الإجزاء»، فی اللغة: الکفایة(2) وفی اصطلاح الفقهاء عبارة عن أداء التکلیف بحیث یحصل منه مقصود الشارع ویرتفع التکلیف عن عهدة المکلّف بحیث لایجب علیه القضاء والاعادة.

وهناک ثلاث مسائل فی مبحث الإجزاء:

1. إجزاء کلّ أمرٍ بالنسبة لذلک الأمر.

2. إجزاء الأمر الاضطراریّ کالصلاة مع التیمّم بالنسبة للأمر الاختیاری أی الصلاة مع الوضوء.

3. إجزاء الأمر الظاهریّ کالصلاة مع الطهارة الاستصحابیة وکفایتها عن الصلاة مع الطهارة الواقعیة(3).

ج) الصحّة، الفساد والبطلان

وتستخدم هذه الاصطلاحات الثلاثة فی کلّ من العبادات والمعاملات فی الفقه.

«الصحّة» فی اصطلاح الفقهاء فی باب العبادات عبارة عن کیفیة امتثال الحکم الشرعیّ بحیث تتسبّب فی سقوط التکلیف عن عهدة المکلّف، بحیث (لا إعادة ولا قضاء) و «الفساد» یقع فی النقطة المقابلة له ویستعمل فی مورد العقود والإیقاعات، و «الصحیح» هو ما یؤثّر أثره المتوقّع منه، کالمعاملة التی تتسبّب فی نقل الثمن والمثمن، و «الفاسد» هو ما یقع فی النقطة المقابلة لذلک.

والجدیر بالذکر أنّ بعض العلماء کالمحقّق الخراسانی، أنکر وجود فرق بین المعنی الاصطلاحی للصحّة والفساد وبین المعنی اللغوی، لأنّ الصحّة والفساد هما: التمام وعدم التمام، أی أنّ العمل إذا کان من حیث الأجزاء والشرائط وفقد الموانع تاماً وکاملًا فإنّه عمل صحیح، ولکن إذا کانت بعض الأجزاء أو الشروط ناقصة، فالعمل سیقع فاسداً وباطلًا، وهذا هو المعنی اللغوی للصحّة والفساد(4).

وهنا نقطة مهمّة أیضاً وهی أنّ الصحّة والفساد أمران نسبیّان، وربّما یکون العمل صحیحاً بالنسبة لشخص


1- اصطلاحات الأصول لآیة اللَّه علی المشکینی، ص 73.
2- لسان العرب، مادة« جزاء».
3- کفایة الأصول، ج 1، ص 127 و 128.
4- المصدر السابق، ص 182.

ص: 418

وفاسداً بالنسبة لشخص آخر، مثلًا الصلاة من جلوس، فهی باطلة بالنسبة للقادر علی القیام، وصحیحة بالنسبة للعاجز عنه.

وقالت الحنفیة: هناک فرق بین المعاملة الباطلة والفاسدة، فالباطلة هی ما لم تکن فی أصل التشریع مثل بیع المعدوم، والفاسدة هی ما کانت موجودة فی أصل التشریع، وبسبب خصوصیة معینة فإنّ الشارع منع منها، کالبیع الربوی (1).

د) الأداء، القضاء، الإعادة

فیما یتّصل بإتیان التکلیف، هناک ثلاثة اصطلاحات أخری نشیر إلیها فیما یلی:

«الأداء» فی اللغة بمعنی: الإیصال والربط والإتیان بالفعل (2). فأداء الدَّین هو إیصاله إلی صاحبه (3) وفی الاصطلاح فإنّ «الأداء» بمعنی الإتیان بالعمل فی وقته.

ویقع فی مقابل «القضاء» وهو فی الاصطلاح عبارة عن الإتیان بالعمل خارج الوقت. وبالطبع فإنّ هذین الاصطلاحین «الأداء والقضاء» یجریان فی الواجبات المؤقّتة، أی إذا کان الواجب له وقت معیّن وأتی به المکلّف فی وقته، فیطلق علیه «أداء» ولکن إذا لم یأت به فی وقته سواء ترکه عمداً أم سهواً، وجاء به خارج الوقت فیقال له «قضاء».

والنقطة الجدیرة بالذکر هنا هی أنّ «أداء» تأتی فی استعمالات الفقهاء أحیاناً بمعناها اللغوی ویراد منها مطلق الإتیان بالوظیفة سواء کان ذلک فی الوقت أم فی خارج الوقت.

«الإعادة» عبارة عن تکرار العمل للمرّة الثانیة أو أکثر سواء کان ذلک فی الوقت المقرّر (أی الإعادة بصورة الأداء) أم خارج الوقت (أی الإعادة بصورة القضاء). ویمکن بیان ثلاثة موارد للإعادة، بعضها تکون فی مورد العمل الواجب، وأخری فی المستحبّ:

1. أن تکون الإعادة من جهة حصول الیقین ببطلان العمل السابق، من قبیل ما إذا التفت المصلّی إلی أنّ صلاته کانت بدون وضوء، فعلیه إعادتها مرة أخری، ففی هذه الصورة تکون الإعادة واجبة (سواء کانت فی الوقت أم خارجه).

2. أن تکون الإعادة من جهة احتمال بطلان العمل السابق. من قبیل ما إذا احتمل وجود خلل فی عمله السابق، ففی هذه الصورة ربّما تکون الإعادة واجبة مثل موارد «الشبهة المحصورة» وذلک بأن یحصل للمصلّی الیقین بأنّ أحد لباسیه نجس، ففی هذه الصورة عندما یصلّی بأحد هذین اللباسین، یجب علیه إعادة الصلاة مرّة أخری باللباس الآخر، وأحیاناً تکون الإعادة مستحبّة مثل أن یشکّ بعد الصلاة هل کان علی وضوء أم لا؟ فمن الطبیعی أنّ تقع صلاته صحیحة بحکم قاعدة الفراغ، ولکنّ الاحتیاط أن یعید صلاته مع الوضوء.

3. أن تکون الإعادة مع یقینه بصحّة العمل السابق، من قبیل إعادة الصلاة بصورة الجماعة بعد الإتیان بها فرادی، وکذلک إعادة صلاة إمام الجماعة بعد الإتیان بها فرادی أو جماعة(4).


1- القواعد لابن لحّام، ص 153؛ روضة الناظر، ج 1، ص 183.
2- قاموس لاروس، مادّة« أداء».
3- مجمع البحرین، مادّة« أدی».
4- الفقه علی المذاهب الأربعة ومذهب أهل البیت علیهم السلام، ج 1، ص 572.

ص: 419

المنابع والمصادر

1. أجود التقریرات، تقریرات دروس آیة اللَّه النائینی، المقرّر آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، مؤسّسة المطبوعات الدینیة، سنة 1369.

2. الأحکام السلطانیة، أبو یعلی محمّد بن حسین الفرّاء، منظمة الإعلام الإسلامی، قم.

3. الأحکام السلطانیة، علی بن محمّد الماوردی، منظمة الاعلام الإسلامی، قم.

4. الإحکام فی أصول الأحکام، علی بن محمّد الآمدی، دارالکتاب العربی، الطبعة الثانیة، 1406 ق.

5. أحکام القرآن، أحمد بن علی بن الجصّاص، دارالکتاب العربی، بیروت، الطبعة الأولی، 1406 ق.

6. اصطلاحات الأصول، آیة اللَّه علی المشکینی، مکتب نشر الهادی، الطبعة السادسة، 1374 ش.

7. الاصطلاحات الفقهیّة فی الرسائل العملیّة، الشیخ یاسین عیسی العاملی، دارالبلاغة، بیروت، الطبعة الأولی، 1413 ق.

8. الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقی الحکیم، دارالأندلس.

9. أصول الفقه، محمّد رضا المظفر، انتشارات المعارف الإسلامیة، طهران، الطبعة الثانیة، 1386 ق.

10. أنوار الأصول، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، مدرسة الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، الطبعة الثانیة، 1413 ق.

11. أنوارالفقاهة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، مدرسة الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، الطبعة الثانیة، 1413 ق.

12. بحوث فی علم الأصول، الشهید السید محمدباقر الصدر، مؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامی، 1417 ق.

13. التبیان فی تفسیر القرآن، محمّد بن الحسن الطوسی (الشیخ الطوسی)، دار إحیاء التراث العربی.

14. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی قدس سره، مؤسّسة انتشارات دارالعلم، قم، الطبعة التاسعة، 1380 ش.

15. التعریفات، علی بن محمّد الجرجانی، دارالکتاب العربی، الطبعة الأولی، 1405 ق.

16. تنقیح العروة الوثقی، علیّ الغروی التبریزی، مؤسّسة آل البیت علیهم السلام، الطبعة الثانیة.

17. حاشیة الردّ المختار علی الدرّ المختار، ابن عابدین، دارالفکر، بیروت، 1415 ق.

18. دروس فی علم الأصول، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر، انتشارات اسماعیلیان، الطبعةالثانیة، 1408 ق.

19. دلیل السالک للمصطلحات والأسماء فی فقه مالک، الدکتور حمدی عبدالمنعم الشلبی، مکتبة ابن سینا، القاهرة، الطبعة الأولی، 1990 م.

20. الرسائل الفقهیة، الشیخ مرتضی الأنصاری، المؤتمر العالمی للذکری المئویة الثانیه لمیلاد الشیخ الأنصاری، الطبعة الأولی، 1414 ق.

21. روضة الناظر، عبداللَّه بن أحمد بن قدامة، دارالمطبوعات العربیه، بیروت، لبنان.

22. العروة الوثقی، السیّد محمّد کاظم الطباطبائی الیزدی، المکتبة العلمیّة الإسلامیّة، طهران.

23. فرائد الأصول، الشیخ مرتضی الأنصاری، دفتر انتشارات الإسلامی.

24. قاموس دهخدا، علی أکبر دهخدا، انتشارات جامعة طهران.

25. قاموس لاروس، مؤسّسة انتشارات أمیرکبیر، 1367 ش.

26. الفقه الإسلامی وأدلّته، وهبة الزحیلی، دارالفکر، دمشق سوریة، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

27. الفقه علی المذاهب الأربعة ومذهب أهل البیت علیهم السلام، السیّد

ص: 420

محمّد الغروی والشیخ یاسر مازح، منشورات دارالثقلین، بیروت، الطبعة الأولی، 1419 ق.

28. القواعد، ابن لحام، دارالحدیث، القاهرة، الطبعة الأولی، 1415 ق.

29. کشف الغطاء، الشیخ جعفر کاشف الغطاء، مکتب الإعلام الإسلامی، الطبعة الأولی، 1422 ق.

30. کفایة الأصول، انتشارات علمیّة إسلامیّة، خطّ طاهر خوشنویس (بالفارسیة).

31. لسان العرب، ابن منظور، دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی، 1408 ق.

32. مجمع البحرین، فخرالدین الطریحی، مکتبة (المصطفوی).

33. مجمع البیان فی تفسیر القرآن، أبوعلی الفضل بن الحسن الطبرسی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

34. المحصول فی علم أصول الفقه، الفخر الرازی، مؤسّسة الرسالة، بیروت، الطبعة الثالثة، 1418 ق.

35. المحلّی بالآثار، ابن حزم الأندلسی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، 1408 ق.

36. مصباح الفقیه، رضا الهمدانی، المؤسّسة الجعفریة لإحیاء التراث، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

37. المصباح المنیر، الفیّومی.

38. المعالم الجدیدة، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر، مکتبة النجاح، طهران، الطبعة الثانیة، 1395 ق.

39. معجم المصطلحات والألفاظ الفقهیّة، محمود عبدالرحمن عبدالمنعم، دارالفضیلة، القاهرة.

40. المغنی، عبداللَّه بن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت.

41. مفردات الراغب، دارالکتب العلمیّة، قم، إیران.

42. المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری، المؤتمر العالمی، الطبعة الأولی، 1414 ق.

43. منهاج الصالحین، آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، مطبعة مهر قم، الطبعة 28، 1410 ق.

44. منهاج الصالحین، السیّد محسن الحکیم مع تعلیقات الشهید السیّد محمّد باقر الصدر، دارالتعارف بیروت، الطبعة الثانیة، 1369 ق.

45. منیة الطالب فی شرح المکاسب، تقریرات آیة اللَّه المیرزا حسین النائینی، المقرّر موسی الخوانساری، مؤسّسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، 1424 ق.

46. الموافقات فی أصول الشریعة، أبوإسحاق الشاطبی، دارالمعرفة بیروت.

47. موسوعة الإمام الخوئی، مؤسّسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، إیران، قم.

48. الموسوعة الفقهیّة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیّة، الکویت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

49. موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمین، الدکتور رفیق العجم، مکتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولی، 1998 م.

50. المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة الطباطبائی، انتشارات اسماعیلیان، قم، الطبعة الثانیة، 1390، ق.

51. نهایة الأصول، تقریرات آیة اللَّه الحاج حسین البروجردی، نشر تفکر، الطبعة الأولی، 1415 ق.

52. نهایة الأفکار، ضیاء الدین العراقی (محمّد تقی البروجردی)، جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، قم.

53. نهایة الوصول إلی علم الأصول، العلّامة الحلّی، تحقیق الشیخ إبراهیم البهادری، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، الطبعة الأولی، 1425 ق.

54. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی، المکتبة الإسلامیّة، الطبعة الثانیة، 1383 ق.

ص: 421

15

القسم الخامس عشر: بنیة الفقه الإسلامی و أبوابه

اشارة

بنیة فقه الإمامیّة

بنیة الفقه لدی أهل السنّة

ص: 422

ص: 423

بنیة الفقه الإسلامی و أبوابه

مقدّمة:

من المعلوم أنّ کلّ علم یتألّف من مسائل متنوّعة تشترک فی عنصر جامع ومشترک من حیث الموضوع أو النتیجة أو الهدف، ومن أجل تیسیر الفائدة من العلم للمحقّقین والطلّاب فإنّ علماء کلّ علم تحرّکوا علی مستوی ترتیب مسائل ذلک العلم، وجعلوا کلّ مجموعة من مسائله فی مجالٍ معیّن وفی فصل خاصّ، ثمّ تحرّکوا علی مستوی إیجاد ترتیب منطقیّ ومقبول بین الفصول من أجل تیسیر استیعاب وتعلّم ذلک العلم.

وهذه القاعدة تشمل جمیع العلوم الدینیة والتجریبیة والریاضیة والإنسانیة، وعلم الفقه غیر مستثنی من هذه القاعدة.

فقد سعی الفقهاء من قدیم الزمان إلی تقسیم وتصنیف مسائل الفقه، وبالتالی حصلت تقسیمات مختلفة باختلاف الأذواق والمبانی الفقهیة فی مسائل الفقه.

وقد اختار فقهاء أهل السنّة طرقاً لذلک تختصّ بهم، واختار فقهاء الإمامیة طرقاً أخری تشبه طرق أهل السنّة فی بعض الموارد.

والجدیر بالذکر أنّ هذا التقسیم للبحوث الفقهیة یمکن النظر إلیه من زاویتین:

1. التقسیمات المذکورة فی دائرة کلّ باب من الأبواب الفقهیة.

2. التقسیمات المذکورة بین الأبواب الفقهیة المختلفة.

بنیة فقه الإمامیّة:

اشارة

هنا نستعرض أقدم البنی والتقسیمات المذکورة فی فقه الإمامیة:

بالنسبة للمرحوم الکلینی فقد بحث فی کتابه المعروف ب «الکافی» فیما یتّصل بالمسائل العقائدیة والأخلاقیة فی الجزءین الأوّلین ویعرفان ب «أصول الکافی»، ولکنّه جمع بعد ذلک الأخبار الفقهیة فی خمسة أجزاء وقام بتبویبها وجعل کلّ مجموعة منها فی باب معیّن، بهذا الترتیب:

1. أبواب العبادات وتشمل کتاب الطهارة، الصلاة، الزکاة، الصدقة، الخمس، الصیام، الحج والجهاد.

2. أبواب المعیشة، ویشمل کتاب الدَّیْن، الکفالة، الحوالة، المکاسب، التجارة والبیع، اللقطة، الرهن،

ص: 424

العاریة، الودیعة، المضاربة، الإجارة، الصلح، المزارعة، إحیاء الموات والشفعة.

3. أبواب النکاح ویشمل الأحکام التی تتّصل بالزواج والطلاق واللعان، وذکر فی ذیل هذه الأبواب أحکام العتق، التدبیر، الکتابة، الصید والذبائح، الأطعمة والأشربة، الزیّ والتجمّل.

4. أبواب الوصایا والمواریث وأحکامها.

5. أبواب الحدود والدیات والقضاء والشهادات.

وذکر فی ذیل هذه الأبواب أحکام الأَیمان والنذر والکفّارات.

إنّ تبویب المرحوم الکلینیّ هذا فی کتابه «الکافی» ومع الالتفات إلی علوّ مقامه، کان له تأثیر عمیق فی نفوس جماعة من الفقهاء ممّن جاءوا بعده حیث تحرّکوا علی مستوی استعمال هذه الطریقة والمنهج فی کتبهم الفقهیة:

الطائفة الأولی، ومنهم القاضی ابن البرّاج مؤلّف کتاب «المهذّب» و «جواهرالفقه» و السیّد أبوالمکارم ابن زهرة فی کتابه «الغنیة» و الشیخ الطوسی فی «المبسوط والتهذیب والاستبصار» حیث ساروا علی هذا المنهج تقریباً مع تفاوت قلیل.

الطائفة الثانیة، من الفقهاء کالصدوق فی کتابه «من لا یحضره الفقیه»، وقد ذکروا بعد أبواب العبادات بحوث القضاء والشهادة، ثمّ بحثوا المسائل الاقتصادیة وأحکام المعاملات، ثمّ تطرّقوا إلی أحکام الصید والذباحة وأحکام الأَیمان والنذور والکفّارات، وبعد ذلک بحثوا أحکام النکاح والطلاق والبحوث المتعلّقة بهما مثل الإیلاء والظهار واللعان، ثمّ بحثوا أحکام الحدود والدیات وأخیراً أحکام الوصیّة والمواریث.

الطائفة الثالثة، هم الذین تحرّکوا علی أساس منهج الشیخ الطوسی فی کتابه «النهایة». فقد توجّه الشیخ الطوسی أولًا إلی أبواب العبادات، وفی المرحلة التالیة بحث فی أبواب الدیون والکفّارات والشهادات والقضاء.

وفی المرحلة الثالثة بحث أبواب المعیشة کالمکاسب، المتاجر، الشرکة، المضاربة وأمثال ذلک، ثمّ تحرّک للبحث فی الأبواب المتعلّقة بأمور النکاح، والطلاق، الأَیمان، النذور، الوصایا والمواریث، وفی نهایة کتابه استعرض أحکام الحدود والدیات والقصاص.

الطائفة الرابعة، هم الفقهاء الذین ساروا فی تنظیم أبواب الفقه علی منهج المحقّق الحلّی فی کتاب «شرائع الإسلام»، فالمحقّق بدأ فی کتابه ببیان أبواب العبادات ثمّ تطرّق إلی أبواب المعیشة، وبعبارة أخری المسائل الاقتصادیة والمالیة، ثمّ بحث فی مورد الأحوال الشخصیّة کالطلاق والنکاح وما یتعلّق بهما من بحوث، ثمّ بحث فی أحکام الأیمان والنذور، الأطعمة والأشربة والمواریث، وفی القسم الأخیر بحث القضاء، الشهادة، الحدود، التعزیرات، القصاص والدیات.

وفی الواقع فإنّه قسّم جمیع أبواب الفقه إلی أربعة أقسام: القسم الأول العبادات ویتضمّن عشرة کتب:

الطهارة، وتشمل الوضوء والغسل والتیمّم، الصلاة، الزکاة، الخمس، الصوم، الاعتکاف، الحجّ، العمرة، الجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

القسم الثانی، العقود وهی التی تبحث فی المعاملات التی تجری بین طرفین أو أکثر وجعلها فی 19 کتاباً وهی؛ التجارة، الرهن، المفلّس، الحجر، الضمان (وقد ذکر الحوالة والکفالة ضمن کتاب الضمان) الصلح، الشرکة، المضاربة، المزارعة والمساقاة، والودیعة،

ص: 425

العاریة، الإجارة، الوکالة، الوقف والصدقات، السکنی والحبس، الهبات، السبق والرمایة، الوصیة والنکاح.

القسم الثالث، الإیقاعات وهی الإنشاء الصادر من شخص واحد ویقع فی 10 کتب: الطلاق، الخلع والمباراة، الظهار، الإیلاء، اللعان، العتق، التدبیر والمکاتبة والاستیلاد، الإقرار، الجعالة، الأَیمان والنذور.

وبالطبع فإنّ بعض هذه الکتب المذکورة هی فی الواقع من العقود مثل المکاتبة، ولکن بما أنّه جعلها مع التدبیر فصارت تعدّ من الإیقاعات، کما أنّ بحث الاستیلاد الذی لیس عقداً ولا إیقاعاً، أورده المحقّق علی أساس أنّه من ملحقات التدبیر، فی حین أنّه قسم من الأحکام (التی تتّصل بالقسم الرابع)

وأمّا الجعالة فبسبب وجود نقاش حول کونها عقداً کما أنّ المحقّق الحلّی لا یراها من العقود، فلذلک أدرجها فی هذا القسم.

وأمّا القسم الرابع: وهو ما یخصّ الأحکام، فیتضمّن 12 کتاباً:

الصید والذباحة، الأطعمة والأشربة، الغصب، الشفعة، إحیاء الموات، اللقطة، الفرائض، القضاء، الشهادات، الحدود والتعزیرات، القصاص والدیات.

ومع الالتفات إلی أنّ تقسیم المرحوم المحقّق الحلّی هو تقسیم مقبول وجیّد بحیث أنّ الکثیر من الفقهاء الذین جاءوا بعده قبلوا بهذا التقسیم واتّبعوا هذا التبویب فی کتبهم الفقهیة، سواء کانت شرحاً لکتاب الشرائع، کمسالک الأفهام وجواهر الکلام، أم کتب أخری لا تتعرّض لشرح الشرائع ولکنّها تسیر فی نفس هذا المنهج إلی حدّ أنّ المرحوم محمّد بن مکّی العاملیّ المعروف ب الشهید الأوّل (م القرن الثامن) فی کتابه «القواعد» تعرّض لبیان امتیاز هذا التقسیم الرباعی لأبواب الفقه، وقال:

«وکلّ ذلک ینحصر فی أربعة أقسام: ووجه الحصر، أنّ الحکم الشرعیّ إمّا أن تکون غایته الآخرة، أو الغرض الأهمّ منه الدنیا، والأوّل- العبادات، والثانی: إمّا أن یحتاج إلی عبارة أو لا، والثانی الأحکام، والأوّل، إمّا أن تکون العبارة من اثنین تحقیقاً أو تقدیراً، أو لا، والأول: العقود، والثانی الإیقاعات»(1).

ویقول المرحوم السیّد جواد العاملی فی کتاب «مفتاح الکرامة» فی بدایة «کتاب المتاجر» بعد أن ذکر الأقسام الأربعة للمحقّق الحلّی أضاف: «وإن شئت قلت: عبادات وعادات ومعاملات وسیاسات، والوجه الأول أنّ البحوث عنه فیه إمّا أن یشترط فیه النیّة أو لا، والثانی إمّا أن یعتبر فیه إیجاب وقبول وهو الثانی أو الأول خاصّة وهو الثالث، أو لا یعتبر فیه شی ء منهما وهو الرابع.

وفی الثانی أنّ المقصود إمّا انتظام أحوال النشأة الاولی أو الأخری أو کلیهما، فإن کان الثانی فهو الأوّل، أو الأوّل فإمّا أن یتعلّق الغرض ببقاء الشخص أو النوع وهو الثانی: أو المصالح المالیة وهو الثالث، أو الثالث فالرابع.

والمطلوب علی التقدیرین حفظ المقاصد الخمسة التی بنیت علیها الشرائع والأدیان وهی الدین والنفس والعقل والنسب والمال.

فالدین بالعبادات، والنفس بشرع القصاص والدیات، والعقل بحظر ما یزیله من المسکرات، والنسب بالمناکح والموالید، والمال بالمعاملات والمداینات، والکلّ


1- القواعد، ج 1، ص 30.

ص: 426

بالسیاسات کالحدود والتعزیرات والقضایا والشهادات»(1).

الخامس: وهو ما ذکره المرحوم الشهید محمدباقر الصدر فی کتابه «الفتاوی الواضحة» فی تقسیم مباحث الفقه إلی أربعة أقسام، وهذا بدوره متأثّر بتقسیم المحقّق فی الشرائع مع تأثّره بالحقوق المتداولة فی عصرنا الحاضر، قال:

1. العبادات

2. الأموال العامة والأموال الخاصّة (فی الأسباب الشرعیّة للتملّک، وأحکام التصرّف فی المال).

3. السلوک الخاصّ (ما یرتبط بتنظیم علاقات الرجل والمرأة ویدخل فیه النکاح والطلاق و ... ما یرتبط بتنظیم السلوک الخاصّ فی غیر ذلک المجال (الاجتماعی) ویدخل فیه ... الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

4. السلوک العامّ (ویدخل فیه القضاء والشهادات والحکم والحدود والجهاد ومختلف العلاقات الدولیة وغیر ذلک)(2).

تقسیم آخر:

مضافاً إلی ما ذکر فقد فکّرنا بتقسیم آخر للکتب الفقهیة بحیث یتضمّن نظماً جدیداً لأبواب الفقه وبإمکانه أن یقلّل من نقاط الضعف إلی الحدّ الأدنی وذلک بتقسیم الأحکام الفقهیة فی الوهلة الأولی إلی أربعة أقسام: 1. ما یتّصل بعلاقة الإنسان مع اللَّه، 2. علاقة الإنسان مع أبناء نوعه، 3. علاقة الإنسان مع نفسه، 4. وعلاقة الإنسان مع الحکومة والسلطة.

ویمکن إضافة قسم خامس لهذه الأقسام وهو ما یتّصل بعلاقة الإنسان مع الطبیعة والبیئة.

ومن منظار آخر یمکن إدراج هذه الأقسام بأجمعها فی خمسة أقسام أخری:

القسم الأول: العبادات ومقدّماتها وتتضمّن ثمانیة کتب: الطهارة، وتشمل الوضوء والغسل والتیمّم، الصلاة، الزکاة، الخمس، الصوم، الاعتکاف، الحجّ والعمرة.

القسم الثانی: المسائل المالیة والاقتصادیة وتتضّمن ثلاثة أقسام:

أ) المعاملات وهی الروابط المالیة بین أفراد المجتمع وتشمل 18 کتاباً: البیع، الرهن، الحجر والمفلّس، الضمان (والتی تشمل الحوالة والکفالة أیضاً)، الصلح، الشرکة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الودیعة، العاریة، الإجارة، والکفالة، الوقف والصدقات، السکنی والحبس، الهبات، السبق والرمایة، والوصیّة.

ب) المسائل المالیة فی غیر دائرة المعاملات وتشمل الإیقاعات، وهی عبارة عن 8 کتب: العتق، التدبیر، المکاتبة، الاستیلاد، الإقرار، الجعالة (وفق قول من یری أنّها من الإیقاعات)، الأَیمان، النذر والعهد.

ج) المسائل المالیة التی تقع خارج دائرة العقود والإیقاعات وتقع فی خمسة کتب: الغصب، إحیاء الموات، اللقطة، الفرائض والمواریث.

القسم الثالث: المسائل التی تتّصل بنظام الأسرة وتشمل 6 کتب: النکاح، الطلاق، الخلع والمباراة، الظهار، الإیلاء واللعان.

القسم الرابع: أحکام الحلال والحرام فیما یتّصل بالأطعمة وفیها 4 کتب: الصید والذباحة والأطعمة والأشربة.


1- مفتاح الکرامة للسید جواد الحسینی العاملی، ج 12، ص 8.
2- انظر: الفتاوی الواضحة، ج 1، ص 132.

ص: 427

القسم الخامس: السیاسات وفیه 8 کتب: الجهاد، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، القضاء، الشهادات، الحدود والتعزیرات، القصاص، الدیات ونظام الحکومة.

بنیة الفقه لدی أهل السنّة:

اشارة

هناک تقسیمات مختلفة للکتب الفقهیة لفقهاء ومحدّثی أهل السنّة، وبعضها یقترب کثیراً ممّا هو مشهور بین الإمامیة، والبعض الآخر یختلف تماماً، والآن نستعرض التقسیمات لعدّة فقهاء ومحدّثین معروفین من أهل السنّة:

1. ما ورد فی «صحیح البخاری» من تقسیم أبواب الفقه وفضائله بالشکل التالی:

أ) تطرّق البخاری بعد ذکر بدایة بعثة النّبی الأکرم وکتاب الإیمان والعلم، إلی موضوع العبادات، واستعرض مواضع العبادات فی سبعة أبواب من الوضوء إلی الحجّ والصوم.

ب) ثمّ تعرّض لأبواب المعاملات وجعلها فی 9 أبواب (وبدأ من البیع وختمها بالهبة).

ج) ثمّ تحدّث فی القسم الثالث عن الشهادات، الوصایا والجهاد.

د) وفی القسم الرابع بحث کتاب النکاح، الطلاق، الخلع، اللعان والنفقات فیما یتّصل بقضایا الأُسرة.

ه) وفی القسم الخامس ذکر ما یخصّ الأطعمة والأشربة والذبائح والصید والأضاحی، وذکر فی هذا القسم روایات تتّصل بالمسائل الطبّیة وجعلها ضمن کتابین.

و) وفی القسم السادس ذکر بعض الآداب تحت عنوان کتاب اللباس وکتاب الأدب والاستئذان وکتاب الدعوات.

ز) وفی القسم السابع ذکر ما یتّصل بکتاب الأَیمان والنذور والفرائض والمواریث.

ح) وفی القسم الثامن استعرض قضایا الحدود والدیات وأحکام المرتدّ وما إلی ذلک.

ویلاحظ القاری ء کتباً أخری أوردها البخاری ضمن هذه الکتب والأبواب تتعلّق بذکر فضائل الصحابة وفضائل القرآن ولیلة القدر وأمثال ذلک ممّا لا علاقة لها حسب الظاهر بالکتب السابقة واللاحقة.

وبالجملة، فلا یوجد نظم خاصّ ومنطقیّ یحکم علی مجموع أبواب هذا الکتاب، مثلًا الکتاب الأوّل الذی بحثه البخاری هو کتاب «بدء الوحی» وآخر کتاب «الکتاب 43» هو کتاب «التوحید» وفی طیّات هذه الکتب هناک کتب أخری بعنوان «بدء الخلق» وکتاب «التفسیر» وأمثال ذلک ممّا لا علاقة له حسب الظاهر بالکتب السابقة واللاحقة، وکذلک ضمّ بعض الکتب إلی بعض آخر لا علاقة فیما بینها مثل کتاب «بدء الخلق وهو الکتاب السابع عشر وکتاب التفسیر وهو الکتاب الثامن عشر.

وبالطبع لا یصحّ أن نتوقّع أکثر من هذا المقدار من الأوائل الذین شرعوا بتنظیم أبواب الفقه والحدیث، لأنّ اهتمامهم کان ینصبّ علی جمع الأحادیث أکثر من سعیهم لتنظیم أبواب الفقه.

2. ما ورد فی «صحیح مسلم» من تقسیم الأبواب الفقهیة والذی یشبه إلی حدّ ما تقسیم «صحیح البخاری» ولکنّه یختلف عنه من جهات معینة.

فی القسم الأول یستعرض بعد کتاب الإیمان، باب العبادات ومقدّماتها.

وفی القسم الثانی یتعرّض لقضایا النکاح والطلاق والکتب المتعلّقة بهما.

ص: 428

وفی القسم الثالث یبحث فی المعاملات والمسائل المالیة، ومنها الإرث، الوصیّة والعتق.

وفی القسم الرابع یبحث فی الحدود، الدیات، القصاص، وأحکام المحاربین، والجهاد، والحکومة.

وفی القسم الخامس یستعرض أحکام الصید والذباحة، الأضحیة، الأطعمه والأشربة وبعض آدابها، اللباس، الزینة، والسلام وأمثال ذلک.

وفی القسم السادس یستعرض فضائل الصحابة، الذکر، الدعاء والاستغفار وصفات المنافقین وأحکامهم.

وفی القسم السابع یذکر المسائل المتعلّقة، بالجنّة ونعیمها وأشراط الساعة.

وفی القسم الثامن وهو آخر قسم من الکتاب یستعرض مسألة الزهد والرقائق (1) وبعض ما ورد فی تفسیر الآیات القرآنیة.

3. ومن جملة الفقهاء المعروفین الذین تحرّکوا علی مستوی وضع نظام منطقیّ نسبیاً للکتب الفقهیة، الفقیه المعروف بابن قدامة من فقهاء القرن السابع فی کتابه «المغنی ؛ فقد شرع فی ذکر أبواب العبادات وجعلها فی 11 باباً، ثمّ تعرضّ لذکر أبواب المعاملات وما یتعلّق بها، وجعلها فی 22 کتاباً منظّماً بشکل جیّد، ولکن مع الأسف فإنّه لم یتمّ إکمال الکتب الفقهیة الأخری فی سائر أبواب الفقه.

4. تقسیم الغزالی وهو من علماء المذهب الشافعی المتوفّی فی بدایة القرن السادس، فی کتابه المعروف «إحیاء العلوم وهو عبارة عن تشکیلة مرکّبة من المسائل الفقهیة والأخلاقیة، وقد عمل علی تقسیم جمیع أحکام الإسلام وتعالیمه إلی أربعة مجامیع، العبادات، العادات، المنجیات والمهلکات وبحث کلّ مجموعة منها فی عشرة کتب.

5. ما نراه من تقسیم أحد الفقهاء المعاصرین من أهل السنّة باسم وهبة الزحیلی فی کتابه «الفقه وأدلّته حیث قسّم جمیع الکتب والأبواب الفقهیة إلی ستّة أقسام علی الترتیب التالی:

القسم الأوّل: العبادات، ویتضمّن تسعة أبواب:

1. الطهارات (مقدّمات الصلاة) 2. الصلاة وأحکام الجنائز 3. الصیام والإعتکاف 4. الزکاة 5. الحجّ والعمرة 6. الأَیمان والنذور والکفّارات 7. الحظر والإباحة والأطعمة والأشربة 8. الضحایا والعقیقة والختان 9. الصید والذباحة(2).

القسم الثانی: نظریات فقهیة، فی حقّ الأموال، الملکیّة، العقد، المؤیّدات الشرعیة، الفسخ، وأهمّ ما اقتبسه القانون المدنی من الفقه الإسلامی.

القسم الثالث: العقود أو التصرّفات المدنیة المالیة فی 18 فصلًا: وتشرع من البیع وتنتهی إلی بحث الحجر.

القسم الرابع: الملکیّة وتوابعها: وذکر فی الباب الأوّل، الملکیّة وخصائصها فی خمسة فصول، والباب الثانی یبحث فی توابع الملکیّة فی 12 فصلًا.

القسم الخامس: الفقه العام: الباب الأوّل یتحدّث عن الحدود الشرعیّة فی ستّة فصول، والباب الثانی التعزیرات. الباب الثالث، أحکام الجنایات والقصاص والدیات. الباب الرابع، الجهاد. الباب الخامس، القضاء.


1- « رقائق» جمع« رقیقة» بمعنی االأمر الذی یوجب رقّة القلب وتأثیره، سواء کان بسبب آیة قرآنیة أم حدیث أم موعظة لواعظ أو رؤیة ظاهرة عجیبة فی عالم الخلق.( التاج الجامع للأصول،( الهامش) للشیخ منصور علی ناصف، ج 5، ص 159).
2- والعجیب منه کیف جعل الصید والذباحة والختان والأطعمة والأشربة فی باب العبادات فی حین أنّ کلّ واحد من هذه الأمور لا یشترط فیها قصد القربة، وبعضها تجب فیها البسملة وبعضها الآخر لا تجب.

ص: 429

الباب السادس، نظام الحکم فی الإسلام (الحکومة الإسلامیة).

القسم السادس: الأحوال الشخصیة والبحث فیها فی ستّة أبواب: الزواج، الطلاق، حقوق الأولاد، الوصایا، الوقف، والمیراث.

إنّ تقسیم هذا العالم لأبواب الفقه بالنسبة للبحوث والمواضیع الفقهیة، مضافاً إلی الإشکالات التی تقدّمت الإشارة إلیها، فإنّ الملاحظ علیه وجود تقسیم غیر مألوف فی بعض الأقسام من هذا الکتاب بحیث لا ینسجم مع سائر الکتب الفقهیة المتداولة، وهذا فی الواقع خلیط من الفقه التقلیدی وبعض بحوث الحقوق المعاصرة.

6. ما جاء فی کتاب «الفقه علی المذاهب الأربعة» الذی ألّفه فی الآونة الأخیرة أحد علماء أهل السنّة وهو عبدالرحمن الجزیری وقد استعرض فیه مباحث الفقه فی خمسة أقسام:

القسم الأول: العبادات. القسم الثانی والثالث:

المعاملات. القسم الرابع: الأحوال الشخصیة (النکاح والطلاق وأمثالهما) القسم الخامس: الحدود والقصاص والتعزیرات.

النتیجة:

تقدّم آنفاً نماذج مهمّة فی ما یتّصل بتقسیم أبواب الفقه ونظم مسائله حیث اختار کلّ فقیه منهجاً خاصّاً یتناغم مع ذوقه وسلیقته، ومع مرور الزمان تهذّبت تدریجیاً هذه المناهج وأصبحت شفّافة أکثر، وقد اخترنا طریقاً نراه أکثر انسجاماً وتناسباً.

ولا شکّ فی أنّ المباحث والتحقیقات الفقهیة فی الوقت الذی تتحرّک فی خطّ التکامل والنموّ والاتّساع فکذلک فی نظم وتبویب بحوث الفقه وفصوله ومسائله، تتحرّک أیضاً لتکون أدقّ وأکمل.

ویبدو أنّ جمیع الفقهاء تقریباً سعوا إلی ترتیب أهمّ المسائل الفقهیة کالتالی:

1. علاقة الإنسان مع الباری تعالی (من خلال العبادات وأمثالها).

2. علاقة أفراد البشر فیما بینهم (من خلال المعاملات والعقود والإیقاعات ونظام الأسرة).

3. علاقة الإنسان مع نفسه (من خلال أحکام الحلال والحرام التی تتمیّز بالطابع الشخصیّ أو الأخلاقیّ).

4. علاقة الإنسان مع جهاز السلطة والحکومة والذی یعتبر من أهمّ هذه الأقسام، ویشمل مسائل تشکیل الحکومة والقضاء والشهادات والحدود والدیات والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والجهاد وأمثال ذلک.

***

المنابع والمصادر

1. إحیاء العلوم، محمّد الغزالی، مطبعة دارالجیل، بیروت.

2. التاج الجامع للأصول، الشیخ منصور ناصف، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثالثة، 1381 ق.

3. جواهرالفقه، القاضی ابن البرّاج، تحقیق ابراهیم البهادری، جماعة المدرّسین، الطبعة الأولی، 1411 ق.

4. جواهرالکلام، محمّد حسن النجفی، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة، 1981 م.

ص: 430

5. شرائع الإسلام، المحقّق الحلّی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

6. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه محمّد بن إسماعیل البخاری، دارالجیل، بیروت.

7. صحیح مسلم، أبوالحسین مسلم بن الحجّاج النیسابوری، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1972 م.

8. الفتاوی الواضحة، الشهید السید محمّد باقر الصدر، دارالتعارف، بیروت، الطبعة السابعة، 1401 ق.

9. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

10. الفقه علی المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزیری، دارالفکر، بیروت.

11. القواعد والفوائد، محمّد بن مکّی (الشهید الأوّل)، منشورات مکتبة المفید، قم.

12. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

13. المغنی ابن قدامة، أبومحمّد عبداللَّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة، دارالفکر، بیروت، الطبعة الأولی، 1404 ق.

14. مفتاح الکرامة، السیّد جواد العاملی، جماعة المدرّسین، قم، الطبعة الأولی، 1424 ق.

15. من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، دارصعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعةالأولی، 1401 ق.

16. المهذب، القاضی ابن البراج، انتشارات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة قم، الطبعة الأولی، 1406 ق.

17. النّهایة فی مجرّد الفقه والفتوی، الشیخ الطوسی، انتشارات جامعة طهران، 1342 ش.

ص: 431

16

القسم السادس عشر: المسائل المستحدثة و الأصول الکلیّة الحاکمة علیها

اشارة

مقدّمات

- تعریف المسائل المستحدثة

- ضرورة البحث فی المسائل المستحدثة

- نماذج من المسائل المستحدثة

المبانی والمسبوتات

القواعد والضوابط الحاکمة علی المسائل المستحدثة

ص: 432

ص: 433

المسائل المستحدثة و الأصول الکلیّة الحاکمة علیها

مقدّمة:

إنّ المنهج المتعارف والسائد فی طرح المسائل المستحدثة یقوم علی أساس البحث فی أدلّتها کما فی سائر البحوث الفقهیة، ثمّ استعراض نظریات الموافقین والمخالفین، ثمّ اختیار إحداها، فی حین أنّه ینبغی قبل الورود فی دائرة هذه المسائل بیان القواعد الکلیة والأصول العامة ومقدّماتها، ثمّ التطرق فی فضاء هذه المقدّمات للبحث فی مفردات المسائل المستحدثة والجدیدة.

ولا شکّ فی أنّ هذا المنهج أکثر نفعاً وفائدة، بل یعدّ خطوة مهمّة فی عملیة التحقیق فی هذه البحوث الفقهیة الجدیدة، ویمکنه بالتالی تعبید الطریق لاستنباط الأحکام الشرعیة فیما یتّصل بهذه المسائل.

وعلی هذه الأساس من المفید، بل من الضروریّ أن نبحث الأمور المتعلّقة بالمسائل المستحدثة فی عدّة بحوث:

البحث الأول: المبادی ء والمقدّمات:

1. تعریف المسائل المستحدثة.

2. ضرورة هذا البحث فی المسائل المستحدثة.

3. نماذج من المسائل المستحدثة.

البحث الثانی: المبانی والمسبوقات:

1. التفاوت فی المنهج.

2. تقسیم الأحکام إلی ثابت ومتغیّر (ودور الزمان والمکان فی الاجتهاد).

3. انفتاح باب الاجتهاد.

4. تقسیم الأحکام إلی تأسیسیّ وإمضائیّ.

البحث الثالث: القواعد والضوابط الحاکمة علی المسائل المستحدثة:

1. وضع القوانین بصورة قضایا حقیقیة (إطلاقات وعمومات لفظیة).

2. وجود العناوین الثانویة إلی جانب العناوین الأولیة.

3. أصل ا لبراءة.

4. وجود ملازمة بین الأحکام القطعیة العقلیة وبین الشرع (کلّ ما حکم به الشرع حکم به العقل).

تنبیهات:

1. إنّ منطقة الفراغ لا تعتبر طریقاً جدیداً للحلّ.

2. عدم کفایة القیاس والاستحسان وسدّ الذرائع

ص: 434

والمصالح المرسلة فی حلّ المسائل المستحدثة.

3. علم مقاصد الشریعة وارتباطه بالمسائل المستحدثة.

البحث الأول: و فیه عدّة مقدّمات

1. تعریف المسائل المستحدثة

المسائل المستحدثة عبارة عن: «کلّ مسألة ترتبط بموضوع جدید ومن هذه الجهة لا یوجد لها حکم شرعیّ فی النصوص»، سواء کان ذلک الموضوع غیر الموجود فی الماضی أم کان موجوداً ولکن تغیرت بعض الخصوصیات والشروط والقیود بحیث أصبحت موضوعاً جدیداً، بالنسبة للقسم الأول یمکن أن تکون البطاقات الاعتباریة من هذا القبیل، والقسم الثانی مسألة مالیة البدن والدم. لأنّ موضوع بدن «المیّت» أو «الدم» وإن کان موجوداً فی السابق، ولکن بسبب عدم إمکان الاستفادة المشروعة منه، لم یعتبر مالًا.

2. ضرورة البحث فی المسائل المستحدثة

إنّ ضرورة البحث فی هذه المسائل والفائدة المترتّبة علیه، یمکن بیانها بنحوین:

الأوّل: إنّ التغییر والتحوّل المستمرّ فی ظواهر هذا العالم یعدّ من خصوصیات عالم المادة، بل یعتقد الکثیر من الفلاسفة أنّ التغییر والتحوّل هو من اللوازم الذاتیة وغیر القابلة للإنفکاک فی عالم المادة (وهی نظریة الحرکة الجوهریة) وبما أنّ الإنسان یعیش فی هذا العالم فإنّ هذا التغییر والتحوّل یستوعب بشکل غیر اختیاری جمیع شؤون حیاته فی واقع الأمر، وبالتالی یقتضی علاقات جدیدة ومتحرّکة مع سائر أفراد المجتمع أو بین الحکومات فی المجتمعات البشریة، وهذه الحقیقة جعلت الفقه فی مواجهة ظاهرتین جدیدتین:

الظاهرة الأولی: الموضوعات التی لم تکن فی الماضی، من قبیل العملة الورقیة، لأنّ هذه العملة لم یکن لها وجود فی السابق حیث کانت المعاملات وأشکال البیع والشراء تجری فی السابق عادة بنقود الذهب والفضة، ولکنّ المتغیّرات التی برزت فی المجتمعات البشریة والتی أفرزها التطوّر الحضاری وزیادة وتنوّع حاجات الإنسان تسبّبت فی ظهور هذه العملة الجدیدة وهی العملة الورقیة.

الظاهرة الثانیة: الموضوعات التی کانت موجودة فی السابق ولم یکن أصل الموضوع جدیداً، ولکنّ تغیّر بعض الشروط والقیود والخصوصیات لهذا الموضوع جعلته یختلف عن السابق، وبرز وکأنّه موضوع جدید، مثلًا کما تقدّمت الإشارة إلیه، أنّ أعضاء بدن الإنسان ودمه لم تکن لها قیمة مالیة فی السابق. ولکنّ الکشوفات الجدیدة والتحوّلات التی حدثت فی علم الطبّ أبرزت لها منافع کثیرة لم تکن فی السابق، حیث تمّ اکتشاف منفعة کبیرة فی الدم وحتّی أعضاء بدن المیّت وما إلی ذلک، بحیث صارت لهذه الموضوعات قیمة مالیة واعتبار کبیر إلی حدّ أنّها تباع وتشتری فی هذا العصر- کما هو الحال فی سائر البضائع- بأسعار باهضة، ومن هنا وجب علی الفقیه البحث عن الحکم الشرعی لهاتین الظاهرتین اللتین أفرزهما التطوّر العلمیّ والتقدّم الحضاری الدائم فی عالم الطبیعة والعلم، وذلک من خلال الرجوع إلی المصادر والمنابع

ص: 435

الإسلامیة وعدم القناعة بالبحوث والدراسات التی أجراها القدماء فی کتبهم علی تلک الموضوعات القدیمة.

الثانی: إنّ شمول شریعة الإسلام لجمیع الأزمنة والأمکنة یستدعی بالضرورة بحث المسائل المستحدثة.

توضیح ذلک، إنّ الدین الإسلامی یختلف من جهات عدیدة عن الأدیان الأخری، ویمتاز بخصوصیات وامتیازات خاصّة، منها ظاهرة شمول أحکامه وامتدادها لتستوعب جمیع زوایا وأبعاد حیاة الإنسان والمجتمع البشری، الشریعة الإسلامیة لا تتقیّد بزمان معیّن ولا مکان خاصّ ولیست ناظرة إلی فئة معینة أو قومیة أو بلد خاصّ من البلدان، لأنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بعث لجمیع الناس فی جمیع نقاط المعمورة، فکلّ إنسان یعیش علی هذه الأرض وفی کلّ زمان وعصر یقع مخاطباً للخطابات القرآنیة. وعلیه فإنّ شمولیة وعالمیة الإسلام وخلوده لیست ادّعاءً فی فراغ، بل مضافاً إلی الأدلّة العقلیة التی تثبت هذه الحقیقة، ومضافاً إلی طبیعة الأحکام والقوانین الواردة فی الشریعة الإسلامیة، هناک الکثیر من النصوص الشریفة من الآیات والروایات تؤیّد هذه الحقیقة، وما یمکن أن نستوحیه من القرآن الکریم فی بیان وتأیید هذه الحقیقة یقع علی ثلاث طوائف من الآیات:

الطائفة الأولی: الآیات القرآنیة التی تصرّح بعمومیة الإسلام وشمولیته فی بعدی الزمان والمکان وأنّ المخاطبین لهذه الآیات الشریفة هم جمیع الناس فی العالم، والعنوان الکلّی لکلمة «من بلغ»، مثل:

1. ما ورد فی الآیة 90 من سورة الأنعام قوله تعالی:

«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِکْرَی لِلْعَالَمِینَ».

2. ما ورد فی الآیة الشریفة 158 من سورة الأعراف التی تخاطب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وتقول: «قُلْ یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً».

3. الآیة 107 من سورة الأنبیاء التی تخاطب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وتقول: «وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِینَ».

4. الآیة 28 من سورة سبأ: «وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا کَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِیراً وَنَذِیراً» ومن هذا القبیل الآیة الاولی من سورة إبراهیم والآیة الاولی من سورة الفرقان والآیة 44 من سورة النحل والآیة 79 من سورة النساء.

5. جمیع الآیات التی تبتدی ء بمخاطبة جمیع الناس «یاأیّها الناس».

6. الآیة 19 من سورة الأنعام: «وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِانذِرَکُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ».

والآیات المذکورة تخاطب الناس فی جمیع مناطق العالم إلی یوم القیامة ولا یوجد أیّ فرق فی خطابها بین الأفراد والشعوب، لا فی بُعد القومیة ولا فی اللون ولا فی المنطقة الجغرافیة وغیر ذلک.

الطائفة الثانیة: الآیات القرآنیة التی تدلّ علی خاتمیة الشریعة الإسلامیة وأنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله هو آخر الأنبیاء الإلهیین. دلالة هذه الطائفة من الآیات القرآنیة علی شمولیة الإسلام لجمیع مناحی الحیاة فی کلّ زمان ومکان أوضح من الطائفة السابقة.

ومن جملة الآیات التی تشیر إلی هذا المعنی، الآیة 40 من سورة الأحزاب:

«مَا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّنْ رِّجَالِکُمْ وَلَکِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ وَکَانَ اللَّهُ بِکُلِّ شَی ءٍ عَلِیماً».

الطائفة الثالثة: الآیات القرآنیة التی تدلّ فی مضمونها علی کمال الدین الإسلامی وتمامیة هذه

ص: 436

الشریعة السماویة وشمول أحکامها لجمیع ما یحتاج إلیه الإنسان فی واقع الحیاة الفردیة والاجتماعیة، والآیة من سورة المائدة تدلّ بوضوح علی هذا المعنی:

«الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِیناً».

النتیجة: إنّ إکمال وإتمام الدین یعنی أنّ الإسلام قادر علی تقدیم الأجوبة والحلول لجمیع حاجات الإنسان والمجتمع البشریّ وفی جمیع أبعاد حیاته فی کلّ زمان ومکان، سواء من حیث البعد العبادی والروحی أم أمور التربیة والأخلاق أم المسائل الاقتصادیة والحقوقیة، وکذلک ما یحتاجه الإنسان علی المستوی الفردی والاجتماعی. فإذا قلنا بأنّ الإسلام یفتقد الحکم الشرعیّ فی مورد معیّن من حاجات الإنسان فی حرکة الحیاة، وغیر قادر علی إیجاد الحلول لمشاکل الإنسان فی هذا المجال؛ فهذا یعنی اعترافاً بأنّ الإسلام ناقص ولم یصل إلی حدّ الکمال.

وخاصّة مع الإلتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ عدم التوصّل إلی بعض الأحکام الواقعیة للإسلام، لا مانع من توصّل إلی الحکم الظاهری، ولا نجد فقیهاً یری فقدان الحکم الشرعی بالنسبة لموضوع معین أو لواقعة معینة ولو فی حدّ الحکم الظاهری، وبالتالی یقول بالحریة المطلقة للمکلّفین.

ومع الالتفات إلی کلّ ما تقدّم، وبملاحظة أنّ المسائل المستحدثة کثیرة فی مختلف الأبواب الفقهیة فی هذا العصر ولم یتطرّق القدماء إلی بحثها فی کتبهم الفقهیة (لأنّها لم تکن مورد ابتلاء فی ذلک الزمان) ولم یرد فیها نصّ بالخصوص فی الآیات القرآنیة وروایات المعصومین علیهم السلام، نجد أنفسنا مضطرّین إلی التحقیق فی هذه المسائل من موقع العمق والنقد والمطالعة فی تفاصیلها وجزئیاتها لنتمکّن بالتالی من الإجابة الصحیحة والمقنعة.

3. نماذج من المسائل المستحدثة

اشارة

کما أشرنا آنفاً أنّ المسائل المستحدثة کثیرة جدّاً ومتناثرة فی أبواب فقهیة مختلفة ولکن بعض أهمّ هذه المسائل فی العصر الحاضر کالتالی:

أ) المسائل المستحدثة فی مجال الطبّ
1. التشریح:

هل یجوز لطلاب الجامعات فی فرع الطبّ أن یقوموا بتشریح جسد المیّت المسلم؟ وخاصّة بعد ما ورد فی الروایة الشریفة:

«إِیّاکُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْکَلْبِ الْعَقُورِ»(1).

وفی حالة عدم جواز التشریح شرعاً، فإنّ ذلک یؤدّی إلی عدم تمکّن هؤلاء الطلّاب والأطباء من القیام بعملیات جراحیّة، وسائر أشکال المعالجة الطبّیة للمرضی، لأنّ العمل فی هذا السلک وخاصّة فی قسم العملیات الجراحیة یکون مشکلًا وعسیراً جدّاً بدون ممارسة التشریح فی مرتبة سابقة.

2. زرع الأعضاء:

هل یجوز قطع بعض أعضاء الإنسان، الحیّ أو المیّت، کالقلب والکلیة والعین وأمثالها، ثمّ زرعها ووصلها ببدن إنسان حیّ آخر؟

وخاصّة إذا کان العضو المقطوع (سواء من بدن إنسان حیّ أم میّت) غیر طاهر، وبالتالی یواجه الإنسان مشکلة فی بیعه وشرائه والصلاة فیه؟


1- وسائل الشیعة، ج 19، الباب 62 من أبواب القصاص فی النفس، ح 6؛ نهج البلاغة، الرسالة 47.

ص: 437

3. التلقیح الصناعی:

هل یجوز أخذ نطفة الزوج وزرعها بواسطة الأجهزة الطبیة فی رحم زوجته، الذی لا یتقبّل النطفة بشکل طبیعی، أو زرعها فی رحم امرأة أجنبیة؟ وهل یجوز تنمیة نطفة الزوجین بعد إجراء عملیة التلقیح بینهما خارج رحم الزوجة، وفی رحم صناعیّ ثمّ بعد نمو الجنین ووصوله إلی مرتبة من الرشد البدنی یعاد إلی رحم الزوجة أو رحم امرأة أجنبیة؟

وعلی أیّة حال فما حکم الولد الحاصل من عملیة التلقیح هذه؟ هل یرث من صاحب النطفة والمرأة التی نما وکبر فی رحمها؟ وهل هذین الشخصین یرثانه أیضاً؟ ومن هم المحارم لهذا الطفل؟

4. نقل الدم:

هل یجوز نقل دم غیر المسلم إلی المسلم وبالعکس؟ وما حکم نقل دم الرجل الأجنبیّ للمرأة الأجنبیة؟ وما حکم بیع وشراء الدم للأغراض المذکورة؟ ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ مسألة نقل الدم تعتبر فی غایة الأهمیة فی عصرنا الحاضر بحیث أنّ الکثیر من المرضی سیواجهون فی صورة عدم نقل الدم، الخطر علی حیاتهم.

5. تحدید النسل:

هل یجوز العمل علی منع زیادة السکان فی العالم الإسلامی والتحرّک علی مستوی ضبط عدد السکان؟ ومن خلال ما ورد فی الحدیث النبویّ المعروف:

«تَزَوَّجُوا فَإِنِّی مُکاثِرٌ بِکُمُ الْأُمَمَ غَداً فِی الْقِیامَةِ ...»(1)

والآیة الشریفة: «وَأَمْدَدْنَاکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ»(2) التی تقرّر أنّ کثرة الأبناء والأولاد تعدّ نعمة إلهیّة بحیث أنّ اللَّه تعالی یمنّ بها علی العباد، فهل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یفتخر بکثرة المسلمین رغم ما یعیشونه من أشکال الفقر والعجز والضعف، أم یفتخر بالمسلمین الذین یعیشون الحدّ الأعلی من القابلیات والإمکانات الاقتصادیة والعملیة؟ وفی صورة جواز تحدید النسل، فهل یجوز إجراء عملیة العقم المؤقت فقط، أم یجوز العقم الدائمیّ أیضاً، ولا سیما أنّ هذا العمل یستلزم غالباً النظر واللمس غیر المباح، حتی فی صورة أن یکون الطبیب من الجنس المماثل، وخاصّة إذا قبلنا بأنّ مثل هذا المنع من الحمل هو مصداق تضییع النطفة، لأنّ النطفة تنعقد فی الرحم ثمّ تتلاشی وتموت، لأنّها لا تصل إلی محلّها الأصلیّ، ومع الالتفات إلی غلق أنابیب الرحم أو المبیض فإنّه یعد نوعاً من نقص العضو، فما حکم هذا العمل شرعاً؟

6. هل یجوز نقل قلب إنسان فی حالة الاحتضار والموت (مثلًا إذا أصیب دماغه بحادث سیارة ومات فوراً ولکنّ قلبه مازال ینبض) وزرعه فی جسم إنسان آخر بحاجة ماسّة إلی قلب جدید وإلّا فسیموت قطعاً؟

وخاصّة إذا کان هذا العمل یؤدّی إلی تسریع موت الشخص الأول وإن کان یتسبّب فی إنقاذ الشخص الثانی من الموت، وهل یجب الاستئذان وتحصیل رضا صاحب العضو فی صورة الإمکان أو رضا أولیائه؟

7. إذا کان بقاء الجنین ومن ثمّ ولادته بصورة طبیعیة یشکّل خطراً علی حیاة الأُمّ أو علی سلامته فهل یجوز إسقاط هذا الجنین؟ وفی صورة الجواز ففی أیّ وقت یجوز لها عمل الإجهاض فی أشهر الحمل، هل یجوز قبل حلول الروح، أم یجوز ذلک بعد حلول الروح أیضاً؟

8. إذا حصل لنا علم واطمئنان من خلال الفحوصات الطبّیة الجدیدة أنّ الجنین سیولد ناقص الخلقة وبالتالی سیؤدّی إلی وقوع الآخرین فی حرج


1- وسائل الشیعة، ج 14، أبواب مقدّمات النکاح، باب 1، ح 2.
2- سورة الإسراء، الآیة 6.

ص: 438

شدید، فما هو حکم إسقاطه؟

9. ما حکم عملیة تجمید الأشخاص المبتلین بأمراض غیر قابلة للعلاج بأمل أن یکتشف الأطباء فی المستبقل طریقة لعلاجهم- کما هو متداول فی بعض البلدان-؟ وعلی فرض الجواز فما حکم أمواله وزوجته؟ لأنّه حسب الظاهر لا یعد میّتاً ولا حیّاً فی واقع الأمر.

10. یعتقد بعض الأطباء أنّ الزواج من الأقارب والأرحام ربّما یکون سبباً فی حدوث بعض الأمراض فی الأولاد، فما حکم مثل هذا الزواج مع احتمال وجود الخطر والضرر، وهل هو حرام أم مکروه؟

11. ما حکم تغییر الطبیعة الجنسیة؟ وهل یجوز للإنسان أن یتحرّک علی مستوی تغییر جنسیته وطبیعته الذکوریة أو الأنوثیة؟ وأساساً هل یمکن وقوع هذا العمل؟ وفی صورة الإمکان والجواز فما حکم الزواج والمحرمیة وسائر الأحکام الشرعیة المترتبة علی ذلک، وهل تکون تابعة للجنسیة الجدیدة أم القدیمة؟

12. هناک أبحاث علمیة کثیرة ومتنوّعة فی مسألة الاستنساخ (کلونینک)(1) فما هو نظر الإسلام حیال هذه الظاهرة الجدیدة؟ وإذا تمکّن الإنسان یوماً من إجراء هذه العملیة فما حال الإنسان المتولّد من عملیة الاستنساخ من جهة المحرمیة، الإرث، الولایة، الحضانة وما إلی ذلک (2)؟

ب) قسم العبادات

13. ما حکم الصلاة والصیام فی القطبین حیث یطول کلّ من اللیل والنهار إلی 6 أشهر أو یستغرق کلّ یوم ولیلة مدّة شهر کامل أو مدّة اسبوع أو أقلّ أو أکثر؟

ورغم أنّ مسألة القطبین کانت موجودة فی عصر الأئمّة علیهم السلام بل وحتّی فی عصر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً ولکن السفر هناک والسکنی فی المناطق القطبیة کان غیر ممکنٍ فی ذلک الوقت أو لم تصل إلینا أخباره، ولذلک صارت هذه المسألة من المسائل المستحدثة.

14. کیفیة الصلاة فی الرحلات الفضائیة التی لا یمکن فیها تشخیص الیوم واللیل والصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ وإلی أیّ جهة یصلی هؤلاء الفضائیون؟ وکیف یتوضّأون ویتیمّمون؟

15. إذا سافر الإنسان فی طائرة سریعة وبموازاة جهة حرکة الأرض وصلّی صلاة الظهر فی المطار الذی انطلقت منه الطائرة، وعندما وصل إلی المطار الثانی فإنّ الظهر لم یحن بعد، فهل یجب علیه أن یصلّی صلاة الظهر مرّة أخری عندما یحلّ وقت الظهر؟

وکذلک إذا کان مثلًا یعیش فی مکّة المکرّمة وصام ثلاثین یوماً من شهر رمضان هناک، ثمّ سافر إلی بلد لازال شهر رمضان هناک ولم تتمّ أیّامه، فهل یجب علیه أن یصوم یوماً آخر؟ وهل یجب صیام واحد وثلاثین یوماً علی المسلم؟ وهکذا فیما إذا نذر أن یصوم یوم عید الغدیر وصام ذلک الیوم فی مکّة طبقاً لنذره (مع قصد الإقامة عشرة أیّام هناک) وتحرّک عصر ذلک الیوم متجهاً إلی بلده إیران مثلًا، وکان عید الغدیر یصادف یوم غد فی إیران، فهل یجب علیه أن یصوم مرّة ثانیة؟

16. هل یجوز للصائم أن یتناول الحقن المغذّیة أو الأدویة المقوّیة من خلال التزریق؟


1- .gninolc .
2- للمزید من التفاصیل راجع کتاب الاستفتاءات الجدیدة، لمؤلفه آیة اللَّه العظمی مکارم الشیرازی، الجزء الأول والثانی والثالث فی قسم أحکام الطب.

ص: 439

17. ما حکم السعی ورمی الجمرات والطواف فی الطبقة الثانیة؟

18. هل یجوز للنساء تأخیر عادتهنّ الشهریة بتناول أقراص منع الحمل، وبالتالی تتمکّن هؤلاء النسوة من صیام شهر رمضان بکامله؟ أو فی حال الحجّ والعمرة حیث تتمکّن هؤلاء النسوة من الإتیان بالطواف وصلاة الطواف فی الوقت المقرّر؟

19. هل أحکام السفر مختصّة بالأسفار الأفقیة والتی تجری علی الأرض، أم تشمل الأسفار العمودیة کسفر الإنسان إلی الفضاء وتجاوز المسافة الشرعیة فی ابتعاده عن الأرض؟ وهل یترتّب علیه فی هذه الصورة حکم المسافر؟

20. هل تثبت رؤیة الهلال بواسطة الأجهزة العلمیة الحدیثة کالتلسکوب، أم لا؟

ج) قسم المعاملات والمسائل الاقتصادیة

21. ما حکم العملات الورقیة فی عصرنا الحاضر؟

ومن أین تکتسب مالیتها واعتبارها، وهل تجری علیها أحکام الذهب والفضّة المسکوکین الواردة فی بحث الزکاة والربا والمضاربة وما إلی ذلک؟

22. ما حکم المعاملات المصرفیة الملّوثة بالربا؟

وما حکم المصارف الإسلامیة التی تتعامل بدون ربا؟

وهل یمکن القول أنّ أرباج الودائع المصرفیّة تکون حلالًا لأصحاب هذ الأموال، وحالها حال الجوائز المصرفیة التی تهدی إلی أصحاب الأموال وفقاً للقرعة؟

23. ما حکم الصکّ والحوالة وما شاکلها من حیث بیعها وشرائها وسائر أحکامها؟

24. هل یجوز شرعاً عمل شرکات الضمان والتأمین علی الحیاة، التأمین علی وسائل النقل، التأمین علی المنازل وسائر أقسام التأمین؟ وعلی فرض الجواز فما هی شروط التأمین؟ وهل یعدّ التأمین نوعاً من المعاملة؟

25. ما حکم أنواع الشرکات الاقتصادیة التی لم یکن لها وجود فی السابق؟

26. ما حکم السرقفلیة؟ أحیاناً یدفع المشتری فی مقابل السرقفلیة مبلغاً من المال للمالک، وأحیاناً لا یدفع شیئاً، فما حکم السرقفلیة فی کلّ واحد من هذین الموردین؟

27. ما حکم العمل فی الوظائف الرسمیة والحکومیة نظراً لوجود إبهامات کثیرة من حیث مدّة الاستخدام والمبلغ الدقیق الذی یستلمه الموظف ومقدار الحقوق المالیة التی تختلف باختلاف الزمان وما إلی ذلک؟

28. ماذا یعنی حقّ التقاعد؟ وهل یعدّ ذلک معاملة مستقلّة، أم أنّها شرط ضمن العقد الأول؟ ولا سیما مع الالتفات إلی وجود إبهامات مختلفة فی طبیعة هذا الأمر، مثلًا مقدار المبلغ الذی یتمّ خصمه شهریاً من حقوق الموظّف لغرض ضمان حقّ التقاعد، فأحیاناً یتمّ خصم مقدار أقل ممّا سیدفع له حین التقاعد، وأحیاناً یکون أکثر، ومن النادر أن تکون العملیة متساویة.

29. ما حکم بیع وشراء أوراق (الیانصیب) وأمثالها التی لا تندرج فی أیٍّ من العقود الواردة فی الشرع، بل أحیاناً تکون من قبیل «الأزلام» التی ورد النهی عنها وذمّها فی القرآن الکریم؟ وهل یمکن إیجاد طریقة لتسویغ هذه العملیة؟

30. المعروف والمشهور فی المضاربة وجوب أن تکون بالذهب والفضّة المسکوکین بالسکّة المتداولة،

ص: 440

ومع الالتفات إلی ذلک فما حکم عقود المضاربة فی هذا الزمان.

31. نظراً إلی أنّ نفقات الجیش والمقاتلین تکلّف الحکومة فی هذا الزمان أموالًا باهضة (خلافاً للماضی حیث کانت هذه النفقات بعهدة المقاتلین عادة) بل إنّ المقاتلین فی هذا الزمان یستلمون رواتب شهریة من الحکومة، والسؤال هو: بمَن تتعلّق الغنائم الحربیة؟

مضافاً إلی أنّ الکثیر من الأسلحة التی یغنمها المقاتلون کالدبّابة والمدفع والأسلحة الثقیلة الأخری لا نفع فیها للأشخاص وغیر قابلة للإستفادة الشخصیة.

فهل یجب بیع هذه الأسلحة وتقسیم ثمنها بین المقاتلین، أم أنّ أدلّة الغنائم الحربیة منصرفة عن مثل هذه الغنائم؟

32. هل یجوز إجراء صیغة العقد بواسطة الهاتف أو الانترنیت أم لا؟ وفی صورة الجواز کیف یکون خیار المجلس؟ وما حکم إجراء الطلاق وکسب الإقرار مع توفّر شروطه بهذه الطریقة؟

33. هل الشارع المقدّس یؤیّد حقّ التألیف وحقّ الاختراع والاکتشاف؟ وبعبارة أخری، هل یمکن تصوّر ملکیة للأمور المعنویة، أم أنّ الملکیة تتعلّق فقط بالأعیان الخارجیة؟

34. هل الشخصیة الحقوقیة تعتبر مالکاً کالشخصیة الحقیقیة؟

35. هل تجوز الإجارة بشرط الرهن کما هو المتداول فی زماننا هذا؟ وذلک بأن یشترط المالک حین عقد الإجارة أن یودع المستأجر مبلغاً من المال عنده علی أن یعیده إلیه فی نهایة المدّة المقرّرة، ویؤدّی ذلک إلی التقلیل من مبلغ الإجارة؟

د) مسائل متنوّعة

36. بالنسبة للأضرار والخسائر الناشئة من الجرم والتی تکون أکثر من ا لدیة المقرّرة، من قبیل نفقات العلاج والدواء علی المجنیّ علیه بحیث یحتاج لتغطیة هذه النفقات أکثر من الدیة الشرعیّة، فهل یضمن الجانی هذا التفاوت ویدفع هذه النفقات الضروریة للعلاج مضافاً إلی الدیة أیضاً؟

مثلًا إذا کانت نفقات علاج العین التی فقأها الجانی ألف دینار فی حین أنّ دیة العین الواحدة 500 دینار فهل یجب علی الجانی أن یدفع 500 دینار مضافاً إلی الدیة؟

37. ما حکم ذبح الحیوانات بالأجهزة الحدیثة؟

وکیف یتمّ استقبال القبلة والتسمیة حین الذبح بهذه الوسائل؟ وبعبارة أخری هل تجب المباشرة فی الذبح، أو یکفی التسبیب؟ وهل تکفی التسمیة المقارنة عرفاً للذبح؟

38. بالنسبة للجراحات والصدمات الناشئة من حوادث السیر والاصطدام بالسیارات، ففی أیّ عنوان من العناوین تندرج هذه الموارد، فی (العمد) أم (شبه العمد) أم (الخطأ المحض)؟ وهل هناک تفاوت بین الشخص الذی یتحرّک فی قیادته العجلة أو السیارة من موقع مراعاة قوانین العبور والمرور واتّفق أن أصابه حادث، وبین الشخص الذی لا یراعی المقرّرات المذکورة واصطدم بسیارته؟

39. ما حکم الطرق والشوارع وتعریضها إذا کانت مورد حاجة الناس؟ وما حکم تخریب البیوت والمقابر وأمثالها ممّا یقع فی مسیر هذه الطرق والشوارع؟ ومن هو الضامن للخسائر المحتملة؟ وهل یجب دفع ما

ص: 441

یعادل ثمنها بقیمة الیوم؟

40. هل أشرطة الکاسیت التی یسجل فیها إقرار الأشخاص أو وصایاهم أو وقف أملاکهم وأمثال ذلک معتبرة شرعاً؟ وإذا کان الإقرار أو الوصیّة تمّ إثباتها علی شریط الفیدیو بالصوت والصورة فما حکمه؟

إنّ هذه الأربعین مسألة تمثّل نماذج من المسائل المستحدثة مورد ابتلاء المکلّفین فی عصرنا الحاضر ولم یذکرها القدماء والمتأخّرون من الفقهاء فی کتبهم عادة. لأنّها لم تکن مورد ابتلاء فی ذلک الزمان. ولکنّ جماعة من الفقهاء المعاصرین قد أجابوا عن بعض هذه الأسئلة فی کتبهم الفتوائیة ورسائلهم العملیة.

والجدیر بالذکر أنّ الأجوبة المذکورة فی هذه الکتب تفتقد عادة الدلیل والبرهان، وقد تمّ تدوینها بالشکل المتداول فی کتب الفتوی والکثیر من هذه المسائل بقیت بدون جواب حیث یجب التحقیق فیها والبحث فی تفاصیلها ومدارکها فی عملیة استجلاء الحکم الشرعی لها.

وفی الآونة الأخیرة صدرت کتب ودراسات تبحث فی المسائل المستحدثة من موقع الاستدلال، ورغم أنّها لم تبحث الأصول الکلیة لمثل هذه المسائل، فإنّ هذا التوجّه نحو المسائل الجدیدة ودراستها من موقع العمق والاستدلال یستحقّ التقدیر والثناء.

البحث الثانی: المبانی و المسبوقات

1. التفاوت فی المناهج

إنّ طریقة البحث ومنهج الاستنباط فی مورد المسائل المستحدثة والمسائل الفقهیة الأخری فی دائرة عمل فقهاء الإمامیة یختلف عن طریقة ومنهج فقهاء أهل السنّة، ومنشأ هذا الاختلاف یکمن فی تفاوت المبانی الأصولیة لهؤلاء الفقهاء، لأنّ أتباع مدرسة أهل البیت یتمسّکون بالنّصوص الخاصّة والعامّة والقواعد الکلّیة المستوحاة من الأدلّة المعتبرة (الکتاب والسنّة والإجماع القطعیّ والدلیل العقلیّ المعتبر) ولا یقیمون وزناً للأدلّة الظنیة غیر المعتبرة، لأنّ الاجتهاد لدی هؤلاء الفقهاء عبارة عن استنباط الأحکام الشرعیة علی أساس الضوابط والأدلّة المعتبرة، ویعتقدون بأنّ لکلّ واقعة حکماً شرعیاً وأنّ المجتهد هو الذی یتحرّک فی عملیة الاستنباط لاستکشاف هذا الحکم سواء توصّل إلیه أم لم یتوصّل، فلا توجد مسألة من المسائل بدون حکم شرعیّ واقعیّ.

وبعبارة أخری إنّ کلّ واقعة ومسألة لها حکم فی الشریعة الإسلامیة، سواء علمنا به أم لم نعلم، وهذه الأحکام الواقعیة جاءت من اللَّه تعالی إلی نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله ومن ثمّ أُودعت عند أوصیائه المصومین علیهم السلام. وعلی هذا الأساس فإنّ المسائل المستحدثة لیست بدون حکم شرعیّ، غایة الأمر أنّ الفقیه أحیاناً یحصل علی الحکم الواقعی ویفتی علی هذا الأساس، وأحیاناً أخری لا یحصل علیه فیفتی بالحکم الظاهری ویعمل علی أساسه، وهو فی کلا الحالین مأجور مثاب.

وتوضیح ذلک: إنّ الفقیه إمّا أن یحصل له العلم بالحکم الواقعی، أو یحصل له الظنّ المعتبر الذی اعتبره الشارع حجّة، أو یبقی فی حال الشکّ والتردّد.

فی الصورة الأولی والثانیة یجب علیه العمل طبقاً

ص: 442

لعلمه وظنّه المعتبر، وفی الصورة الثالثة یرجع إلی أحد الأصول العملیة المعتبرة، أی البراءة، الاستصحاب، التخییر والاحتیاط، لیتمکّن من رفع شکّه وتعیین تکلیفه من خلال هذه الأصول الأربعة.

علی هذا الأساس فلا توجد أیّ مسألة بدون حکم شرعیّ ولا یبقی سؤال بدون جواب، لا علی أساس الحکم الواقعی ولا علی أساس الحکم الظاهری، ووظیفة المجتهد هی السعی وبذل الجهد للکشف عن الحکم الشرعی الموجود فی الشریعة المقدّسة، وهذا هو معنی الاجتهاد لدی فقهاء الإمامیة.

وأمّا الاجتهاد فی مصطلح أهل السنّة فیختلف عما ذکر آنفاً، لأنّهم فی مقام الإفتاء یعتمدون فی مثل هذه المسائل علی القیاس الظنّی والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع- وفقاً لما تقدّم بیانه من المراد منها- والاجتهاد عندهم لا یختصّ بالاستعانة بالنصوص الواردة فی الشریعة والاستدلال بها.

وبعبارة أخری یمکن تقسیم الاجتهاد لدی أهل السنّة إلی ثلاثة أقسام:

1. «الاجتهاد المعروف» والمراد منه هو التحرّک فی عملیة استنباط الأحکام الشرعیة بالمنهج المتداول من خلال الاستفادة من نصوص الآیات والروایات، وهو ما تقدّم توضیحه فی کیفیة استنباط الأحکام لدی علماء الإمامیة.

2. «التقنین» والمراد منه بیان الحکم الشرعیّ فی مسائل معیّنة لم یرد فیها نصّ خاصّ من آیة أو روایة.

والمجتهد فی مثل هذه المسائل یستنبط الحکم وفقاً لفهمه وتشخیصه، ویفتی بما حصل لدیه علی أساس القیاس الظنّی، أو الاستحسان أو المصالح المرسلة أو سدّ الذرائع، وحکم المجتهد فی هذه المسائل بمنزلة حکم اللَّه تعالی ویسدّ الفراغ الذی ترکه الحکم الإلهیّ فی هذه المسألة(1).

ویقوم هذا النوع من الاجتهاد علی نظریة التصویب التی یعتقدون بها.

وهذا النوع من الاستنباط غیر مقبول فی نظر فقهاء الإمامیة، لأنّه- علی حدّ تعبیر القرآن الکریم، اتّباع للظنّ وأنّ الظنّ لا یغنی من الحقّ شیئاً(2) والسبب فی لجوء هؤلاء الفقهاء إلی هذه الأدلّة الظنیة هو أنّ النصوص التی بین أیدیهم غیر کافیة للإجابة عن جمیع المسائل الواقعة والمستحدثة.

فی حین أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال فی حدیث الثقلین المعروف والمتواتر بین المسلمین،

«إنّی مُخَلِّفُ فِیْکُم الثَّقَلَیْنِ، کِتابَ اللَّهِ وعِتْرَتِی»(3)

وفی طرق أخری لهذا الحدیث وردت هذه العبارة أیضاً

«مَا إنْ تَمَسَّکْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا أبَداً»(4)

. ولکن مع الأسف إنّ بعض علماء الإسلام لم یلتفتوا إلی هذه المسألة، وترکوا الأخذ بأحادیث أهل البیت علیهم السلام.

3. «الاجتهاد فی مقابل النصّ»؛ وفی هذا النوع من الاجتهاد، لایکتفی الفقیه بعدم التمسّک بالنصوص،


1- جاء فی کتاب المهذب فی علم اصول الفقه: أحد المذاهب فی فروع الأحکام أنّ کل مجتهد فی الفروع مصیب وأنّ حکم اللَّه تعالی لا یکون واحداً معیناً، بل هو تابع لظنّ المجتهد فحکم اللَّه تعالی فی حق کل مجتهد ما أدی إلیه إجتهاده وغلب علی ظنّه، وسمّی أصحاب هذا المذهب بالمصوّبة، وهو مذهب أبی بکر الباقلانی والغزالی وبعض المتعکلّمین وأکثر المعتزلة.( المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2356).
2- « إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنْ الْحَقِّ شَیْئاً» سورة یونس، الآیة 36.
3- صحیح مسلم، ج 4، ص 1874 ومصادر أخری کثیرة.
4- وردت هذه الجملة بعبارة مختلفة فی کتب أهل السنّة. انظر: مسندأحمد، ج 3، ص 59؛ سنن الترمذی، ج 5، ص 328 و 329؛ المعجم الکبیر للطبرانی، ج 3، ص 65.

ص: 443

والعمل بظنّه فحسب، بل یفتی أیضاً علی خلاف ما ورد فی النصوص. وبالإمکان استعراض أمثلة متعدّدة لهذا النوع من الاجتهاد، ومن ذلک الفتوی المعروفة لعمر بن الخطّاب بالنسبة للزواج المؤقّت، حیث قال:

«مُتْعَتَانِ کانَتا مُحَلَّلَتَیْنِ فِی زَمَنِ النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله وأنا احَرِّمُهُما، واعاقِبُ عَلَیهِمَا»(1).

وهذا النوع من الاجتهاد، کالقسم الثانی، غیر مقبول فی نظر فقهاء الإمامیة لأنّ المجتهد لا یحقّ له التحرّک والفتوی علی خلاف حکم اللَّه ورسوله، بل یجب علیه السعی للتوصّل إلی الحکم الواقعی المستوحی من النصوص الخاصّة والعامة والقواعد الکلّیة.

2. تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد

اشارة

یری بعض کبار الفقهاء المعاصرین أنّ للزمان والمکان تأثیراً فی عملیة الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیة، فما هو مرادهم من هذا الکلام؟ وکیف یمکن أن تتغیر الأحکام الشرعیة بتغییر الأمکنة والأزمنة فی حین أنّ الشریعة الإسلامیة وضعت لجمیع مناحی الحیاة وفی جمیع الأزمنة والأمکنة؟

وقبل الجواب عن هذا السؤال لابدّ من ذکر نقطة مهمّة وهی أنّ جذور هذا البحث وردت أیضاً فی کلمات القدماء والمتأخّرین ولا یعدّ موضوعاً جدیداً، وعلی أیّة حال فإنّ هذا الکلام یمکن أن یفسّر بثلاثة تفسیرات بعضها صحیحة والبعض الآخر باطلة:

التفسیر الأوّل: إنّ الفقیه یجب أن یکون تابعاً لطبیعة الزمان والمکان، فإذا شاعت فی زمان معیّن ظاهرة المصارف الربویة، فعلی الفقیه أن یُجاری واقع هذا الزمان ویفتی بحلّیة هذا النوع من الربا، وإذا کان الفقیه یعیش فی أجواء ینتشر فیها السفور وتبرّج النساء، فیجب علیه أن یفتی بحلّیة هذه الأمور تبعاً لذلک المکان وتلک الأجواء الثقافیة والاجتماعیة.

علی هذا الأساس فإنّ الفقیه تابع للزمان المکان، وبهذه الصورة یکون تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الاجتهاد والاستنباط، وبعبارة أخری یجب التفکیر بجدّیة فی جعل الأحکام الشرعیة عرفیة.

وهذا المفهوم من تأثیر الزمان والمکان مجانب للصواب ولا یقبله أیّ فقیه، وإن وردت مثل هذه الکلمات فی کلمات بعض الکتّاب المعاصرین.

التفسیر الثانی: إنّ المراد من تأثیر الزمان والمکان فی الاجتهاد لیس تغییر الحکم بدون تغییر الموضوع، لأنّ

«حَلال محمّد حَلال إلی یومِ القِیامةِ وحَرام محمّد حرام إلی یومِ القیامة»(2)

بل المراد من التغییر والتبدّل فی الأحکام ما یتّصل بسببها، أی من خلال تغییر وتبدّل موضوعاتها.

وتوضیح ذلک: إنّ کلّ حکم من الأحکام الشرعیة یتضمّن ثلاثة أرکان: 1. الحکم الشرعیّ 2. متعلّق الحکم 3. موضوع الحکم؛ مثلًا فی جملة «یحرم شرب الخمر» فإنّ «الحرمة» هی الحکم الشرعیّ و «الشرب» متعلّق الحکم و «الخمر» موضوع الحکم.

وکذلک فی مسألة «یجب تطهیر المسجد» فإنّ «الوجوب» حکم شرعی، و «التطهیر» متعلّق الحکم، و «المسجد» موضوع الحکم. ولکن أحیاناً لا یکون لدینا سوی الحکم الشرعی ومتعلّق الحکم، من قبیل


1- السنن الکبری، ج 7، ص 206؛ المغنی لابن قدامة، ج 7، ص 571 و 572؛ الشرح الکبیر، ج 7، ص 537؛ بدایة المجتهد، ج 2، ص 122( مع تفاوت یسیر).
2- انظر: الکافی، ج 1، ص 58، ح 19.

ص: 444

الحکم بوجوب الصلاة والصوم، لأنّ هذه الأحکام لم تتعلّق بأمر خارج فعل الإنسان، ومن هنا فإنّه أحیاناً یکون متعلّق الحکم هو موضوع الحکم أیضاً، کما فی المثال المذکور آنفاً، فإنّ الوجوب حکم شرعیّ، والصلاة أو الصوم موضوع الحکم.

علی أیّة حال فإنّ کلّ حکم یدور مدار موضوعه، ونسبته لموضوعه کنسبة المعلول إلی علّته أو المعروض إلی العرض. وعندما نقول (مثل ...) فمن جهة أنّ العلّة والمعلول، أو العرض والمعروض إنّما تقع فی الأمور الواقعیة، وما نحن فیه یختصّ بالأمور الاعتباریة.

ولازم هذا الکلام (وهو أنّ کلّ حکم یدور مدار موضوعه) أنّه کلّما تغیّر الموضوع یتغیّر الحکم بتبعه، ومعلوم أنّ الزمان والمکان یؤثّران أحیاناً فی إیجاد التغیّر والتبدّل فی الموضوع الخارجی، والمثال المذکور فی مباحث المعاملات فی کتاب البیع هو:

إنّ مالیة المال- التی تعتبر المحور الأصلّی فی صحّة البیع- تتغیّر بحسب تغیّر الزمان والمکان، فالماء الموجود فی القدح علی مقربة من النهر الزاخر بالماء الزلال لا قیمة له، ولکنّ ذلک الماء إذا کان فی صحراء محرقة وجافّة فله قیمة مالیة کبیرة، وهذا معنی تأثیر المکان فی قیمة هذا المال.

وأمّا تأثیر الزمان فی قیمة المال، فهو مثل الثلج فی فصل الشتاء حیث لا قیمة له، ولکن الثلج فی فصل الصیف فی تلک الأجواء المحرقة یملک قیمة کبیرة، وهنا یتبیّن تأثیر الزمان فی هذا المورد.

أقسام تغییر الموضوعات:

إنّ تغییر الموضوعات یمکن طرحه فی ثلاث صور:

1. أحیاناً یکون التغییر أساسیاً وجذریاً حیث تتغیّر ماهیته وتتبدّل إلی شی ء جدید کالاستحالة، کما فی انقلاب الماء النجس إلی بخار، لأنّ عنوان الماء فی نظر العرف مباین ومغایر لعنوان البخار. وتغییر الحکم فی مثل هذه الموضوعات واضح و لا یخفی علی أحد.

2. وأحیاناً تتغیّر بعض الخصوصیات الظاهریة للموضوع بحیث یظهر أنّه موضوع جدید رغم أنّ ماهیّته لا تختلف عن الماهیة السابقة، من قبیل تبدّل الخمر إلی خلّ. فرغم أنّ الماهیة العرفیة للخمر لم تتبدّل فی هذا المورد، ولکن بلا شکّ فإنّ الخلّ یعتبر موضوعاً آخر غیر الخمر. وهنا أیضاً یتبدّل الحکم الشرعیّ، لأنّه وإن لم تتبدّل الماهویة، ولکن الموضوع السابق فی نظر العرف قد تبدّل وتغیّر.

3. وفی هذا القسم لا یحدث أیّ تغییر فی ماهیة الموضوع أو خصوصیاته وصفاته الظاهریة، بل یصیب التغییر الخصوصیات المعنویة والاعتباریة لذلک الموضوع. مثل قدح الماء إلی جانب النهر حیث یفقد ذلک الماء القلیل قیمته ومالیته، والماء هو الماء ولکنّه فقد مالیته وقیمته بتغییر محلّه، ومثال الدم فی هذا الزمان حیث أصبحت له قیمة کبیرة بسبب منافعه الکثیرة، وبالتالی أصبح یباع ویشتری، وهکذا بالنسبة لأعضاء بدن الإنسان من أجل زرعها فی بدن شخص آخر حیث لم تکن لها قیمة مالیة فی السابق والیوم أضحت لها قیمة کبیرة.

إنّ تبدّل الموضوع فی هذه الصورة واضح أیضاً لأنّ الصفات المقوّمة لهذا الموضوع وخصوصیاته المعنویة تؤثّر فی تغییر حکمه أیضاً، وهنا لا مجال للاستصحاب، أجل إذا تغیّرت بعض الأوصاف الأخری

ص: 445

التی لا تؤثّر فی الحکم، فالاستصحاب ممکن فی هذه الصورة. من قبیل أن یتبدّل ماء الکرّ إلی لون الدم، وبسبب مرور الزمان وبدون إضافة ماء إلیه یفقد هذا اللون، فهنا یمکن استصحاب بقاء الحکم بالنجاسة.

وأمّا إذا بقی الموضوع علی ماهیته وخصوصیاته المقوّمة، فإنّ الحکم یبقی إلی الأبد ثابتاً لهذا الموضوع ولا یصیبه التغییر والتبدّل، لأنّ تغییر الحکم فی هذه الصورة لا یمکن إلّامن خلال نسخ الحکم، وهذا المعنی أیضاً غیر ممکن بعد رحیل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مع الالتفات إلی انتفائه بانقطاع الوحی.

ومع الالتفات إلی هذه الأقسام الثلاثة لتغییر موضوعات الأحکام الشرعیة فإنّ الکثیر من المسائل المستحدثة التی وردت الإشارة إلیها فی البحوث السابقة، ستجد طریقها إلی الحلّ:

1. بیع وشراء الدم، فبالرغم من عدم الجواز فی السابق بسبب عدم وجود المنافع المحلّلة، ولکنّ تغیّر الزمان وتطوّر العلوم البشریة، قد خلق منافع مشروعة کثیرة للدم، من قبیل نقل الدم إلی المرضی والمجروحین المحتاجین إلی الدم وإنقاذهم من الموت.

ومع الالتفات إلی هذه المنافع المحلّلة والکثیرة فإنّ بیع وشراء الدم لا مانع منه، ومجرّد نجاسة الدم لا تقف حائلًا بوجه هذه المنافع المهمّة.

2. بیع وشراء أعضاء البدن مثل الکلیة والقلب وقرنیّة العین وأمثال ذلک ممّا کان محرّماً فی السابق لعدم إمکان الاستفادة المشروعة من هذه الأعضاء، ولکن مع وجود فوائد مهمّة ومشروعة لهذه الأعضاء فی عصرنا وزماننا وتوقّف إنقاذ نفوس الناس أو سلامتهم علی هذا الأمر، فإنّ الفقهاء المعاصرین یفتون بجواز هذه المعاملات.

ومن جهة أخری ربّما تواجه المعاملة علی هذه الأعضاء مشکلة، لأنّ هذه الأعضاء بعد انفصالها عن بدن الإنسان لها حکم المیتة، ونعلم أنّ بیع وشراء المیتة لا یجوز وإن کانت لها منافع محلّلة کثیرة، ولهذا لا یفتی فقهاؤنا بجواز بیع وشراء جلود المیتة مهما کان لها منافع محلّلة کثیرة. ولهذا السبب فإنّهم تحرّکوا فی هذه المسألة أیضاً، أی بیع وشراء أعضاء الإنسان من موقع الاحتیاط، وقالوا: لا ینبغی أخذ المال فی مقابل العضو نفسه، بل فی مقابل کسب الإذن لنقل العضو من هذا البدن إلی آخر. بمعنی أنّ الشخص الذی یعطی کلیته إلی شخص آخر لا ینبغی أن یستلم المال عوض الکلیة، بل فی مقابل إذنه لنقل کلیته إلی شخص آخر.

وما تقدّم آنفاً یعتبر مطابقاً لفتوی المشهور، رغم أنّ البعض ذهبوا إلی أنّ «المیتة» یجوز بیعها وشراؤها إذا کانت لها منافع معتبرة.

3. إذا تمّ نقل جلد الشخص الحیّ أو المیّت إلی شخص آخر، فبعد فصل هذا الجلد من الشخص الأول یصبح نجساً، لأنّه یصبح بحکم المیتة. ولکن هذا الحکم إنّما یستمرّ مادام لم یوصل ببدن الشخص الآخر الحیّ ولم یجرِ دم هذا الإنسان فی هذا الجلد ولم یشعر بالحسّ والحرکة. وحینئذٍ لا یمکن الحکم بنجاسته بالاستصحاب، لأنّه بعد نقله إلی الحیّ لا یعتبر من المیتة وفی هذه الصورة تغیّر الموضوع وأصبح بعد عملیة الوصل جزءاً من أعضاء بدن الإنسان الثانی.

کما أنّ انتقال دم الإنسان إلی بدن بعوضة یتسبّب فی أن یکون محکوماً بالطهارة لأنّ هذه الحشرة لیست ذات دم سائل وبعد انتقال دم الإنسان إلی الحشرة لا

ص: 446

یسمّی حینئذٍ دم إنسان.

4. مسألة اعتبار العملات الورقیة، فمع الالتفات إلی البحوث السابقة ستجد طریقها إلی الحلّ، لأنّ المالیة أمر اعتباریّ یخضع لقرار العرف وعقلاء المجتمع واعتبارهم، وعلیه ففی کلّ وقت یقرّر العرف وعقلاء المجتمع قیمة معینة لتلک العملات بسبب بعض العوامل التی یرونها مؤثّرة فی ذلک، فیمکن التعامل حینئذٍ بهذه الأوراق والنقود بجعلها ثمناً فی المعاملات وبالعکس، ففی کلّ وقت- وبسبب بعض العوامل- یقرّر هؤلاء العقلاء أو الجهات الرسمیة بطلان هذه العملات الورقیة وبذلک یکون حالها حال قطع الورق العادی وتفقد قیمتها ولا یمکن حینئذٍ أن تقع طرفاً فی المعاملة.

5. ما تقدّم فی موضوع زیادة نفوس المسلمین والافتخار والمباهاة بعدد نفوس ا لمسلمین، والتی وردت فیها روایة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فإنّ ذلک یتعلّق بوقت کانت کثرة النفوس علامة وسبباً للقوّة والقدرة والعزّة للمجتمع الإسلامی، فإنّ النظر الدقیق بموضوع المسألة یکشف عن کونها مقیّدة ومشروطة، وینبغی القول:

«إنّ کثرة عدد المسلمین وزیادة نفوسهم إنّما تکون مورد افتخار فیما إذا کانت سبباً لقوّة المسلمین وعزّتهم فی واقع الحیاة وفی مقابل الأعداء».

أمّا ما ورد فی آیات القرآن الکریم من الإشارة إلی هذه الحقیقة فهو ما ورد فی الآیة 12 من سورة نوح:

«وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ».

وکما تلاحظ فإنّ اللَّه تعالی فی هذه الآیة یقرّر هذه الحقیقة وهی أنّ کثرة البنین والمال تعنی زیادة القوّة والقدرة.

وکذلک ما ورد فی الآیة 6 من سورة الإسراء قوله تعالی: «وَأَمْدَدْنَاکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ وَجَعَلْنَاکُمْ أَکْثَرَ نَفِیراً».

ونقرأ أیضاً فی الآیة 69 من سورة التوبة هذا المعنی من معطیات کثرة البنین: «کَالَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ کَانُوا أَشَدَّ مِنْکُمْ قُوَّةً وَأَکْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَاداً».

ویستفاد من جمیع هذه الآیات الکریمة أنّ کثرة النفوس کانت فی ذلک العصر سبباً وعلامة علی القوّة والاقتدار فی تلک المجتمعات.

وعلی هذا الأساس إذا تغیّر هذا الموضوع وأدّت زیادة النفوس إلی الوقوع فی الذلّة والحقارة والضعف والمسکنة لمجتمع ودولة معینة، کما یقال عن بلاد الهند حیث إنّ کثرة النفوس فیها أدّت إلی موت بعض الناس من الجوع لقلّة الإمکانات، وبلغت أزمة السکن فیها إلی حدٍّ أن بعض الناس یولدون فی الشوارع والأرصفة ویعیشون هناک ویموتون، یعنی أنّهم لا یملکون من إمکانیّة الحیاة السلیمة أیّ شی ء، فهل یعقل أنّ کثرة النفوس فی هذه الصورة مطلوبة ومحبّبة؟

إذا بلغت کثرة النفوس إلی هذا الحدّ وکانت تستلزم الوقوع فی المشاکل والأزمات، فهل یفتخر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بهذه القدر من النفوس، أمام سائر الامم؟ أم یقال فی هذه الصورة بأنّ اللازم علی المسلمین بدلًا من التفکیر فی کثرة العدد والنفوس التفکیر بالکیفیة والنوعیة ودخول المسلمین میادین العلم والقدرة والأمور الثقافة والأخلاق والصناعة وما إلی ذلک؟

والشاهد علی ما تقدّم، ما ورد فی کلام مولانا أمیرالمؤمنین علیه السلام فی جوابه عن سؤال عن معنی ما ورد فی الحدیث النبویّ:

«غَیِّرُوا الشَّیْبَ وَ لا تَشَبَّهُوا بِالْیَهُودِ»

فقال:

«إِنَّما قالَ صلی الله علیه و آله وَالدِّین قُلٌّ، فَامَّا الْآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطاقُهُ

ص: 447

وَضَرَبَ بِجِرانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتارَ»(1).

وهذا یشیر إلی أنّ تغیّر الظرف الزمانی یؤدّی إلی تغیّر الحکم الشرعیّ.

تقدّم کان بمثابة خمسة أمثلة علی أنّ تبدّل الموضوع یستدعی تبدّل الحکم، وهذا المطلب یعتبر مفتاحاً أصلیاً لحلّ الکثیر من المسائل المستحدثة.

وبدیهیّ أنّ هذه الأمثلة الخمسة لیست لها خصوصیة بحدّ ذاتها ولا تنحصر الأمثلة بها.

وخلاصة الکلام: إنّ أحکام الشرع المقدّس ثابتة علی امتداد الزمان والعصور ولا تتغیّر، وإنّ عنصر الزمان والمکان لا یعمل علی تغییر هذه الأحکام، لأنّ الحلال الشرعیّ حلال دائماً والحرام حرام دائماً.

ولکن الموضوعات العرفیّة هی التی تواجه التغییر المستمرّ، وعندما یتغیّر الموضوع فإنّ الحکم یتغیّر تبعاً له.

إنّ تغییر وتبدّل الموضوع بدوره علی أقسام مختلفة:

فتارة یکون علی شکل تبدّل ماهیة الموضوع، وأخری علی شکل تغییر فی أوصافه الخارجیة، وثالثة یحدث التغییر فی دائرة الأمور الاعتباریة. والمراد تأثیر الزمان والمکان فی عملیة الاجتهاد هو هذا المعنی (2).

التفسیر الثالث: فی بیان کیفیة تأثیر الزمان والمکان فی طبیعة الاجتهاد، هو أنّ التغییرات الواقعة فی دائرة الزمان والمکان تؤدّی أحیاناً إلی انتباه الفقیه إلی وجود مسائل جدیدة، وتقود فکره وذهنه باتّجاه التحقیق والتأمّل فی هذه المسائل، وبالتالی یلتفت إلی وجود بعض الأمور فی عمق هذه الموارد التی لم یلتفت لها القدماء. وخاصّة بعد تشکیل الحکومة الإسلامیة فی ایران وظهور مستجدات خاصّة فی إطار المتغیرات الاجتماعیة والسیاسیة، وبالطبع فإنّ هذا لا یعنی أنّ الفقیه إذا کان یعیش خارج دائرة الزمان والمکان فإنّه یملک أفکاراً وآراءً خاصّة، وعندما یدخل هذه الدائرة فإنّ جمیع أفکاره وآرائه سیصیبها التحوّل والتغییر، بل المقصود أنّ هذا الفقیه سیدرک بشکل أفضل حاجات ومصالح النظام الإسلامی والامّة الإسلامیة حسب ما یُملیه الوضع الجدید علیه.

علی سبیل المثال فإنّ الفقیه کان یری أنّ تحصیل العلم، سواءً کان من العلوم الدینیة أم الدنیویة، یعدّ واجباً کفائیاً، ولکنّه فی هذا العصر یراه واجباً عینیاً.

لأنّه وجد أنّ المسلمین یحتاجون بشدّة إلی خبراء فی الفقه ملتزمین یعملون علی تدبیر أمور المسلمین الدنیویة والدینیة، ومن الواضح أنّ أفراد المجتمع إذا کانوا یعیشون الأُمّیة والتخلّف العلمی فإنّهم سیبقون فی دائرة المجتمعات المتخلّفة ولا ینالون حظّاً من التحضّر والرقیّ والتقدّم، وبدیهیّ أنّ اللَّه ورسوله صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام لا یرضون ببقاء المسلمین فی حالة الذلّة والضعف والتخلّف.

وعلی هذا الأساس فإنّ المجتهد یفتی حینئذٍ بالوجوب العینیّ بتحصیل العلم والمعرفة، ویصدر حکم الجهاد ضدّ الجهل والامّیة والتخلّف لیتحرّک کلّ مسلم بحسب طاقته وقابلیته إلی التصدّی لظاهرة الجهل والأُمّیة ویتحرّک باتّجاه فضاء العلم والمعرفة والتقدم.

وعلی هذا الأساس فإنّ عنصر الزمان یلفت نظر المجتهد إلی وجود ضرورات جدیدة فی حرکة الحیاة والواقع، ویؤدّی بالتالی إلی تغییر فتواه.


1- نهج البلاغة، الحکمة 17.
2- ورد بحث مفصّل فی هذا الکتاب حول تأثیر الزمان والمکان فی الأحکام( انظر إلی بحث« دور الزمان والمکان فی الاستنباط»، ص 251).

ص: 448

3. انفتاح باب الاجتهاد

تقدّم فی فصل «انفتاح باب الاجتهاد» من هذا الکتاب، والذی یعتبر أحد رموز دینامیّة وحیویّة الفقه الشیعی، هو الاعتقاد بانفتاح باب الاجتهاد، القائلون بامتداد المطلق لیس لهم طریق للجواب عن المسائل المستحدثة التی لم تقع فی الماضی، والاعتقاد بانسداد باب الاجتهاد أدّی إلی رکود الفقه وتأخّره وبالتالی حیرة المسلمین فیما یتّصل بالمسائل المستحدثة(1).

4. تقسیم الأحکام إلی تأسیسیة وإمضائیة

ومن جملة الأمور التی تعتبر عنصراً لاستیعاب وشمول الشریعة الإسلامیة لکافّة مناحی الحیاة والحاجات البشریة، وبالتالی تهیئة الأرضیة لحلّ المسائل المستحدثة، هو أنّ الشریعة الإسلامیة تملک إلی جانب القوانین التأسیسیة، قوانین إمضائیة أیضاً، لأنّه عندما نری من جهة أنّ الإسلام أقرّ الکثیر من القوانین الاجتماعیة التی کانت متداولة بین العقلاء لحلّ مشاکلهم فی الحیاة والتی تتّصل بالعلاقات الاجتماعیة واعترف بها مع بعض الإصلاحات، وببیان آخر: إنّ الفقه الإسلامیّ ولغرض تأمین الحاجات القانونیة المختلفة لم یطرح قوانین تأسیسیة دائماً، بل إنّه فی أغلب الموارد أمضی ما حکم به العقل والتجربة البشریة بعد إجراء بعض الإصلاحات علیها، یعنی أنّه أضاف إلیها قیداً أو حذف منها قیداً معیّناً، ومن جهة أخری نری أنّ الکثیر من سیرة العقلاء الفعلیة التی تظهر بشکل قوالب جدیدة، کانت فی أصلها ومضمونها بشکل آخر من بناء العقلاء فی زمان الشرع، وفی الحقیقة أنّ مثل هذه الأحکام التی وقعت مورد إمضاء الشارع هو ما یتّصل بروحها وجوهرها، وبما أنّ الشکل والقالب الفعلیّ یعتبر مصداقاً لذلک الجوهر، فإنّها تعتبر من الأحکام الإمضائیة.

ومن ضمّ هذین الأمرین نخرج بهذه النتیجة، وهی أنّ إمضاء الکثیر من القوانین والمقررات العقلائیة یعتبر أحد الطرق التی توفّر الحلّ والخروج من المضائق القانونیة فی المسائل المستحدثة.

وعلی أیّة حال، فإذا ثبت وجود موضوع جدید بشکل مقرّرات عقلائیة، فبالرغم من أنّ القالب جدید ظاهراً ولکنّ جوهره ولبّه کان موجوداً فی عصر المعصومین علیهم السلام فی قالب آخر، ویستفاد من عدم ردع المعصوم وسکوته، أنّ هذا الحکم وقع مورد إمضاء الشارع ویحکم بالتالی بأنّه حکم شرعیّ إسلامیّ.

والجدیر بالذکر أنّ هذا لا یعنی عرفیّة الأحکام، کما تحدّث بذلک بعض المثقّفین المعاصرین، وسیأتی فی الفصل الثامن عشر من فصول هذا الکتاب بحث هذا الموضوع تحت عنوان «الأحکام الإمضائیة والتأسیسیة وعرفیّة الأحکام».

البحث الثالث: القواعد و الضوابط الحاکمة علی المسائل المستحدثة

1. حقیقیة القضایا للأحکام الشرعیة

المعروف أنّ کل قضیة تنقسم إلی قسمین: قضیّة خارجیّة وقضیّة حقیقیّة.


1- الفصل الثامن من فصول هذا الکتاب، القسم الأخیر من« انفتاح باب الاجتهاد».

ص: 449

أمّا القضایا الخارجیّة فهی القضایا التی یکون الموضوع فیها ثابتاً للأفراد الموجودین فی الواقع الخارجی. مثلًا عندما یقول شخص (أنا ارتبط مع العلماء) فیعنی أنّ ارتباطه مع العلماء الموجودین فی العالم الخارجی، لا کلّ شخص عالم کان یعیش فی الماضی أو سوف یعیش فی المستقبل.

أو عندما یقال مثلًا «قدّموا کتاباً هدیة لکلّ طالب جامعیّ» فالمقصود من الطلّاب الذین یستحقّون هذه الهدیة، هم الموجودون فی الخارج.

وأمّا القضایا الحقیقیّة فلا تختصّ بالأفراد الموجودین فعلًا فی الخارج، بل إنّ الحکم فیها تابع لموضوعها، سواء کان موجوداً فعلًا أم موجوداً قبل ذلک وما سیوجد فی المستقبل أیضاً.

بل ربّما لا یکون فی الزمان الحاضر مصداق خارجیّ، ولکن مع ذلک فالحکم فیها صحیح، مثلًا قضیة

(النار حارّة)

هی قضیة حقیقیة وتشمل مصادیق النار فی السابق والحاضر والمستقبل حیث یصدق علیها الحکم بأنّها حارّة، حتّی لو لم یکن هناک مصداق خارجیّ للنار حین إطلاق هذا الکلام.

ولا شکّ فی أنّ أغلب الأحکام الشرعیة التی طرحت بشکل قضیة، فإنّها من قبیل القضایا الحقیقیة، سواء کانت فی إطار قضیة حقیقیة مثل

«الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»(1)

أم فی إطار قضیة إنشائیة مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) فکلّ هذه القضایا هی من قبیل القضایا الحقیقیة لا من قبیل القضایا الخارجیة، وعلیه فإنّ مصادیق هذه القضایا لا تنحصر فی زمان صدور الحکم وما کان موجوداً فی عصر الأئمّة الطاهرین، بل تشمل جمیع المصادیق التی کانت موجودة فی ذلک الوقت وسوف توجد فی المستقبل وتستوعب کلّ أفراد الزمان والمکان إلّاإذا ورد دلیل معتبر علی الاستثناء فی بعض الموارد الخاصّة.

وهذا المطلب یمثّل حقیقة فی سیاق النصوص الشریفة وخاصّة بالنسبة للآیات القرآنیة- کما ذکر آنفاً- التی تصرّح بعالمیة هذا الدین وتوجّه خطابها لجمیع أفراد البشر إلی یوم القیامة. وإن کان الخطاب موجّهاً حسب الظاهر إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، أو إلی الناس الموجودین فی ذلک الزمان.

وعلی هذا الأساس، فنحن نعتقد بأنّ أحکام المسافر شاملة لکلّ المسافرین فی کلّ عصر وزمان ومنهم المسافرون فی عصرنا الحاضر الذین یستخدمون وسائط النقل السریعة ولا تختصّ بالأزمنة القدیمة، إلّا أن یقوم دلیل معتبر علی کون هذه الأحکام مقیّدة بزمان خاصّ.

وهکذا بالنسبة للأحکام الواردة فی ماء الحمّام حیث تشمل الحمّامات الموجودة فی زماننا هذا وإن کانت هذه الحمّامات تختلف کثیراً عن الحمّامات التی کانت موجودة فی عصر المعصومین علیهم السلام، أو الأحکام الواردة فی ماء البئر، فهذه الأحکام تشمل فی مدلولها الآبار العمیقة فی عصرنا والتی لم یکن لها وجود فی الأزمنة السابقة.

ویمتدّ هذا البحث إلی مسألة «القیمیّ» و «المثلیّ» حیث نشهد فی هذا العصر منتوجات صناعیة کثیرة لم تکن فی السابق، کأنواع الألبسة والأطعمة ووسائط النقل والأثاث المنزلی وأمثال ذلک.


1- وسائل الشیعة، ج 15، ص 30، باب 19 من أبواب المهور، ح 4.
2- سورة المائدة، الآیة 1.

ص: 450

النتیجة، أنّ أحکام الشرع فی الغالب علی شکل قضایا حقیقیة، فإذا کانت من جملة القضایا الخارجیة فإنّها تختصّ بالمصادیق التی کانت موجودة فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله أو الأئمّة الأطهار علیهم السلام ولا تشمل المصادیق التی وجدت بعد ذلک.

ومع الالتفات إلی هذا المعنی یکون بإمکاننا حلّ الکثیر من المسائل المستحدثة.

ونشیر هنا إلی موارد من هذه المسائل الجدیدة- والتی سبقت الإشارة إلیها فی البحوث السابقة- ممّا یدخل ضمن هذه القاعدة المذکورة:

ألف) الآیة الشریفة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) تجری فی جمیع العقود، سواء کانت متداولة فی عصر الأئمّة علیهم السلام أم وجدت فی عصرنا الحاضر من قبیل عقود شرکات التأمین علی الحیاة، لأنّ هذه القضیة من قبیل القضایا الحقیقیة وتشمل جمیع العقود، حتی العقود التی سوف تتحقّق فی المستقبل أیضاً، ولا شکّ أنّ التأمین بدوره عقد من العقود ویدخل فی عموم «أوفوا ...» ولا دلیل علی تخصیص هذا العام وحصره بالعقود التی کانت موجودة فی زمان النصّ وعصر المعصومین علیهم السلام.

ب) إنّ کلّ أشکال الشرکات الجدیدة التی لم تکن فی السابق، وبذلک تکون مشمولة لهذه القاعدة إذا توفّرت فیها الشروط الکلّیة للعقود.

ج) إذا قلنا إنّ السرقفلیّة بمثابة عقد جدید لا أنّها شرط ضمن عقد الإجارة، فإنّها ستندرج أیضاً فی هذه القاعدة.

وبالطبع فمن الواضح أنّ جمیع العقود الجدیدة یجب أن تتوفرّ فیها الشروط العامّة المعتبرة لدی الشارع فی العقود من قبیل أن یکون الثمن والمثمن معلومین (علی فرض جریان حکم الغرر فی جمیع العقود) وعدم تعلیقه علی الإنشاء، وتوفّر شرط البلوغ والعقل والرشد والاختیار وغیرها من الشروط المعتبرة والتی لا یقع العقد صحیحاً بدونها.

د) وعلی أساس القاعدة المذکورة تصحّ المضاربة بالعملات الورقیة فی العصر الحاضر، وأیضاً الصکوک الاعتباریة وأمثالها، بل إنّ تلک العمومات والإطلاقات تسمح لنا باستثمار الأموال فی غیر دائرة التجارة کالزراعة والصناعة وغیرها وإن لم یصدق علیها اسم المضاربة ولا تجری علیها أحکام المضاربة (إذا کنّا نعتقد بوجود أحکام خاصّة للمضاربة) لأنّه عندما یستثمر الإنسان ماله عند شخص آخر ویقول له: إنّنی أدفع لک هذا المال وتقوم أنت باستثماره فی الصناعة مثلًا علی أن یکون الربح بالتنصیف» فإنّ هذا العقد یندرج تحت قاعدة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وبمقتضی إطلاق هذه الآیة الشریفة وسائر الإطلاقات والعمومات الأخری، یجب العمل وفق هذا العقد.

ومع الالتفات إلی هذا المعنی فانّه یجوز بیع وشراء أسهم الشرکات والمؤسسات الصناعیة وغیر الصناعیة وتقسیم الأرباح بین أصحاب الأسهم، لأنّ هذا الأمر یعدّ عقداً لدی العرف والعقلاء، حیث تتوفّر فیه الشروط الشرعیة للعقود المعتبرة، ولهذا فسیندرج هذا العقد ضمن العمومات فی هذه الدائرة وإن لم یدخل فی أیّ من العقود والمعاملات المعروفة والمشهورة.

ه) وتدخل أیضاً فی هذه العمومات «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، المعاملات غیر الحضوریة التی تتمّ بواسطة الهاتف والانترنیت وأمثال ذلک، فلا مانع من القول


1- سورة المائدة، الآیة 1.

ص: 451

بصحتّها سوی الموارد التی قام دلیل معتبر علی تخصیصها وتقییدها. وطبعاً هل یمکن تصوّر خیار المجلس فی مثل هذه المعاملات أم لا؟ هذا بحث لایسع المجال لبحثه هنا.

***

وعلی أیّة حال، فمع الالتفات إلی حقیقة قضایا الأحکام، فإنّ إطلاقات وعمومات الأدلّة اللفظیة لا تنحصر بالمصادیق الموجودة فی عصر صدور النصّ أو الأزمنة المقارنة له، بل تشمل جمیع المصادیق علی امتداد الزمان والتی تظهر بالتدریج أیضاً. ومعلوم أنّه أحیاناً توجد فی سیاق النصّ بعض القرائن، تدلّ علی انصراف إطلاق الأدلّة بالنسبة لبعض المصادیق المستحدثة، ففی مثل هذه الموارد لا یمکن التمسّک بإطلاق الدلیل وإصدار حکم عامّ لجمیع الأفراد.

توضیح ذلک: المعروف أنّ الإطلاق لا یستوعب جمیع مصادیق الموضوع لحکم معیّن إلّاإذا توفّرت مقدّمات الحکمة الأربع، بمعنی: أولًا: أن یکون المتکلّم فی مقام بیان الحکم، ثانیاً: أن لا یوجد بیان آخر فی خصوص الموضوع مورد البحث، الذی هو السبب فی تعین المطلق فی بعض الأفراد. ثالثاً: إنّ المطلق لیس له انصراف لبعض المصادیق الخاصّة له، رابعاً: أن لا یوجد قدر متیقّن فی مقام التخاطب (1).

ویبدو أنّ المقدّمة الرابعة غیر معتبرة، لأنّه قلّما یوجد إطلاق لا یتضمّن قدر متیقّن، وفی النتیجة فإنّ قبول هذه المقدّمة یستلزم سقوط أغلب الإطلاقات (2)، وخاصّة بالنسبة للإطلاقات التی ورد فیها شأن النزول أو أنّها صدرت فی مورد خاصّ، فی حین أنّ المعروف والمشهور بین العلماء أنّ شأن الورود لا یدلّ علی تخصیص الحکم.

أمّا سائر مقدّمات الحکم فإنّها مقبولة ولا شکّ فی اعتبارها.

والکلام فقط فی مورد المقدّمة الثالثة، یعنی عدم الانصراف، فینبغی القول أوّلًا أنّ هذه المقدّمة تعود إلی المقدّمة الثانیة، لأنّها سبب التعیین. بالنسبة للإنصراف، وثانیاً، لابدّ من توضیح هذه النقطة، وهی أنّ منشأ الإنصراف عادة أُنس الذهن ببعض مصادیق ذلک المطلق، ولهذا الأُنس علل وعوامل مختلفة، منها غلبة وجود تلک ا لمصادیق التی ینصرف إلیها الذهن، رغم أنّ جماعة من الفقهاء لا یرون الغلبة الوجودیة کافیة للانصراف ویعتقدون أنّ الغلبة فی الاستعمال هی الموجبة للانصراف.

مثلًا عندما یقال أنّ مقدار الکرّ ثلاثة أشبار ونصف فی ثلاثة أشبار ونصف فی ثلاثة أشبار ونصف، فإنّه یتبادر إلی ذهن الإنسان من کلمة شبر مقدار کفّ الشخص المتوسّط والغالب، لا الأشبار الکبیرة جدّاً ولا الصغیرة جدّاً، لأنّ أغلب الأشبار هی بالمقدار المتوسط والنوعان الآخران یعتبران من المصادیق الشاذّة والنادرة.

وکذلک فی مقدار ما یجب غسله من الوجه فی الوضوء، حیث ورد أنّه بمقدار ما دارت علیه الإبهام والوسطی، حیث ینصرف هذا المقدار إلی المتعارف بین الناس لا الأصابع الطویلة ولا الصغیرة، وهناک أمثلة أخری لهذه المسألة یتمّ فیها انصراف الإطلاقات إلی


1- کفایة الأصول، طبعة انتشارات جماعة المدرسین، ج 2، ص 213.
2- وهناک إشکالات أخری واردة علی اعتبار هذه المقدمة أیضاً، وللمزیدمن التفصیل راجع: أنوار الأصول، ج 2، ص 207، الطبعة الثانیة.

ص: 452

الفرد الغالب، فالمعیار هو الفرد الغالب (وأحیاناً یتمّ إلغاء الخصوصیة وإلغاء التفاوت الموجود بین الفرد الغالب والمتعارف وبین سائر الأفراد، وبالتالی نجری الحکم لجمیع الأفراد والمصادیق بشکل واحد. وبدیهیّ أنّ ذلک یکون فیما لو حصل لدینا یقین بعدم وجود خصوصیة معیّنة للفرد الغالب).

وعلی سبیل المثال، أنّ من جملة الأسئلة التی تطرح فی هذا المجال، السؤال عن حکم الأسلحة الثقیلة کالطائرات والدبّابات و المدافع المضادّة للطائرات وأمثال ذلک، التی یغنمها المسلمون من أعداء الإسلام، فهل الآیة الشریفة: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَی ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ»(1) تدلّ علی أنّ المقاتلین فی هذا الزمان یملکون أربعة أخماس الغنائم الحربیة ویجب علیهم دفع خمس هذه الغنائم إلی الحاکم الشرعی وبالتالی فإنّ الغنیمة تشمل هذه الأسلحة الثقیلة أیضاً.

وفی مقام الجواب عن السؤال نقول: إنّ الآیة المذکوة منصرفة عن الأسلحة الثقیلة وأمثالها بدلیلین:

1. إنّ نفقات الجیش الإسلامیّ فی عصرنا الحاضر بعهدة الحکومة بخلاف ما کان فی صدر الإسلام.

فالحکومة الإسلامیة فی هذا العصر تتحمّل نفقات الحرب من توفیر وسائل النقل والأسلحة والطعام والدواء ونفقات علاج المجروحین والمعلولین والرواتب الشهریة للمقاتلین، بل تتضمّن هذه النفقات ما تدفعه الحکومة إلی أُسر الشهداء والنفقات الأخری المتعلّقة بها. فی حین أنّ جمیع هذه النفقات فی زمان نزول الآیة الشریفة والعصور القربیة من ذلک العصر کانت بعهدة المقاتلین أنفسهم. ومن هنا کان الفارس یأخذ سهمین والراجل یأخذ سهماً واحداً من الغنائم الحربیة فی ذلک الوقت، لأنّ الفرسان یتحمّلون نفقات أکثر بما لدیهم من دوابّ. وبالطبع فأحیاناً یتمّ دفع بعض الامتیازات لبعض المقاتلین، وخاصّة الفقراء منهم.

ولکنّ هذه الامتیازات لا تستوعب جمیع حاجاتهم، ولهذا السبب یمکن القول أنّ الآیة الشریفة منصرفة عن الغنائم الحربیة فی عصرنا الحاضر.

2. إنّ الأسلحة وأدوات القتال فی عصرنا الحاضر تحتاج إلیها الحکومات فقط ولیس لها مصارف واستعمالات شخصیّة، بمعنی أنّ الأشخاص لا یمکنهم الاستفادة من هذه الأسلحة فی حیاتهم الشخصیة وإن أمکنهم الاستفادة من ثمنها بعد بیعها، ولکن لا دلیل علی إمکان وجواز بیع هذه الأسلحة الثقیلة من قِبل الأشخاص. ولهذا یمکن القول بانصراف آیة الغنیمة عن المصادیق المذکورة فی هذه المسألة.

وعلی أیّة حال، فالکثیر من التحوّلات والمتغیّرات فی حیاة البشریة تنخرط فی ظلّ القواعد الکلیة الواردة فی القرآن الکریم والروایات الشریفة علی شکل عمومات وإطلاقات، وبالتالی فهی قابلة للحلّ، مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ»(3) و «الصُّلْحُ خَیْرٌ»(4) و

«الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِم»(5)

فالقواعد المذکورة تستوعب جمیع العقود والمعاملات التی تملک الشروط الشرعیة العامة، حتّی العقود المستحدثة بین الأشخاص بل تشمل العقود بین الدول أیضاً.

وکذلک ما ورد فی الآیة الشریفة 135 من سورة


1- سورة الأنفال، الآیة 41.
2- سورة المائدة، الآیة 1.
3- سورة البقرة، الآیة 275.
4- سورة النساء، الآیة 128.
5- وسائل الشیعة، ج 15، ص 30، الباب 19 من أبواب المهور، ح 4.

ص: 453

النساء التی تقول: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ». لأنّ القیام بالقسط یملک مساحة واسعة فی واقع المجتمع البشریّ بحیث تنطبق الآیة الشریفة علی جمیع مصادیق القیام بالعدل والقسط.

2. العناوین الثانویّة

اشارة

إنّ المسائل المستحدثة تندرج فی کثیر من الأحیان ضمن دائرة العناوین الثانویة، ولهذا نری من الضروریّ البحث فی حقیقة العناوین الثانویة وبیانها، وکذلک تبیین سعة هذه القوانین، وفی النهایة بالإمکان بیان عدّة نماذج من المسائل المستحدثة التی یمکن حلّها بتطبیق هذه العناوین:

أ) تعریف العناوین الثانویّة

تقدّم فی ما سبق أنّ لکلّ حکم موضوعاً خاصّاً به، وهذا الموضوع یلاحظ تارة بدون الالتفات إلی عوارضه ویتمّ تقسیمه إلی أقسام وأنواع وأفراد، وتارة أخری یلحظ مع عناوینه العارضة علیه والتی توجب تغییر الحکم الشرعی له، مثلًا حرمة اللحوم التی لم تذبح بالطریقة الشرعیة، فهذا عنوان أوّلی، ولکن إذا واجه الإنسان مشکلة ولم یکن لدیه سوی هذا اللحم، أو کان یعیش فی بلدان لا یتوفّر فیها الذبح الإسلامی ویواجه الخطر علی سلامته إذا لم یتناول هذا اللحم، فهنا یجوز له تناول هذه اللحوم من موقع الاضطرار، کما وردت الإشارة إلیه فی الآیة 3 من سورة المائدة(1)، فهذا (عنوان ثانوی).

مثال آخر: إنّ حفر البئر، سواء کانت بئراً عمیقة أو نصف عمیقة أو غیر عمیقة، هو بحدّ ذاته عمل مباح.

ولکن إذا صار مقدّمة لتحصیل الماء والوضوء والغسل فسیکون واجباً، علی أساس کونه مقدّمة الواجب وبدیهیّ أنّ هذا العنوان الطاری ء علیه لیس عنواناً ذاتیاً للموضوع، ومن هنا یطلق علیه العنوان الثانوی.

ومن هذا القبیل ما عرف بمسألة تحریم استعمال التبغ التی أفتی بها المیرزا آیة اللَّه الشیرازی الکبیر(2) لمواجهة تغلغل أعداء الإسلام واستیلائهم علی مقدّرات المسلمین وحفظ عزّة المسلمین وقدرتهم من هذا القبیل، لأنّ استعمال التیغ طبقاً لفتاوی الفقهاء فی ذلک الزمان جاز بالعنوان الأوّلی، ولکن مع عروض عنوان استیلاء الکفّار وأمثاله صار حراماً.

ب) شمولیّة العناوین الثانویّة

لا تنحصر العناوین الثانویّة، کما یتصوّر البعض فی «الاضطرار» و «الضرورة» بل لها أقسام وأنواع کثیرة من العسیر عدّها، ولکن نشیر هنا إلی أهمّها:

أ) «الاضطرار» کما تقدّم توضیحه فی المثال السابق.

ب) «الإضرار بالنفس» کما إذا علم المریض أنّ تناول الطعام الفلانیّ المباح یؤدّی إلی وفاته وهلاکه، فهنا یکون تناول هذا الطعام حراماً بالعنوان الثانوی للإضرار.


1- « حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِیرِ ... فَمَنِ اضْطُرَّ فِی مَخْمَصَةٍ غَیْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ».
2- السّید محمّد بن محمود المعروف بالمیرزا الشیرازی المولود عام 1230 ه. ق والمتوفّی 1312 من عظام فقهاء الشیعة. وفی سنة 1291 ه. ق قامت الدولة العثمانیة التی کانت ترید نقل المرکز الدینی للشیعة إلی شمال العراق بإجباره علی الإقامة فی سامراء، وفی هذه المدینة بالذات أصدر المیرزا الشیرازی فتواه الشهیرة بتحریم استعمال التبغ للإیرانیین عندما فوّضت الحکومة أمر التبغ لشرکة بریطانیة وأدّی ذلک إلی إلغاء هذا الامتیاز ووجّه ضربة حاسمة لمخططات الانکلیز( انظر: قاموس دهخدا، ج 12، ص 595).

ص: 454

ج) «الإضرار بالغیر» فحفر البالوعة فی باحة الدار عمل مباح وجائز، ولکن إذا أوجب الضرر علی الجار سیکون حراماً بالعنوان الثانوی وإلی هذا القسم یشیر الحدیث النبویّ المعروف لسمرة بن جندب (1).

د) «العسر والحرج الشدیدین» وهما من أقسام العناوین الثانویة، مثلًا إذا کان الصوم غیر مضرّ للحامل والشیخ والعجوز ولکنّه یؤدّی إلی وقوعهم بحرج ومشقّة شدیدة، فهنا یجوز لهم الإفطار بهذا العنوان.

ه) «مقدّمة الواجب» مثل ما تقدّم من مثال حفر البئر لتحصیل الماء للوضوء والغسل، ومن هذا القبیل أیضاً ما یقع مقدمّة لحفظ النظام.

و) «مقدّمة الحرام» وهی أیضاً من أقسام العناوین الثانویة، فاستعمال التبغ فی الفتوی المعروفة للمیرزا الشیرازی یمکن أن تکون من هذا القبیل، لأنّ استعمال التبغ یعتبر مقدّمة للحرام وهو استیلاء الکفّار، فصار حراماً من باب مقدّمة الحرام.

ز) «المعاونة علی الأمور الواجبة، أی لتحقیق الواجبات الشرعیة». من قبیل ما إذا کان جهاد الأعداء غیر ممکن إلّامن خلال دعم الشعب، ففی هذه الصورة تکون هذه الإعانة المالیة واجبة.

ح) «الإعانة علی الإثم»؛ أی مساعدة الظالم ومن یرتکب المحرّمات، مثل بیع العنب لمن یصنع منه خمراً مع قصده فی البیع لهذا العمل، وفرق هذا المورد عن عنوان مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام هو أنّ الإعانة هذه تتحقق بفعل الغیر، وأمّا مقدّمة الواجب والحرام فإنّه یتمّ تحقیقها من خلال فعل الفاعل نفسه.

ط) «قاعدة الأهمّ والمهمّ» وهی أیضاً من أقسام العناوین الثانویّة. کأن یدور الأمر بین التصرّف فی مال الغیر وبین نجاة النفس المحترمة، فهنا وطبقاً لقاعدة الأهمّ والمهمّ یجوز التصرّف فی ملک الغیر لإنقاذ النفس المحترمة.

ی) النذر والعهد والقسم، وهذه العناوین الثلاثة تعمل علی تحریم الشی ء المباح علی الإنسان أو توجبه علیه.

ج) حلّ عدّة نماذج من المسائل المستحدثة بتطبیق العناوین الثانویة:

1. شقّ الطرق والشوارع

من جملة حاجات الإنسان المعاصر وخاصّة فیما یتّصل بحیاته فی المدن، إنشاء طرق وشوارع عریضة متناسبة مع وسائط النقل الموجودة فی تلک المدن وشدّة حرکة المرور فیها، ولکن هذه المسألة تواجه مشکلة، وهی لزوم تخریب بیوت الکثیر من الأشخاص التی تقع فی مسیر هذه الطرق والتصرّف فیها، فماذا ینبغی عمله؟

توضیح ذلک: لا شکّ فی أنّ الإنسان المعاصر لا یمکنه التنقّل من مکان إلی آخر بالوسائط القدیمة کالدوابّ، حیث یستخدم فی هذا الزمان الوسائل السریعة والمریحة لنقل الأشخاص و ما یحملونه من لوازم شخصیة، ولو تحرّکت الحکومة فی بلد من البلدان للعودة إلی الماضی وفرض السفر بالدوّاب علی الناس فی داخل المدن أو خارجها واجتناب استخدام الوسائط الجدیدة فی النقل والصناعة والزراعة، وکذلک ترک الاستفادة من الأسلحة الثقیلة فی الحرب مع الأعداء والاکتفاء بالسیف والرمح، فمن البدیهیّ أنّ مثل


1- وسائل الشیعة، ج 17، ص 340، الباب 12 من أبواب إحیاء الموات، ح 1 و 2.

ص: 455

هذا البلد یعتبر أکثر البلدان تخلّفاً وفقراً وتبعیّة، ومثل هذا النظام سینهار عاجلًا أم آجلًا ولا یمکنه الإنطلاق فی مسیرة العمران والتنمیة والتقدّم.

مضافاً إلی ذلک فإنّ هذا العمل بذاته مخالف لکلام اللَّه تعالی الذی یقول فی الآیة 60 من سورة الأنفال:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ».

وکذلک یتنافی مع الآیة 141 من سورة النساء التی تقول: «لَنْ یَجْعَلَ اللَّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلًا».

وکذلک یتنافی مع الحدیث الشریف الذی یتضمّن المخالفة أیضاً لروایة:

«الْإِسْلام یَعْلُو وَلا یُعْلی عَلَیْهِ»(1).

وعلی هذا الأساس فالآیات القرآنیة والروایات الشریفة والعقل، کلّها تحکم علی الإنسان بضرورة الاستفادة من وسائل حدیثة ومفیدة فی کلّ عمل یروم القیام به. وبدیهیّ أنّ الاستفادة منها یتطلّب توفیر مقدمات لازمة، مثلًا استخدام السیارات ووسائط النقل الحدیثة یحتاج إلی شوارع عریضة وشبکة من الطرق الحدیثة، ولا یمکن الاستفادة من الأزقّة والشوارع الضیقة التی کانت تستخدم قبل مئات السنین.

هذا من جهة، ومن جهة أخری فإنّ تخریب بیوت المسلمین والتصرّف فی أملاکهم وأموالهم لا یجوز بدون إذنهم وإحراز رضاهم، لأنّه لا یحقّ لأحد عقلًا وشرعاً التصرّف فی مال الآخر بدون إذنه وطیب خاطره. ومع الالتفات إلی هذین المحظورین ودوران الأمر بینهما، فالواجب من خلال تطبیق قاعدة الأهمّ والمهمّ، الأخذ بالأهمّ وتأخیر المهمّ.

وبدیهیّ أنّ حفظ عزّة المسلمین أهمّ. وعلیه فالواجب التحرّک علی مستوی الاستفادة من التطوّر العلمیّ والتکنولوجیّ للبشریة أکثر، وتحمّل لوازم هذا التطوّر العلمیّ، ولکن لا شکّ فی ضرورة تعویض أصحاب البیوت والعقارات التی تقع فی مسیر هذه الطرق بشکل عادل.

ومن هذا القبیل، مثلًا إذا تقرّر الإستفادة من العجلات وسائط النقل الحدیثة فی حرکة السیر من دون رعایة مقرّرات وضوابط خاصّة فسوف نواجه کلّ یوم حوادث ألیمة تتمثّل فی مقتل الکثیر من الأشخاص والخسائر المالیة الکثیرة التی تنجم من عدم الانضباط فی حرکة المرور، فیجب من باب مقدّمة الواجب «أی حفظ نفوس الناس وأموالهم، بل حفظ نظام المجتمع» أن نضع قوانین ومقرّرات لتنظیم المرور والسیر، ونلزم الناس بالعمل بها لمنع حدوث مثل هذه الحوادث المرّة.

وکما تقدّم فإنّ مقدّمة الواجب تعتبر من أقسام العناوین الثانویة، ومعلوم أنّ وجوب رعایة قوانین المرور تعدّ مقدّمة لتحقیق واجب آخر وهو حفظ النفس والمال والنظام الاجتماعی.

2. تشریح أجساد الموتی

لا شکّ فی أنّ حفظ النفس واجب، وأحیاناً یکون تشریح أجساد الموتی مقدّمة لهذا المهمّ، وبما أنّه لا یتسنّی دائماً الاستفادة من أجساد غیر المسلمین لهذا الغرض، فلابدّ من الاستفادة أحیاناً من أجساد موتی المسلمین فی عملیة التشریح.

وهنا یدور الأمر بین حفظ حرمة هذه الأجساد من جهة، وبین حفظ النفوس من جهة أخری، وبدیهیّ أنّ حفظ النفوس أهمّ من حفظ حرمة أجساد موتی المسلمین. وهنا وبالإستعانة بقاعدة الأهمّ والمهمّ


1- وسائل الشیعة، ج 17، ص 460، الباب 15 من أبواب میراث الأبوین، ح 2.

ص: 456

یتسنّی لنا حلّ هذه المشکلة، ولکن ینبغی الالتفات إلی ضرورة الالتزام بمقدار ما تقتضیه هذه القاعدة، وعدم تجاوز حدودها.

3. الخسارة الزائدة علی الدیة

أحیاناً لا تکفی الدیة لتعویض الخسائر الناشئة عن الجرم، لأنّ نفقات العلاج والعوارض الناشئة من الجرم تزید أحیاناً علی الدیة المقرّرة، فهل یمکن التمسّک بقاعدة (لا ضرر) لأخذ النفقات التی تزید علی الدیة من الجانی؟ من المعلوم یقیناً جواز ذلک، فکیف لا یمکن إجبار الجانی علی دفع نفقات هذه الخسائر والأضرار الواردة علی المجنّی علیه فی حین أنّ قاعدة «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام» تستوعب فی تفاصیلها أمور وخسائر أقل من ذلک.

4. عسر وحرج الزوجة

اشارة

أحیاناً تعیش الزوجة الضرر الکبیر فی مالها أو بدنها أو عرضها بسبب سلوکیات الزوج وتعامله السلبیّ معها، بحیث أنّ بقاء العلاقة الزوجیة لهذه الزوجة توجب الوقوع فی العسر والحرج الشدیدین.

وقد ذهب البعض إلی أنّ قاعدة «لا ضرر» و «لا حرج» تنفیان الأحکام الضرریة والحرجیة وتمنع من وقوعهما ولکنّها لا تجعل حکماً شرعیاً بذاتها. وعلیه لا یمکن إصدار حکم الطلاق بالتمسک بهاتین القاعدتین، وکذلک بالنسبة للزوم دفع ما زاد علی الدیة فی المسألة السابقة.

ولکنّنا أثبتنا فی کتاب «القواعد الفقهیّة» أنّ القاعدتین المذکورتین تصلحان لنفی الحکم وإثباته أیضاً(1)، بل إنّ مورد صدور حدیث قاعدة (لا ضرر) (حدیث سمرة بن جندب) یعکس إثبات حکم شرعیّ لا نفی الحکم. وللمزید من توضیح هذه المسألة راجع الکتاب المذکور.

ما تقدّم ذکره یمثّل أربعة نماذج فقط من المسائل المستحدثة التی یمکن حلّها بطبیق العناوین الثانویة، ومن الواضح أنّ عدد هذا القبیل من المسائل المستحدثة أکثر بکثیر من هذا المقدار.

التذکیر بأمور مهمّة:
1. إنّ العناوین الثانویّة علی قسمین:

أحدهما ما یکون إفرازاً للضرورات التی تواجه الإنسان فی واقع الحیاة، ومن الطبیعی أنّ دائرة هذا القسم من العناوین الثانویة یکون بمقدار الضرورات ولا یجوز تجاوز هذا الإطار من جهة الزمان والمکان وسائر الخصوصیات الأخری. مثلًا جواز أکل ذبیحة غیر المسلم فی حال الضرورة أو فی مکان لا یوجد فیه طعام غیر هذا للحم، ویتوقّف علیه حفظ نفس المسلم، لا شکّ فی أنّه یجوز التناول من هذا اللحم بمقدار رفع الخطر وبما یحقّق نجاة النفس فقط.

ولکنّ القسم الثانی لیس کذلک، فربّما یمتدّ مثل هذا الحکم لمدّة قرون عدیدة، من قبیل جواز تشریح الأجساد لغرض البحث والتحقیق فی العلوم الطبیة فی العصر الحاضر، وجواز شقّ الطرق والشوارع ومراعاة قوانین المرور وأمثال ذلک.

فی القسم الأوّل نری أنّ حدود الموضوع یجب أن


1- انظر إلی کتاب: القواعد الفقهیّة، تألیف آیة اللَّه العظمی مکارم الشیرازی، ذیل القاعدتین المذکورتین.

ص: 457

تکون مشخصة معیّنة بالکامل، وبالطبع فإنّ ذلک لیس بعهدة الفقیه، فالفقیه یصدر فتواه علی موضوع کلّی، وعلی المقلِّد أن یتعرّف علی مصادیقه فی الخارج.

ولکنّ المجتهد الذی یملک مقام ولایة الأمر یتصدّی من هذه الجهة لتطبیق الحکم الاضطراریّ علی الموضوع ویصدر حکماً خاصّاً بذلک، ولکن لا من جهة کونه مفتیاً، بل من جهة کونه ولیّ الأمر کما رأینا فی الحکم المعروف للمیرزا الشیرازی الکبیر بالنسبة لتحریم استعمال التبغ وأنّ التدخین فی حکم الحرب مع الإمام المهدیّ علیه السلام، مع أنّ جذور هذا الحکم کلیّ، والحقیقة هی «أنّ کلّ شی ء یؤدّی إلی ضعف المسلمین وتقویة أعداء الإسلام فهو حرام من باب مقدّمة الحرام أو الإعانة علی الإثم» وأمّا تطبیق هذه الفتوی علی خصوص استعمال التبغ فی ذلک الزمان فهو من باب إعمال ولایة الفقیه وحکمه بتلک الفتوی.

وبدیهی أنّ فی القسم الأول من العناوین الثانویة هی الضرورات التی تعدّ أموراً استثنائیة وغیر قابلة للدوام والبقاء، حیث یمکن أن تقع مورد حاجة فی برهة زمانیة معینة، وإن کانت تختلف من حیث المدّة الزمنیة، فبعضها یستغرق وقتاً أطول وبعضها الآخر أقلّ، ویتبیّن من هذا البحث أنّه لا یمکن تقنین القوانین علی أساس الضرورات لمدّة زمنیة طویلة، لأنّ معنی هذا أنّ عصر الشریعة قد ولیّ وانتهی، وأنّ الأحکام الأولیة فی الإسلام غیر قابلة لإدارة شؤون الحیاة فی الواقع الاجتماعی، ومن هنا کانت القوانین الاستثنائیة ناشئة من الضرورات وأشکال الإضطرار، حیث یلجأ إلیها الإنسان فی حالات استثنائیة، وبعبارة أخری أنّ جمیع الأحکام الثانویة تدور حول موضوعاتها، وفی کلّ وقت ینتفی ذلک الموضوع فإنّ الحکم ینتفی أیضاً، وموضوع الضرورة والاضطرار هو أمر عارض فی حیاة الإنسان وعادة ینتهی أمده بعد مدّة معینة، ولهذا لا یمکن بناء أساس الأحکام الدینیة والشرعیة علیها، لأنّ ذلک لا یتناسب مع خاتمیّة الدین الإسلامیّ، ومثل هذه الأحکام غیر قادرة علی إدارة أمور الإنسان وحلّ مشاکله فی واقع الحیاة.

وببیان ثالث: أحیاناً یعیش البلد مشاکل وأزمات معیّنة بحیث یضطرّ الحکّام لحلّ هذه الأزمات من الاعلان عن حالة الإنذار القصوی أو إعلان الأحکام العرفیة، والحال إذا عاشت البلاد فی مثل هذه الحالات الاستثنائیة أمداً طویلًا وأرادت الحکومة أن تدیر البلد وفق مقرّرات هذه الحالة الاستثنائیة، فهذا یشیر إلی أنّ هذه الحکومة قد انتهی أمدها وأصبحت تسیر فی خطّ النهایة، لأنّ الإعلان عن الأحکام العرفیة إنّما یکون مقبولًا إذا کان فی إطار محدود وزمن مؤقّت، وهکذا فی الحالات الاستثنائیة للمرضی والمصابین، فإنّه یستفاد من أجهزة التنفس الصناعی لعلاج هذه الحالة الخطرة، فلو تقرّر أن یستخدم المریض جهاز التنفس الصناعی دائماً فهذا یدلّ فی الواقع علی نهایة عمره بحیث یضطرّ إلی إدامة حیاته من خلال استخدام هذه الوسیلة. وهکذا فی مسألة الاضطرار والضرورة فی أحکام الشرع، فإنّ الضرورات تختصّ بموارد محدودة، وإذا تقرّر أن یستخدم الدین أو الشریعة هذا العنوان أو سائر العناوین الثانویة الأخری بصورة دائمیة، فهذا یدلّ علی أنّ قوانین هذه الشریعة (أی القوانین الصادرة بالعناوین الأولیة) قد فقدت مفعولها، فهذه الشریعة لیست غیر خالدة فحسب بل ستفقد مفعولها بعد مدّة وتکون قاصرة عن الإستجابة لمتطلّبات الحیاة.

ص: 458

2. اجتناب الإفراط والتفریط فی التمسّک بالعناوین الثانویة

أحیاناً نواجه الإفراط والتفریط فی عملیة الاستفادة من العناوین الثانویة، بمعنی أنّ البعض قد یتحرّک فی إطار التمسّک بالعناوین الثانویة فی مورد أو موضوع مهما کان ضئیلًا ومهما کانت المشکلة طفیفة فی حین أنّ الغالب فی أمور المعیشة والحیاة أنّها تقترن ببعض المشاکل، وجمیع التکالیف الشرعیة تحمل فی طیّاتها نوعاً من الکلفة والصعوبة، ولهذا سمّیت: تکالیف. وعلیه فلا ینبغی ترک الأحکام الشرعیة بمجرّد أن یواجه المکلّف شیئاً من الصعوبة والثقل فی واقع الممارسة والامتثال، ویتمسّک بالعناوین الثانویة فی الحکم بحلّیة جمیع المحرّمات، فهذا یعنی فتح باب الذنوب والمعاصی علی مصراعیه أمام الناس وتلوثّهم بالذنوب الصغیرة والکبیرة.

وقد رأینا فی هذا الزمان بعض الأشخاص الذین لا یملکون اطّلاعاً کافیاً علی أحکام الإسلام، یتحرّکون بأقلّ ضرورة علی مستوی الحکم بحلّیة وإباحة الذنوب الکبیرة والصغیرة، ومعه ستتعرّض جمیع أحکام الشریعة إلی خطر المحق.

ومن جهة أخری نری بعض الأشخاص یتّجهون نحو التشدّد فی الالتزام بالأحکام الأولیة وعدم العمل بقاعدة (لا ضرر) فی أبواب النکاح وأمثال ذلک، فحتّی العسر والحرج الشدیدین لا یرونهما مسوّغاً لإباحة بعض الأمور الممنوعة، فی حین أنّ الوارد فی الحدیث الشریف:

«لَیْسَ شَی ءٌ مِمّا حَرَّم اللَّهُ إلّاوقَدْ أحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إلَیهِ»(1).

وقوله تعالی: «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ»(2) ینفی علی الأقلّ الحرج الشدید عن عهدة المکلّف.

النتیجة: إنّ الاستفادة من العناوین الثانویة ینبغی أن تکون بشکل منسجم ومتعادل بدون سلوک طریق الافراط فیها ولا التفریط، وبذلک یمکن للمکلّف أنّ یتحرّک فی مقام الامتثال فی خطّ الطاعة والمسؤولیة والرسالة.

3. أصل البراءة

المعیار الثالث لحلّ المسائل المستحدثة یتمثّل فی القاعدة الکلّیة تحت عنوان: «أصل البراءة» التی تستند تارة علی العقل طبقاً لقاعدة «قبح العقاب بلا بیان»، وأحیاناً أخری تستند إلی الشارع وتسمّی «البراءة الشرعیة»، وکلا هاتین القاعدتین تهدفان لغرض کلّی وهو أنّ کلّ شی ء لم یرد فیه منع شرعیّ ولم یحکم العقل أیضاً بقبحه فإنّه مباح شرعاً، من قبیل جمیع الاختراعات، المفیدة فی القرون المتأخرة، وکذلک أنواع الفنون الریاضیة والعلوم والفنون الجدیدة.

4. الملازمة بین حکم العقل والشرع

المعیار الرابع فی حلّ المسائل المستحدثة، الملازمة بین حکم العقل والشرع، وطبقاً لهذه القاعدة فإنّه کلّما حکم العقل بصورة قطعیة وجزمیة بقبح عمل معیّن فإنّ الشرع یصدر مثل هذا الحکم أیضاً، کما أنّ العکس صحیح أیضاً، فلو أنّ الشارع أصدر حکماً واطّلع العقل علی حکمة وفلسفة ذلک الحکم، فإنّه سوف یؤیّده ویصدّقه.


1- وسائل الشیعة، ج 16، ص 137، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان، ح 17.
2- سورة الحج، الآیة 78.

ص: 459

وقاعدة الملازمة هذه یمکن الاستفادة منها فی موارد مختلفة من المسائل المستحدثة، مثلًا فی مورد «الحقوق الفکریة»، فالشخص الذی أتعب نفسه لسنوات مدیدة وأنفق عمره فی اختراع معین أو تألیف کتاب، أو أنفق مبالغ باهضة للکشف عن حقیقة معینة، فمن البدیهیّ أنّ استیلاء الآخرین علی هذه الأتعاب والتصرّف بها بدون إذنه وحتّی بدون إنفاق أقلّ وقت ومال فی هذا السبیل؛ یعتبر ظلماً لذلک الشخص المخترع أو المؤلّف، ویحکم العقل بقبحه، وقانون الملازمة یقول: إنّ الشارع أیضاً یحرّم مثل هذا الاستغلال والتصرّف بثمار أتعاب الآخرین.

***

لقد تبیّن من مجموع هذه المقالة الخطوط الکلّیة للمسائل المستحدثة وطریقة الکشف عن بعض تفاصیلها وحلّها، وقد ذکرنا بعض الأمثلة لهذه المسائل من أجل بیان نماذج للحلّ، وأمّا البحث فی مجموع المسائل المستحدثة، منها 40 مسألة التی ذکرت فی بدایة هذا البحث، فهو خارج عن موضوع هذه المقالة وسیأتی الکلام عن کل واحدة منها فی محلّه المناسب إن شاء اللَّه.

تنبیهات:

1. منطقة الفراغ لا تعتبر حلّاً جدیداً

لقد ظنّ بعض الفقهاء المعاصرین بأنّه إضافة لما مرّ، فإن هناک طریقاً آخر لحلّ المسائل المستحدثة، وهو ما سمّوه ب (منطقة الفراغ) فی حین أنّه لیس کذلک.

وللإطّلاع علی شرح وتوضیح هذه المسألة، والنقود التی وردت علیها، یراجع فصل «عدم الفراغ القانونی فی الاسلام» ص 203-/ 217 من هذا الکتاب.

2. عدم کفایة القیاس، الاستحسان، سدّ الذرائع، والمصالح المرسلة فی حلّ المسائل المستحدثة.

لقد انقطع فقهاء أهل السنّة- ومنذ رحلة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله- عن النصوص الدینیة (بسبب حرمانهم من کوثر روایات أهل البیت علیهم السلام) لذا فقد توجّهوا لحلّ المسائل المستحدثة إلی الاصول الأربعة: القیاس، الاستحسان، سدّ الذرائع، والمصالح المرسلة.

وقد طرحت مسألة صحة هذه الاصول وعدمها، وکذلک الأدلّة علی حجّیّتها، ونقد وتحلیل هذه الأدلّة، فی فصل «اسباب اختلاف فی الفتوی» ص 307-/ 355، وفصل «منابع الاستنباط فی نظر فقهاء الإسلام» ص 153-/ 199 من هذا الکتاب.

3. علم مقاصد الشریعة وعلاقته بالمسائل المستحدثة

وقد مرّ فی فصل «مکانة فلسفة الاحکام فی الفقه الإسلامی» ص 391-/ 393 من هذا الکتاب أنّ ما یطرق الإسماع بکثرة فی المحافل الفقهیة الیوم، الحدیث والبحث فی مقاصد الشریعة باعتباره مفتاحاً لحلّ الکثیر من المعضلات الفقهیّة والمسائل المستحدثة، بل إنّ البعض یذکرونه بإسم الفقه المقاصدی.

وللإطّلاع علی تفاصیل هذه القضیّة ورجوعها إلی «المصالح المرسلة» ونقدها وتحلیلها، یراجع الفصل المزبور ص 393-/ 389 وکذا فصل «أسباب الإختلاف فی الفتوی» ص 307-/ 355 من هذا الکتاب.

***

ص: 460

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. الاستفتاءات الجدیدة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، مدرسة الإمام علیّ بن أبی طالب، الطبعة الثالثة، 1381 ش.

4. بدایة المجتهد، محمّد بن أحمد بن رشد القرطبی، دارالمعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1420 ق.

5. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الثالثة، 1403 ق.

6. السنن الکبری، أحمد بن الحسین البیهقی، دارالمعرفة، بیروت.

7. الشرح الکبیر، عبدالرحمن بن أبی عمر محمّد بن أحمد بن قدامة، دارالکتاب العربی، بیروت.

8. صحیح مسلم، أبوالحسین مسلم بن الحجّاج النیسابوری، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الثانیة، 1972 م.

9. قاموس دهخدا، علی أکبردهخدا، انتشارات جامعة طهران.

10. القواعد الفقهیة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، منشورات دارالعلم، قم، 1382 ق.

11. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

12. مستدرک الوسائل، الحاج المیرزا حسین النوری الطبرسیّ، مؤسّسه آل البیت، قم، الطبعة الأولی، 1407 ق.

13. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دارصادر، بیروت.

14. المعجم الکبیر، الطبرانی، سلیمان بن أحمد بن أیوب الطبرانی، مکتبة ابن تیمیة، القاهرة، الطبعة الثانیة.

15. المغنی ابن قدامة، عبداللَّه بن أحمد بن قدامة، دار الکتاب العربی، بیروت.

16. المهذّب فی علم اصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم بن علی النملة، مکتبة المرشد، الریاض، الطبعة الأولی، 1420 ق.

17. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 461

17

القسم السابع عشر: أدلّة التقلید فی مدرسة أهل البیت و أهل السنّة

اشارة

التقلید فی اللغة والاصطلاح

التقلید فی سیاق الروایات

ضرورة التقلید فی فروع الدین

نبذة تاریخیة عن التقلید

التقلید فی أصول الدین

عدم صلاحیة مسألة التقلید، للتقلید

التقلید فی دائرة الموضوعات

تقلید الأعلم

تقلید المیّت

ص: 462

ص: 463

أدلّة التقلید فی مدرسة أهل البیت و أهل السنّة

مقدّمة:

أحیاناً یثار هذا السؤال: لماذا یجب التقلید فی الأحکام الشرعیة؟ وأساساً هل التقلید عمل صحیح؟

ینبغی علی الإنسان أن یتحرّک فی الفحص والبحث عن تکلیفه الشرعیّ من موقع التحقیق والتفکّر والتدبّر، والتقلید أی الرجوع إلی أشخاص مثله فی تشخیص ما ینبغی أو ما لا ینبغی عمله، بمعنی تجمید الذهن وتحنیط العقل، ولیس له نتیجة سوی الابتعاد عن قافلة الرشد والتطوّر والتقدم.

مضافاً إلی ذلک فإنّ القرآن الکریم تحرّک علی مستوی تقبیح عمل الجاهلیین بسبب تقلیدهم للماضین وطلب منهم التحرّک فی خطّ العقل والبصیرة والاستدلال، بل نهی بصراحة عن السیر والحرکة فی مواطن الشکّ وعدم العلم: «وَ لَاتَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(1).

وینطلق البحث فی مقام الإجابة عن هذه الأسئلة وبیان حقیقة التقلید فی الدین وأدلّة التقلید لعلماء ومراجع الدین، علی ضوء مدرسة أهل البیت علیهم السلام ومدرسة أهل السنّة، وتعیین مساحات التقلید وذلک فی إطار عدّة مسائل:

الأولی: التقلید فی اللغة والاصطلاح

أ) التقلید فی اللغة

«تقلید» مصدر «قلّد» بمعنی وضع القلادة علی رقبة الآخر، و «تقلید البدنة» بمعنی وضع علامة علی رقبة البعیر الذی یساق إلی الهدی فی موسم الحجّ.

وفی «أقرب الموارد»:

«قلّد المرأة القلادة: جعلها فی عنقها».(2)

وجاء فی «الصّحاح»:

«و تقلید الولاة الأعمال»

أی من هذا الباب نصب الولاة لتنفیذ الأعمال.

ثمّ یضیف: «ومنه التقلید فی الدین»(3) یأتی بهذا المعنی أیضاً: «وکأنّ الإنسان یضع قلادة المسؤولیة والعمل بعهدة المقلَّد».

وجاء فی «لسان العرب» هذا المعنی أیضاً.(4)

ومع الالتفات للتعاریف المختلفة الواردة فی کتب اللغة للتقلید یمکن استخلاص نقطتین من الأوجه المشترکة بینها:


1- سورة الاسراء، الآیة 36.
2- أقرب الموارد، مادّة« قلد».
3- الصحاح، ج 2، ص 527.
4- لسان العرب، ج 3، ص 367.

ص: 464

1. إنّ مفردة «تقلید» تأخذ مفعولین وتأتی بمعنی وضع القلادة علی رقبة شخص آخر، فمعنی قلَّدت الفقیه «صلاتی وصومی» یعنی وضعت مسؤولیة صحّة صلاتی وصومی بعهدة ذلک الفقیه.

2. إذا کانت «فی» تتعدّی إلی مفعول ثانٍ، فتأتی بمعنی التبعیة مثلًا

«قلَّده فی مشیه أی تبعه فیه».

ولذلک إذا قیل «إنّ الشخص الفلانی یقلّد ذلک الفقیه فی صلاته وصومه، یعنی یتبعه فی صلاته وصومه»(1).

ب) التقلید فی الاصطلاح

والمعنی الاصطلاحی للتقلید مقتبس أیضاً من معناه اللغوی، ویأتی بمعنی «رجوع الجاهل فی المسائل الدینیة للمختصّین فی هذه المسائل».

وقد أورد الفقهاء والأصولیون فی تعریفهم الاصطلاحیّ للتقلید تعبیرات مختلفة من قبیل:

1. قبول قول الغیر(2).

2. العمل بقول الغیر(3).

3. الأخذ بقول الغیر(4).

ورغم أنّ هذه التعاریف تشیر فی مضمونها إلی معنیً واحد ولکن مع التأمّل فیها من موقع الدقّة تتجلّی لنا ثلاثة مفاهیم مختلفة: 1. العمل بقول شخص آخر 2. الأخذ بقول الآخر بقصد العمل به، بدون اشتراط العمل به 3. الالتزام القلبیّ بالعمل وإن لم یأخذ الفتوی منه ولم یعمل بها(5).

جاء فی «تحریرالوسیلة»:

«التقلید هو العمل مستنداً إلی فتوی فقیه معیّن»(6).

وجاء فی «أنوار الاصول»:

«التقلید هو الاستناد إلی رأی المجتهد فی مقام العمل»(7).

ویقول الدکتور عبدالکریم النملة:

«التقلید اصطلاحاً هو قبول مذهب الغیر من غیر حجّة»

ثمّ یقول: وعلیه إذا عرف شخص دلیل وحجّیة قول المجتهد وقَبل به (مثلًا إذا وافق مجتهد مجتهداً آخر إنطلاقاً من قبوله لرأیه) فلا یقال لهذه الموافقة تقلیداً، وکذلک فی الرجوع إلی قول النبیّ صلی الله علیه و آله والرجوع إلی الإجماع لا یعتبر تقلیداً، لأنّ قول النبیّ صلی الله علیه و آله والإجماع فی نفسه حجّة فلا یقال لهذا العمل تقلید(8).

ولا یخفی أنّه إذا کان التقلید بمعنی التبعیة للمختصّین والخبراء فی الأمور الدینیة فإنّ الرجوع إلی کلام النبیّ صلی الله علیه و آله أیضاً یعدّ من قسم التقلید، وإن لم یطلق علیه التقلید الاصطلاحی المتعارف.

علی أیّة حال، فمن الواضح أنّ التقلید الاصطلاحی یعنی رجوع الأشخاص غیر المتخصّصین بالأمور الدینیة إلی أهل الخبرة والعلماء فی هذه الأمور (وإن کانت مساحة هذا التقلید محلّ بحث کما سیأتی).

الثانی: التقلید فی سیاق الروایات

وجاءت کلمة التقلید ومشتقّاتها فی سیاق الروایات الشریفة أحیاناً بمعناها اللغوی وأخری بمعناها الاصطلاحی.


1- اصطلاحات الأصول لآیة اللَّه المشکینی، ص 19.
2- ذخیرة المعاد للمحقق السبزواری، ج 2، ص 219؛ فتح القدیر للشوکانی، ج 3، ص 399.
3- عدّة الأصول، ج 1، ص 46؛ شرح الأزهار، ج 1، ص 3.
4- الاجتهاد والتقلید للإمام الخمینی، ص 59.
5- انظر: أنوار الاصول، ج 3، ص 589.
6- تحریر الوسیلة، ج 1، المقدّمة، ص 8.
7- أنوار الاصول، ج 3، ص 590.
8- المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2387.

ص: 465

وبالنسبة لما ورد فی المعنی اللغوی للتقلید یمکن الإشارة إلی موردین من ذلک.

1. عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال فیما یتعلّق بالخلافة والإمامة:

«... فَقَلَّدَها رَسولُ اللَّهِ عَلیّاً».(1)

وجاء فی «مجمع البحرین» فی مادة «قلّد» فی توضیح هذه العبارة:

«ألْزَمَهُ بِها أیْ جَعَلَها فی رَقَبَتِه ووَلّاه أمَرها».(2)

2. وجاء فی الحدیث النبویّ، طبقاً لما نقله «کنز العمّال»:

«مَنْ عَلَّمَ وَلَداً لَهُ القُرآنَ، قَلَّدَهُ اللَّهُ قِلادَةً یَعْجَبُ مِنْها الأوّلونَ والآخِرُونَ یَوْمَ القِیَامَةِ»(3).

وبالنسبة للمعنی الاصطلاحی للتقلید یمکن الإشارة إلی حدیثین فی ذلک:

1. عندما أرسل علیّ بن أبی طالب علیه السلام صعصعة بن صوحان إلی الخوارج قالوا له: أرأیت لو کان علیّ معنا فی موضعنا أتکون معه؟ قال: نعم، قالوا:

«فَأنْتَ إذاً مُقَلِّدٌ عَلِیّاً دِیْنَکَ، إرْجِعْ فَلا دِیْنَ لَکَ».

فقال لهم صعصعة

: «وَیْلَکُم ألاأُقَلِّدُ مَنْ قَلَّدَ اللَّه، فَأَحْسَنَ التَّقْلِیدَ؟»(4).

2. یقول أبوبصیر: «دخلت أُمّ خالد العبدیة» علی أبی عبداللَّه (الإمام الصادق علیه السلام) فقالت: جعلت فداک إنّه یعترینی فی بطنی وقد وصف لی أطبّاء العراق النبیذ بالسویق وقد وقفت وعرفت کراهتک له فأحببت أن أسألک عن ذلک، فقال لها:

«وما یمنعک عن شربه؟»

فقالت:

«قد قلّدتک دینی»(5).

3. وجاء فی مرسلة «الاحتجاج» عن الإمام العسکریّ علیه السلام:

«فَأَمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِینِهِ، مُخالِفاً لِهَواهُ، مُطِیعاً لأمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أنْ یُقَلِّدُوهُ»(6).

وبالرغم من أنّ ما ورد فی هذه الروایات ناظر إلی إطاعة الإمام المعصوم الذی کلامه حجّة، وهذا المعنی یختلف عن التقلید الاصطلاحی المتعارف فی هذا العصر، لأنّ ما یراد بتقلید المجتهدین فی هذا الزمان هو أن یقوم المجتهد باستنباط الحکم الشرعی الفرعی من خلال البحث والاستفادة من کتاب اللَّه وسنّة المعصومین ثمّ یلقیه إلی المقلّد، ومثل هذه المسألة تختلف عن سماع الحکم الشرعی من الإمام المعصوم نفسه والتحرّک فی مقام الطاعة والامتثال لأمره، ولکن أولًا:

إنّ بعض الروایات تحدّثت عمّا یتّصل بتقلید الفقهاء، وثانیاً: إنّ ما ورد فی الروایتین یرتبط بما نحن فیه من مسألة تقلید الفقهاء، لأنّ مفهوم التبعیّة موجودة فی کلّ من تقلید الفقیه ومن تقلید المعصوم.

الثالث: ضرورة التقلید فی فروع الدین

اشارة

إنّ فروع الدِّین أو الأحکام العملیّة، عبارة عن «الوظائف والتکالیف الشرعیة التی یجب علی المکلّفین العمل بها»(7) وبما أنّ کلّ عمل له حکم خاصّ، فإنّ المکلّف یجب علیه معرفة هذه الأحکام الشرعیة والعمل طبقاً لها.

ومن جهة أخری نعلم أنّ تحصیل العلم بالأحکام


1- معانی الأخبار، ص 97، ح 2.
2- مجمع البحرین، ج 3، ص 540.
3- کنز العمّال، ج 1، ص 533، ح 2386.
4- بحار الأنوار، ج 33، ص 402.
5- الکافی، ج 6، ص 413، ح 1.
6- الاحتجاج، ج 2، ص 263؛ وسائل الشیعة، ج 18، ص 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضی، ح 20.
7- قالوا فی تعریف موضوع علم الفقه:« هو نفس الأحکام الشرعیة أوالوظائف العملیّة من حیث التماسها من أدلتها»( الأصول العامة للفقه المقارن، ص 15).

ص: 466

العملیة والتوصّل إلی معرفة الفروع الدینیة بحاجة إلی الإحاطة بعلوم کثیرة، کمقدّمة لتحصیل العلم بالأحکام حیث یقوم المجتهد بتحصیلها والتدبّر فیها والعمل علی الاستفادة منها فی مقام الممارسة لیتمکّن بالتالی من استنباط الأحکام الشرعیة: (انظر: مقالة العلوم المقدّمة للاجتهاد) فی هذا الکتاب.

وبدیهیّ أنّ معرفة هذه العلوم والإحاطة بها وبالتالی تحصیل ملکة الاستنباط، لیس بالأمر الیسیر الذی یتمکّن کلّ شخص تحصیله، لأنّه من جهة لا یملک جمیع الناس القدرة والباعث علی التوغّل فی هذا المیدان، ومن جهة أخری إذا أراد الجمیع (فی صورة القدرة) أن یتحرّکوا علی مستوی تحصیل هذه العلوم، فإنّ الأمور الاجتماعیة الأخری للمجتمع البشریّ ستتعرّض للخطر، ومثل هذا الأمر، یعنی الضرورة فی مسألة تقلید المجتهدین وعلماء الدین؛ بمثابة حلّ لهذه المشکلة.

یقول الغزالی: «إنّ الإجماع منعقد علی أنّ العامیّ مکلّف بالأحکام، وتکلیفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنّه یؤدّی أن ینقطع الحرث والنسل، وتعطیل الحرف والصنائع ویؤدّی إلی خراب الدنیا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم. النتیجة (لابدّ لطائفة من الناس الاشتغال بطلب العلم) إذا استحال هذا لم یبق إلّاسؤال العلماء»(1).

إنّ أکثر العلماء الإمامیة وأهل السنّة(2) ذهبوا إلی جواز أو لزوم التقلید(3) فی فروع الدین، ولم ینکر ذلک سوی عدّة قلیلة من العلماء.

أدلّة التقلید فی فروع الدین

اشارة

وقد استدلّ الفقهاء والأصولیّون من أهل السنّة والإمامیة علی جواز أو لزوم التقلید بعدّة أدلّة، أهمّها ما یلی:

1. الدلیل العقلی

نظراً إلی أنّ کلّ مسلم مکلّف بأداء الواجبات الشرعیة وامتثال الأوامر الإلهیّة، وبالتالی یحتاج إلی معرفة الأحکام العملیة من الواجبات للعمل بها ومعرفة المحرّمات لاجتنابها، ومن جهة أخری فإنّ کلّ شخص لا یمتلک القدرة علی استیعاب وتعلّم جمیع الأحکام علی مستوی الاجتهاد ومعرفة التفاصیل من موقع العمق والدقّة، فعلی هذا الأساس یحکم العقل فی هذه الصورة بضرورة الرجوع إلی الخبراء والمتخصّصین فی العلوم الدینیة.

یقول الفخر الرازی: «إنّ العامیّ إذا نزلت به حادثة من الفروع فإمّا أن لا یکون مأموراً فیها بشی ء، وهو باطل بالإجماع، لأنّا نلزمه إلی قول العلماء، والخصم یلزمه الرجوع إلی الاستدلال، وإمّا أن یکون مأموراً فیها بشی ء، ذلک إمّا بالاستدلال أو التقلید، والاستدلال باطل لأنّه إمّا أن یکون هو التمسّک بالبراءة الأصلیة (البراءة قبل التکلیف وقبل الشرع) أو التمسّک بالأدلة


1- المستصفی، ج 2، ص 389.
2- انظر: المستصفی، ج 2، ص 389؛ المحصول فی علم الأصول للفخر الرازی، ج 2، ص 458؛ الإحکام فی الأصول الأحکام، ج 4، ص 450؛ المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2392؛ الموسوعة الفقهیة الکویتیة، ج 13، ص 160؛ کفایة الأصول، ص 472؛ موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 48، ص 538؛ أنوار الاصول، ج 3، ص 593.
3- إنّ التعبیر بالجواز أو الضرورة ناشی ء من أنّ الجواز یقع فی مقابل حرمةالتقلید فی فروع الدین، ولکن بما أنّ الناس مکلّفون بالعمل بالفروع الدینیة وأنّ الکثیر منهم غیر مجتهد، ففی مقام العمل توجد ضرورة الرجوع إلی المجتهدین.

ص: 467

السمعیة، والأول باطل بالإجماع (لأنّا نعلم أنّه مکلّف ولا یتحرر من قید الأحکام بالبراءة).

والثانی أیضاً باطل لأنّه لو لزمه أن یستدلّ لم یخل من أن یلزمه ذلک حین کمل عقله أو حین حدثت الحادثة.

والأول باطل لوجهین: أحدهما: أنّ الصحابة ما کانوا یلزمون من لم یشرع فی طلب العلم ولم یطلب رتبة المجتهد فی أول ما یکمل عقله.

والثانی: إنّ وجوب ذلک علیه یمنعه من الاشتغال بأمور الدنیا وذلک سبب لفساد العالم، والثانی أیضاً باطل لأنّه یقتضی أن یجب علیه اکتساب صفة المجتهدین عند نزول الحادثة وذلک غیر مقدور له»(1)، وعلیه فلا سبیل أمامه سوی التقلید.

ویستفاد من بعض کلمات الفقهاء المعاصرین أنّ وجوب التقلید علی من لا یقدر علی الاجتهاد والاحتیاط هو مقتضی دلیل العقل، وقد ورد فی کتاب «منتهی الاصول» ما یلی: «إنّ العامیّ إذا علم أنّه یلزم علیه العمل بالأحکام الشرعیة ولم یهمل فی حقّه تلک الأحکام، وهو عاجز عن فهم الحجج المجعولة واستعمالها ولا یجب علیه الاحتیاط، بل غالباً یکون عاجزاً لعدم معرفة موارده وکیفیة نفسه، فلا یمکن له ذلک. فیحکم عقله- حکماً بتّیاً فطریاً- بلزوم الرجوع إلی من یقدر علی استعمال تلک الأدلّة بعد أن استعملها واستنبط (وبتعبیر آخر: السبیل الوحید أمامه هو ظنّ الحاصل من قول المجتهد لا غیر»(2).

2. سیرة العقلاء

قامت سیرةالعقلاء فی جمیع العصور والأمصار علی أساس رجوع الناس فی جمیع العلوم والفنون المهمّة إلی أهل الخبرة والمتخصّصین فی تلک العلوم والفنون، وهذه المسألة تعتبر من الأمور البدیهیة والواضحة فی الثقافة الاجتماعیة وذهنیة العقلاء، لأنّ الجمیع یعلم أنّ کلّ إنسان لا یمکنه الإحاطة بجمیع العلوم التی یحتاجها طیلة حیاته.

وبالإمکان تقدیم مثال لتوضیح الفکرة، فأحیاناً یؤتی بالمریض إلی غرفة العملیات الجراحیّة المختصّة بالقلب، ولکن بما أنّ المریض یواجه مشاکل مرضیة أخری کمرض السکّری وضعف الأعصاب وما إلی ذلک فسوف یجتمع علیه عدّة أطباء ومتخصّصون فی علوم مختلفة، مضافاً إلی المتخصّص فی أمر التخدیر، ویقوم کلّ واحد منهم بمراقبة ومعالجة المریض فی ما یتّصل بتخصّصه، واللافت أنّ کلّ واحد منهم لا یتدخّل فی عمل الآخر، بل یتبع کلّ واحد منهم فی غیر تخصّصه أشخاصاً من أهل الخبرة فی تلک المجالات. بمعنی أنّ عدّة علماء ومتخصّصین یتحرّکون فی آن واحد علی مستوی اتّباع وتقلید علماء آخرین فی فروع أخری غیر فروعهم العملیة، وهذا العمل مرسوم ومتداول فی جمیع أرجاء العالم، ویشیر إلی وجود سیرة عقلائیة فی المجتمعات البشریة، وخاصّة فی عصرنا الحاضر حیث اتّسعت مساحة العلوم بشکل کبیر وتشعّبت الفروع العلمیة کثیراً.

یقول مؤلّف کتاب «کفایة الاصول»: «إنّ جواز التقلید ورجوع الجاهل إلی العالم فی الجملة یعتبر بدیهیاً وجبلیّاً فطریاً لا یحتاج إلی دلیل»(3).


1- المحصول فی علم الأصول، ج 2، ص 458.
2- منتهی الاصول للبجنوردی، ج 2، ص 810.
3- کفایة الاصول، ص 472.

ص: 468

ومسائل الشریعة بدورها غیر مستثناة من هذه الحالة، حیث یجب علی من لا یملک خبرة ومعرفة فی هذه المسائل الرجوع إلی العلماء والمختصّین فی أمور الدین، ویستفهم منهم تکالیفه الشرعیة (ما عدا أصول الدین وبعض الموارد الأخری التی سیأتی الکلام عنها).

وخلاصة الکلام إنّ سیرة العقلاء تقوم علی أساس رجوع الجاهل إلی أهل الخبرة فی کلّ علم وفن والمسائل الفقهیة لا تخرج عن هذا الإطار، ونعلم أنّ الشارع لم یردع عن هذه السیرة بل قام بتقویتها وتأییدها کما سیأتی لاحقاً.

والظاهر أنّ العمدة فی دلیل جواز التقلید هو سیرة العقلاء، وأمّا الأدلّة الأخری التی استدلّوا بها علی ذلک فهی من باب تأیید هذه السیرة.

3. الآیات القرآنیة

آیة النَفْر:

ومن جملة الآیات التی استدلّوا بها علی لزوم التقلید آیة النفر حیث یقول تعالی: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(1).

والاستدلال بهذه الآیة الکریمة ینطلق من أمور، أوّلًا: أنّ «لولا» تحضیضیة، وحینئذٍ یکون النفر واجباً، وثانیاً: أن التفقّه فی الدّین واجب لأنّه جاء فی هذه الآیة کنتیجة للنَفْر (لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ . وثالثاً: أنّ الهدف من التفقّه والإنذار، تحذیر الأشخاص الذین لم ینفروا (لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ وبما أنّ هذه الآیة مطلقة، فإنّها تدلّ علی أنّ الحذر الواقع عقیب الإنذار واجب مطلقاً أیضاً حتّی فی صورة ما إذا لم یحصل العلم لدی المنذرین (2).

وقد اثیرت إشکالات حول دلالة الآیة علی المراد مذکورة مع أجوبتها فی کتب الفقه والأصول.

آیة الذکر:

ومن الآیات القرآنیة التی استُدِلّ بها علی ضرورة التقلید، آیة الذکر حیث یقول تعالی: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»(3).

ودلالة هذه الآیة الشریفة تقوم علی أساس أنّ الظاهر من وجوب السؤال هو العمل بالجواب، وإلّا کان السؤال لغواً وعبثاً، وعلیه فإنّ هذه الآیة الشریفة تدلّ علی أنّ الجاهل یجب علیه فی مقام العمل الرجوع إلی العالم والمتخصّص، وهذا هو معنی التقلید(4).

یقول «الآمدی»: «هو عامّ لکلّ المخاطبین ویجب أن یکون عامّاً فی السؤال عن کلّ ما لا یعلم، بحیث یدخل فیه محلّ النزاع (أی الفروعات الدینیة»(5).

واستشهد بعض أهل السنّة المعاصرین لجواز التقلید بهذه الآیة الشریفة:: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَإِلَی أُوْلِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(6).

وجملة «لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» تشیر إلی وجوب الرجوع فی الأحکام الشرعیة إلی أهل الاستنباط وهم المجتهدون والفقهاء والسؤال منهم (7).

ولکن الاستدلال بهذه الآیة مشکل، لأنّ الوارد فی


1- سورة التوبة، الآیة 122.
2- موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 64.
3- سورة الأنبیاء، الآیة 7.
4- موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 67.
5- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 228.
6- سورة النساء، الآیة 83.
7- المهذب فی علم أصول الفقه المقارن للدکتور عبدالکریم النملة، ج 5، ص 2393.

ص: 469

ابتداء هذه الآیة: «وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ». ثمّ تضیف «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَإِلَی أُوْلِی الْأَمْرِ ...».

وسیاق الآیة یشیر إلی أنّ الکلام فیها حول الأمور السیاسیة والاجتماعیة وما یتّصل بدائرة الموضوعات، وعدم الالتفات إلی الشائعات حیث ینبغی الرجوع فی ذلک إلی أهل الخبرة، وهذا لا یتّصل بالأحکام الدینیة.

4. الروایات

الطائفة الأولی: الرجوع إلی العلماء والسؤال منهم

فقد وردت روایات کثیرة عن المعصومین علیهم السلام تدلّ علی وجوب اتّباع العلماء والتزام طریقهم، ونعلم أنّ هذه التبعیة للعلماء إنّما هی من أجل معرفتهم بالحلال والحرام فی الشریعة المقدّسة وهذا هو معنی تقلید العلماء(1). ونشیر هنا إلی بعض هذه الروایات الواردة فی هذا الباب:

1. یقول الإمام علیّ علیه السلام:

«إنَّ مَجارِی الأُمورِ والأحْکامِ علی أیْدِی العُلَماءِ باللَّهِ الامُنَاءِ عَلی حَلالِه وحَرامِه»(2).

والتصریح بالحلال والحرام فی هذه الروایة یدلّ بصراحة علی مسألة الأحکام الفقهیة.

2. یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«سَلِ العُلَماءَ ما جَهِلْتَ وإیّاکَ أنْ تَسْأَلَهُم تَعَنُّتاً وتَجْرِبَةً، وإیّاکَ أنْ تَعْمَلَ بِرَأیِک شَیْئاً»(3).

3. ویقول الراوی: کتبت إلی الإمام الهادی علیه السلام، أسأله عمّن آخذ معالم دینی، وکتب أخوه أیضاً بذلک، فکتب إلیهما:

«فَهِمْتُ مَا ذَکَرْتُما فَاصْمُدا فی دِیْنِکُما علی کُلِّ مُسِنٍّ فی حُبِّنا، وکُلِّ کَثِیرِ القِدَمِ فی أمْرِنا»(4).

4. وجاء فی روایة عن الإمام الحسن العسکریّ علیه السلام:

«فَأمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناً لِنَفْسِه، حَافِظاً لِدِینِه، مُخَالِفاً لِهَواهُ، مُطِیعاً لأمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلعَوامِّ أنْ یُقَلِّدوهُ»(5)

هذه الروایات تؤکّد بصراحة لزوم التقلید ورجوع الناس إلی الفقهاء الواجدین للشرائط المذکورة.

الطائفة الثانیة: الروایات التی تدلّ علی جواز الفتوی

وممّا یستدلّ به فی المقام، الروایات التی تدلّ علی جواز الإفتاء وبالتالی تدلّ علی جواز التقلید بالملازمة، فهذه الطائفة من الروایات کثیرة أیضاً ونشیر إلی جملة منها:

1. ورد فی کتاب أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام إلی عامله علی مکّة (القثم بن العبّاس):

«وَاجْلِسْ لَهُم العَصْرَیْن فأفْتِ المُسْتَفْتِی وعَلِّمِ الجَاهِلَ وذاکِرِ العالِم»(6).

والملفت للنظر أنّه ورد فی هذه الروایة کلمة «المستفتی».

2. وجاء فی روایة أخری عن علیّ بن المسیّب الهمدانیّ قال: قلت للإمام الرضا علیه السلام: شقّتی بعیدة ولست أصل إلیک فی کلّ وقت، فممّن آخذ معالم دینی؟ قال:

«مِنْ زَکَرِیّا بنِ آدَمَ القُمّیّ المَأمُونِ علی الدِّینِ والدُّنْیا»

. قال علیّ بن المسیّب:

«فلمّا انصرَفتُ قَدِمنا علی زکریّا


1- یقول الفقیه البارع آیة اللَّه الخوئی:« إنّ الروایات التی تدلّ علی جوازالعمل بواسطة التقلید وحجّیة الفتوی فی فروع الدین إلی درجة من الکثرة أنّها وصلت إلی حدّ التواتر الإجمالی، رغم عدم وجود التواتر المضمونی فیها».( موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 69).
2- مستدرک الوسائل، ج 17، ص 316، ح 16.
3- وسائل الشیعة، ج 18، ص 127، ح 54.
4- المصدر السابق، ص 110، ح 45.
5- المصدر السابق، ص 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضی، ح 20.
6- نهج البلاغة، الرسالة 67.

ص: 470

بنِ آدَم، فسألتُه عَمّا احتَجْتُ إلیه»(1).

3. وفی حدیث آخر سأل الراوی الإمام الرضا علیه السلام:

«لا أکادُ أصِلُ إلَیکَ أسأَلکَ عن کُلِّ ما أحتَاجُ إلیه مِن مَعالِم دِینی، أَفَیُونُسُ بنُ عَبدِالرَّحمنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنهُ مَا أحتَاجُ إلیه من مَعالِم دینی؟

قال الإمام:

«نَعَم»(2).

وفی هاتین الروایتین نری أنّ معالم الدّین تستوعب فی دائرتها الفتوی والروایة کلتیهما، وکذلک یستفاد من الروایة الأخیرة أنّ الراوی کان یعلم بوضوح أنّه بإمکانه أخذ معالم دینه من العلماء، ولکنّه سأل الإمام الرضا علیه السلام عن مصداق هذا الحکم العامّ.

الطائفة الثالثة: النهی عن الفتوی بغیر علم

وفی هذه الطائفة ورد تحذیر المسلمین من الفتوی بغیر علم، والتأکید علی أنّ الذنب الذی یرتکبه العامل بهذه الفتوی یقع فی ذمّة المفتی، ومن الواضح أنّ هذه الروایة أخذت العمل بالفتوی کأمر مسلّم.

1. قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لأبی ذر:

«یَا أباذَرّ إذا سُئِلْتَ عَنْ عِلْمٍ لَاتَعْلَمُه فَقُلْ: لَاأعْلَمُه، تَنْجُ مِن تَبِعَتِهِ وَلا تُفْتِ بِما لَا عِلْمَ لَک بِه تَنْجُ مِن عَذابِ اللَّه یَومَ القِیامَةِ»(3).

2. وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«مَن أفْتی النَّاسَ بِغَیرِ عِلْمٍ کانَ إثْمُهُ علی مَن أفْتَاهُ»(4).

3. وقال الإمام الباقر علیه السلام:

«مَن أفْتی النَّاسَ بِغَیْرِ عِلْمٍ ولا هُدَیً مِنَ اللَّهِ لَعَنَتْهُ مَلائِکَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِکَةُ العَذابِ وَلَحِقَهُ وِزْرُ مَن عَمِلَ بِفُتْیاه»(5).

5. الإجماع

وقد تحرّک علماء أهل السنّة من موقع الاهتمام البالغ بهذا الدلیل، ومنهم «الغزالی» الذی استدلّ بإجماع الصحابة علی لزوم التقلید والاستفتاء من علماء الدین وقال: «إنّهم (الصحابة) کانوا یفتون العوامّ ولا یأمرون بنیل درجة الاجتهاد»(6).

وقال «الفخر الرازی» بعد نقله مخالفة معتزلة بغداد للتقلید واستدلاله علی جواز التقلید بإجماع الامّة:

«إجماع الامّة قبل حدوث المخالف، لأنّ العلماء فی کلّ عصر لا ینکرون علی العامّة الاقتصار علی مجرّد أقاویلهم ولایلزمونهم أن یسألوهم عن وجه اجتهادهم»(7).

وقد تمسّک بعض الفقهاء والاصولیین الإمامیّة أیضاً بدلیل الإجماع لإثبات التقلید، منهم المیرزا القمّی الذی قال: «المشهور بین العلماء ولدینا إجماع من یحرز مرتبة الاجتهاد یجوز له التقلید فی المسائل الفرعیة».

ثمّ أنّه نقل عن الشهید الأوّل قوله فی کتاب «الذکری»:

أن أکثر الإمامیّة یقولون بذلک سوی بعض القدماء وعلماء حلب، حیث وقع بینهم الاختلاف فی هذه المسألة.

ویضیف المیرزا القمّی: «إنّ التقلید جائز مطلقاً، سواء کان المقلّداً عامّیاً محضاً أو کان عالماً ببعض العلوم (أن لا یکون الولی الفقیه) لأنّ هذه المسألة إجمالیة، والسیّد المرتضی وبعض علماء الشیعة وأهل السنّة صرّحوا بهذا الإجماع وکذلک بمطالعة السیرة العملیة للعلماء الماضین الذین کانت الفتوی والاستفتاء منهم شائعاً، ویتبیّن من ذلک أنّ هذه المسألة مقبولة لدیهم».(8)


1- وسائل الشیعة، ج 18، ص 106، ح 27.
2- المصدر السابق، ص 107، ح 33.
3- بحار الأنوار، ج 74، ص 76.
4- مستدرک الحاکم، ج 1، ص 126.
5- وسائل الشیعة، ج 18، ص 9، ح 1.
6- المستصفی، ج 2، ص 389.
7- المحصول فی علم الأصول، ج 2، ص 458.
8- انظر: قوانین الاصول، ص 324.

ص: 471

ولکن ینبغی الالتفات هنا إلی أمرین مهمَّین:

1. ربّما یکون ما نقل عن الفخر الرازی شیئاً أعلی من الإجماع المصطلح، وهو إشارة إلی سیرة المسلمین قاطبة، لأنّه عبرّ عن ذلک «إجماع الأمّة الإسلامیة».

2. مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ مسألة التقلید تملک أدلة ومستندات کثیرة، ولذلک یکون هذا الإجماع بهذه الصورة إجماعاً مدرکیّاً ولا یعتبر دلیلًا مستقلًا طبقاً لرأینا فی حجّیة الإجماع.

6. سیرة المسلمین

تقوم سیرة المسلمین وأصحاب النبیّ والأئمّة علی الرجوع فی مسائل الحلال والحرام إلی النبیّ والائمّة، وإن لم یتمکّن المکلّف من التوصّل إلیهم فإنّه یرجع إلی وکلائهم وأهل الخبرة فی الفقه. وبما أنّ هذه السیرة، سواء کانت من باب رجوع الجاهل إلی العالم التی هی من الأمور الفطریة والارتکازیة، أم من جهة أخری، متّصلة بعصر المعصومین علیهم السلام فإنّها تکشف عن رضاهم بها. وقد صرّح صاحب «الفصول» بأنّ سیرة المتدیّنین فی ذلک تعتبر دلیلًا مستقلّاً علی جواز التقلید(1).

وهذه السیرة، سواء کانت علی أساس بناء العقلاء بوحی من الفطرة الإنسانیة، أنّها أمر مستقلّ، تثبت علی أیة حال أنّ هذه المسألة غیر قابلة للتشکیک.

المخالفون للتقلید:

اشارة

ورغم أنّ مسألة التقلید ورجوع الجاهل إلی العالم تعدّ مسألة بدیهیة وفطریة وإجماعیة، وقد قامت سیرة المتشرّعة علی امتداد التاریخ الإسلامیّ علی هذا الأساس من رجوع العوامّ إلی المجتهدین وسؤالهم عن أحکام الحلال والحرام من هؤلاء المجتهدین والعمل بفتاواهم؛ ولکن مع ذلک فقد خالف بعض العلماء هذه المسألة. ومن الإمامیة جماعة من الأخباریین (2)، ومن بین أهل السنّة بعض علماء الظاهریة مثل داود بن علیّ وابن حزم، وکذلک جماعة من علماء الحنابلة، مثل ابن تیمیة وابن القیم الجوزیّة وفرقة الإباضیة، هؤلاء ذهبوا إلی حرمة التقلید(3). وقد نقل عن أبی حنیفة وأبی یوسف أنّهما قالا:

«لا یحِل لأحدٍ أن یقول بقولنا حتی یعلم من أین قلناه»(4).

وقد نقل عن أحمد بن حنبل أنّه قال:

«لا تقلّدنی ولا تقلّد مالکاً ولا الثوری ولا الأوزاعی، وخذ من حیث أخذوا»(5).

ویقول الشوکانی وهو من المنکرین للتقلید: «ذهب الجماعة من أهل العلم إلی أنّ التقلید فی الفروع الدینیة لا یجوز مطلقاً».

ثمّ ینقل عن «القرافی» أنّه قال: «مذهب مالک وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد وإبطال التقلید، وادّعی ابن حزم الإجماع علی النهی عن التقلید. ثمّ أضاف: کان الأئمّة الأربعة یعتقدون بعدم وجوب تقلیدهم»(6).

ویقول ابن حزم:

«ولا یَحِلّ لأحَدٍ أن یقلّد أحداً؛ لا حیّاً ولا میّتاً وعلی کلّ أحد من الاجتهاد حسب طاقته»(7).


1- انظر: عنایة الأصول لفیروزآبادی، ج 6، ص 222.
2- انظر: الفوائد المدنیّة، ص 40 وما بعدها. وبالرغم من أنّ صاحب الحدائق کان أخباریاً معتدلًا، فإنّه صرّح: بجواز التقلید لمن لا یتمکن من الاستنباط( الحدائق الناضرة، ج 8، ص 497).
3- انظر: دائرة المعارف الإسلامیة، ج 5، ص 417.
4- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 13، ص 161.
5- قوانین الأصول، ص 324.
6- إرشاد الفحول، ج 2، ص 333.
7- المحلّی لإبن حزم، ج 1، ص 66.

ص: 472

وهنا یطرح هذا السؤال: کیف یتحرّک الإنسان العامّی فی العمل بالأحکام الإلهیة؟ یقول: «ففرض علیه إن کان أجهل البریّة أن یسأل عن أعلم أهل موضعه بالدین الذی جاء به رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، فإذا دلّ علیه سأله، فإذا أفتاه قاله له: هکذا قال اللَّه عزّ وجلّ ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بذلک وعمل به أبداً. وإن قال له هذا رأیی أو هذا قیاس أو هذا قول فلان، وذکر له صاحباً أو تابعاً أو فقهیاً قدیماً أو حدیثاً أو سکت أو انتهره أو قال له:

لا أدری، فلایحلّ له أن یأخذ بقوله ولکنّه یسأل غیره»(1).

ثمّ إنّ الشوکانی یضیف: هناک الحدّ الوسط بین الاجتهاد والتقلید، وذلک إذا لم یتمکّن من الاجتهاد، یجب علیه أن یسأل أحکامه الشرعیة من عالِم دینی، لا بمحض الرأی والاجتهاد یسأله.(2)

هنا نلفت النظر إلی ملاحظتین:

الأولی: إنّ المستفاد من أقوال المخالفین للتقلید من علماء أهل السنّة أنّهم علی قسمین:

1. ما تقدّم فی کلمات أئمّة المذاهب أنّهم نهوا عن التقلید، وهو فی الواقع إشارة إلی هذه الحقیقة وهی أنّه لا ینبغی علی العلماء أصحاب الرأی أن یکونوا مقلّدین لهم بل یجب علیهم التوجّه بأنفسهم إلی المنابع الشرعیة واستنباط الأحکام الإلهیة منها، وهذا هو ما یقال عن «انفتاح باب الاجتهاد» الذی تقدّم البحث فیه، وبعبارة أخری أنّهم لا یرون جواز التقلید لمن کان فی مرتبة الاجتهاد.

2. أنّ بعض أشکال المخالفة للتقلید والتی نقلت عن ابن حزم والشوکانی، تحکی فی الواقع مخالفتهم للرأی والقیاس الظنّی للمجتهد، فهؤلاء یعتقدون بأنّه ینبغی اتّباع النصوص فقط، ولا یصحّ الرجوع إلی رأی المجتهد ونظره الشخصیّ وجعله ملاکاً للعمل فی مقام امتثال الحکم الشرعیّ. ولذلک فإنّ ابن حزم فی تفسیر الآیة «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ» قال: «لم یأمر اللَّه عزّ وجلّ أن یقبل من النافر للتفقّه فی الدین رأیه ...، وإنّما أمر اللَّه تعالی بقبول نذارة النافر للتفقّه فی الدین فیما تفقّه فیه من دین اللَّه تعالی الذی أتی به رسول اللَّه، لا فی دین لم یشرّعه اللَّه عزّ وجلّ»(3).

وعلیه فإنّ مخالفة هذه الطائفة من العلماء لیست فی مسألة التقلید، بل فی حجّیة الفتاوی المستنبطة من القیاس والاستحسان وما إلی ذلک.

ومعلوم أنّ المجتهد أحیاناً لا یجد نصّاً خاصّاً علی الحکم الشرعیّ، وبالتالی فإنّه یتحرّک فی مقام الإفتاء علی أساس الإطلاقات والعمومات أو الأصول العملیة، ففی هذه الصورة یکون قبول قوله عبارة أخری عن قبول تلک النصوص لا العمل برأیه الشخصیّ الذی ینطلق من مقولة القیاس والاستحسان الظنّی، أجل إذا کان الأمر کذلک، فإنّ فقهاء أهل البیت علیهم السلام أیضاً لا یقبلون بهذا التقلید، ولیس فقط لا یجوز للمکلّف تقلید مثل هذا المجتهد أو اتّباعه، بل إنّ المجتهد نفسه لا یجوز له العمل بذلک الرأی المستوحی من الظنّ.

الثانیة: إنّ ما نقله أحمد یتنافی مع عمله، لأنّ أحمد نفسه کان یفتی فی بعض الموارد برأی الشافعی ویقول:

«إذا سألت عن مسألة لم أعرف فیها خبراً أفتیت بقول الشافعی لأنّه إمام عالم من قریش»(4).


1- المحلّی لإبن الحزم، ج 1، ص 66.
2- ارشاد الفحول، ج 2، ص 336.
3- المحلّی لإبن حزم، ج 1، ص 67.
4- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 13، ص 162.

ص: 473

ثمّ إنّ کلامه هذا مخالف لادّعائه الإجماع علی جواز التقلید، وقد رأینا أنّ الغزالی یری أنّ أوّل الأدلّة علی جواز التقلید، إجماع الصحابة(1).

وعلی هذا الأساس فلا یبعد أنّ کلمات أبی حنیفة وأحمد بن حنبل تتعلّق بالعلماء الذین یمکنهم استنباط الأحکام الشرعیة من مصادرها، وفی الواقع أنّ کلامهم منصرف عن الناس العادیین، لأنّ الکثیر من الناس اعتنقوا الإسلام وعاشوا فی بلدان غیر عربیة بحیث لا یمکنهم استنباط الأحکام الشرعیة، لا من القرآن ولا من السنّة النبویة، وما أکثر الأشخاص الأُمّیین بین هؤلاء، فهل یقول أحد أنّ هؤلاء غیر مکلّفین بالعمل بالأحکام الإسلامیة؟ کلّا قطعاً، وإذا کانوا مکلّفین- وهو کذلک- فکیف یمکنهم تحصیل العلم بالأحکام الإسلامیة؟ هل هناک طریق آخر غیر الرجوع إلی الفقهاء وعلماء الدین؟ إنّ هذا المطلب فی درجة من الوضوح بحیث لا أحد یمکنه التأمّل فیه من موقع التشکیک والتردّد.

أدلّة المخالفین للتقلید:
1. الآیات الکریمة

وقد وردت آیات عدیدة فی القرآن الکریم فی ذمّ التقلید.

یقول ابن حزم الأندلسی: «نحن نملک برهاناً علی بطلان التقلید، وذلک أنّ اللَّه تعالی ذمّ التقلید، حیث تحدّث عن طائفة من المشرکین وذمّ تقلیدهم لسادتهم:

«إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَکُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَاْ»(2)،(3).

ویستدلّ الشوکانی مضافاً إلی الآیة المذکورة آنفاً بآیات أخری تذمّ التقلید أیضاً، ومنها: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ»(4) «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ»(5).(6)

ویقول الفقیه الکبیر آیة اللَّه الخوئی: واستدلّوا أیضاً بهذه الآیة الواردة فی مقام توبیخ الاتّباع علی تقلیدهم للآباء: «وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَی مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَی الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا»(7).(8)

وفی مقام الجواب نقول: أوّلًا: إنّ هذا النوع من الآیات الشریفة ینهی عن رجوع الجاهل إلی الجاهل ولا ترتبط بما نحن فیه من تقلید الجاهل للعالم، والمخاطبون فی هذه الآیات فی الواقع هم المشرکون الجاهلیّون الذین یتّبعون الأشخاص الجهلاء مثلهم لمجرّد الرئاسات الظاهریة وبدافع من العصبیات القومیة، وإلّا فإنّ القرآن الکریم نفسه یوصی بالرجوع إلی «أهل الذکر».

ثانیاً: إنّ هذه الآیات ترتبط بأصول الدین، لأنّ ما یقتبسه المشرکون من کبرائهم وسادتهم وآبائهم ویتحرّکون علی مستوی السلوک والممارسة فی واقع حیاتهم، یعود فی الأصل إلی مقولة الشرک والعقائد الخرافیة والجاهلیة، وحتّی فیما یتعلّق بشرائعهم الباطلة فإنّها مستوحاة من تلک العقائد الخرافیة، ومن المعلوم أنّ التقلید لا یجوز فی أصول الدین. (کما سیأتی الکلام عنه).


1- المستصفی، ج 2، ص 389.
2- سورة الأحزاب، الآیة 67.
3- المحلّی لإبن حزم، ج 1، ص 66.
4- سورة الزخرف، الآیة 22.
5- سورة التوبة، الآیة 31.
6- إرشاد الفحول، ج 2، ص 335.
7- سورة المائدة، الآیة 104.
8- موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 48، ص 540.

ص: 474

2. الروایات

وقد أورد المرحوم الشیخ الحرّ العاملی فی کتابه «وسائل الشیعة» باباً تحت عنوان «عدم جواز تقلید غیر المعصوم علیه السلام» ونقل فیه جملة من الروایات فیما یتّصل بهذه المسألة، ومنها:

1. ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر قوله تعالی: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللَّهِ»(1).

فقال:

«أما واللَّهِ ما دَعَوْهُم إلی عِبَادَةِ أنْفُسِهِم وَلَو دَعَوْهُم مَا أجَابُوهُم ولکِنْ أحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وحَرَّموا عَلَیهِم حَلَالًا فَعَبَدُوهُم مِن حَیثُ لَایَشْعُرون»(2).

2. ما ورد فی حدیث شریف عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«مَنْ دَانَ بِغَیرِ سَماعٍ ألْزَمَهُ اللَّهُ البتَّةَ إلی الفَناءِ، ومَنْ دَانَ بِسَمَاعٍ مِن غَیْرِ البابِ الّذی فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَلْقِه فَهُوَ مُشْرِکٌ، والبابُ المأمُونُ علی وَحْی اللَّه، مُحَمَّد صلی الله علیه و آله»(3).

ولکن من البدیهیّ أنّ مثل هذه الأحادیث لا ترتبط بما نحن فیه، فهی ناظرة إلی الأشخاص الذین یفتون بالأحکام الإلهیة بوحی رأیهم وذوقهم الشخصیّ، أو ما یستنبطونه من أدلّة غیر معتبرة، وأمّا الفقهاء الذین یتحرّکون فی بیان الأحکام الإلهیة من موقع استنباطها من الکتاب والسنّة والأدلّة التی یعتبرونها حجّة فیما بینهم وبین اللَّه ویقدّمونها إلی الناس الذین لا یقدرون علی الاستنباط، فإنّهم غیر مشمولین لهذه الروایات، بل هؤلاء یطلبون الحکم الحقّ ویتحرّکون فی طلب الوصول إلی الوحی الإلهیّ بطُرق مشروعة.

وهکذا سائر الروایات التی أوردها المرحوم صاحب الوسائل فی هذا الباب، فهی کلّها من هذا القبیل.

3. أدلّة أخری

وقد ذکر المخالفون للتقلید أدلّة أخری أیضاً لإثبات قولهم، ومن ذلک ما نقله مؤلف کتاب «المهذّب» (وهو الدکتور عبدالکریم النملة) عن بعضهم أنّه قال فی مقام الاستدلال، أوّلًا: إنّ هؤلاء لا یرون جواز التقلید بدلیل أنّ الشخص العامّی لا یحصل له الاطمئنان دائماً من قول المجتهد، هؤلاء لا یرون جواز التقیید لأنّ الشخص العامّی لا یحصل له الاطمئنان من قول المجتهد، وعلی هذا الأساس یجب أن یسأل عن دلیله حتی یزول الشکّ عنه، ثمّ إنّ مؤلف الکتاب المذکور یجیب عن هذا الدلیل ویقول:

1. إنّ الکثیر من الأشخاص عندما یذکر لهم المجتهد دلیله علی تلک الفتوی، فإنّهم لا یستفیدون من دلیله شیئاً. 2. إنّ الإشکال یرد علی خبر الواحد فأحیاناً لا یحصل الإطمئنان للمجتهد نفسه بخبر الثقة، فینبغی القول بعدم حجّیته.

ثانیاً: نقول فی قیاس الفروع علی الأصول، یعنی أنّه کما لا یجوز التقلید فی أصول الدین، فکذلک لا یجوز فی الفروع أیضاً. ویجیب الدکتور النملة عن هذا الدلیل أیضاً: إنّ هذا قیاس مع الفارق، لأنّه هناک فرقان بین الفروع والأصول:

1. إنّ طرق الکشف لمسائل أصول الدین من التوحید والنبوّة عقلیة، حیث یحتاج الإنسان فی هذه الموارد إلی معرفة وإن کانت قلیلة، وهذه المسألة لا تؤثّر علی معاش الإنسان وحیاته.


1- سورة التوبة، الآیة 31.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 89، الباب 10 من أبواب صفات القاضی، ح 10.
3- المصدر السابق، ح 14.

ص: 475

ولکن فی فروع الدین و مع الالتفات إلی کثرة الأدلّة وتنوّعها وکذلک طول زمان الاجتهاد والفحص والبحث فی الأحکام الشرعیة، کذلک لزوم التعمّق فی المعارف، فإنّ ذلک یؤدّی إلی انقطاع الإنسان عن أمور أخری ویورث الاختلال فی معاشه وحیاته الطبیعیة.

2. فی مسائل الدین لا یکون العلم والیقین شرطاً، بل یکتفی فی وجود الأدلة ضمنیّة کخبر الواحد.

ولکن فی المسائل الأصولیة یحتاج إلی الجزم والیقین، (والذی لا یحصل علیه الإنسان من قول المجتهد).(1)

4. شبهة عقلیة فی نقد التقلید
اشارة

وإحدی الشبهات التی تثار فی مسألة التقلید، هی أنّ التقلید یعمل علی انحطاط الفکر وجموده، لأنّ جواز التقلید یتسبّب أن لا یتحرّک الناس فی طلب العلم بل یکتفون بالأخذ برأی المجتهد وتقلیده.

الجواب:

وفی مقام الجواب عن هذه الشبهة یمکن القول إنّ التقلید- بمعنی الرجوع لأهل الاختصاص والخبرة فی کلّ فنّ- لیس فقط لا یوجب الانحطاط الفکریّ فحسب، بل یؤدّی إلی تطویر المجتمع والتقدّم فی مجالات علمیة ودینیة مختلفة، لأنّ کلّ شخص لا یمکنه الاطّلاع والإحاطة بجمیع العلوم، وعلیه فلابدّ من اختیار علم أو علوم معینة والتخصّص فیها، ومن خلال الاستفادة من هذا المنهج فی الأخذ بآراء المختصّین وأهل الخبرة فی کلّ فن یتمکّن من حلّ سائر الأسئلة والمشکلات العلمیة الأخری.

مضافاً إلی ذلک فإنّ الواقع یفرض علینا قبول هذه الحقیقة، وهی أنّ بعض الناس حتّی لو تحرّکوا فی خطّ طلب العلم والاجتهاد، فإنّهم لا یستطیعون التوغّل فی المسائل الفقهیة من موقع العمق والدقّة المطلوبة، وعلیه فلو لم یتحرّکوا علی مستوی التقلید والاستفادة من أهل التخصّص فی العلوم الدینیة فلا یبقی لهم طریق لأداء تکالیفهم الشرعیة.

هل یمکن الاحتیاط؟

ربّما یقال بوجود طریق ثالث غیر الاجتهاد والتقلید، وهو طریق الاحتیاط. وعلیه فلو لم یتمکّن المکلّف من تحصیل ملکة الاجتهاد، فإنّه بإمکانه أن یتحرّک علی مستوی الاحتیاط فی امتثاله للأحکام الشرعیة ولا یحتاج بالتالی إلی التقلید.

وفی مقام الجواب نقول:

أوّلًا: إنّ الاحتیاط فی بعض المسائل الفرعیة أحیاناً غیر ممکن، مثلًا إذا قال شخص للمصلّی (سلام علیکم) وکان المصلّی لا یعلم کیف یجیب سلامه، وهل تجب المماثلة أم لا؟ بمعنی هل أنّ الواجب علیه أن یقول (سلام علیکم) أم یکتفی بالقول (سلام)، فی هذا المورد إذا أجابه بکلمة (سلام) فإنّه فی صورة اعتبار المماثلة سیکون قد ارتکب حراماً، ولو قال له (سلام علیکم) ففی صورة وجوب الردّ بکلمة (سلام) سیکون قد أضاف إلی جوابه کلمة أخری، وبالتالی فإنّ صلاته ستقع باطلة(2).

علی أیّة حال، فإنّه فی الموارد التی یدور الأمر فیها بین الوجوب والحرمة لا یمکن الاحتیاط فیهما والعمل


1- المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2394 و 2395.
2- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 13، ص 160.

ص: 476

بهما بأحد الطرفین بدون اجتهاد.

ثانیاً: إنّ العمل بالاحتیاط فی جمیع الفروع والأحکام بإمکانه أن یوقع المکلّف فی تعقیدات وحرج شدید، وهذا المعنی لا ینسجم مع روح الإسلام والغایة من بعث الأنبیاء، وبعبارة أخری: إنّ الاحتیاط المطلق فی جمیع المسائل یوجب العسر والحرج علی المکلّف وأحیاناً یؤدّی إلی تعطیل الحیاة.

ثالثاً: إنّ تشخیص موارد الاحتیاط بدوره لیس بالیسیر، بل یحتاج إلی اطّلاع المکلّف علی مسائل الشریعة ومعرفة مواقع الاحتیاط وتحقیق مقدّماته، وهذا الأمر أیضاً خارج عن طاقة الکثیر من الناس.

یقول صاحب کتاب «العروة الوثقی»: «والذی یرید الاحتیاط یجب علیه أن یکون مطّلعاً بکیفیة الاحتیاط، إمّا عن طریق الاجتهاد أو بطریق التقلید»(1).

وببیان آخر: إنّ المکلّف إذا اتّجه نحو العمل بالاحتیاط، فذلک أیضاً یقتضی أن یکون مجتهداً أو مقلِّداً، بمعنی أنّه إمّا أن یکون مقلِّداً ویکسب الإذن بالعمل بالاحتیاط من مرجع التقلید، أو یکون بنفسه مجتهداً کیما یستنبط بنفسه جواز الاحتیاط فی هذه المسائل، لأنّ مسألة جواز الاحتیاط وعدمه بدورها من المسائل الخلافیة بین الفقهاء(2).

ملاحظة:

لقد صرّح الفقهاء والأصولیون بعدم الحاجة للتقلید فی مورد ضروریات الدین، کوجوب الصلاة والصوم وأمثال ذلک، وهکذا فی الأمور القطعیة- فی صورة ما إذا حصل الیقین للمکلّف- فلا یجب التقلید فی هذا المورد(3). والدلیل علی ذلک واضح، لأنّ التقلید إنّما یصحّ فی فرض عدم العلم بالحکم، وفی الموارد أعلاه العلم حاصل للمکلّف.

الرابع: نبذة تاریخیة عن التقلید

التقلید فی صدر الإسلام

یعتقد الکثیر من المفکّرین بأنّ تاریخ التقلید بین المسلمین یمتدّ إلی صدر الإسلام وعصر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، لأنّه لا شکّ فی أنّ أصحاب النبیّ لم یکونوا سواء، فبعض کالإمام علیّ علیه السلام وسلمان الفارسیّ، ومعاذ ابن جبل وأمثالهم، تعلّموا من النبیّ صلی الله علیه و آله القواعد العامّة للدین، ومع إحاطتهم ومعرفتهم بالقرآن والسنّة فإنّهم کانوا یملکون القدرة علی تشخیص المصادیق بصورة دقیقة، وبالتالی معرفة حکم اللَّه والعمل به وتعلیم الناس بذلک.

ومن هنا یمکن القول أنّ آیة «النَفْر» فی الواقع تعکس فی مضمونها هذه الحقیقة، لأنّ ظاهر سیاق:

«فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»(4). تشیر إلی أنّ طائفة من الصحابة الذین کانوا متواجدین فی المدینة قد تعلّموا المعارف الدینیة والأحکام الشرعیة من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ونقلوها إلی الآخرین، رغم أنّ هذه الآیة تستوعب فی عمومها جمیع المعارف الدینیة والأحکام الشرعیة، وکذلک فإنّ ما ینقله هؤلاء


1- العروة الوثقی، کتاب التقلید، المسألة 2.
2- الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، ج 13، ص 160.
3- انظر: العروة الوثقی، کتاب التقلید، المسألة 6؛ التنقیح، ج 1، ص 76؛ المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2392؛ مستمسک العروة، ج 1، ص 10.
4- سورة التوبة، الآیة 122.

ص: 477

المبلّغون من معارف دینیة إلی الناس لیست بالمعنی المصطلح للاجتهاد، ولم یکن الناس یعملون بکلام هؤلاء المبلّغین من موقع التقلید الاصطلاحی، ولکن لا شکّ فی أنّ هؤلاء المبلّغین یتحرّکون فی بعض الموارد علی مستوی استخراج الفروع والأحکام الفرعیة من الأصول الکلّیة، وکان عملهم مصداق الاجتهاد وتبعیة الناس، وبذلک یتحقّق التقلید.

وفی عصر أئمّة أهل البیت علیهم السلام کان الکثیر من المسلمین، الذین لم یتمکّنوا من الإحاطة بالعلوم الدینیة، یراجعون مثل هؤلاء المبلّغین فی صورة عدم توصّلهم إلی المعصوم. وهذا العمل بدوره بمثابة التقلید الذی أیّده الأئمّة وقالوا بصحّته، رغم أنّ الاجتهاد فی ذلک العصر کان یخطو خطواته البدائیة، وهنا نشیر إلی بعض هذه الموارد:

1) یقول الإمام الباقر علیه السلام لأبان بن تغلب الذی کان من فضلاء أصحابه:

«إجْلِسْ فی مَسْجِدِ المَدِینَةِ وأَفْتِ النّاسَ فإنّی أُحِبُّ أن یُری فی شِیْعَتِی مِثْلُک»(1).

2) وکذلک سأل شخص الإمام الرضا علیه السلام:

«لَا أکَادُ أصِلُ إلَیْکَ أسألکَ عن کلِّ ما أحتاج إلیه من مَعالم دینی، أفَیونُس بنُ عبدِالرّحمن ثقةٌ آخُذ عنه ما أحتاجُ إلیه من مَعالم دینی؟ فقال: نَعَم»(2).

3) وسأل شخص آخر الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام أیضاً:

«شُقَّتِی بَعِیدَةٌ ولَستُ أصِلُ إلیک فی کُلِّ وقتٍ، فَمِمَّن آخُذ مَعالِمَ دِینی؟ قال: مِن زَکَرِیّا بنِ آدَمَ القُمِّی المأمُونِ علی الدِّینِ والدُّنْیا»(3).

تقلید الصحابة والتابعین:

وقد کان المسلمون فی صدر الإسلام- لاسیّما الأشخاص الذین دخلوا فی الإسلام متأخّرین ولم یدرکوا النبیّ- یسألون مسائلهم وأحکامهم من الصحابة وخاصّة من علمائهم، وفی العصور اللاحقة کانوا یسألون التابعین. ومن بین الصحابة الذین کانوا یفتون الناس، مضافاً إلی الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام یمکن الإشارة إلی ابن عباس، ابن مسعود، زید بن ثابت وجماعة آخرین (4).

ومن بین التابعین ممّن کان من أصحاب الفتوی وکان الناس یأخذون منه أحکامهم الشرعیة یمکن الإشارة إلی: سعید بن المسیّب (م 94) وسعید بن جبیر (م 95)(5).

تقلید فقهاء مذاهب أهل السنّة:

وقد ظهر فقهاء کثیرون منذ بدایة القرن الثانی إلی بدایة القرن الرابع الهجریّ وقد اتّسع نطاق هذا الأمر بحیث کان فی کلّ مدینة فقیه یفتی الناس، وکلّ واحد منهم یملک منهجاً خاصّاً فی الاستنباط والإفتاء، وقالوا:

«إنّ المذاهب المختلفة فی ذلک العصر قد بلغت أکثر من مائة مذهب»(6).

وبعد ذلک قرّروا تحدید المذاهب هذه بأربعة مذاهب (الحنفی، المالکی، الشافعی والحنبلی) وعلی الجمیع أن یقلِّدوا أئمّة هذه المذاهب الأربعة (انظر إلی بحث المراحل التاریخیة للفقه الإسلامی فی هذا الکتاب).


1- مستدرک الوسائل، ج 17، ص 315، ح 14.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 107، ح 33.
3- المصدر السابق، ص 106، ح 27.
4- انظر: موسوعة الفقه الإسلامی( موسوعة جمال عبدالناصر)، ج 1، ص 25؛ تاریخ التشریع الإسلامی، ص 82- 84.
5- انظر: تهذیب التهذیب، ج 4، ص 76.
6- دائرة المعارف الإسلامی الکبیر، ج 6، ص 605.

ص: 478

تدوین کتب الفتوی:

بالرغم من أنّ الفقهاء الماضین قد ألّفوا رسائل عملیة لمقلِّدیهم وأحیاناً کانت تسمّی ب «المسائل ...» مثل: المسائل الجیلانیّة، والمسائل الرجبیّة للشیخ الطوسی وبعدها کتاب «الجامع العبّاسی» للشیخ البهائی و «جامع الشتات» للمیرزا القمّیّ، ولکن أوّل متن رسالة عملیة فی الفتاوی تمّ تدوینها بواسطة عدد من فضلاء الحوزة العلمیة فی قمّ وفی عصر الفقیه المعروف السیّد محمّد حسین البروجردی، حیث تمّ تدوینها وفقاً لفتاواه، وکانت هذه الخطوة مؤثّرة فی طریق بیان الأحکام الفقهیة من موقع الوضوح لعامة الناس، وتعتبر أوّل خطوة فی هذا السبیل حیث کانت کتب الفتوی السابقة زاخرة بالمصطلحات المعقّدة فی مسائل الفقه مثل رسالة «جامع الشتات للمیرزا القمیّ» (م 1231) وقد سمّیت هذه الرسالة باسم «توضیح المسائل»، من حیث سیاق عباراتها الواضح وعدم وجود تعقیدات علمیة وأدبیة فیها مع کونها فی غایة الدقّة والانسجام، ولهذا السبب فقد خلّفت أثراً عمیقاً فی أوساط المتدینین ویسّرت لهم فهم الأحکام الدینیة والفتاوی الواردة فیها.

وبعد السیّد البروجردی أخذ مراجع التقلید الکبار من الشیعة بالاستفادة من هذه الرسالة العملیة فی تقریر فتاواهم علی أساس عباراتها إلی عصرنا الحاضر، ومع إعادة تدوین کتاب «توضیح المسائل» وإضافة أجوبة المسائل المستحدثة، أخذت الرسائل العملیة تظهر للناس بشکل أفضل وجدید وأکثر انسجاماً.

وفی دائرة فقهاء أهل السنّة نری بعض الکتب الفتوائیة أیضاً بعنوان «مجموعة الفتاوی ...» التی تتضمّن إجابات وفتاوی لأتباعهم ومقلِّدیهم.

الخامس: التقلید فی أصول الدین

اشارة

المشهور بین علماء الإسلام بین الفریقین عدم جواز التقلید فی أصول الدین والأحکام العقائدیة، بل ینبغی للمکلّف التحقیق فی هذه المسائل وتحصیل الیقین أو الاطمئنان. وإن ذهب جماعة إلی جواز التقلید فی أصول الدین، کما سیأتی الدلیل علی قولهم هذا.

الأدلّة علی عدم جواز التقلید فی أصول الدین:

إنّ أهمّ هذه الأدلّة هو الدلیل العقلیّ، لأنّ المکلّف یجب علیه- بقاعدة دفع الضرر المحتمل- أن یتحرّک علی مستوی دفع الضرر المحتمل والکشف عن حقائق عالم الخلقة ومعرفة أسرار هذا العالم، وبالتالی معرفة تکلیفه إزاء ما یفرضه واقع الخلقة علیه. فلا یمکن الوقوف علی الحیاد أمام دعوات الأنبیاء الإلهیین ودعاة الخیر والصلاح والثواب الإلهی، لأنّ العقل یحتمل علی الأقّل وجود تکالیف علی الإنسان فی مقابل خالق هذا العالم وما یفرضه من مسؤولیات تقتضی البحث عن عوامل السعادة والشقاء فی حرکة الحیاة من أجل إنقاذ نفسه من العذاب المحتمل.

ومن أجل التخلّص من الضرر المحتمل والوصول إلی السعادة الموعودة، لا یمکن سلوک هذا الطریق من موقع تقلید الآخرین واتّباعهم، لأنّ الأدیان والأفکار والمذاهب مختلفة، وکلّ دین ومذهب یملک طریقاً یعتقد بأنّه طریق الحقّ، وأنّه یملک العقائد الحقّة وماعداها طرق زائفة ولا تقود الإنسان إلی طریق الخیر والسعادة، وهنا لابدّ للإنسان من سلوک طریق الهدایة بأدوات العقل والتحقیق والفحص لا من خلال التقلید والتبعیة، ولذلک ینبغی له أن یتحرّک لمعرفة العقائد

ص: 479

الحقّة وتفاصیل أصول الدین من موقع الاستدلال والبرهان ویتحرّک بالتالی فی سلوکیاته وأعماله علی هذا الأساس.

مضافاً إلی ذلک، فإنّ التقلید فی المسائل العقائدیة یستلزم الدور والتسلسل، لأنّ الاعتماد علی الکلام الإلهیّ فی القرآن الکریم أو کلام النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو کلام أولیاء الدین فیما یتّصل بالمسائل العقائدیة، إنّما یتفرّع ویبتنی علی أساس حجّیة هذا الکلام ومقبولیته وهذا یتوقّف علی أن یثبت فی مرحلة سابقة ومن خلال الدلیل العقلی وجود اللَّه وصحّة النبوّة وحجّیة القرآن بعنوانه کتاباً إلهیاً، وحجّیة أقوال أئمّة الدّین، لکی یمکن بالتالی الاستدلال بأقوالهم وکلماتهم، ولهذا السبب فإنّ الأصول العقائدیة یجب أن تقوم علی الموازین العقلیة القطعیة لکی یتمکّن المکلّف من الاستفادة والاستعانة بکلماتهم وما ورد عنهم من أحکام وأصول فی مقام الاستدلال.

إنّ الآیات القرآنیة بدورها تذم الکفّار والمشرکین بسبب تقلیدهم للماضین فی المسائل العقائدیة، ومن ذلک ما ورد فی الآیة 22 من سورة الزخرف حکایة عن قول المشرکین: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَی آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ».

وفی آیة أخری یقول: « «إِنَّ الَّذِینَ لَایُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَیُسَمُّونَ الْمَلَائِکَةَ تَسْمِیَةَ الْأُنْثَی وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»(1).

إنّ مسألة الاعتقاد بالملائکة وادّعاء هؤلاء المشرکین بأنّ الملائکة من الإناث وهی فی الواقع مسألة عقائدیة، واللَّه تعالی ذمّهم علی أساس أنّ کلامهم هذا یصدر من موقع الظنّ لا من موقع العلم والیقین.

ویستفاد من هذه الآیة وآیات أخری مشابهة لها أنّه لا ینبغی للإنسان أن یتّبع الظنّ والاحتمال إلّافی موارد قام الدلیل القطعی علی جوازها، والأصول العقائدیة لا تدخل فی هذه الدائرة ولا ینبغی اتّباع الظنّ فیها.

یقول الفخر الرازی فیما یتّصل بعدم جواز التقلید فی أصول الدین: «إنّ تحصیل العلم فی أصول الدین واجب علی الرسول (ص) فوجب أن یجب علینا، وإنّما قلنا إنّه کان واجباً علی الرسول (ص) لقوله تعالی: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»(2)؛ وإنّما قلنا إنّه لمّا کان واجباً علی الرسول (ص) وجب أیضاً علی أُمّته، لقوله تعالی:

«وَاتَّبِعُوهُ»(3) وعلیه یجب اتّباع الرسول (ص) ونصل فی أصول الدین بالیقین ولا یکفی التقلید»(4).

ویقول فی مکان آخر: «وهو أن یقال: دلّ القرآن علی ذمّ التقلید لکن ثبت جواز التقلید فی الشرعیات فوجب صرف الذمّ إلی التقلید فی الأصول»(5).

واستدلّ بعض علماء أهل السنّة علی عدم جواز التقلید فی أصول الدین، مضافاً إلی بعض الآیات الکریمة بدلیلین آخرین:

1. إنّ جمیع العلماء متّفقون علی وجوب معرفة اللَّه ومعلوم أنّ هذه المعرفة لا تقوم علی أساس التقلید، لأنّه من الممکن أن یکون المتحدّث عن اللَّه وعن الاعتقاد به کاذباً، ولذلک لا یصحّ اتّباع سبیل التقلید فی معرفة اللَّه (6).


1- سورة النجم، الآیة 27 و 28.
2- سورة محمّد، الآیة 19.
3- سورة الأعراف، الآیة 158.
4- المحصول، ج 2، ص 467.
5- المصدر السابق، ص 468.
6- إرشاد الفحول، ج 2، ص 331؛ المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2390.

ص: 480

وهذا الکلام قابل للمناقشة والنقد، لأنّ المعرفة علی نوعین: معرفة یقینیة، ومعرفة حاصلة من الظنون المعتبرة عند العقلاء، وعلیه، فبالنسبة للعوام من الناس فإنّهم یتّبعون فی معرفة أصول الدین علماءهم الذین یعتمدون علیهم ویثقون بهم من حیث علمهم وعدالتهم وصدقهم، وبذلک یحصل لدیهم نوع من المعرفة وإن کانت غیر قطعیة تماماً، ومعتبر عند العقلاء ولا دلیل علی عدم کفایته.

2. بالإمکان مقارنة أصول الدین بأرکان الإسلام وقیاسها علیها، فکما أنّ التقلید فی أصل وجوب الصلاة والزکاة والحجّ والصیام غیر صحیح، فکذلک التقلید فی أصول الدین غیر صحیح أیضاً ولا یجوز(1).

وهذ الاستدلال بدوره یمکن المناقشة فیه، لأنّ عدم التقلید فی دائرة أرکان الإسلام یعود إلی کونها ضروریة فی الإسلام. أی أنّها واضحة إلی درجة لا یحتاج المکلّف معها إلی التقلید، وإلّا فعامة الناس قد سمعوا وجوب هذه الأرکان أیضاً من علماء الدین لا أنّهم اکتشفوا ذلک وأثبتوا وجوبها من المنابع الأصلیة للدین.

یقول ابن حجر العسقلانی فی «فتح الباری»، بعد أن بحث فی جواز التقلید فی أصول الدین أو عدم جوازه:

«قال البعض: إنّ الواجب علی کلّ أحد معرفة اللَّه بالأدلّة علیه، وأنّه لا یکفی التقلید فی ذلک «أصول الدین» وقال الآخرون: یکفی التقلید المحض فی إثبات وجود اللَّه تعالی- ونقل عن أحد العلماء قوله: یمکن أن یفصل فیقال: من لا له أهلیّة لفهم شی ء من الأدلّة أصلًا وحصل له الیقین التامّ بالمطلوب، إمّا بنشأته علی ذلک أو لنور یقذفه اللَّه فی قلبه فإنّه یکتفی منه بذلک، ومن فیه أهلیة لفهم الأدلة لم یکتف منه إلّابالإیمان عن دلیل ...».

ویقول فی الختام: «لا یکفی إیمان المقلّد فلا یلتفت إلیه لما یلزم منه من القول بعدم إیمان أکثر المسلمین»(2).

ویبدو أنّ کلام ابن حجر الأخیر قابل للتأمّل والمناقشة، لأنّ أکثر المسلمین لا یتحرّکون فی أصولهم الاعتقادیة من موقع التقلید المحض، بمعنی أنّ بعض الناس ربّما یکون أساس اعتقادهم فی البدایة مقتبس من آبائهم کما هو الحال فی الأحکام الفرعیة حیث یتّبعون آباءهم أیضاً، ولکنّهم بعد وصولهم إلی مرتبة الرشد العقلیّ، یکون بإمکانهم الاستقلال فی فهم الأصول العقائدیة المهمّة من موقع الاستدلال العقلانی، فإذا قالوا: نحن نعتقد بأنّ اللَّه موجود أو نعتقد بالتوحید لأنّ آباءنا قالوا لنا ذلک، فإنّ هذا المقدار لا یکفی.

ویقول الشوکانی فی «إرشاد الفحول» بعد بحثه هذه المسألة وهی: ما حکم من اعتقد بوجود اللَّه بدون دلیل؟

یقول: «إنّ أکثر العلماء یقولون أنّه مؤمن وإن کان یعدّ فاسقاً بسبب ترکه للاستدلال».

ثمّ یقول: ذهب الأشاعرة وجمیع المعتزلة إلی أنّ هذا الشخص لا یعدّ مؤمناً ما لم یخرج من زمرة المقلِّدین فی دائرة أصول الدین.

ثمّ إنّ الشوکانی ینتقد هذا الکلام بشدّة ویقول: علی هذا الأساس یجب أن یکون أکثر الناس الذین هم من العوامّ ولا یتمکّنون من إقامة الدلیل علی أصول الدین، غیر مؤمنین (3).

ومعلوم أنّ مراده من عدم إقامة الدلیل، الدلیل التفصیلی الذی یستدلّ به المتکلّمون، وإلّا فإنّ أکثر


1- المهذب فی أصول الفقه المقارن، ج 5، ص 2390.
2- انظر: فتح الباری، ج 15، ص 297- 303.
3- ارشاد الفحول، ج 2، ص 332.

ص: 481

الناس من العوامّ قادرون بمقدار قابلیتهم علی الاستدلال بشکله البسیط والساذج.

وفی نظرنا أنّ أفضل وأهمّ دلیل علی بطلان التقلید فی أصول الدین هو أنّ التقلید للآخرین یحتاج بدوره إلی دلیل، وهذا الدلیل ینحصر بفروع الدین، لأنّ سیرة العقلاء من جهة تقوم علی الرجوع فی کلّ علم إلی المختصّین وأهل الخبرة فی ذلک العلم، والفروع الفقهیة غیر مستثناة من هذه القاعدة، ومن جهة أخری فإنّ الکثیر من الناس غیر قادرین علی استنباط أحکام فروع الدین من الأدلّة الأربعة، فإذا لم یتّبعوا علماء الدین فی ذلک، فإنّ التوصّل إلی الأحکام الشرعیة سیوصد أمامهم بشکل تام.

ولکنّ أصول الدین لیست کذلک، لأنّها من الأمور الفطریة المحدودة بدائرة خاصّة وکلّ إنسان یتمکّن بعقله من التحرّک علی مستوی التفکیر وإیجاد الدلیل علیها وإثباتها بالبرهان، کما ورد فی قصص العرب من الاستدلال الساذج والبدیهی فی إثبات وجود اللَّه (1)، وبالنسبة للنبوّة فیمکن الاستدلال بالمعجزات المتواترة والقرآن، وهکذا دلیل المعاد فی ما یقتضیه العدل الإلهی، ومع الحصول علی الدلیل القطعی فلا تصل النوبة إلی التقلید.

القائلون بجواز التقلید فی أصول الدین وأدلتهم:

ذهب الفخر الرازی إلی أنّ الکثیر من الفقهاء یعتقدون بجواز التقلید فی أصول الدین أیضاً(2). ویقول الآمدی أیضاً: إنّ «الحشویّة» و «التعلیمیّة»(3) اختلفوا «فی جواز التقلید فی المسائل الأصولیة المتعلّقة بوجود اللَّه تعالی، وما یجوز علیه وما لا یجوز علیه، وما یجب وما یستحیل علیه، فذهب الحشویة والتعلیمیة إلی جوازه، وربّما قال بعضهم أنّه واجب علی المکلّف وأنّ النظر فی ذلک والاجتهاد فیها حرام»(4).

وأمّا أدلّة هؤلاء القائلین بالجواز فأهمّها:

1. ینقل الغزالی عن العلماء الذین یعتقدون بجواز التقلید فی الأصول أنّهم یستدلّون بهذه الآیة الشریفة:

«مَا یُجَادِلُ فِی آیَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِینَ کَفَرُوا»(5).

وکذلک ورد النهی عن الجدال فی موضوع «القَدَر».

ویقول الغزالی فی جواب ذلک: «قلنا: نهی عن الجدل الباطل کما قال: «وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِیُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» بدلیل قوله تعالی: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(6) وأمّا القدر(7) فنهاهم عن الجدال فیه، إمّا لأنّه کان قد وقفهم علی الحقّ بالنصّ، فمنعهم عن المُماراة فی النص، أو کان فی بدء الإسلام، فاحترز عن أن یسمعه المخالف فیقول: هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم فی الدین، أو لأنّهم کانوا مدفوعین إلی الاجتهاد الذی هو أهم عندهم».


1- عندما سئل عن معرفة اللَّه ووجوده قال:« البعرة تدلّ علی البعیر؛ وأثرالأقدام علی المسیر، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، لا تدلّان علی اللطیف الخبیر»( بحار الأنوار، ج 66، ص 134؛ زاد المسیر لإبن الجوزی، ج 1، ص 310).
2- المحصول فی علم الأصول، ج 2، ص 467.
3- کانت« التعلیمیّة» طائفة من« الإسماعیلیّة» حیث رفضوا الدلیل العقلی، وکانوا یعتقدون بتعلیم الإمام المعصوم فی المسائل الدینیة فقط( الانساب للسمعانی، ج 1، ص 468).
4- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 446. نسب الشوکانی ذلک إلی الظاهریین وکانوا یعتقدون بجواز التقلید فی أصول الدین( إرشاد الفحول، ج 2، ص 331).
5- سورة غافر، الآیة 4.
6- سورة النحل، الآیة 125.
7- ورد فی الروایة عندما لاحظ النبیّ صلی الله علیه و آله جماعة من الصحابة یتحدّثون فی مسألة« القَدَر»، فقال« إنّما هلک من کان قبلکم لخوضهم فی هذا».( الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 447 و 448).

ص: 482

ثمّ أضاف: «ثمّ إنّ تعارضهم بقوله تعالی: «لَاتَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»(1) و «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَی اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ»(2) و «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَکُمْ»(3) هذا کلّه نهیٌ عن التقلید وأمرٌ بالعلم»(4).

وفیما یتّصل بمسألة «القَدَر» یمکن القول: إنّه مع الالتفات إلی عمق هذه المسألة وتعقیداتها، فإنّ الشارع لم یسمح لمن لا یملکون الاستعداد الکافی ولا یجدون الأدلّة العلمیة المناسبة، أن یتوغّلوا فی التحقیق فی هذه المسألة، وإلّا فإنّ الروایات الإسلامیة الواردة عن أولئک الأئمّة بیّنت الکثیر ممّا یتّصل بمسائل القضاء والقدر للطالبین (5).

3. ومن جملة أدلّة القائلین بجواز التقلید فی أصول الدین ما ورد فی الأحادیث الشریفة أنّ الأعرابیّ العامیّ کان یحضر ویتلفّظ بکلمتی الشهادة وکان رسول اللَّه (علیه الصلاة والسلام) یحکم بصحّة إیمانه وما ذلک إلّا التقلید (أی لم یطلب منه دلیلًا علی أصول الدین والاعتقاد باللَّه و رسوله ...)(6).

وبعد أن ینقل الفخر الرازی هذا الدلیل وأدلّة أخری من هذا القبیل، یرجع البحث فیها إلی الکتب الکلامیة ویقول أخیراً: والمهمّ، أنّ لهذه المسألة أبحاثاً دقیقة مذکورة فی الکتب الکلامیة، الأَولی فی هذه المسألة أن یعتمد علی وجه، وهو أن یقال: دلّ القرآن علی ذمّ التقلید لکن ثبت جواز التقلید فی الشرعیات فوجب صرف الذمّ إلی التقلید فی الأصول»(7).

والصحیح أن یقال: إنّ مثل هؤلاء الأشخاص یملکون دلیلًا مهمّا کان ساذجاً لإثبات عقیدتهم.

ویذکر «الآمدی» أیضاً فی کتابه أدلّة أخری لهؤلاء القائلین بالجواز ویجیب عنها(8)، وهذه الأدلّة إلی درجة من الضعف بحیث لا نری حاجة إلی ذکرها والإجابة عنها.

ملاحظة: ونری من الضروری الإشارة إلی هذه النقطة، وهی أنّ أصول الدین علی قسمین، قسم منها تمثّل أساس العقائد التی لا یجوز فیها التقلید ولابدّ فیها من الاستدلال والاجتهاد (کلّ بمقدار قابلیته وطاقته ومعرفته)، من قبیل إثبات وجود اللَّه والتوحید وأصل ضرورة إرسال الرسل ونبوّة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله والمعاد وما إلی ذلک، ولکنّ القسم الآخر من الأصول العقائدیة یجوز فیها الرجوع إلی علماء الدین وأهل الخبرة کما فی بعض خصوصیات یوم القیامة وأوصیاء النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وصفات اللَّه تعالی.

فمثل هذه الأمور وإن کانت من جملة الأصول العقائدیة، ولکنّ الاعتقاد بها بالاعتماد علی الأدلّة النقلیة (الکتاب والسنّة) جائز. بمعنی أنّ المکلّف بعد أن یعتقد بوجود اللَّه وبالنبوةّ ویعتقد بالکتب السماویة، فإنّه یتحرّک علی مستوی الاستفادة من الأخبار الواردة فی هذه الکتب عن بعض المسائل التی تتّصل بأصول العقیدة.

السادس: عدم صلاحیة مسألة التقلید، للتقلید

مع الالتفات إلی أنّ کلّ مکلّف یعلم إجمالًا بوجود أحکام إلزامیة فی الشریعة الإسلامیة، من الواجبات


1- سورة الاسراء، الآیة 36.
2- سورة البقرة، الآیة 169.
3- سورة الأنبیاء، الآیة 24.
4- المستصفی، ج 2، ص 389.
5- انظر: بحارالأنوار، ج 5، ص 95 و ج 16، ص 96، ح 20 و ص 111، ح 36؛ کنزالعمّال، ج 1، ص 107 وما بعدها.
6- المحصول فی علم الاصول، ج 2، ص 467.
7- المصدر السابق، ص 468.
8- انظر: الإحکام فی أصول الاحکام، ج 4، ص 447- 450.

ص: 483

والمحرّمات، والتی یجب علیه معرفتها والعمل وفقها، فإنّ معرفة هذه الأمور إمّا أن تقوم علی أساس الاجتهاد أو تقلید المجتهد الجامع للشرائط.

فإذا کان الإنسان مجتهداً، فإنّه یحصل لدیه القطع ببراءة الذِمّة، ولکن إذا کان مقلِّداً، فإنّ تقلیده لا یکفی لإبراء ذمّته، إلّاإذا کان علی یقین من أنّ تقلید المجتهد صحیح وکافٍ فی المقام، ومن هنا فلا ینبغی التقلید فی مسألة تقلید المجتهد بل یجب أن یکون علی یقین بأنّ وظیفته التقلید ولا سبیل له لبراءة الذمّة سوی طریق التقلید(1). وبعبارة أخری: إنّ التقلید فی مسألة جواز التقلید یستلزم (الدور).

وفی الواقع فإنّ أصل ضرورة تقلید المجتهد الجامع للشرائط لا ینبغی أن یکون مستنداً إلی التقلید، وإن جاز التقلید فی بعض خصوصیات هذه المسألة مثل جواز تقلید المیّت.

السابع: التقلید فی دائرة الموضوعات

والبحث الآخر المطروح هنا هو: هل أنّ التقلید فی الموضوعات الشرعیة وتطیبقها علی المصادیق الخارجیة، یجب علی العوامّ، أم لا؟

وفی الجواب نقول: إنّ الموضوعات الشرعیة علی أقسام، فبعضها یجب فیها التقلید والبعض الآخر لا یجب وینبغی علی المقلِّد العمل وفق نظره ورأیه (وتفصیل هذا الموضوع تقدّم فی هذا الکتاب فی بحث:

الفقه فی اللغة والاصطلاح).

الثامن: تقلید الأعلم

هل یجب علی المکلّف تقلید الأعلم أم لا؟ وقع فی ذلک کلام بین العلماء، یقول الفقیه الکبیر السیّد محسن الحکیم: «کما هو المشهور بین الأصحاب، بل عن المحقّق الثانی، الإجماع علیه، وعن ظاهر السیّد (المرتضی) فی «الذریعة» کونه من المسلّمات عند الشیعة، وعن جماعة ممّن تأخّر عن الشهید الثانی جواز الرجوع إلی غیر الأعلم»(2).

ویظهر من کلمات «الفخر الرازی» وجود خلاف فی هذه المسألة بین علماء أهل السنّة أیضاً، ویقول: «إذا کان المجتهدان متّفقین فی الفتوی، فیجب العمل بتلک الفتوی ولا إشکال فی ذلک، ولکن لو اختلفا فیجب علی المقلِّد أن یتبع الأعلم والأورع، ولکن ذهب البعض إلی عدم الحاجة فی ذلک (ویمکنه تقلید أیّاً منهما)(3).

ویعتقد الفخر الرازی بأنّه فی صورة عدم الاختلاف لا یجب الفحص عن الأعلم، ویمکنه أن یرجع إلی أیٍّ منهما، ولکن إذا کان هناک اختلاف فی الفتوی فیری الرازی لزوم العمل بالأفضل»(4).

ویقول «الآمدی» بدون الإشارة إلی اختلاف أو اتفاق العلماء: «بل یلزمه الاجتهاد فی أعیان المفتین من الأورع والأدین والأعلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سریج والقفّال من أصحاب الشافعی، وجماعة من الفقهاء الأصولیین»(5).

واستدلّ العلماء علی عدم لزوم الرجوع إلی الأعلم بدون الإشارة إلی الاختلاف، بعدّة أدلّة، منها:

1. الآیات القرآنیة مثل: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ» وهی


1- انظر: موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ص 62.
2- مستمسک العروة، ج 1، ص 26.
3- المحصول، ج 2، ص 462.
4- المستصفی، ج 2، ص 390.
5- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 457.

ص: 484

مطلقة وتشمل الأعلم وغیر الأعلم (1)، وبعبارة أخری: إنّ مجرّد کون الشخص عالماً ومجتهداً وصاحب نظر فی علمه یسوّغ الرجوع إلیه ولا ضرروة للرجوع إلی الأعلم.

وقد ذکر آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم من أدلّة القائلین بعدم لزوم الرجوع إلی الأعلم: إنّ أدلّة الکتاب والسنّة مطلقة، وحمل آیة «النفر» وآیة «السؤال» فی صورة تساوی المسؤولین، هو حمل علی الفرد النادر(2).

2. إنّ لزوم الرجوع إلی الأعلم خلاف السیرة، وعلی حدّ تعبیر الآمدی «إنّ الصحابة کان فیهم الفاضل والمفضول من المجتهدین، فإنّ الخلفاء الأربعة کانوا أعرف بطریق الاجتهاد من غیرهم ... ومع ذلک لم ینقل عن أحد من الصحابة والسلف تکلیف العوامّ الاجتهاد فی أعیان المجتهدین، ولا أنکر أحد منهم إتّباع المفضول والاستفتاء منه مع وجود الأفضل .. وتأیید ذلک بقوله (علیه السلام):

«أصحابی کالنّجوم بأیّهم اقتدیتم اهتدیتم»»(3).

ویقول السیّد محسن الحکیم أیضاً لدی استعراضه أدلّة هذه الطائفة: «ولاستقرار سیرة الشیعة فی عصر المعصومین علیهم السلام علی الأخذ بفتاوی العلماء المعاصرین لهم مع العلم باختلاف مراتبهم فی العلم و الفضیلة، ولأنّ فی وجوب الرجوع إلی الأعلم عسراً، وهو منفیّ فی الشریعة، ولأنّه لو وجب تقلید الأعلم لوجب الرجوع إلی الأئمّة لأنّهم أولی من الأعلم»(4).

ولکن یمکن الإجابة عن جمیع هذه الأدلّة ببیان واحد، وهو أنّ تقلید الأعلم یعتبر أمراً مسلّماً فی موارد وجود اختلاف بین فقیهین فی مسألة معیّنة، إمّا علی نحو الإجمال أو علی نحو التفصیل.

هنا یحکم العقل والعقلاء أنّه مع وجود الأعلم لا ینبغی التوجّه إلی غیر الأعلم، کما أنّه لو کان لدینا طبیبان لعلاج مرض معیّن وکان الشخص علی یقین من اختلافهما وکان أحدهما أعلم من الآخر وأکثر تجربة، فإنّ العقل والعقلاء لا یُسوِّغون ترکه والعمل بقول الطبیب الآخر الذی هو أقلّ منه علماً وتجربة. ومع الالتفات ا لی أنّ أهمّ دلیل علی جواز التقلید فی فروع الدین هو دلیل العقل وسیرة العقلاء فی العمل فی مثل هذه الموارد، فلذلک فإنّ تقلید الأعلم واجب.

إنّ إطلاق الآیات والروایات منصرف قطعاً عن شمول هذه الموارد التی یحرز فیها وجود اختلاف بین فتوی الأعلم وغیر الأعلم.

التاسع: تقلید المیّت

اشارة

هل یجوز تقلید المجتهد المیّت أم لا؟ وقع کلام بین العلماء فی هذه المسألة، ویظهر من کلام «الفخر الرازی عدم جواز تقلید المیّت. حیث ذکر بحثاً فی هذه المسألة، وهی: هل یستطیع غیر المجتهد أنّ یفتی بما نقله عن الآخرین؟ ویجیب عن ذلک بالقول:

«اختلفوا فی أنّ غیر المجتهد هل تجوز له الفتوی بما یحکیه عن الغیر، فنقول: لا یخلو إمّا أن یحکی عن میّت أو عن حیّ فاحکی لأنّه عن میّت لم یجز الأخذ بقوله لأنّه لا قول للمیّت بدلیل أنّ الإجماع لا ینعقد مع خلافه حیّاً وینعقد مع موته، وهذا یدلّ علی أنّه لم یبق له قول بعد موته»(5).


1- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 98.
2- مستمسک العروة، ج 1، ص 26.
3- الإحکام فی أصول الأحکام، ج 4، ص 458.
4- مستمسک العروة، ج 1، ص 26.
5- المحصول، ج 2، ص 456.

ص: 485

وفی «إرشاد الفحول بعد نقله لما ذکر أعلاه یقول:

«وفی کلامه هذا (الفخر الرازی فی المحصول) التصریح بالمنع من تقلید الأموات، وقد حکی الغزالی فی کتاب «المنخول» إجماع أهل الأصول علی المنع من تقلید الأموات»(1).

ویقول «النووی فی «المجموع» بعد أن یقرّر وجود وجهین لجواز تقلید المیّت، یقول: «الصحیح جوازه، لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولهذا یعتدّ بها بعدهم فی الإجماع والخلاف».

ثمّ یستدل لهذه المسألة بالقول: «لأنّ موت الشاهد قبل الحکم لا یمنع الحکم بشهادته، بخلاف فسقه».

ثمّ إنّه ینقل دلیل القائلین بعدم جواز تقلید المیّت ویقول: «إنّ المیت کالفاسق الذی سقط من الأهلیة»؛ ثمّ یضیف: «هذا ضعیف لاسیّما فی هذه الأعصار»(2).

یقول الدکتور «وهبة الزحیلی»: «زاد بعضهم ... أنّه لابدّ من صحّة التقلید أن یکون صاحب المذهب حیّاً وقت التقلید، لکن هذا مردود عند العلماء، لأنّ الشیخین النووی والرافعی اتّفقا علی جواز تقلید المیت»(3).

والجدیر بالذکر أنّ الأکثریة الساحقة من علماء أهل السنّة یتّبعون أحد فقهاء المذاهب الأربعة، وهذا بنفسه دلیل علی قولهم بجواز تقلید المیّت، وإذا ظهر مَن یخالف هذا القول فهو شاذّ ونادر.

وأمّا من فقهاء الإمامیّة، فیقول «صاحب الجواهر»:

«مع أنّ عدم جواز (تقلید) المیّت ابتداءً مفروغ منه بین أصحابنا و قد حکی الإجماع علیه غیر واحد، إنّما الکلام فی جواز بقائه علی ما قلّده فیه زمن حیاته وعدمه، فبین قائل بوجوبه، ومن قال بحرمته، والتحقیق التخییر»(4).

ویقول صاحب کتاب «کفایة الاصول : «اختلفوا فی اشتراط الحیاة فی المفتی، والمعروف بین الأصحاب الاشتراط، وبین العامّة عدمه، وهو خیرة الأخباریین وبعض المجتهدین من أصحابنا، وربّما نقل تفاصیل منها: التفصیل بین البدویّ فیشترط، والاستمراریّ فلا یشترط، والمختار ما هو المعروف بین الأصحاب، للشکّ فی جواز تقلید المیّت، والأصل عدم جوازه، ولا مخرج عن هذا الأصل إلّاما استدلّ به المجوّز علی الجواز (أی تقلید المیّت) وفیه وجوه (ثلاثة):

الأوّل: دعوی السیرة (أی سیرة العقلاء) علی البقاء فإنّ المعلوم من أصحاب الأئمّة علیهم السلام عدم رجوعهم عمّا أخذوه تقلیداً بعد موت المفتی ... «... ولا یختلف الحال بین الحیّ والمیّت، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ العمدة فی أدلّة جواز التقلید هو سیرة العقلاء، فعلی هذا فإنّ تقلید المیّت یجوز کتقلید الحیّ.

الدلیل الثانی: الاستصحاب وهو بقاء الرأی أو بقاء الحکم؛ أو بتعبیر آخر: بقاء حجیّة قول المجتهد قبل موته.

وقد أجابوا عن هذا الدلیل: یجب بقاء الموضوع فی الاستصحاب وقد تبدّل هنا.

الدلیل الثالث: الإطلاقات، إطلاق الآیات الدالّة علی التقلید «فاسئلوا أهل الذکر» مثلًا یصدق علی المیّت بلحاظ زمان الصدور.

ولکن وقف جماعة عند هذا الدلیل وقالوا: لیست هذه الإطلاقات فی مقام بیان هذه الجهة، وعلیه فإنّ عمدة دلیلهم علی جواز تقلید المیّت: و الدلیل الأوّل.


1- إرشاد الفحول، ج 2، ص 339.
2- المجموع النووی، ج 1، ص 87.
3- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 1، ص 133.
4- جواهرالکلام، ج 21، ص 402.

ص: 486

وأمّا دلیل القائلین بعدم جواز تقلید المیّت: عمدة إجماعیّ حیث ادّعی فقهاء الإمامیة أنّهم یعتقدون أنّ أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام کانوا دائماً یتّبعون آراء العلماء الأحیاء، ویأخذون المسائل الشرعیة منهم، فلو ثبت الإجماع، یمکن أن یقف أمام بناء العقلاء فی مسألة جواز التقلید للمیّت فی الأحکام الشرعیة، ولکن وجود الإجماع محلّ تأمّل فلو قبلنا الإجماع فإنّه یکون خاصّاً بالتقلید الابتدائی، وأمّا فی البقاء علی تقلید المجتهد السابق فلا یوجد إجماع قطعاً علی عدم الجواز».(1)

وهنا نری من الضروری الإشارة إلی نقطة مهمّة بإمکانها أن تکون مفتاحاً لحلّ هذه المسألة، وهی أنّ العلماء الأحیاء غالباً أعلم من العلماء الماضین من حیث معارفهم وعلومهم لا أنّهم أکثر قابلیة واستعداداً منهم بشکل مطلق، بل من جهة أنّهم یملکون، مضافاً إلی علوم القدماء، علوماً أخری، وهذا فی الحقیقة یشیر إلی السرّ فی تکامل العلوم حیث تتحرّک الأجیال اللاحقة من موقع التحقیق العلمیّ وإضافة علوم جدیدة إلی علوم السابقین وهکذا تتحرّک قافلة العلم إلی الأمام.

وعلی هذا الأساس فإنّ العلماء الأحیاء فی الغالب یکونون أعلم من العلماء الموتی، وهکذا بالنسبة للعلوم الأخری أیضاً، فربّما یکون الطبیب المعاصر أکثر وأغزر علماً من ابن سینا فی الطبّ، لأنّه جمع مع علوم ابن سینا علوماً وتجارباً کثیرة أخری انتقلت إلی الجیل المعاصر.

مضافاً إلی ذلک فإنّ تقلید العالم الحیّ یؤدّی إلی نموّ وتقویة الدین، ویفضی إلی بقاء حیویته ونشاطه، لأنّ العلماء الأحیاء یعیشون فی کلّ عصر وزمان الإحساس بالمسؤولیة الرسالیة بالنسبة لأحکام الدین والشریعة الإسلامیة، ویفکّرون دائماً فی تعمیق وتقویة مبانی الفقه الإسلامی.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. الاجتهاد والتقلید، الإمام الخمینی، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی، 1418 ق.

3. الإحکام فی الأصول الأحکام، علی بن أبی علی الآمدی، دارالکتب العلمیّة، بیروت.

4. إرشاد الفحول، محمّد بن علی الشوکانی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1419 ق.

5. الاصطلاحات الأصولیة، آیة اللَّه علی المشکینی، نشر الهادی، الطبعة الخامسة، 1413 ق.

6. الأنساب، عبدالکریم بن محمّد السمعانی، دارالجنان، بیروت، الطبعة الأولی، 1408 ق.

7. أنوار الأصول، أحمد القدسی، تقریر بحوث آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، مدرسة الإمام علی بن أبی طالب، الطبعة الأولی، 1424 ق.

8. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

9. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی، 1379 ش.

10. تهذیب التهذیب، أحمد بن علیّ بن حجر العسقلانی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1415 ق.


1- انظر: کفایة الاصول، ص 476- 480؛ موسوعة آیة اللَّه الخوئی، ج 1، ص 73- 90؛ أنوار الاصول، ج 3، ص 610- 641.

ص: 487

11. جواهر الکلام، محمّد حسن النجفی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة السابعة، 1981 م.

12. الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحرانی، مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الأول، 1363 ش.

13. دائرة المعارف الإسلامیة، دارالمعرفه، بیروت.

14. ذخیرة المعاد، المحقق السبزواری، نشر مؤسّسة آل البیت، الطبعة الحجریة.

15. شرح الأزهار، أحمد المرتضی، نشر غمضان، صنعاء، 1400 ق.

16. عدّة الأصول، محمّد بن الحسن الطوسی، نشر مؤسّسة آل البیت.

17. العروة الوثقی، السیّد محمّد کاظم الیزدی (مع حاشیة جماعة من المراجع)، المکتبة العلمیة الإسلامیّة، 1399 ق.

18. عنایة الأصول، السیّد مرتضی الحسینی الفیروزآبادی، منشورات الفیروزآبادی، الطبعة الرابعة، 1400 ق.

19. فتح الباری، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، دارالفکر، بیروت، الطبعةالأولی، 1420 ق.

20. فتح القدیر، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی، عالم الکتب.

21. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

22. الفوائد المدنیّة، محمّد أمین الاسترآبادی، دارالنشر لأهل البیت.

23. قوانین الاصول، المیرزا القمی، الطبعة الحجریة.

24. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

25. کفایة الأصول، الشیخ محمّد کاظم الخراسانی، مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعةالأولی، 1409 ق.

26. کنز العمال، علاءالدین علی المتّقی الهندی، مؤسّسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ق.

27. المجموع، محیی الدین بن شرف النووی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الأولی، 1417 ق.

28. المحصول فی علم الأصول، محمّد بن عمر فخر الدین الرازی، دارالکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الأولی، 1420 ق.

29. المحلّی علیّ بن أحمد بن حزم الأندلسی، دارالجیل، بیروت.

30. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث، بیروت، الطبعة الأولی، 1408 ق.

31. المستصفی من علم الأصول، محمّد بن محمّد الغزالی، دارالفکر، بیروت.

32. مستمسک العروة، السیّد محسن الحکیم، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

33. منتهی الأصول، المیرزا حسین البجنوردی، مؤسّسة عروج، الطبعة الأولی، 1421 ق.

34. موسوعة الإمام الخوئی، تقریرات بحث آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی، مؤسّسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، قم، الطبعة الأولی، 1418 ق.

35. الموسوعة الفقهیّة الکویتیّة، وزارة أوقاف الکویت، الطبعة الرابعة، 1414 ق.

36. المهذب فی علم أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم ابن علی النملة، مکتبة المرشد، الریاض، الطبعة الاولی، 1420 ق.

37. وسائل الشیعة، الشیخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 488

ص: 489

18

القسم الثامن عشر: العلاقة بین الفقه و الحکومة

اشارة

- مصطلحات أساسیّة

- ضرورة الحکومة

الحکومة فی الأدیان الإلهیّة

الأدلّة علی ضرورة تشکیل الحکومة الإسلامیة

إمتیازات الحکومة الدینیة

العلمانیة وإنکار الحکومة الدینیّة

ص: 490

ص: 491

العلاقة بین الفقه و الحکومة

مقدّمة:

1. مصطلحات أساسیة

أ) الفقه

تقدّم بیان التعریف اللغوی والاصطلاحی للفقه، وکذلک أهمیّة هذا الموضوع فی بدایة هذا الکتاب.

ب) الحکومة

الحکومة مصدر ثانٍ، من «حَکَمَ یَحْکُمُ حُکماً» وعندما تتعدّی بحرف «الباء» مثل (حکم بالأمر) أو «باللام» (حکم للرجل أو «علی» (حکم علی الرجل فتأتی بمعنی القضاء وفصل الخصومة والنزاع، أمّا إذا اقترنت بحرف «فی» مثل (حَکمَ فی البلاد) فتأتی بمعنی تولّی إدارة البلاد(1) وإقامة العدل وإزالة الظلم (أصل الحکومة ردّ الرجل عن الظلم)(2) ولا یبعد أن تکون الآیة الشریفة: «فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(3) بقرینة ورودها بعد آیة «یَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ» ناظرة إلی هذا المعنی.

کما أنّ مفردة «سیاسة» فی عرف هذا الزمان تقع مرادفة لها. وکذلک تأتی بمعنی إصلاح أمور الرعیّة وتدبیر شؤونهم (4)، ومعلوم أنّ هذا الإصلاح والتدبیر إذا کان مقترناً بالصدق والأمانة وینطلق من موقع وحی اللَّه تعالی وما یراه الحقّ تعالی من مصلحة العباد، فمثل هذه الحکومة والسیاسیة یقال عنها حکومة إلهیّة وسیاسة إلهیّة، وإذا کانت تنطلق من وحی الأهواء النفسانیة وبدوافع شیطانیة فإنّها سیاسة شیطانیة وتقترن عادة بالحیلة والخداع والمکر.

2. ضرورة الحکومة

لا شکّ فی أنّ بقاء الصلح والأمن ورعایة حقوق الناس فیما بینهم یرتبط بشکل وثیق بالحکومة لإیجاد نظام سیاسیّ اجتماعیّ لکلّ المجتمع، لأنّ المجتمع بدون وجود حکومة، سیعیش الفوضی والهرج والمرج، ولا یوجد عاقل لا یری أنّ الحکومة أو النظام السیاسی یعدّ من ضررویات الأمور الاجتماعیة. وعندما أطلقت


1- المنجد، مادّة« حَکَمَ».
2- لسان العرب، مادّة« حَکَمَ».
3- سورة ص، الآیة 26.
4- لسان العرب؛ تاج العروس؛ مجمع البحرین؛ النهایة لإبن الأثیر، مادّة« سوس».

ص: 492

جماعة الخوارج شعار «لا حُکْم إلّاللَّه» ومرادهم من ذلک نفی وجود الحکومة والسلطة، قال أمیرالمؤمنین علیه السلام عند ذاک:

«کَلِمَةُ حَقٍّ یُرادُ بِها باطِلٌ ...

وإنَّهُ لابُدَّ للنّاسِ مِن أمیرٍ بَرٍّ أو فاجِرٍ»(1)

(لأنّ الحکومة السیئة والظالمة أفضل من عدم الحکومة).

وجاء فی کلام آخر لأمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام

«العَدْلُ أساسٌ بِه قِوامُ العالَم»(2).

وجاء فی حدیث آخر عنه علیه السلام أیضاً أنّه قال:

«لَیْسَ ثَوابٌ عِندَ اللَّهِ سُبحانَهُ أعْظَمُ مِن ثَوابِ السُّلطانِ العادِل»(3).

وکذلک قال الإمام علیه السلام:

«جَمالُ السِّیاسَةِ العَدْلُ فی الإمْرةِ»(4).

إنّ الحیاة الاجتماعیة للبشر تتضمّن الکثیر من المشاکل والنزاعات والخصومات بین أفراد المجتمع، ولا أحد یملک عقلًا سلیماً یشکّ فی ضرورة وجود حکومة عادلة ونظام سیاسی وحاکم مقتدر، وقانون عادل لحلّ هذه الأمور فی واقع المجتمع البشریّ، لأنّ الفوضی الاجتماعیة (آنارشیزم)(5) تتقاطع مع فطرة الإنسان وتؤدّی إلی محو القیم وموت المُثل والفضائل فی حرکة الحیاة.

ولا شک فی أنّ العقل هو أحد الحجج الإلهیّة والرسول الباطنیّ فی الإنسان، وأحد منابع استنباط الأحکام الفقهیة

«کلّ ما حکم به العقل حکم به الشرع»(6)

. وعلی هذا الأساس فعندما یقول العقل بضرورة تشکیل النظام السیاسی فی المجتمع من أجل مواجهة الفوضی الاجتماعیة وإیجاد النظم والانسجام وتحقیق التقدّم والأمن فی حرکة الحیاة، فإنّ الدّین أیضاً یری وجوب تأسیس مثل هذا النظام وتحقیقه فی أرض الواقع الاجتماعی، وإذا قرّر العقل لزوم تصدّی شخص أو أشخاص معیّنین تتوفّر فیهم الشروط للقیام بإدارة الأمور، فإنّ الدین أیضاً یری لزوم تصدّی هذا الشخص الواجد للشرائط لأمر الحکومة. وعلی هذا الأساس فإنّ شعار عدم التدخّل فی الأمور السیاسیة والاجتماعیة مخالف لدستور العقل والدین.

یقول ابن خلدون العالم الإسلامیّ المعروف:

«واعلم أنّ الشرع لم یذُمّ الملک لذاته ولا حظر القیام به وإنّما ذمّ المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتّع باللذّات»(7).

ویتحدّث الدکتور وهبة الزحیلی فی کتابه المعروف «الفقه الإسلامی وأدلّته» عن ضرورة تشکیل الحکومة الدینیة فی منظار فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنّة یقول: «الإسلام نظام دینیّ ومدنیّ متکامل ویتلازم وجود المسلمین مع قیام الدولة، ومن أهمّ أرکان کلّ دولة کما أشرت سابقاً وجود سلطة عامة سیاسیة علیا یخضع لها جمیع الأفراد المکوّنین للجماعة، لذلک نری الأکثریة الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنّة والمرجئة والشیعة والمعتزلة ...) تقرّر وجوب إقامة حکومة علیا».

وینقل أنّ ابن تیمیة قال: «یجب أن یعرف أنّ ولایة أمر الناس من أعظم واجبات الدین، بل لا قیام للدین


1- نهج البلاغة، الخطبة 40.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 83- 85.
3- غرر الحکم، ح 8720؛ عیون الحکم والمواعظ، ص 410.
4- غرر الحکم، ح 7737.
5- 5 .Anarshism .
6- انظر: دروس فی علم الأصول، ج 1، ص 101؛ أصول الفقه للمظفّر، ج 1، ص 189؛ المراجعات، ص 328.
7- مقدّمة ابن خلدون، ص 192، الفصل 26.

ص: 493

إلّا بها، فإنّ بنی آدم لا تتمّ مصلحتهم إلّابالاجتماع لحاجة بعضهم إلی بعض، ولابدّ عند الاجتماع من رأس، حتّی قال النبیّ صلی الله علیه و آله: «إذا خَرَجَ ثَلاثَة فی سَفَرٍ فَلْیُؤَمِّروا أحَدَهُم»(1) وقال ابن حزم: «إتفق جمیع الفرق الإسلامیة علی وجوب الإمامة، أنّ الامّة واجب علیها الإنقیاد لإمام عادل ...»(2).

ویتبیّن من خلال التدقیق فی هذا الکلام وفی آراء علماء الإسلام أنّه لا أحد یشککّ فی ضرورة تشکیل الحکومة فی واقع المجتمع.

الفصل الأوّل: الحکومة فی الأدیان الألهیّة

اشارة

إنّ ما یستوحی من آیات القرآن الکریم- التی تعتبر أفضل وأقوی سند تاریخی لاستجلاء الحقائق التاریخیة- أنّ الأنبیاء الإلهیین کانوا یهتمّون بشکل خاصّ بالنسبة لتأسیس الحکومة الإلهیّة، وکانوا جمیعاً یتحرّکون من موقع الاعتراض والتصدّی لحکومات زمانهم وحکّام الجور فی عصرهم ویدعون أقوامهم لمواجهة أعمال الظلم والجور التی کانوا یعیشونها فی واقعهم وحیاتهم، ویدفعونهم باتّجاه إقامة القسط والعدل فی حرکة الحیاة، والتی لا تتیسّر بدون إقامة نظام سیاسیّ وتشکیل حکومة فی ذلک المجتمع.

ونشیر هنا إلی بعض هذه الآیات الشریفة:

1. «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْکِتَابَ وَالمیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(3).

وبدیهی أنّ إقامة «القسط» بواسطة الناس لا یتیسّر إلّا من خلال إقامتهم لنظام سیاسیّ وتشکیل حکومة تأخذ علی عاتقها هذا الأمر، ومن هذا القبیل قوله تعالی: «یَاأَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ».(4)

2. «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ»(5).

یقول المفسّر المعروف الزمخشری:

«الخطاب لرسول اللَّه ولمن معه، وعدهم اللَّه أن ینصرالإسلام علی الکفر ویورثهم الأرض و یجعلهم فیها خلفاء کما فعل ببنی اسرائیل»(6).

3. «وَنُرِیدُ أَن نَّمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِینَ»(7).

4. «إِذْ قَالُوا لِنَبِیٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِکاً نُقَاتِلْ فِی سَبِیلِ اللّهِ»(8).

وأمّا علاقة هذه الآیة الشریفة بما نحن فیه فهو أنّ هذه الآیة تشیر إلی أنّ نصب قیادات الجیش والقائد العسکری إنّما هو من شأن النبیّ فی ذلک الزمان، وعلی هذا الأساس تحرّک الناس علی مستوی مطالبة النبیّ بهذا الأمر.

5. «وَآتَیْنَاهُم مُلْکاً عَظِیماً»(9).

وجاء فی الحدیث الشریف عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ المراد من الملک هنا هو الحکومة وقیادة الامّة فی نظامها السیاسی وتدبیر أمورها الاجتماعیة


1- سنن أبی داود، ج 1، ص 587، ح 2608.
2- انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6314- 6316.
3- سورة الحدید، الآیة 25.
4- سورة النساء، الآیة 135.
5- سورة النور، الآیة 55.
6- الکشاف، ج 3، ص 353.
7- سورة القصص، الآیة 5.
8- سورة البقرة، الآیة 246.
9- سورة النساء، الآیة 54.

ص: 494

والسیاسیة(1).

6. «إِنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَاماً»(2).

ومن الواضح أنّ المراد فی هذه الآیة هو أنّ اللَّه تعالی منح إبراهیم علیه السلام مقام الإمامة والزعامة السیاسیة للمجتمع علی أساس إدارة الأمور وتدبیر شؤون الناس.

7. «عَسَی رَبُّکُمْ أَنْ یُهْلِکَ عَدُوَّکُمْ وَیَسْتَخْلِفَکُمْ فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ»(3).

الخلاصة:

یتبیّن من مجموع هذه الآیات المذکورة آنفاً وآیات أخری أنّ تشکیل الحکومة الدینیة یعدّ أصلًا أساسیاً فی دائرة مقاصد الشرائع السماویة والأدیان الإلهیّة.

مضافاً إلی وجود فصول مختلفة فی التوراة تؤیّد هذا المعنی، ولا یوجد أیّ سند تاریخی بین أیدینا یشهد علی خلاف ذلک، بل إنّ العبارات الکثیرة الواردة فی الأدیان الإلهیّة- حتّی فی نصوص الدین المسیحی المعروف بدعوته للصلح والمحبّة ومخالفته للعنف والخشونة- تؤیّد فی مضامنیها هذا المطلب. مثلًا:

جاء فی انجیل مَتّی عن قول المسیح علیه السلام خطاباً للنبیّ یحیی علیه السلام: «اسمح الآن بذلک! فهکذا یلیق بنا أن تتمّ کلّ برّ»(4).

وقال المسیح علیه السلام أمام جماعة من أتباعه: «طوبی للودعاء، فإنّهم سیرثون الأرض»(5).

ونقرأ فی انجیل لوقا عن قول المسیح علیه السلام یخاطب الحواریین: «أما الآن، فمن عنده صرّة مالٍ، فلیأخذها، وکذلک من عنده حقیبة زاد، ومن لیس عنده فلیبع رداءه ویشترِ سیفاً»(6).

بل إنّ انجیل متّی ینقل کلاماً للمسیح علیه السلام یقول: «لا تظنّوا أنی جئت لأرسی سلاماً [یعنی الصلح الجبری علی الأرض، ما جئت أرسی سلاماً، بل السیف (وذلک لتحقیق العدالة)»(7).

والملفت للنظر أنّ ما هو معروف من کلام المسیح:

«اعطوا ما لقیصر، لقیصر وما للَّه للَّه». فهو أوّلًا: یرتبط بجواسیس قیصر الذین کانوا حاضرین فی تلک الجلسة وکانوا ینتهزون الفرصة لإعدامه، ففی تلک الجلسة قال المسیح علیه السلام لمن کان فی یده درهماً، وعلی سبیل التقیة:

«أُعطوا ما لقیصر، لقیصر ...» ولیس ناظراً أبداً لمسألة فصل الدین عن السیاسة(8). ثانیاً: إنّ ما ورد فی انجیل لوقا ومتّی کما تقدّم آنفاً تحت عنوان «المال» لا «العمل» فلم یقل المسیح علیه السلام: «اعطوا عمل قیصر لقیصر» وفی تلک الجلسة لم تطرح مسائل سیاسیة ولم تکن هناک مناسبات سیاسیة واجتماعیة.

علی أیّة حال، فیستفاد من مجمل هذه العبارات أنّ المسیح کان رجلًا إلهیّاً ومصلحاً سماویاً لم یرضخ ولم یذعن لقوی الطاغوت والظلم والظلام فی عصره. وقد تحرّک علی مستوی التصدّی للطواغیت والظالمین فی عصره.


1- الکافی، ج 1، ص 186، ح 4؛ انظر: تفسیر نور الثقلین، ج 1، ص 490 و 491.
2- سورة البقرة، الآیة 124.
3- سورة الأعراف، الآیة 129.
4- الکتاب المقدّس، العهد الجدید، انجیل متّی، الباب 3، الآیة 15.
5- المصدر السابق، الباب 5، الآیة 5.
6- إنجیل لوقا، الباب 22، الآیة 36.
7- إنجیل متّی، الباب 10، الآیة 34.
8- انظر: آشنایی با ادیان بزرگ، ص 119( بالفارسیة).

ص: 495

الفصل الثانی: الأدلّة علی ضرورة تشکیل الحکومة الإسلامیة

1. الدلیل العقلی

إنّ ضرورة تشکیل الحکومة للمجتمع البشریّ، کما أشرنا إلی ذلک فی مقدّمة هذا الفصل، تعتبر ضرورة عقلیة ولا یوجد عاقل یراوده التشکیک فی هذا الأمر، لأنّه واضح:

فلو کان المجتمع البشریّ یعیش بدون حکومة فذلک یستلزم ظهور حالات الفوضی والهرج والمرج وبالتالی یتجمّد التکامل العلمی والأخلاقی والصناعی فی ذلک المجتمع، لأنّ مثل هذا التکامل لا یمکن إلّافی ظلّ وجود حکومة.

2. شمولیة التعالیم الإسلامیة

کما تقدّم فی فصل «سعة دائرة الفقه»، فما یستفاد من الروایات الإسلامیة أنّه لا توجد حاجة من الحاجات البشریة إلّاوقد ذکر لها حکم فی الشریعة الإسلامیة. ویتبیّن من حدیث حجّة الوداع أنّ کلّ ما من شأنه أن یقرّب الإنسان إلی الجنّة ویبعده عن النار فقد أمر به نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله وکلّ ما من شأنه أن یبعد الإنسان عن الجنّة ویقرّبه إلی النار فإنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قد نهی عنه، ولا شکّ فی أنّ مسألة الحکومة وإدارة المجتمع إذا سلّمت بید حاکم عادل فإنّها ستکون مقرّبة إلی الجنّة وإذا کان زمامها بید الحاکم الظالم فتکون مقرّبة إلی النار.

«خطب رسول اللَّه فی حجّة الوداع فقال: أیُّها النّاسُ، واللَّهِ مَا مِنْ شَی ءٍ یُقَرِّبُکُم مِنَ الجَنَّةِ وَیُباعِدُکُم مِنَ النّارِ إلّا وقَد أمَرْتُکُمْ بِه، وَمَا مِنْ شَی ءٍ یُقَرِّبُکُم مِنَ النَّارِ وَیُبَاعِدُکُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلّاوَقَد نَهَیْتُکُم عَنهُ»(1).

ونقرأ فی حدیث آخر عن عبداللَّه بن مسعود:

«قال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: أیُّها النّاسُ إنَّهُ لَیْسَ مِن شَی ءٍ یُقَرِّبُکُم مِنَ الجَنَّةِ وَیُبَعِّدُکُم مِنَ النَّارِ إلّاقَد أَمَرْتُکُم بِه وإنّهُ لَیْسَ شَی ءٌ یُقَرِّبُکُم مِنَ النَّارِ وَیُبَعِّدُکُم مِنَ الجَنَّةِ إلّاقَد نَهَیْتُکُم عَنْهُ»(2).

کما ورد فی حدیث آخر أنّ أمیرالمؤمنین علیّاً علیه السلام کان طیلة حیاته یتحرّک علی مستوی بیان حقائق الإسلام وتعالیم الدین لأفراد الامّة، وقد ورد أنّه علیه السلام قال فی کلام له:

«الحَمْدُ للَّهِ الّذِی لَمْ یُخْرِجْنِی مِنَ الدُّنْیَا حَتّی بَیّنْتُ للأُمَّةِ جَمِیعَ مَا تَحتاجُ إلَیهِ»(3).

وورد فی حدیث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام:

«ما مِن شَی ءٍ یَحتاجُ إلَیهِ وُلْدُ آدَمَ إلّاوَقَد خَرَجَتْ فِیه السُّنَّةُ مِنَ اللَّهِ ومِن رَسولِه».

ویشیر الإمام علیه السلام فی کلامه هذا إلی الآیة الشریفة:

«الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی ...»(4) ویقول:

«فَلَوْ لَمْ یُکمِل سُنَّتَه وفَرائِضَه ومَا یُحتَاجُ إلَیهِ النّاسُ، ما احتَجَّ بِه»(5).

وجاء فی حدیث آخر عن الإمام موسی بن جعفر علیه السلام:

«أتاهُم رَسُولُ اللَّهِ بِمَا اکتَفَوا بِه فِی عَهْدِه واستَغْنَوا بِه مِن بَعْدِه»(6).


1- الکافی، ج 2، ص 74، ح 2.
2- الدر المنثور، ج 5، ص 94.
3- التهذیب، ج 6، ص 319، ح 86.
4- سورة المائدة، الآیة 3.
5- بحار الأنوار، ج 2، ص 169، ح 3.
6- المصدر السابق، ح 4.

ص: 496

ویمکن إثبات شمولیة الدین الإسلامی من طریقین:

ألف) الخاتمیة بهذا البیان: أوّلًا: إنّ الدین الإسلامی یعتبر آخر دین إلهیّ للبشریة، وسوف لا یأتی دین آخر أو کتاب سماویّ آخر للبشریة بعده، لأنّ نبیّ الإسلام هو «خاتم النبیّین»، کما قرّر القرآن الکریم هذه الحقیقة بقوله: «وَلکِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِیِّینَ»(1).

وأیضاً تأمر الآیة الشریفة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله أن یبلغ ذلک رسمیاً إلی العالم أجمع ویقول: «قُلْ یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً»(2) وقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«أیُّها

النّاسُ لا نَبِیَّ بَعْدِی وَلا سُنَّةٌ بَعدَ سُنَّتی»(3)

وقال أیضاً:

«إنّ

دِینی وسُلطانی سَیَبْلُغ مَا بَلَغ مِلکُ کَسْری ویَنْتَهِی إلی مُنتَهی الخُفِّ والحافِر»(4).

ثانیاً: إنّ الإسلام نهی رسمیاً عن التحرّک من موقع قبول الثقافات غیر الإسلامیة والإذعان لها: «لَن یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلًا»(5).

وعلی هذا الأساس، فإنّ الدین الذی یمنع أتباعه من التوجّه إلی الأجانب ویدّعی فی ذات الوقت الشمولیة والعالمیة والخاتمیة لا یمکن أن یکون ناقصاً وغیر کامل.

ب) «تبیان کلّ شی ء» وهذا یعنی أنّ القرآن الکریم عرّف نفسه بأنّه تبیان ومبیّن لکلّ شی ء یدخل فی دائرة هدایة البشر: «وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ»(6)، ولا شکّ فی أهمیة ودور الحکومة العادلة فی هدایة البشر فی واقع الحیاة والمجتمع.

وممّا تقدّم نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ الدین الجامع والشامل، لا یمکن أن یقف بعیداً فی مجال إدارة المجتمع والحکومة، ولا یملک أیّ تعالیم فی شأنها والتی تعتبر من أهم حاجات البشر فی جمیع الأعصار والحقب الزمنیة.

3. اهتمام النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بتشکیل الحکومة الإسلامیة

اشارة

لا شکّ فی أنّه:

أوّلًا: إنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله کان یتحرّک علی مستوی تشکیل الحکومة، وقد أقدم عملیّاً علی تحقیق هذا الأمر فی أوّل سنة من دخوله إلی المدینة بعد الهجرة، وهناک شواهد کثیرة علی هذا الأمر منها:

أ) تنظیم الدواوین والأمور الإداریة وتشکیل بیت المال

إنّ من أولی الأعمال التی قام بها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی المدینة هی تشکیل بیت المال. وقد اختار النبیّ صلی الله علیه و آله الزبیر بن العوّام وجهمة بن الصلت، لإدارة الشؤون الاقتصادیة والأموال الحکومیة للنبیّ، فقد کانا یعملان علی تدبیر الأمور المالیة لهذه الحکومة الفتیة وقد کان بعض المسلمین یعملون علی جمع الزکاة من مواردها.

وقد کان حذیفة، مسؤولًا عن أمور البساتین والنخیل.

أمّا المغیرة بن شعبة والحصین بن المغیرة، فکانا مسؤولان عن أمور المعاملات وتنظیم المدینة(7).

ویقول وهبة الزحیلی:

«إنّ حکومة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله الجدیدة فی المدینة قامت بالعدید من الإصلاحات السیاسیة والاجتماعیة،


1- سورة الأحزاب، الآیة 40.
2- سورة الأعراف، الآیة 158.
3- وسائل الشیعة، ج 18، ص 555، ح 3.
4- تاریخ الطبری، ج 2، ص 297.
5- سورة النساء، الآیة 141.
6- سورة النحل، الآیة 89.
7- انظر: اضواء علی السنة المحمدیة لابوریّه، ص 256.

ص: 497

ففی الخطوة الاولی تمّ عقد الأخوّة بین المهاجرین والأنصار، وکذلک تمّ عقد میثاق الصلح مع یهود المدینة، ومن الطبیعی أنّ هذا المیثاق له اعتبار مثل المواثیق العالمیة، وقد تحرّک النبیّ لتشکیل القوی الثلاث: القوة المقنّنة، والقضائیة والتنفیذیة، بالاستفادة من الوحی الإلهی، وکذلک وطّد أرکان حکومته واهتم بشؤونات الحکومة الإداریة وأرکان الدولة، وممّا تقدم یتبیّن أنّ النبیّ لم یکن نبیّاً ورسولًا فقط، بل رئیساً وسلطاناً لدولة أیضاً»(1).

ب) المراسلات والارتباطات خارج الحدود

وقد انطلق النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیقیم روابط سیاسیة مع الملوک والامبراطوریات الموجودة فی ذلک العصر من خلال کتابة الرسائل إلیهم ودعوتهم إلی اعتناق الإسلام، وقد ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله فی هذه الرسائل عبارات من قبیل

«أسْلِمْ تَسْلَم»

فی الإیحاء لهم بأنّهم إذا اعتنقوا الإسلام فإنّهم سیبقون فی مناصبهم وحکومتهم (2). وهکذا کان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یتحدّث مع ملوک عصره من موقع القوّة والاقتدار السیاسی (3).

ج) إمضاء المعاهدات

إنّ إمضاء المعاهدات والمواثیق مع رؤساء القبائل لغرض تحقیق الصلح والحیاة المسالمة بین الناس تعدّ إحدی مظاهر السیرة السیاسیة والاجتماعیة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله (4).

د) تشکیل الجیش وتنظیمه

لقد قام رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بثمانین غزوة وسریة(5) تقریباً فی إطار الخطّة الدفاعیة له، حیث کانت هذه الغزوات تشکّل قسماً مهمّاً من تاریخ حیاة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله وهذا الأمر لا یخفی علی أحد.

ه) نصب العمّال والامراء

ومن جملة الأمور التی تعدّ من مسلّمات التاریخ الإسلامی والتی وردت فی جمیع الکتب التاریخیة المعتبرة، نصب الامراء والعمّال علی المناطق والنواحی من قِبل نبی الإسلام صلی الله علیه و آله. وقد أورد الحافظ العراقی فی منظومته «الألفیة»، أسماء العمّال والامراء الذین نصبهم النبیّ فی منظومته وأشعاره (6). کما أنّ العلّامة المجلسیّ ذکر فی «بحار الأنوار» فهرسة من أسماء العمّال والامراء والولاة الذین کان النبیّ یستعین بهم فی إدارة شؤون الحکومة(7). وذکر ابن ادریس الکتانی فی «التراتیب الإداریّة» أسماء أربعة عشر شخصاً بعنوان «وزراء»(8).

واللافت أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عبّر بهذه الکلمة «وزیر» منذ بدایات بعثته (السنة الرابعة من البعثة) فی ما یتّصل بالإمام علیّ علیه السلام.

وینقل النسائی فی «السنن الکبری» عن


1- عبقریة الإسلام فی أصول الحکم للدکتور منیر العجلانی، ص 90- / 98؛ مبادئ نظام الحکم فی الإسلام للدکتور عبدالحمید المتولی، ص 451( نقلًا عن الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6312).
2- تاریخ الطبری، ج 2، ص 291 و 295.
3- انظر: مکاتیب الرسول لأحمدی المیانجی، ج 2، ص 285.
4- انظر: أضواء علی سنة الرسول، ص 189؛ الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6312؛ مکاتیب الرسول، ج 1، ص 262.
5- مروج الذهب للمسعودی، ج 2، ص 298.
6- انظر: اسد الغابة، ج 3، ص 126.
7- بحار الأنوار، ج 22، ص 249.
8- التراتیب الإداریة، ج 1، ص 17.

ص: 498

أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام أنّه قال: إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال:

فی «یوم الإنذار»:

«یابَنِی عبد المُطلِّب ... فَأیُّکُم یُبایِعُنی علی أن یَکونَ أخِی وصَاحِبی وَوارِثی، فَلَمْ یَقُمْ إلَیهِ أحَدٌ فَقُمْتُ إلَیهِ وکُنتُ أصْغَرَ القَومِ، فَقالَ: إجلِسْ، ثُمَّ قَالَ ثَلاثَ مَرّاتٍ؛ کُلُّ ذلِکَ وأقُومُ إلَیهِ، فَیَقولُ: إجْلِسْ حتّی کانَ فی الثالِثَةِ ضَرَب بِیَدِه علی یَدِی ثُمَّ قال: أنتَ أخِی وصَاحِبی ووَارِثی ووَزِیرِی»(1).

ویقول ابن الأثیر فی «الکامل» أیضاً أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی «یوم الدار» خاطب الحاضرین بقوله:

«فَأَیُّکُم یُؤازِرُنی»

بدل قوله:

«فأیُّکُم یُبایِعُنی»(2).

ونقل نظیر هذه العبارة العلّامة الطبرسیّ فی «جوامع الجامع» أیضاً(3).

ثانیاً: إنّه ممّا لا شکّ فیه أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لم یقم بهذا الأمر المهمّ وهو (تشکیل الحکومة) من عند نفسه بل بوحی إلهیّ قطعاً «وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی (4). وعلیه فلابدّ من القول أنّ تشکیل الحکومة بما تتضمّن من فروع وشؤون وأبعاد تدخل فی صمیم الإسلام وعلی أساس «لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(5) یجب علی المسلمین فی کلّ عصر وزمان التحرّک علی مستوی تشکیل الحکومة الإسلامیة والاهتمام بإقامتها، لأنّ الإسلام بدون حکومة کالشجرة بدون أغصان وأوراق.

4. الحکومة الإسلامیة بعد نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله

من المعلوم وقوع خلاف بین المسلمین فی أمر الخلافة بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، حیث یعتقد أتباع أهل البیت علیهم السلام بمقولة «النصّ» ویقولون: إنّ أحد الأعمال المهمّة للنبیّ صلی الله علیه و آله تعیین خلیفة وقائد سیاسیّ واجتماعی یتولّی إدارة المجتمع الإسلامیّ بعده، وکان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یفکّر بقیادة الامّة علی المستوی السیاسی والاجتماعی بعده، وعلی هذا الأساس ومن أجل منع حدوث فراغ فی القیادة السیاسیة، فإنّه تحرّک علی مستوی نصب الإمام علیّ علیه السلام خلیفة له بأمر اللَّه تعالی فی غدیر خمّ، وعندما نزلت الآیتین الشریفتین:

«یَا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَّبِّکَ»(6) و «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ»(7) قام النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله خطیباً بین الناس وقال:

«مَنْ کُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِیٌّ مَوْلاهُ»(8).

ویسأل یزید الکناسیّ من الإمام الباقر علیه السلام: فقلت جعلت فداک أکان علیّ علیه السلام حجّة من اللَّه ورسوله علی هذه الامّة فی حیاة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؟ فقال:

«نَعَمْ یَوْمَ أقَامَهُ للنّاسِ، نَصَبَه عَلَماً ودَعاهُم إلی وِلایَتِه وأمَرَهُم بِطاعَتِه»(9).

ولکنّ أهل السنّة یعتقدون بعدم وجود النصّ فی أمر الخلافة وأنّ الامّة هی التی تختار الخلیفة لرسول اللَّه، وعلی أیّة حال فإنّ الحکومة الإسلامیة استمرّت بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.

5. سیرة الخلفاء الأوائل

إنّ سیرة الخلفاء الأوائل فی باب الحکومة وإدارة


1- السنن النسائی، ج 5، ص 126، ح 8451.
2- الکامل لإبن الأثیر، ج 2، ص 63.
3- جوامع الجامع، ذیل الآیة 214 من سورة الشعراء.
4- سورة النجم، الآیات 3 و 4.
5- سورة الأحزاب، الآیة 21.
6- سورة المائدة، الآیة 67.
7- سورة المائدة، الآیة 3.
8- للمزید الاطلاع انظر إلی کتاب الغدیر؛ عبقات الأنوار؛ نفحات القرآن، ج 9.
9- انظر: الکافی، ج 1، ص 383.

ص: 499

أمور المجتمع الإسلامی تشیر إلی اقتران الدین بالسیاسة واعتراف الإسلام رسمیاً بمشروعیة الحکومة الدینیة، بحیث إنّ الناس فی ذلک العصر کانوا یطلبون من هؤلاء الخلفاء أن یحکموا علی أساس کتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، من هنا کان الخلفاء یهتمون بصیاغة حکومتهم ونشاطاتهم السیاسیة علی غرار ما ورد فی التعالیم الدینیة المستوحاة من القرآن وسیرة رسول اللَّه فی حکومته. فإذا تحرّک الخلیفة فی سلوکیاته وممارساته بشکل یخالف تعالیم الإسلام وأحکام الشرع، فإنّ المسلمین کانوا یعترضون علیه رغم أنّ هؤلاء الخلفاء کانوا أحیاناً یجتهدون فی مقابل النصّ (1)، ولکن علی أیّة حال فإنّ حکومتهم کانت ذات صبغة دینیة.

یقول وهبة الزحیلی فی کتاب «الفقه الإسلامی وأدلّته»: «إنّ حکومة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله استمرّت إلی عصر الخلفاء، وطبعاً ازدادت اتّساعاً وعمقاً فی عناصرها الإداریة نظراً لتطوّر المجتمع، وهذه التشکیلات السیاسیة استمرّت إلی خلافة بنی امیّة وبنی العبّاس والعثمانیین و ...»(2).

6. سیرة أهل البیت علیهم السلام

إنّ سیرة أئمّة أهل البیت علیهم السلام تشیر بدورها إلی أنّهم لم یکونوا یقولون بفصل الدین عن السیاسة، وکما ورد فی الزیارات أنّهم:

«ساسة العباد»

وعلی حدّ تعبیر الإمام الحسن المجتبی علیه السلام فإنّ تشکیل الحکومة الإسلامیة یعتبر مسؤولیة إلهیّة علی عهدة هؤلاء الأئمّة:

«إنّ اللَّه تعالی نَدَبَنا لِسِیاسَةِ الامَّةِ»(3).

ونهضة الإمام الحسین علیه السلام وتصدّیه لحکومة یزید ابن معاویة وتصریحه بأنّ الهدف من نهضته هذه طلب الإصلاح فی الامّة و الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر(4) وعدم التزام الصمت أمام السلطان الجائر(5)، وکذلک أخذ مسلم بن عقیل البیعة له من أهل الکوفة بعد إعلانهم قبول تشکیل الحکومة الإسلامیة، کلّها شواهد جلیّة علی أنّ نهضة الإمام الحسین علیه السلام کانت من أجل تشکیل الحکومة الإسلامیة العادلة(6) وهکذا ثورات العلویین علی امتداد التاریخ الإسلامی فی مقابل الحکومات الجائرة لبنی أمیّة و بنی العبّاس کلّها تصبّ فی هذا الإطار.

مضافاً إلی أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام کانوا یعیشون فی عصر بنی أمیّة و بنی العبّاس فی أغلب الأحیان إمّا فی السجن والنفی أو کانوا یعیشون تحت نظر وإشراف حکّام الجور، وجمیع هذه الأمور کانت بسبب أنّ هؤلاء الحکّام کانوا یعیشون الخوف والقلق من تحرّک هؤلاء الأئمّة علیهم السلام لغرض تشکیل حکومة إسلامیّة.

وفی هذا الصدد ما ذکره التاریخ من قبول الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام ولایة العهد للمأمون العباسی، حیث تعتبر شاهداً آخر- وإن کان بضغط من المأمون لإجباره علی القبول- علی اهتمام أئمّة أهل البیت علیهم السلام بمسألة تشکیل الحکومة الإسلامیة.


1- انظر: النص والاجتهاد.
2- انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6313.
3- سفینة البحار، مادة« حسن».
4- انظر: بحار الأنوار، ج 44، ص 329؛ الفتوح لإبن الأعثم، ج 5، ص 33.
5- المصدر السابق، ص 381.
6- انظر: تاریخ ابن عساکر( حیاة الإمام الحسین علیه السلام)، ص 194، ح 249؛ عاشوراء، ریشه ها، انگیزه ها، رویدادها، پیامدها، ص 254- 262( بالفارسیة).

ص: 500

7. انتظار حکومة المهدی علیه السلام العالمیة:

إنّ جمیع المسلمین یعتقدون بقیام شخص من ذرّیة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یسمّی بالمهدیّ فی آخر الزمان، وقد وردت روایات کثیرة من طرق الفریقین (أهل السنّة والشیعة)(1) فی هذا المجال إلی حدّ أنّ بعض علماء أهل السنّة ألّف کتاباً بعنوان «تواتر روایات المهدی»(2).

وجاء فی حدیث عن عبداللَّه بن عمر عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لَوْ لَمْ یَبْقَ مِنَ الدُّنْیا إلّایَومٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذلِکَ الیَومَ حَتّی یَبْعَثَ فِیه رَجُلًا مِنّی أو مِن أهلِ بَیْتی، یُواطِئُ إسمُهُ إسْمِی، واسمُ أبیهِ اسمُ أبِی یَمْلأ الأرْضَ قِسْطاً وعَدْلًا کَما مُلِئَت ظُلْماً وجَوْراً»(3).

وقد ورد فی أحادیث أهل السنّة والشیعة أنّ الحکومة الإسلامیة ستشمل جمیع مناطق المعمورة وأنّ الأرض ستمتلی ء عدلًا بعد ما ملئت جوراً، وهناک اتّفاق بین العلماء علی أنّ هذه المسألة ستقع فی آخر الزمان، وما ورد فی الأحادیث فی هذا المجال وبصیاغات مختلفة هو التأکید علی أنّ القسط والعدل سیستوعب جمیع المجتمعات البشریة، ونشیر هنا إلی أهمّ العبارات الواردة فی هذه المجال فی الأحادیث النبویّة:

1. عترتی

«عن أبی سعید الخدریّ أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال: تُمْلَأُ الأرْضَ ظُلْماً وجَوْراً ثُمَّ یَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِی یَمْلِکُ سَبْعاً أو تِسْعاً فَیَمْلَأُ الأرْضَ قِسْطاً»(4).

وکذلک ورد فی حدیث آخر عن أبی سعید الخدریّ عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«یَنْزِلُ بامَّتی فِی آخِرِ الزَّمانِ بَلاءٌ شَدِیدٌ مِن سُلْطانِهِم لَمْ یُسْمَعْ بَلاءٌ أشَدّ مِنه حتّی تَضِیقَ عَنهُمُ الأرْضُ الرَّحْبَةُ وحَتّی تُمْلأَ الأرْضُ جَوْراً وظُلْماً لا یَجِدُ المُؤمِنُ مَلْجَأً یَلتَجِی ءُ إلَیهِ مِنَ الظُّلْمِ فَیَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلًا مِن عِتْرَتی فَیَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وعَدْلًا کَما مُلِئَتْ ظُلْماً»(5).

2. رجلًا مِنّی

ینقل معاویة بن قرّة عن أبیه أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«لَتُمْلَأنَّ الأرْضُ ظُلْماً وجَوْراً حتّی یَبْعَثَ اللَّهُ رَجُلًا مِنّی إسْمُهُ إسْمِی واسمُ أبیهِ إسْمُ أبی فَیَمْلأُها قِسْطاً وعَدْلًا کما مُلِئَتْ ظُلْماً وجَوْراً یَلْبَثُ فِیکُم سَبْعاً أو ثَمانِیاً فإنْ کَثُرَ فَتِسْعاً لَاتَمْنَعُ السَّماءُ شَیْئاً مِنْ قَطْرِها ولا الأرْضُ شَیْئاً مِن نَباتِها»(6).

ویقول محیی الدّین بن العربی العارف المشهور من أهل السنّة فی کتابه «الفتوحات المکیة» وهو من الکتب العرفانیة المعروفة بین أهل العلم، فی الجزء الثالث الباب 306:

«إعلم أیّدک اللَّه أنّ للّه خلیفة یخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً فیملأها قسطاً وعدلًا لو لم یبق من الدنیا إلّایوم واحد طوّل اللَّه ذلک الیوم حتّی یلی هذا الخلیفة من عترة رسول اللَّه من ولد فاطمة اسمه اسم


1- انظر: نفحات القرآن، ج 9، ص 323.
2- نلاحظ فی هذا المجال وجود کتب کثیرة وکذلک فصول بعض الکتب منها: التوضیح فی تواتر ما جاء فی المنتظر والدجّال والمسیح، تألیف العالم السنّی المعروف الشوکانی.
3- سنن أبی داوود، ج 2، ص 309.( بالطبع أنّ تصریح بعض الأکابر أنّ« اسم أبیه اسم ابنی» أصحّ ویکون مطابقاً لعقیدة الشیعة. أی یعنی محمّد بن الحسن؛ انظر: نفحات القرآن، ج 9، ص 430).
4- مسند أحمد، ج 3، ص 28.
5- مستدرک الحاکم، ج 4، ص 465.
6- المصدر السابق، ج 19، ص 32.

ص: 501

رسول اللَّه ... فصاحب سیف حقّ وسیاسة مدنیة ... وزراؤه الذین استوزرهم اللَّه من الأعاجم، ما فیهم عربیّ لکن لا یتکلّمون إلّابالعربیة»(1).

فهل العالم الزاخر بأشکال الظلم والجور یمکنه أن یمتلی ء بالعدل والقسط بدون وجود حکومة مقتدرة تتکفّل هذا الأمر؟ وهل إقامة العدل والقسط واستمراره فی واقع المجتمع البشریّ یتیسّر بدون تشکیل حکومة مقتدرة؟

علی أیّة حال، فإنّ کلّ واحد من هذه الأدلّة المذکورة فی هذا البحث یدلّ بمجرّده علی اقتران الإسلام بمسألة الحکومة والسیاسة، ومعلوم أنّه إذا ضممنا کلّ هذه الأدلّة إلی بعضها فإنّ المطلوب سیتجلّی بشکل أوضح.

8. اقتران الفقه الإسلامی بالحکومة بشکل کامل

إنّ ملاحظة مجموعة الأبواب والمسائل الفقهیة من البدایة إلی النهایة، أی من کتاب الطهارة إلی کتاب الدیات، یقودنا إلی اکتشاف هذه الحقیقة وهی أنّ مسألة الحکومة متوغّلة فی عمق هذه المسائل الفقهیة بحیث لا یمکن فصل الفقه الإسلامیّ عن مسألة الحکومة.

إنّ قسماً مهمّاً من الفقه الإسلامی یبحث عن الوظائف الأصلیة للحکومة الإسلامیة، والبعض الآخر الذی یبحث خارج دائرة الحکومة فإنّه یعتبر ناقصاً أو یمثّل بحوثاً هامشیة.

إنّ تقسیم المسائل الفقهیة إلی عبادات ومعاملات وسیاسات وتقسیمات مشابهة لها کان موجوداً فی الکتب الفقهیة ومتداولًا بین الفقهاء من قدیم الأیّام یعتبر شاهداً آخر علی هذا المعنی.

بالرغم من أنّ فقهاء أهل البیت علیهم السلام وأهل السنّة ذکروا تقسیمات مختلفة للمسائل الفقهیة فی کتبهم (2)، ویمکن ملاحظة ارتباط الفقه مع الحکومة من خلال هذه التقسیمات، ولکنّ التقسیمات التی قرّرها العلماء والفقهاء المعاصرون، تکشف بصورة أوضح العلاقة الوثیقة بین الفقه ومسائل الحکومة وإدارة المجتمع، ونشیر هنا إلی بعض النماذج، منها:

أ) اطروحة آیة اللَّه الشهید السیّد محمّد باقر الصدر

فقد تحرّک الشهید الصدر فی کتابه «الفتاوی الواضحة» إلی تقسیم البحوث الفقهیة إلی أربعة مجامیع:

1. العبادات: الصلاة، الصوم، الاعتکاف، الحجّ، العمرة والکفّارات.

2. الأموال: الخصوصیّة والعمومیّة.

والأموال الخصوصیّة تنقسم بدورها إلی قسمین:

الأسباب الشرعیة للتملّک (إحیاء الموات، الحیازات، الصید و ...) وأحکام التصرّف فی الأموال: (البیع، الصلح، الشرکة، الوصیة و ...).

3. السلوک والآداب الفردیة فی التعامل مع الغیر:

ویتضمّن الروابط الأسریة والروابط الاجتماعیة.

أمّا الروابط الاسریة فتتضمّن: النکاح، الطلاق، الخلع، المباراة، الظهار، اللعان والإیلاء.

وأمّا الروابط الاجتماعیة فتتضمّن: کتاب الأطعمة والأشربة، الملابس والمساکن، آداب المعاشرة، أحکام النذر والعهد والیمین، الذباحة، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.


1- انظر: الفتوحات المکّیّة، ج 3، ص 327 و 328.
2- انظر: بحث بنیة الفقه الإسلامی فی هذا الکتاب.

ص: 502

4. الآداب العامّة: القضاء والحکومة، الصلح والحرب، العلاقات الدولیة، الولایة العامة، القضاء والشهادات، الحدود، الجهاد و ...(1).

ب) اطروحة الدکتور المحمصانی

ویقسّم الدکتور صبحی المحمصانی وهو من علماء أهل السنّة، الفقه إلی ثلاثة أقسام:

1. العبادات: الصلاة، الصوم، الزکاة و ...

2. الأصول الأخلاقیة.

3. الأحکام القانونیة.

ویقسّم القسم الثالث إلی ثلاثة أقسام کالتالی:

1. الفقه الجزائی: القتل، السرقة، الزنا، شرب الخمر، القذف، علم معرفة الجرم، الحدود، الدیات والقصاص.

2. الأحوال الشخصیّة، أو فقه الاسرة: النکاح، الطلاق، الرضاع، الحضانة، الوصیة، الولایة، الإرث، النفقة ومسائل العدّة.

3. فقه المعاملات، أو المدنی: العقود، التصرّفات وکذلک: البیع، الإجارة، الهبة، العاریة، الودیعة، الکفالة، الحوالة، الشرکة، الصلح، الغصب، الإتلاف و ....

4. المخاصمات أو فقه القضاء: القضاء، البیّنات الدعاوی و ....

5. السِیَر: الجهاد، عقد الذمّة، الأمان والمسائل المتعلّقة بدار الإسلام، دار الحرب، والحرب والصلح.

6. الأحکام السلطانیة: الوزارة، الجیش، الخلافة والضرائب (2).

ج) اطروحة الدکتور وهبة الزحیلی

أمّا الدکتور وَهْبة الزحیلی فقد قسّم الکتب الفقهیة إلی ستّة أقسام:

1. العبادات وما یتعلّق بها، کالنذر والقسم والهدی.

2. أهمّ النظریات الفقهیة.

3. المعاملات.

4. الملکیّة وما یتعلّق بها مثل: أحکام الأراضی، إحیاء الموات، حقوق الارتفاق،(3) المعاهدات التی تتّصل بعمران الأراضی، أحکام المعادن، الغصب، اللقطة، السبق والرمایة، الشفعة و ....

5. ما یرتبط بأمور الحکومة والنظام السیاسیّ:

الحدود، الجنایات، الجهاد، العقود، القضاء و ....

6. الأحوال الشخصیة: النکاح، الطلاق، المیراث، الوصیة، والوقف.

د) اطروحة مصطفی الزرقا

وقد قسّم مصطفی أحمد الزرقا، الکتب الفقهیة إلی سبعة أقسام:

1. العبادات.

2. الأحوال الشخصیّة.

3. الروابط والعقود بین الناس (المعاملات).

4. السیاسة الشرعیّة.

5. العقوبات.

6. علاقات الدول فیما بینها.

7. الأحکام المتعلّقة بالأخلاق والفضائل والرذائل (4).


1- انظر: مجلة فقه أهل البیت، العدد 3، نظرة فی تقسیمات أبواب الفقه.
2- المصدر السابق.
3- الحقوق التی للإنسان فی ملک شخص آخر مثل: حق العبور وحق المجری.
4- انظر: مجلة فقه أهل البیت، العدد 3، نظرة فی تبویب أبواب الفقه.

ص: 503

ویمکن من خلال النظر الدقیق إدراج البحوث الفقهیة بشکل موجز إلی العناوین التالیة:

1. الأمور التی تختصّ بمسؤولیة الحکومات ولا یمکن لأفراد المجتمع والأحزاب والفئات المختلفة أن یتحرّکوا فی هذا الأتّجاه بدون تشکیل الحکومة، وهذه الأمور عبارة عن:

ألف) إنّ بیت المال أو خزانة الدولة التی تتکفّل نفقات الحکومة ولا یمکن التصرّف فی هذا المجال إلّا بأدوات حکومیة وسلطة زمنیة.

إنّ الأمر بجمع الزکوات والأخماس وحفظها والإشراف علی أمر الأنفال والغنائم التی تعتبر من المنابع المهمّة لبیت المال- وقد ورد تفصیل الکلام فیها فی الفقه الإسلامی فی کتاب الزکاة و کتاب الخمس والأنفال و أحکام الغنائم تندرج کلّها فی هذه الدائرة، ولهذا السبب نری فی التاریخ الإسلامی، سواء فی زمن النبیّ صلی الله علیه و آله أم بعد رحلته، أنّ الحاکم الإسلامی یختار عمّال ومسؤولین یأخذون علی عاتقهم هذه المهمات.

یقول أبوریّة کما سبق ذکره:

«إنّ الزبیر بن العوام وجهمة بن الصلت کانا یکتبان أموال الصدقة، وکان حذیفة یکتب خراج النخل، وکان المغیرة بن شعبة والحصین بن نمیر، یکتبان المداینات والمعاملات»(1).

ب) مسألة القضاء، وتتکفّل حلّ النزاعات والخلافات الحقوقیة والتصدّی لأعمال الظالمین وإنزال العقوبات بالمجرمین. وهذا المقام یعدّ فی جمیع أرجاء العالم من جملة المناصب الحکومیة. صحیح أنّ الجهاز القضائی یجب أن یکون مستقلّاً بشکل کامل ولکنّ رئیس الجهاز القضائی والوزیر الذی یتکفّل مثل هذه الموارد یتمّ تعیینه من قِبل الحکومة، ولا تتمکّن الأجهزة القضائیة من تنفیذ أحکامها بدون دعم حکومیّ وإسناد رسمی.

وقد بحث الفقهاء فی الفقه الإسلامی أصول وجزئیات القضاء الإسلامی فی «کتاب القضاء» و «کتاب الشهادات» بشکل واسع، فهل من المعقول أن ینفصل الفقه الإسلامی مع کلّ هذه الأحکام الفقهیة عن مسألة الحکومة والنظام السیاسی؟ کلّا قطعاً.

ج) أحکام القصاص، الدیات، وتعویض خسائر الجنایات، وعقوبة المعتدین علی الأموال والنفوس والأعراض، وأحکام المحارب والمفسد، وهو الذی یعرّض المجتمع الإسلامی للتهدید والخطر ویسلب الأمان منه، کلّها لا یمکن تجسیدها علی مستوی الممارسة فی واقع الحیاة والمجتمع بدون جهاز الحکومة. وعلیه فإنّ وجود «کتاب القصاص» و «کتاب الدیات» و «کتاب الحدود» وأحکام المحارب والمفسد فی الأرض فی الفقه الإسلامی تعدّ دلیلًا واضحاً علی اقتران الفقه بالحکومة بشکل وثیق، ولأنّه لا شکّ فی أنّ إجراء حکم القصاص وإقامة الحدود لا یمکن القیام به إلّا بواسطة الحاکم.

ونقرأ فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام فی جوابه «لحفص بن غیاث» الذی سأله عن الشخص المسؤول عن إقامة الحدود من هو؟ فقال:

«إقامَةُ الحُدودِ إلی مَن إلیهِ الحُکْمُ»(2).

وعلی هذا الأساس صرّح الشیخ الطوسی فی کتاب


1- انظر: الأضواء علی السنة المحمدیة، ص 256.
2- وسائل الشیعة، ج 18، ص 338، الباب 28 من أبواب مقدّمات الحدود، ح 1.

ص: 504

«النهایة»:

«فأمّا الحدود فلیس إقامتها إلّالسلطان الزّمان»(1).

ویقول الشافعی أحد أئمّة المذاهب الأربعة لأهل السنّة فی کتابه المعروف ب «الأُمّ»:

«إنّ العقوبات غیر الحدود، فأمّا الحدود فلا تعطّل بحالٍ، وأمّا العقوبات فللإمام ترکها علی الاجتهاد ...»(2).

ویقول الدکتور وهبة الزحیلی فی کتابه: «فی نظر علماء المالکیة فإنّ ید الإمام فی تعیین مقدار «التعزیر» (لا الحدود) مفتوحة، فیعمل وفقاً لما یراه صلاحاً وأیّ مقدار تکون العقوبة التعزیریة بما تحقّق المصلحة وبشرط یکون أقلّ من الحدّ.

وفی نظر الفقهاء فإنّ إجراء التعزیر (فی مورد ما لم یکن هناک حقّ للغیر) فلا یجب علی السلطان، یعنی إذا رأی السلطان فی المصلحة فی العفو عنه فیحقّ له ذلک کما هو رأی علماء الأحناف، لأنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال:

«إصْفَحُوا عن أخطاءِ الکِبارِ» (إلّا فی مسألة الحدود) وفی هذا الصدد یقول علماء الأحناف: إنّ العفو عن الذنوب التی أقلّ من الحدّ، تکون بید الإمام (السلطان)»(3).

ویقول الإمام علیّ علیه السلام فی اعتراضه علی بعض المسؤولین السیاسیین فی ذلک الوقت:

«ألَا وقَد قَطَعْتُم قَیْدَ الإسْلامِ وعَطَّلْتُم حُدودَهُ وأمَتُّم أحْکَامَهُ»(4).

ونری فی هذا الکلام أنّ الإمام علیه السلام ساوی بین إهمال تنفیذ الحدود الإلهیّة وزوال وموت الأحکام الإلهیّة.

ویقول الإمام علیه السلام فی الخطبة 131 من «نهج البلاغة» فی بیانه للغرض والحکمة من الحکومة:

«أللّهُمَّ إنَّکَ تَعْلَمُ أنَّهُ لَم یَکُنِ الّذِی کانَ مِنّا مُنَافَسَةً فی سُلْطانٍ ولَا الْتِماسَ شَیْ ءٍ مِن فُضولِ الحُطامِ ولکن لِنَرُدَّ المَعَالِمَ مِن دِیْنِکَ ونُظْهِرَ الإصْلاحَ فی بِلادِکَ فَیَأْمَنُ المَظلومونَ مِن عِبادِکَ وتُقامُ المُعَطَّلَةُ مِن حُدودِکَ».

وبالرغم من أنّ بعض فقهاء الشیعة وبشکل نادر ذهبوا إلی عدم وجوب إجراء الحدود فی عصرنا الحاضر الذی یصطلح علیه بعصر عدم حضور الإمام المعصوم، ولکن أغلب فقهاء هذه المدرسة یرون أنّ إجراء الحدود من الواجبات، ویستندون فی ذلک إلی الحدیث القدسیّ عن الإمام علیّ علیه السلام أنّه قال:

«مَنْ عَطَّلَ حَدّاً مِن حُدودِی فَقَد عانَدَنِی وطَلَبَ بذلِکَ مُضَادَّتِی»(5)

وکذلک استدلّوا بعمومات أدلّة الحدود حیث قالوا: لا یشترط حضور الإمام المعصوم لتنفیذ الحدود، بل إنّ حکومة غیر المعصوم مکلّفة أیضاً بهذه المهمّة.

وجاء فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام فی بیان برکات إجراء الحدّ و إقامة الحدود الإلهیّة فی المجتمع أن قال:

«حدٌّ یُقامُ فی الْأرْضِ أزْکی فِیْها مِن مَطَرِ أربَعِینَ لَیْلَة وأیّامِها»(6).

د) الجهاد أوبعبارة أخری الدفاع عن جمیع البلاد الإسلامیة فی مقابل هجوم الأجانب، حیث یشکّل هذا الباب أحد الأبواب المهمّة فی الفقه الإسلامی، ولا شکّ فی أنّ هذا الأمر یقع فی دائرة مسؤولیات الحکومات.

فصحیح أنّ الجهاد أو الدفاع یعدّ وظیفة دینیة لکلّ مسلم بالغ، ولکن لا شکّ فی أنّ هذا العمل لا یتیسّر بدون تنظیم للقوّات وتهیئة أدوات الحرب المعاصرة،


1- النهایة، ص 300.
2- کتاب الأمّ، ج 4، ص 264.
3- انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 7، ص 5601- 5603.
4- نهج البلاغة، الخطبة 192.
5- الکافی، ج 7، ص 187.
6- المصدر السابق، ص 174، ح 1.

ص: 505

وهذا الأمر من مختصّات الحکومة کما هو السائد فی جمیع مناطق العالم.

و قد اتّخذت الحرب فی عصرنا الحاضر صوراً وأشکالًا معقّدة جدّاً وتحتاج إلی منظومات متشابکة کثیرة سواء علی مستوی التعلیم والتدریب أم تهیئة الأسلحة المتطوّرة وجهاز الاستخبارات والاطّلاع علی وضع العدوّ والتخطیط الدقیق فی عملیة المواجهة العسکریة وتوفیر النفقات الثقیلة لهذه الأمور، کلّ ذلک یبیّن بوضوح ضرورة تشکیل الحکومة فی واقع المجتمع البشریّ، و لهذا السبب فإنّ هذه الأمور تقع فی جمیع المجتمعات علی عهدة الحکومات.

إنّ بعض أحکام الإسلام وضعت بشکل أن یکون قسم منها تحت اختیار عامّة المسلمین، والقسم الآخر منها یختصّ بمسؤولیة الحکومة، أی ما لا یتیسّر إجراؤه إلّا من خلال تشکیل الحکومة مثل، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، حیث تقع علی عاتق أفراد المجتمع فی مرحلة الوعظ القلبیّ واللسانیّ، فکلّ شخص یجب أن یتحرّک قلبیاً علی مستوی طلب الخیر والأمر بالمعروف ومخالفة الشرّ والنهی عن المنکر، وعندما یری ترک المعروف أو إتیان المنکر، یجب علیه تقدیم النصیحة لمرتکب هذا العمل ویمنعه من ذلک بکلام مناسب مقترن بالإحترام، کما تقرّر الآیة الشریفة هذا المعنی: «کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ»(1).

ولکن أحیاناً لا تنفع التوصیات اللفظیة فی القضاء علی المنکرات والإتیان بالوظائف والمسؤولیات الضروریة، وتحتاج إلی إقدامات عملیة من قبیل إیصاد مراکز الفساد والفحشاء وإلقاء القبض عی المفسدین وعوامل الرذیلة وتحویلهم إلی الجهات القضائیة المختصة، لأنّ تدخّل عامة الناس فی مثل هذه الموارد یخلق مشکلة فی واقع الممارسة والعمل، ولابدّ أن یتمّ ذلک بواسطة عمّال وأیادی الحکومة والسلطة. وهنا تأتی مسؤولیة الحکومة فی إیجاد حلّ لمثل هذه الظواهر السلبیة، کما یشیر القرآن الکریم فی آیة أخری فی هذه السورة إلی هذا المعنی ویقول:

«وَلْتَکُنْ مِّنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْکَرِ»(2). وتفاوت هذه الآیة مع الآیة السابقة یتبیّن من خلال الفرق فی المسؤولیات التی تتکفّل بها کلّ جهة معیّنة فی المجتمع الإسلامی.

یقول الشیخ الطوسی فی کتاب «النهایة» فی هذا الصدد:

«وقد یکون الأمر بالمعروف بالید بأنْ یحمل النّاس علی التأدیب والرّدع و قتل النفوس وضرب من الجراحات إلّاأنّ هذا الضّرب لا یجب فعله إلّاباذن السّلطان»(3).

ویقول وهبة الزحیلی: «وقام علی أساس هذه الأوامر نظام الحسبة الذی یقی الأفراد والمجتمع من غائلة الجریمة، والحسبة کما تقدّم: أمر بالمعروف إذا ظهر ترکه ونهی عن المنکر إذا ظهر فعله أو هی وظیفة من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کما قال ابن خلدون»(4).

3. القسم الآخر من الأحکام الفقهیة، وإن کان حسب الظاهر لا یقع فی دائرة الوظائف الحکومیة ومسؤولیتها، ولکنّها لا تتحقّق فی واقع المجتمع بدون


1- سورة آل عمران، الآیة 110.
2- سورة آل عمران، الآیة 104.
3- النهایة، ص 299.
4- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 7، ص 5296.

ص: 506

إشراف الحکومة ودعمها، مثل:

ألف) الأحکام التی تتّصل بالأحوال الشخصیّة وهی ما یدخل فی دائرة الأحکام المدنیة: کأحکام الطلاق والنکاح والنفقات والأولاد والمهور و ....

علی سبیل المثال یقول القرآن الکریم: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا»(1).

فالآیة الشریفة تأمر الزوج أن یختار أحد طریقین فی علاقته مع زوجته، الأوّل: «الإمساک بمعروف» قبل انتهاء العدّة، بمعنی إعادة الزوجة إلیه وتأمین الحقوق الزوجیة بشکل مقبول، والثانی: «التسریح بإحسان»؛ أی إتمام الطلاق وترک الزوجة تختار طریقها مع أداء جمیع حقوقها، والطریق الثالث: أی الإمساک وإعادة الزوجة مع الإضرار بها بدافع الانتقام وهو مرفوض فی هذه الآیة.

والسؤال الذی یطرح هنا، هو: ما هی الضمانات التی تحتم أن یعمل الزوج بوظیفته الشرعیة ویختار أحد الطریقین المشروعین المذکورین فی هذه الآیة فی مقابل زوجته؟ هل یتمّ الاکتفاء بالموعظة والنصیحة لتحقیق هذا الأمر؟ من المعلوم أنّ هذا المعنی لا یتیسر فی جمیع الحالات والموارد، فهناک موارد کثیرة یقف الزوج فی مقابل الحکم الإلهیّ من موقع العناد والتمرّد، فهنا لابدّ من الاستعانة بأدوات السلطة وإجباره علی أداء حقوق زوجته من خلال اختیار أحد الطریقین المشروعین.

ونشاهد فی عصرنا الحاضر موارد کثیرة من سوء معاملة الرجال لزوجاتهم، بل هناک الکثیر من الموارد التی یتزوّج فیها الرجل مرّة ثانیة تارکاً زوجته الأولی ویسافر إلی منطقة غیر معلومة، ولا یهتم لنصائح المصلحین وتوصیاتهم لاختیار الطریق المناسب والصحیح لاستمرار العلقة الزوجیة أو الطلاق بشکل یتضمّن أداء حقوق الزوجة. فهل یمکن فی مثل هذه الموارد العثور علی طریق لحلّ المشکلة سوی طریق الاستعانة بالقوة القهریة وأدوات السلطة من أجل إجبار الزوج علی أداء وظیفته الإسلامیة ومنح الزوجة حقوقها المشروعة لئلّا تعیش فی حالات العسر والحرج الشدیدین. وفی البدایة یتمّ إلقاء الحجّة علیه بأنّه إمّا أن یطلّق أو یعود إلی الزوجیّة ویعیش مع زوجته بشکل معقول ومناسب، وفی غیر هذه الصورة یقوم الحاکم الشرعیّ بتطلیق الزوجة وإجبار الزوج علی دفع جمیع المستحقّات المشروعة للزوجة.

وکذلک بالنسبة لتحقیق بعض أنواع الطلاق فی نظر فقهاء أهل السنّة، حیث لا یتمّ ذلک إلّابإذن الحاکم أو السلطان:

«فقالت طائفة: لا یجوز إلّابإذن السّلطان»(2).

ب) المسائل التی تتّصل بالتعلیم والتربیة والتی تقع علی عهدة الناس وأفراد المجتمع، ومن ذلک ما ورد فی الفقه الإسلامی من حقوق الأبناء علی الآباء والأمهات فی دائرة التعلیم والتربیة.

یقول أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام بالنسبة لحقوق الأبناء علی الآباء:

«إنَّ لِلوَلَدِ علی الوَالِدِ حَقّاً، وإنَّ للوَالِدِ علی الوَلَدِ حَقّاً. فَحَقَّ الوَالِدِ علی الوَلَدِ أن یُطِیعَهُ فِی کُلِّ شَیْ ءٍ، إلّا فی مَعْصِیَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ وحَقُّ الوَلَدِ علی الوَالِدِ أنْ یُحْسِنَ إسْمَهُ، وَیُحسِنَ أدَبَهُ، ویُعَلِّمَهُ القُرآنَ»(3).

ویقول وهبة الزحیلی:

«لکلّ طفل، منذ ولادته، حقّ


1- سورة البقرة، الآیة 231.
2- المحلّی لإبن حزم، ج 10، ص 235.
3- نهج البلاغة، الحکمة 399.

ص: 507

علی والدیه ومجتمعه و دولته فی الحضانة والتربیة والرّعایة المادّیة والأدبیّة. علی المجتمع والدولة حمایة الأمومة وتعهّدها برعایة خاصة»(1).

ولکنّ ترتیب وتنظیم هذه المسألة وتهیئة الأدوات اللازمة لتحقیق هذا الأمر لا یتیسّر بدون إشراف الحکومة. ولهذا السبب فإنّ وزارة التربیة والتعلیم تعدّ فی عصرنا الحاضر من أهم الوزارات فی الحکومة، وإن لم تکن فی السابق بهذا المستوی من الأهمّیة ولکن مع ذلک فإنّ الحکومات کانت تتحرّک علی مستوی الإشراف علی أمر التعلیم والتربیة فی المدارس، بل حتّی فی المساجد، ومعلوم أنّ هذه العملیة التربویة لا تصل إلی غایتها النهائیة بدون إشراف السلطة وتأمین نفقاتها الضروریة من قِبل الجهاز الحکومی.

ویقرّر القرآن الکریم أنّ مسألة التعلیم والتربیة هی من مهمّات وظائف النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وبعبارة أخری هذه المسألة تعتبر من أهداف وغایات البعثة والوحی، حیث یقول: «هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِّنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ»(2).

فهل یمکن تحقیق هذا الهدف الکبیر والمقدّس وتجسیده فی واقع المجتمع وفی جمیع أبعاده بدون تخطیط کامل وإشراف حکومی؟ وهل یمکن التحرّک علی مستوی إقامة جهاز تربوی یستوعب فی برنامجه جمیع مفاصل المجتمع بدون تشکیل حکومة؟

ونقرأ فی «نهج البلاغة» أنّ الإمام علیّاً علیه السلام قال:

«أیُّها النّاسُ إنَّ لِی عَلَیْکُمْ حَقّاً وَلَکُمْ عَلَیَّ حَقٌّ».

ثمّ یقول فی بیان حقوق الناس علی الوالی ورئیس الحکومة:

«وتَعْلِیمکُم کَیْلا تَجْهَلوا وَتأدِیبکُم کَیْما تَعْلَمُوا»(3).

ج) بالنسبة للمسائل الحقوقیة والعلاقات الاقتصادیة بین أفراد المجتمع والتی تمثّل مجموعة المعاملات والعقود المالیة التی وردت فیها أحکام شرعیة کثیرة فی الإسلام مذکورة فی کتاب البیع وکتاب الإجارة وکتاب الوصیة وکتاب الوقف وکتب أخری کثیرة.

ومعلوم أنّ تنظیم هذه الأمور وکذلک رفع الخلافات والنزاعات فیما یتّصل بها وإجراء هذه الأحکام الإسلامیة بشکل صحیح وبعید عن الإرباک والهرج والمرج لا یتیسّر بدون تدخل السلطة. وعلی هذا الأساس فلابدّ من الإذعان إلی أنّ هذا القسم من الأحکام الفقهیة یستدعی بدوره تشکیل الحکومة لتحقیقه علی أرض الواقع.

یقول الدکتور وهبة الزحیلی: «کما أنّ هذا المبدأ مقیّد بالرقابة الحازمة للدولة وإشراف الحاکم علی النشاط العام وتوجیهه وجهة تتمشّی مع حفظ المصالح العامّة ومنع الضرر عن الجماعة، حسبما یقدر الإقتصادیون المتخصصون، قال اللَّه تعالی: «یا أَیّها الّذِینَ آمنُوا أطیعُو اللَّهَ وأَطِیعُوا الرّسُولَ وأولِی الأمرِ مِنْکُم»(4) وأولو الأمر هم الحکّام والعلماء المتخصّصون، فما یقرّره أهل الخبرة واجب الطاعة لحمایة الامّة، والحفاظ علی کیان الدولة ولتحقیق مبدأ التوازن الاجتماعی الإسلامی علی وفق ما تقرّره الشریعة»(5).

4. السلسلة الرابعة من الأحکام الفقهیة التی لا تملک مسؤولًا خاصّاً عن تحقیقها فی المجتمع، ومن الطبیعی أن تقع مسؤولیة ذلک بعهدة المؤسسات والمراکز


1- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6450.
2- سورة الجمعة، الآیة 2.
3- نهج البلاغة، الخطبة 34.
4- سورة النساء، الآیة 59.
5- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 7، ص 4986.

ص: 508

المرتبطة بالحکومة، مثلًا:

تحقیق الأمن الداخلی وحفظ أموال ونفوس الناس والقیام بأمور الحسبة والإشراف علی أمور الرعیة ورعایة أمور الأیتام والقصّر وتنظیم الشوارع والأسواق والإشراف علی الأسعار وأمثال ذلک، فهذه کلّها من الأمور التی ذکرت لها أحکام شرعیة فی الفقه الإسلامی. وهذه الأمور لا تقع علی عهدة الناس أو یقوم بها الأفراد بشکل طوعیّ، بل تحتاج إلی إشراف حکومی والاستعانة بقوّة علیا فی هذه العملیة. ومن هنا نری أنّ الإمام علیّاً علیه السلام فی «عهده لمالک الأشتر» الذی یعدّ من أهم الشواهد علی عدم فصل الدین عن الحکومة، عندما یرید تقسیم شرائح المجتمع إلی عدّة أقسام، ویوصی الأشتر بوصایا فیما یتّصل بالتجّار وأهل الحرف والصناعات، یقول:

«فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِکارِ فَإنَّ رَسولَ اللَّهِ صلی الله علیه و آله مَنَع مِنهُ، وَلْیَکُنِ البَیْعُ بَیْعاً بِمَوازِینَ عَدْلٍ، وأسْعارٍ لا تُجْحِفُ بِالفَرِیقَیْن من البائِعُ والمُبْتَاعِ، فَمَنْ قارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیِکَ إیّاهُ فَنَکِّلْ بِه و عاقِبْهُ فِی غَیْرِ إسْرافٍ»(1).

ویعدّ الإحتکار من جملة الذنوب الاجتماعیة التی لم یرد لها فی الشریعة حدّ معیّن، ولذلک یحتاج تأدیب المحتکر إلی الاستعانة بالقوّة القهریة للسلطة.

یقول العالم المعروف ابن أبی الحدید المعتزلی بعد بیان وتوضیح کلمات الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام المذکورة:

«وأمَره أن یؤدّب فاعل ذلک من غیر إسراف، وذلک أنّه دون المعاصی الّتی توجب الحدود، فغایة أمره من التعزیر والإهانة والمنع»(2).

یقول الدکتور وهبة الزحیلی: «وقد حدّد الفقهاء أربع حالات یجوز فیها شرعاً أن تنزع الأملاک: الحالة الثالثة: أن تنزع الملکیة منعاً من الاحتکار، وذلک کما إذا احتکرت طائفة التجّار أقوات الناس وحصل من ذلک ضرر، فإنّه یجوز للحاکم أن یمنعه ببیعٍ أو تسعیر، دفعاً للضرر»(3).

وکذلک یقول الدکتور وهبة الزحیلی فی بحث آخر بعد تأکیده علی هذه النقطة وهی أنّ رضا الطرفین یمثّل أساس «العقود» ولا یمکن إجبار شخص علی إجراء العقد والعمل بمضمونه یقول: «... إلّاما توجبه قواعد العدالة ومصلحة الجماعة کبیع الأموال المحتکرة لصالح الجماعة، واستملاک الأراضی للمصالح العامة»(4).

علی أیّة حال فمن الواضح أنّ تحقیق هذه الأمور فی واقع المجتمع لا یتیسّر بدون تشکیل حکومة تأخذ علی عاتقها تنظیم هذه الأمور، وفی غیر هذه الصورة تعمّ الفوضی فی أجواء المجتمع الإسلامی.

5. إنّ قسماً مهمّاً من الأحکام الفقهیة تتشکّل من أحکام العبادات کالصلاة والصوم والحجّ و ... فیما یتّصل بعلاقة الخلق مع الخالق، ویبدو أنّ هذه الأحکام لا ترتبط بمسألة الحکومة حسب الظاهر ولکن مع قلیل من التأمّل والدقّة یتبیّن أنّ تحقیق هذا الأمر وإجراء هذه الأحکام بشکل صحیح یحتاج إلی إشراف السلطة أیضاً. ومن هنا ورد فی التاریخ الإسلامی أنّ الحاکم یعیّن فی کلّ عام «أمیر الحاجّ» لرعایة أمور الحج الذی یمثّل عبادة کبیرة جماعیة، وکذلک یتمّ تعیین أئمة الجمعة من قِبل الحاکم.

ویشیر القرآن الکریم أیضاً إلی هذه المسألة بعبارة لطیفة ویقول: «الَّذِینَ إِنْ مَّکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقَامُوا


1- نهج البلاغة، الرسالة 53.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ج 17، ص 85.
3- انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 7، ص 4996.
4- المصدر السابق، ج 4، ص 3047.

ص: 509

الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّکَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْکَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»(1).

إنّ وضع إقامة الصلاة إلی جانب الزکاة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی هذه الآیة یشیر إلی أنّ جمیع هذه الأمور هی برکات التمکّن فی الأرض وتشکیل الحکومة الدینیة.

ومن هذا القبیل الإعلان عن رؤیة الهلال من أجل التوفیق بین المسلمین فی أداء مراسم عید الفطر أو صیام شهر رمضان المبارک وأداء مناسک الحجّ، کلّ ذلک یعتبر من وظائف الحکومة الإسلامیة.

یقول الشیخ الطوسی فی «تهذیب الأحکام»: «وما ثبت من سنّة النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه کان یتولّی رؤیة الهلال ویلتمس الهلال ویتصدّی لرؤیته»(2). وبالطبع فإنّ هذه المسألة استمرت بعد زمن النبی صلی الله علیه و آله حیث کان الحکّام والولاة یعلنون عن رؤیة الهلال للناس.

وفیما یرتبط بإمام الجمعة، فقد وردت روایات عن أهل البیت علیهم السلام تقرّر أنّ ولیّ أمر المسلمین هو الأَولی بإقامة صلاة الجمعة.

ونقرأ فی روایة عن الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام:

«إنَّما جُعِلَتِ الخُطْبَةُ لأنَّ الجُمُعَةَ مَشْهَدٌ عَامّ فَأرادَ أن یَکونَ للأمِیرِ سَبَبٌ إلی مَوْعِظَتِهِم وَتَرغِیبِهِم فی الطّاعَةِ وتَرهِیبِهِم مِنَ المَعْصِیَةِ، وتَوْقِیفِهِم علی مَا أرَادَ مِنْ مَصْلَحَةِ دِیْنِهِم ودُنْیاهُم ویُخْبِرَهُم بِما وَرَدَ عَلَیهِم مِنَ الآفاقِ»(3).

وأساساً فإنّ العبارات الواردة فی النصوص الدینیة عن صلاة الجمعة وصلاة العید تحکی عن أنّ إمامة الصلاة فیهما بمثابة مقام إلهیّ ومنصب دینیّ یضعه اللَّه تعالی فی اختیار الحاکم الإسلامی (4).

ویری الإمام الشافعی أنّ من المستحبّ أن لا تقام صلاة الجمعة بدون إذن السلطان أو نائبه فی ذلک الوقت (5).

ویقول وهبة الزحیلی بالنسبة لشروط إقامة صلاة الجمعة: إنّ الحنفیة یعتقدون بأنّ إمام الجمعة یجب أن یکون الأمیر نفسه أو من ینوب عنه (6).

6. بعض الأحکام الفقهیة التی تتّصل بعلاقة المسلمین مع غیر المسلمین من قبیل أحکام أهل الذمّة (وهم الأقلّیات الدینیة الذین یعیشون داخل المجتمع الإسلامی بشکل سلمیّ) وکذلک الأحکام التی ترتبط بعلاقة المسلمین مع الشعوب الأخری علی المستوی التجاری والاقتصادی، وما یقرّرون من معاملات ومعاهدات وأمثال ذلک.

وبدیهی أنّ هذ القسم من الأحکام لا معنی له بدون تشکیل الحکومة الإسلامیة وتحقیقه بشکل صحیح علی أرض الواقع، وبعبارة أخری: إنّ هذه الأمور لا تعتبر من المسائل الفردیة والشخصیة بحیث یستطیع کلّ فرد القیام بها بل هی من الأمور التی تتحقّق من خلال تدخّل المسؤولین فی الجانب السیاسی والاجتماعی.

9. تعبیر الفقهاء ب «السلطان» ووظائف السلطان:

ونقرأ فی کلمات فقهاء الإسلام من الشیعة وأهل السنّة عبارات تحکی عن وجود فکر خاصّ یقوم علی


1- سورة الحج، الآیة 41.
2- تهذیب، ج 4، ص 155.
3- وسائل الشیعة، ج 5، ص 39، ح 6.
4- مستدرک الوسائل، ج 1، ص 432؛ الصحیفة السجادیّة، دعاء 48.
5- المجموع، ج 4، ص 583.
6- الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 2، ص 1297.

ص: 510

أساس تقبّل واقع الحکومة الإسلامیة فی الذهنیة المسلمة، ویعکس ثقافة وجود العلاقة بین الفقه والمسائل السیاسیة والاجتماعیة.

ومن هذا القبیل قولهم: سلطان الزمان سلطان الإسلام، وإمام المسلمین وأمثال ذلک.

ونقرأ فی کتاب «شرح الأزهار» من تألیف الإمام أحمد المرتضی:

«المراد من السلطان فی ألسنة العلماء حیث یطلقونه، وهو الإمام العادل المتولّی لمصالح الدّین»(1).

ویقول الشیخ المفید فی بحث «الأنفال»:

«لیس لأحد أنْ یعمل فی شی ء ممّا عدّدنا من الأنفال إلّابإذن الإمام العادل»(2)

، (من قبیل الأراضی الموات، الغابات، الأنهار الکبیرة، وسواحل البحار).

ویقول العلّامة الحلّی فی «تذکرة الفقهاء» کلاماً مشابهاً لهذا الکلام:

«إنّ المراد بالسّلطان هو الإمام أو الحاکم الشّرعی»(3).

ویقول الشیخ الطوسی فی کتابه «النهایة» بالنسبة لإجراء الحدود:

«فأمّا الحدود فلیس یجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزّمان»(4).

وأمّا الإمام الشافعی، فإنّه یتعرّض فی کتابه المعروف «الامّ» فی باب المعاملات غیر المسموح بها التی تجری بین الناس ویشیر إلی مسألة الرجوع فی ذلک إلی السلطان (أی الحکومة) لإحقاق الحقّ (5).

ویقول وهبة الزحیلی فی کتاب «الفقه الإسلامی وأدلّته» وعند ذکره مسألة وجوب إطاعة أولی الأمر:

«إذا بایع أکثر المسلمین إماماً وجبت طاعته من الکلّ، لقول الرسول صلی الله علیه و آله: «ید اللَّه مع الجماعة» ...

ومصدر الالتزام بالطاعة آیات وأحادیث، منها قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ»(6) وأولو الأمر: الحکّام والعلماء کما بیّن المفسّرون والصحابة»(7).

وما ورد فی الفقه من الوظائف للحاکم الإسلامی تدلّ علی اقتران الفقه مع السیاسة والحکومة.

ویقول أیضاً فی کتابه المعروف الذی یتحدّث فیه عن وظائف السلطان فی نظر فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنّة: «فی باب وظائف السلطان: یمکن تصنیفها أو قسمتها إلی وظائف دینیة ووظائف سیاسیة.

الوظائف الدینیة وهی أربعة: 1. حفظ الدین.

2. جهاد الأعداء. 3. جبایة الفی ء والصدقات.

4. القیام علی شعائر الدین من أذان وإقامة الصلاة وصون المساجد ورعایتها و ...

وأمّا الوظائف السیاسیة وهی:

1. المحافظة علی الأمن والنظام العام فی الدولة.

2. الدفاع عن الدولة فی مواجهة الأعداء.

3. الإشراف علی الأمور العامة بنفسه.

4. إقامة العدل بین الناس.

5. إدارة المال بتقدیر العطایا وما یستحق فی بیت المال من غیر سرف ولا تقتیر.

6. الإدارة فی الحقوق وحقوق الآخرین»(8).


1- شرح الأزهار، ج 2، ص 292.
2- المقنعة، ص 278.
3- تذکرة الفقهاء، ج 2، ص 592.
4- النهایة، ص 300.
5- کتاب الأُمّ، ج 5، ص 112.
6- سورة النساء، الآیة 59.
7- انظر: الفقه الإسلامی وأدلّته، ج 8، ص 6190.
8- المصدر السابق، ص 6185- 6187( بتلخیص).

ص: 511

النتیجة:

تبیّن بوضوح من خلال البحوث التی وردت فی هذا الفصل الثانی أنّ ما یذکره أنصار العلمانیة فی أجواء المجتمع الإسلامی بأنّ الدین ینحصر فی دائرة الأمور الفردیة والأحوال الشخصیة، وأنّه لا علاقة له بأمور السیاسة والحکومة، هو فی الواقع ناشی ء من عدم معرفتهم بالفقه الإسلامی أو عدم دقّتهم فی مفهوم السیاسة أو کلیهما.

وإلّا فکیف یمکن أن یقرأ الشخص أبواب الفقه الإسلامی ویری باب الجهاد والقضاء والحدود والدیات إلی مسائل تتّصل بالزکاة وتشکیل بیت المال وأحکام الأقلّیات والعلاقات بین المسلمین وغیر المسلمین والإشراف علی السوق وتنظیم العلاقات الاقتصادیة وحتّی بالنسبة للعبادات التی تتّسم بصبغة اجتماعیة کالحجّ وصلاة الجمعة والجماعة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وتحقیق الأمن فی أجواء المجتمع الإسلامی التی تشکّل قسماً مهمّاً من الکتب الفقهیة، ومع ذلک یقول إنّ الدین الإسلامی لا یتدخّل فی أمر الحکومة والسیاسة، ویعتقد بأنّ الدین یدور حول محور الأحکام الفردیة؟!

والجدیر بالذکر بأنّ الوارد فی روایات أئمّة الإسلام أنّ مسألة الحکومة تمثّل أساس جمیع الأحکام الإسلامیة، والوسیلة لتحقیق هذه الأحکام علی أرض الواقع الاجتماعی.

ونقرأ فی حدیث عن الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:

«إنَّ الإمامَةَ أسَاسُ الإِسْلامِ، بالإمامِ تَمامُ الصّلاةِ والزَّکَاةِ والصِّیامِ والحَجِّ وتَوْفِیرِ الفَیْی ءِ والصَّدَقاتِ وإمْضاءِ الحُدودِ والأحْکامِ ومَنْعِ

الثُّغورِ والأطْرافِ»(1).

وبالإمکان الخروج بنتیجة أخری من هذا البحث، وهی أنّ الشخص الذی یقف علی رأس الحکومة الإسلامیة ویستلم زمام الأمور فی المجتمع الإسلامی یجب أن یکون عارفاً بالإسلام ومطّلعاً علی المسائل الفقهیة، بل ینبغی أن یتّخذ لنفسه جماعة من الفقهاء وأهل الخبرة فی الأمور والمسائل الدینیة لیستشیرهم ویستعین بهم فی أمر الحکومة لئلّا تبتعد الحکومة عن موازین العدل وتسیر فی خطّ الانحراف عن الأحکام الفقهیة. وطبیعیّ أنّ هذه المسألة تحتاج إلی دراسات وتفصیل أکثر، حیث ینبغی الرجوع فی ذلک إلی الکتب المفصّلة.

الفصل الثالث: إمتیازات الحکومة الدینیة

ربّما یثار هذا السؤال: ما هی امتیازات الحکومة الدینیة التی لا تتوفّر فی الحکومات العلمانیة وغیر الدینیة؟

والجواب عن هذا السؤال لیس بالأمر المشکل، فلو أنّ الحکومة الدینیة تحرّکت علی مستوی القیادة فی الخطّ الصحیح وابتعدت عن حالات التعصّب ولم تخضع فی سیاساتها للمتشدّدین وأمکن استخراج لطافة المشروع الدینی من عمق المبادی ء السماویة؛ فسوف تتجلّی لها معطیات إیجابیة کثیرة لا توجد فی الحکومات العلمانیة إطلاقاً، ومن ذلک:

1. إنّ الحکومات البشریة تتلوّن عادة بصبغة قومیة


1- الکافی، ج 1، ص 200.

ص: 512

أو عرقیة أو تتّخذ لها علی الأقلّ إطاراً حزبیاً وفئویاً، وعلی الرغم من ادّعاءات أنصار حقوق الإنسان الواهیة، فإنّها تتحرّک فی إطار حفظ منافع طائفة خاصّة وشریحة معینة فی ذلک المجتمع، فی حین أنّ الحکومة الإسلامیة تستوعب فی رؤیتها جمیع الأقوام والشرائح والطوائف المختلفة فی المجتمع من موقع التساوی فی الحقوق والامتیازات، وقد کان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یلفت نظر أُمّته دائماً إلی هذه الحقیقة، وهی أنّه لا فضل لقوم علی قوم أو قبیلة علی أخری فی واقع الکمال البشریّ وأنّ کلّ أفراد البشر سواسیة أمام اللَّه تعالی ولا امتیاز فی الإسلام للعرب علی العجم ولا لأبیض علی أسود.

وقد وردت فی هذا المجال أحادیث کثیرة مذکورة فی الجوامع الحدیثیة للفریقین بحیث لا یوجد اختلاف فی هذه النصوص إلّاما ندر، ومن هذه الأحادیث:

قال النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله:

«یا أیُّها النَّاسُ ألَا إنَّ رَبَّکُم واحِدٌ، وإنَّ أبَاکُمْ واحِدٌ، ألا لَافَضْلَ لِعَرَبِیِّ علی عَجَمیّ، ولَا لِعَجَمِیٍّ عَلی عَرَبِیٍّ، ولَا لأحْمَرٍ عَلی أسْوَدٍ، ولا لأسْوَدٍ علی أحْمَرٍ إلّابِالتَّقْوی (1).

وطبقاً لروایة أخری أنّه قال:

«أیُّها النَّاسُ ألا إنَّ رَبَّکُم واحِدٌ ألا إنَّ أبَاکُمْ واحِدٌ ألا لا فَضْلَ لِعَرَبیٍّ علی عَجَمِیٍّ ولا لِعَجَمِیٍّ علی عَرَبِیٍّ ولَا لأسْوَدٍ علی أحْمَرٍ وَلا لأحْمَرٍ علی أسْوَدٍ إلّابالتَّقْوی إنَّ أکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاکُمْ ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟

قالوا: بَلی یا رَسولَ اللَّهِ. قال: فَلْیُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ»(2).

وقد نقل هذا الحدیث بشکل آخر عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

«إنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ یقول:

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِّنْ ذَکَرٍ وَأُنثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ»

، فَلَیْسَ لِعَرَبیٍّ علی عَجَمِیٍّ فَضْلٌ وَلا لِعَجَمِیٍّ علی عَرَبِیٍّ فَضْلٌ، وَلا لأسْوَدٍ علی أبْیَضِ فَضْلٌ وَلا لأبْیَضٍ علی أسْوَدٍ فَضْلٌ إلّابالتَّقْوی (3).

ومن هذا القبیل ما نراه فی الخطابات القرآنیة کما فی قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا النَّاس»(4) و «یَا بَنِی آدَم»(5) و «یَا ایُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»(6) حیث تعدّ هذه الخطابات شاهداً آخر علی هذا المطلب.

2. إنّ الحکومة الدینیة تتحرّک حول محور الدوافع المعنویة والأخلاقیة، لیس بالنسبة لعامّة الناس، بل إنّ الحکّام والمسؤولین أیضاً یتمّ اختیارهم علی أساس المواصفات التی یملکونها فی ما یتعلّق بالإیمان والإخلاص والمعنویة، ولهذا السبب فإنّ إجراء الأحکام الشرعیة یملک ضمانات إجرائیة تمتدّ إلی باطن الأفراد بحیث یتحرّک الناس بشکل ذاتیّ فی هذا الخطّ ولا حاجة حینئذٍ لوجود أجهزة التحقیق والإشراف والمخابرات وما إلی ذلک، والتی تسلک غالباً طرق غیر مرضیّة بسبب عوامل الرشوة والتوصیات من قِبل المتنفذین فی الحکم، وتشکّل هذه المسألة أزمة کبیرة فی الحکومات غیر الدینیة.

3. إنّ جمیع الأفراد فی الحکومة الدینیة یتحمّلون المسؤولیة، مثلًا إذا تعرّضت البلاد لهجوم الأعداء، فإنّ جمیع الأفراد الذین یملکون القدرة علی القتال ومواجهة العدوّ سیکونون من جنود هذه الحکومة، وقد


1- انظر: نیل الأوطار، ج 5، ص 164؛ مسند أحمد، ج 5، ص 411.
2- تفسیر المیزان، ج 18، ص 334.
3- المعجم الکبیر للطبرانی، ج 18، ص 13.
4- وردت هذه العبارة فی 20 مورداً، منها: سورة البقرة، الآیة 21؛ سورةالنساء، الآیة 1.
5- وردت هذه العبارة فی 5 موارد، منها: سورة الأعراف، الآیة 26؛ سورة یس، الآیة 60.
6- وردت هذه العبارة فی 89 مورداً، منها: سورة البقرة، الآیة 104؛ سورةالمائدة، الآیة 11.

ص: 513

رأینا نماذج کثیرة من هذا القبیل فی عصر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی امتداد تاریخ الحکومات الإسلامیة وحتّی عصرنا الحاضر.

4. إنّ الحکومات المادّیة وغیر الدینیة تعیش مشکلة کبیرة فی مسألة التمایز الطبقیّ بین أفراد المجتمع، ولکن فی الحکومة الدینیة التی توصی الناس بالقناعة والحیاة البسیطة وتحرّک فیهم دوافع الخیر لمساعدة الطبقة الفقیرة والضعیفة فی هذا المجتمع، فإنّ ذلک سیؤدّی إلی تقلیص هذه الفجوة، وبالتالی ستزول الحیاة المترفة الزاخرة بأشکال الترف والبذخ التی هی الأساس لوجود وتشدید الفاصلة الطبقیة بین شرائح المجتمع.

5. إنّ الناس فی الحکومة الدینیة یرون أنّ العمل بالقوانین الحکومیة جزء من الفرائض والواجبات الإلهیة، وبهذه الصورة ینظرون إلیها علی أساس الوظیفة الدینیة والتکلیف الشرعی، وهذه الرؤیة تمنح هؤلاء الأفراد قوّة وباعثاً قویّاً لإجراء هذه القوانین وتحقیقها علی أرض الواقع الاجتماعی إلی حدّ أنّ الکثیر من الأفراد مستعدّون للتضحیة بنفوسهم وقبول الاستشهاد فی هذا السبیل، ویعدّون ذلک افتخاراً کبیراً لهم، فی حین أنّ الحکومات العلمانیة تفتقد هذا العنصر من عناصر القوة والقدرة.

6. فی الحکومة الدینیة یجب أن یکون الحاکم یتمتّع بالعدالة والصلاحیة اللازمة، فالإسلام یولی أهمیة کبیرة لصلاح الحکّام والمسؤولین، إلی درجة أنّه یری دورهم فی الحیاة السیاسیة والاجتماعیة أهمّ وأعلی من دور صلاح الناس، لأنّ الحاکم إذا کان صالحاً فإنّه بإمکانه إصلاح الامّة من خلال البرامج الصحیحة وإیصالها إلی مرفأ الأمان والصلاح.

وقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام قال:

«قال اللَّه تَبَارَکَ وتَعالی: لأُعَذِّبَنَّ کُلَّ رعِیَّةٍ فی الإسْلامِ دانَتْ بِولایَةِ کُلِّ إمامِ جائِرٍ لَیْسَ مِنَ اللَّهِ، وإنْ کانَتِ الرَّعِیَّةُ فی أعْمالِها برَّةً تَقِیّةً، وَلَأعْفُوَنَّ عَنْ کُلِّ رَعِیَّةٍ فِی الإسْلامِ دانَتْ بِوِلَایَةِ کُلِّ إمامٍ عادِلٍ مِنَ اللَّهِ وإنْ کانَتِ الرَّعِیَّةُ فِی أَنْفُسِها ظَالِمَةً مُسِیئةً»(1).

وهناک آثار إیجابیة أخری فی الحکومة الدینیة تجعلها تمتاز علی الحکومات غیر الدینیة.

وبدیهی أنّه لا یمکن إنکار هذه الحقیقة وهی وجود حکومات تشکّلت باسم الدین علی امتداد التاریخ وکانت لها إفرازات مخرّبة وآثار سلبیة فی الذاکرة البشریة مثل (حکومة بنی أمیّة وبنی العبّاس وبعض الحکومات المعاصرة التی انقرضت لحسن الحظّ). وربّما یتّخذ المخالفون للحکومة الدینیة هذه المظاهر السلبیة کذریعة لإنکار ورفض هذا النوع من الحکومة.

ولکنّنا جمیعاً نعلم أنّ حکّام وملوک هذه الحکومات لم یکونوا من علماء الدین ولا من الفقهاء وأهل الخبرة فی المسائل الدینیة، بل هم من السیاسیین المحترفین الذین یستغلّون الإحساسات والمشاعر الدینیة الصافیة لدی الناس، ویظهرون أنفسهم وحکومتهم الزاخرة بالبذخ والظلم والتزویر باسم الخلافة الإسلامیة، واللافت أنّ هؤلاء الحکّام أنفسهم یتحدّثون أحیاناً بما یوحی أنّهم لا علاقة لهم بقضایا الدین، بل هدفهم التسلّط علی الناس والرغبة فی السلطة فقط.


1- الکافی، ج 1، ص 376.

ص: 514

الفصل الرابع: العلمانیة و إنکار الحکومة الدینیة

اشارة

العلمانی"raluceS " یقال للشخص الذی لا یملک أیّة علاقة بالأمور المعنویة والدینیة(1)، ویری أنّ الحیاة والقوانین یجب تکون ناظرة إلی الأمور الدنیویة، والعلمانیة عبارة عن: «الاعتقاد بأنّ القوانین، التربیة والتعلیم وسائر الأمور الاجتماعیة یجب تقوم علی العلم بدلًا من الدین»(2).

وتوضیح ذلک: إنّ العلمانیة تعتبر منهج دنیوی وعرفی وأرضی، نشأ بسبب التحوّلات الاقتصادیة والثقافیة والاجتماعیة فی بلاد الغرب بعد عصر النهضة، ومن أهمّ نتائجه شیوع نظرة «فصل الدین عن السیاسة»(3)، ولا تکتفی العلمانیة بالدفاع عن مقولة فصل الدین عن السیاسة، بل فصل الفنون والفلسفة والحقوق والأخلاق عن الدین أیضاً، وأساساً فإنّ العلمانیة ترید علمنة جمیع الأمور وجعلها غیر دینیة، بزعمها إمکان الاستقرار والاستمرار فی الحیاة بدون دین (4)، والعلمانیة تعتبر حالة یکون فیها الوجدان الدینی وجمیع النشاطات الدینیة فاقدة لاعتبارها وأهمیتها الاجتماعیة، وبذلک یتمّ إقصاء الدین عن النظام الاجتماعی، وکذلک یفقد الدین وظیفته الأساسیة فی الوسط الإجتماعیّ (5).

أرکان العلمانیة:

اشارة

وتقوم الرؤیة العلمانیة علی عدّة أرکان ونتائج، منها:

1. أصالة الإنسان «أومانیسم» والعقلنة

فالإنسان فی هذه الرؤیة یعدّ محور جمیع الأشیاء وهو الخالق لجمیع القیم والمعاییر فی إطار الأخلاق والمعیار لتشخیص وتمییز الخیر من الشرّ.

والإنسان والعقل الإنسانی فی هذه الرؤیة قادر من خلال الاستفادة من عقله علی حلّ جمیع مسائله التی یحتاج إلیها، والحَکم النهائی والوحید لحلّ النزاعات فی هذه المدرسة هو عقل الإنسان، ویعتقد العلمانیون أنّ العقل البشری بإمکانه التحرّک علی مستوی إدارة شؤون البشر وإیجاد الحلول لجمیع التعقیدات فی واقع الحیاة والمجتمع بدون اللجوء إلی الوحی والاستمداد من التعالیم الإلهیة، والقدرة علی کشف الغایات والمعضلات فی الحیاة البشریة(6).

2. العلمیة

إنّ العلم فی نظر العلمانیة مقدّم علی الدین، وعلی أساس رؤیة المتشدّدین فی هذه المدرسة، فإنّ المسائل التی لا تقبل الإثبات علی أساس التجربة ینبغی إهمالها وعدم التوجّه إلیها(7). ومن هنا فإنّ التقابل والتضادّ بین العلم والدین فی هذه الرؤیة قد بدأ منذ أن ظهرت نظریات جدیدة فی علم الفلک والنجوم بواسطة


1- دیکشنری آکسفورد.
2- المصدر السابق.
3- حکومت اسلامی( الحکومة الإسلامیة) لأحمد الواعظی، ص 47( بالفارسیّة).
4- المصدر السابق.
5- فرهنگ دین( المعجم الدینی) لویلسون، مقالة فصل الدین والدنیا، ترجمة: مرتضی أسعدی( بالفارسیّة).
6- العلمانیة، الحکومة الدینیة، ولایة الفقه، ترجمه: حسن خرّمی الآوانی، ص 61- / 64( بالفارسیة).
7- المصدر السابق، ص 58.

ص: 515

کوبرنیک، کبلر و غالیلو، والتی کانت تتقاطع مع عقائد الکنیسة وظواهر الکتاب المقدّس للمسیحیین. وبعد ذلک اشتدّ التعارض بین الکنیسة والعلم وأدّی تدریجیاً إلی زوال هالة القداسة عن الأفکار والعقائد المسیحیة وإلغائها من واقع المجتمع الغربی فی البعدین الاجتماعی والسیاسی، وببیان آخر: إنّ تأکید العلمانیین علی فصل العلم عن الإیمان وإخراج جمیع العلوم والمعارف البشریة عن دائرة نفوذ الدین والتجربة الدینیة، یعتبر انعکاساً، وبمثابة ردّة فعل لتشدّد الکنیسة التی کانت تری أنت العلم والمعرفة لابدّ من تأطیرهما بإطار الدین وفی دائرة تفسیرها الرسمیّ للکتاب المقدّس المسیحیة، وبذلک سلبت حرّیة التحقیق والمعرفة وإظهار الآراء والنظریات العلمیة من العلماء(1).

3. التساهل والمداراة

یعتبر التساهل والتسامح من أرکان وخصوصیات العلمانیة، وفی هذا المجال فإنّ مسألة الدین والعقائد الدینیة والمذهبیة للشخص مسألة خاصّة بهذا الفرد وهو حرّ فی اختیار نمط العقیدة والدین، وأتباع کلّ دین وتیّار عقائدی أحرار فی عملهم، وحینئذٍ لا وجود لدین رسمیّ للدولة والحکومة، وبما أنّ العلمانیة تری أنّ دائرة نفوذ وحضور الدین یقتصر علی المیادین التی لا یصل إلیها العقل البشریّ، وهی المیادین الشخصیة والذاتیة المتعلّقة برابطة الإنسان وربّه، ولذلک تری العلمانیة الحقّ لکلّ شخص فی ردّ أو قبول هذه العلاقة الشخصیة بین الإنسان وربّه، فمن هذه الجهة فالعلمانیة لا تملک توصیة خاصّة فی باب قبول أو إنکار هذه العلاقة، وبالتالی فهی تری ضرورة التساهل والمداراة فی ما یتّصل بأمر الدین والمعتقد، وبالرغم من أنّ المستفاد من هذه المداراة لیس هو الإلحاد والدعوة إلی ترک الدین، فالعلمانیة یمکن أن تقترن بالاعتقاد بالغیب والإیمان باللَّه والمعاد، ولکن التدیّن، للشخص العلمانی هو الالتزام بتدیّن خاصّ، یدور حول محور العقلانیة والإنسانویة کما تقدّم بیانه، ویتمّ تحدید مرجعیة الدین بشکل کبیر(2).

شبهات العلمانیة:

کما أشرنا آنفاً أنّ المدرسة العلمانیة تری أنّ الدین وأصول العقیدة والفقه، سواء فی الإسلام أم فی غیره، لا یحقّ لها التدخّل فی الأمور الاجتماعیة والسیاسیة لحیاة البشر، وأساساً فإنّ هذه المیادین لا تقبل الدخول فی دائرة الدین، والمثقّفون فی عالمنا الإسلامی یتحرّکون من موقع التقلید والتبعیّة لموقف المثقفین الغربیین فی مقابل أرباب الکنیسة. حیث یرون قصور أدوات الفقه عن استیعاب جمیع مناحی الحیاة، وبالتالی عدم شمولیة التعالیم الإسلامیة لجمیع موارد وحاجات الإنسان، ویتحرّکون من خلال تفاسیر غیر صحیحة للفقه علی مستوی إدراج الفقه بالماضی، وأنّ هذه المسائل الفقهیة ترتبط بالعصور القدیمة أو أنّها تتّصل بزاویة معیّنة من الحیاة الفردیة فقط، وفی هذا المجال طرحت بعض الشبهات، حیث نشیر هنا إلی جملة منها:

1. یقول بعض المثقّفین: إنّ الفقه لا علاقة له بالذات مع السیاسة وإدارة شؤون المجتمع، وإذا وقع فی التاریخ بعض الموارد من هذا القبیل وبرزت بعض الشخصیات


1- حکومت اسلامی( الحکومة الإسلامیة)، ترجمة: أحمد الواعظی، ص 48( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 51.

ص: 516

الفکریة والدینیة علی مستوی دمج الدین بواقع الحکومة والمجتمع، فإنّ ذلک لا ینطلق من منطلقات دینیة محضة بل إنّ عملهم هذا کان بدوافع ذاتیة ومن موقع ذوقهم الشخصیّ.

وقالوا أیضاً:

علی أساس هذه الرؤیة یکون القتال والدفاع عن الأرض والأهل

«قتالًا فی سبیل اللَّه»

ویؤیّده ما ورد فی الحدیث النبویّ

«حُبُّ الوَطَنِ مِنَ الإیمانِ»(1)

، فی حین أنّ هذا المعنی لا یدخل فی صمیم الغرض من البعثة النبویة والرسالة الإلهیّة.

هنا نتساءل فی مقابل هذه الشبهة: هل الآیات القرآنیة مثل «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» لا تدلّ واقعاً علی لزوم حضور «الکتاب» و «المیزان» فیما یمثّلانه من قوانین سماویة فی میدان الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة للبشر؟ وهل یمکن القول أنّ حضور الأنبیاء وخاصّة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله فی میادین السیاسة والمجتمع لم یکن علی أساس الوحی الإلهیّ وتعالیم السماء؟

یقول الإمام الخمینی قدس سره: «إذا قال البعض بفصل الدین عن السیاسة، فإنّه فی الواقع ینطلق فی کلامه هذا من موقع تکذیب اللَّه ورسوله والأئمّة المعصومین علیهم السلام»(2) وإنّ «الإسلام دین مقترن بالسیاسة»(3).

ویمکن القول بکلمة واحدة: إنّ العلمانیین لیس لهم اطّلاع صحیح بالإسلام، ولعلّهم یتصوّرون أنّ الإسلام مثل المسیحیة المعاصرة، وإلّا فمن غیر المعقول أن یکون الشخص عارفاً ومطّلعاً علی الفقه الإسلامی ویجد فی نفسه أدنی شکّ فی ضرورة الحکومة فی الإسلام (راجع البحوث السابقة فی باب حضور الفقه الإسلامی فی جمیع میادین الحیاة السیاسیة والاجتماعیة).

2. ویقولون أیضاً: إنّ الفقه یتضمّن قضایا ومسائل مقدّسة، فی حین أنّ السیاسة مقترنة بالخداع والحیلة، وبدیهیّ أنّ هذا الأمر فی الحکومة والسیاسة یتقاطع مع الإسلام وروحانیته.

وفی مقابل هذه الشبهة ینبغی القول: لقد تبیّن من مجمل البحوث والفصول السابقة اهتمام الأنبیاء العظام علیهم السلام ونبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام وفقهاء الإسلام بأمر تشکیل الحکومة التی تقوم فی مبانیها وتوجّهاتها علی أساس الوحی السماوی، وهذه هی الحکومة الحقیقیة التی تتحرّک فی خطّ العدل والقسط، وتقوم سیاستها علی أساس قاعدة متماسکة من المبانی والتعالیم السماویة المقدّسة. ومثل هذه الحکومة والسیاسة لا تمسّها عوامل الخداع والافتراء والانحراف.

وهذا التحلیل یشیر إلی أنّ «السیاسة» بالمعنی الصحیح للکلمة لا یرتبط بشکل أو بآخر بالسیاسة بالمعنی المزوّر وغیر الإنسانیّ. وقد تحدّث بعض الأشخاص عن تحریف مفردة «السیاسة» لکی یکون بإمکانهم عمل شی ء فی باب فصل الدین عن السیاسة، فی حین أنّ السیاسة لها معانٍ واستعمالات کثیرة، ومن ذلک قول الإمام الخمینی قدس سره: «إنّ السیاسة وطریقة تدبیر وإدارة أمور المجتمع علی أساس موازین العدل والعقل والإنصاف ومئات الأمور من هذا القبیل لا تتعرّض للقدم والإلغاء بمرور الزمان وعلی طیلة التاریخ


1- انظر: الصحیح من السیرة، ج 3، ص 333. وکذلک فی بحار الأنوار، ج 78، ص 45؛ میزان الحکمة، ج 4، ص 356 نقلًا عن أمیرالمؤمنین:« عُمِّرَتِ البُلدانُ بِحُبِّ الأوْطانِ».
2- صحیفة النور للإمام الخمینی، ج 20، ص 28 و 29.
3- المصدر السابق، ج 9، ص 136.

ص: 517

البشریّ وحیاة البشر»(1). وکذلک یمکن القول:

«إنّ الحکومة فی نظر المجتهد الواقعی تعتبر فلسفة عملیة لجمیع أحکام الفقه الإسلامی لیستوعب جمیع مناحی الحیاة البشریة. والحکومة علامة علی دور الفقه فی مواجهته لجمیع المعضلات الاجتماعیة والسیاسیة والعسکریة والثقافیة، إنّ الفقه یمثّل مشروعاً واقعیاً وکاملًا لإدارة أمور الإنسان من المهد إلی اللحد.

والغرض الأساس هو کیف یمکننا أن نتحرّک علی مستوی تجسید الأصول والمبانی الفقهیة فی واقع المجتمع، وبالتالی نتمکّن من إیجاد الحلول والأجوبة للمشاکل والتحدّیات الصعبة التی یفرضها الواقع، إنّ قلق الاستکبار العالمی یکمن فی هذه المسألة، وهی أنّ الفقه یتحرّک فعلًا علی مستوی الممارسة والتطبیق العملی، وذلک بإمکانه أن یمنح المسلمین القدرة علی مواجهة التحدّیات المفروضة»(2).

أمّا کلامهم المتقدّم فهو عبارة عن مغالطة طفولیة تتردّد أحیاناً علی ألسنة بعض السیاسیین من عناصر قوی الظلم والجور حیث یقولون: أیّها الفقهاء أنتم رجال تعیشون الطهارة والصفاء الروحی ولا ینبغی أن تتلوّثوا بالسیاسة التی تقوم علی أساس الخداع والکذب والسلوکیات المنحرفة!!

3. ویقول البعض فی هذا المجال: أولًا: إنّ الفقه یملک أصولًا ثابتة لاتتغیّر، أمّاالسیاسة و القضایا الاجتماعیة فهی حقیقة سیّالة وتعیش الصیرورة باستمرار، وحینئذٍ کیف یتمکّن الفقه من استیعاب البعد الاجتماعی والسیاسی فی حیاة الإنسان والمجتمع البشریّ؟

ونقول فی مقابل هذه الشبهة أوّلًا: إنّ الفقه یملک أحکاماً ثابتة تتّفق مع الحاجات الفطریة للإنسان، وتتناسب مع حاجات الإنسان الثابتة وهذه الحاجات تتجلّی بأشکال مختلفة بمرور الزمان، ولکن أصولها تتمتّع بالثبات دائماً.

إنّ أدوات الاجتهاد واستنباط الأحکام الفقهیة فی الإسلام تتناغم مع أیّ تغیّر وتبدّل فی واقع الحیاة، ومن خلال الرؤیة الدینیة للمتغیّرات التی تقع فی حیاة البشر، وبهذه الأدوات الاجتهادیة یمکن تقییم الحالة مورد البحث وتعیین الحکم الشرعی لها، لأنّ الحقائق الإسلامیة الثابتة والأصول الکلّیة فی الفقه الإسلامی تتکفّل الاجابة عن جمیع الموارد المتغیّرة وبالتزامن مع مقضیات کلّ عصر ومکان ویتحرّک قادة الإسلام علی مستوی تجهیز أتباعهم بنوع من الأجوبة والحلول للمسائل والأحکام التی یحتاجونها، ویقولون:

«عَلَیْنا إلْقَاء الأصُولِ وعَلَیکُمُ التَّفْرِیع»(3).

ثانیاً: إنّ جمیع المسائل السیاسیة والاجتماعیة لا تملک تلک الحقیقة السیّالة دائماً، لأنّ الکثیر من المتغیّرات الاجتماعیة لا تتضمّن سوی التغییر فی الشکل والقالب الظاهری فقط، مثلًا الروابط الحقوقیة الاقتصادیة الموجودة فی جمیع المجتمعات البشریة من القدیم إلی العصر الحاضر فی قوالب البیع، الإجارة، الصلح، الشرکة، وبعض العقود الأخری، لم تتغیّر هذه العقود سوی بعض التغیّرات الشکلیة الطفیفة وبقیت ماهیّتها الحقوقیة ثابتة، والأحکام الصادرة من قِبل الشریعة الإسلامیة تتعلّق بماهیّات هذه الروابط الحقوقیة لا بشکل وقالب خاصّ منها، إذن فلا وجه


1- الوصیة الإلهیّة للإمام الخمینی، المادة( ب).
2- صحیفة النور للإمام الخمینی، ج 21، ص 289.
3- وسائل الشیعة، ج 18، ص 41.

ص: 518

لتغییر تلک الأحکام فی هذه الموارد.

کما أنّ الروابط الاقتصادیة مثل المعاملات الربویة التی لم یعترف بها الإسلام فی الماضی، فإنّ مجرّد تغییرها فی الشکل والظاهر لا یؤدّی إلی مقبولیتها وحلّیتها، بل بما أنّها لا زالت تملک الماهیة الربویة فإنّ الحکم ببطلانها یبقی علی قوّته (انظر: «دور الزمان والمکان فی الاستنباط» و «المسائل المستحدثة» «وعدم الفراغ القانونی» فی هذا الکتاب).

اعتراف من ماکسیم رودنسون :

اعتراف من ماکسیم رودنسون (1):.

یعتبر «ماکسیم رودنسون» أحد العلماء المعاصرین الذی وقع مورد قبول العالم المعاصر، وحتّی رجال السیاسة فی العالم الاستکباری أیضاً یهتمّون لآرائه واطروحاته، ویعتبر هذا العالِم ممّا یشار إلیه بالبنان فی عالمنا المعاصر.

ومن خلال طرح آرائه ونظراته حول حقیقة الإسلام وهویته، یمکن الإجابة هذا السؤال، بالرغم من أنّ جمیع الأدیان الموجودة فی العالم مثل دین بوذا وکنفوسیوس، تدعو الإنسان إلی سلوک طریق الأخلاق و القیم والمعنویة، وخاصّة الأدیان السماویة کالمسیحیة والیهودیة والزرادشتیة التی ترفع لواء الدعوة إلی اللَّه والتوحید والعدالة والتقوی. ومعلوم أنّ جمیع هذه المفاهیم والتعالیم تتقاطع مع الأغراض الدنیویة والأطماع السلطویة لقادة الدول الاستعماریة فی الغرب.

ولکن لماذا لا تتحرّک هذه الدول الإستعماریة من موقع التصدّی الجادّ لعقائد المسیحیة والیهودیة والزرادشتیة والبوذیّة وما إلی ذلک، فی حین أنّها حصرت اهتمامها وعداءها طیلة ألف سنة فی مواجهة الدین الإسلامی؟

یقول «ماکسیم رودنسون» المستشرق الفرنسی فی کتابه «الإسلام، سیاسة وعقیدة»- الذی کتبه فی الواقع لنقد الإسلام- لدی مقارنته الدین الإسلامی مع الأدیان الأخری ومع الالتفات إلی حسّاسیة الغرب تجاه الإسلام، یقول أنّ سبب ذلک یعود إلی وجود خصوصیتین مهمتین فی هذا الدین:

1. إنّ الدین الإسلامی دین عالمیّ ولا یختصّ بقوم دون قوم، إنّ أتباع هذا الدین یعتقدون منذ أول إیمانهم أنّه یجب علیهم السعی فی نشر تعالیم هذا الدین وأتّباعه حتی وصلوا إلی الهند والصین، خلافاً لکثیر من الأدیان التی تتّخذ صبغة قومیة وجغرافیة، ولا یری أتباعها أنّ دینهم دین شمولی وعالمیّ.

2. إنّ جوهر الدین المسیحیّ یرتبط بعلاقة الإنسان بربّه والغرض «النجاة» فلیس فی هذا الدین رسالة سوی تقویة المعنویة والعلاقة مع اللَّه، و مؤسّس المسیحیة لم یکن أبداً فی صدد تأسیس حکومة دینیة مسیحیة، بل یحترم جمیع الحکومات الموجودة، وغایة ما تتوقّع المسیحیة بالنسبة لموضوع السیاسة، أن یقوم الزعماء السیاسیون بالتعاون مع رجال الدین وزعماء الکنیسة فی تأسیس وإدارة الکنائس وحریة التبلیغ وإرشاد الناس فی الکنائس.

أمّا الإسلام فقد طرح مشروعاً کاملًا لأتباعه فی حیاتهم الفردیة والاجتماعیة وأوجب علیهم تبلیغ هذه الرسالة إلی جمیع المجتمعات البشریة فی جمیع الکرة الأرضیة لتحقیق الأهداف المنشودة، کأنّ المسلمین من الناحیة الدینیة یلتزمون بالنموذج السیاسیّ فی حکومة المدینة المنوّرة، ویهدفون إلی إقامتها فی جمیع أنحاء العالم.


1- 1 .Maxime Rodinson .

ص: 519

وبما أنّ إجراء هذا البرنامج الکامل للحیاة لا یتیسّر إلّا بتشکیل الحکومة الدینیة، فإنّ أوّل خطوة قام بها النبیّ، تشکیل الحکومة، کما أنّ المسلمین فی صدر الإسلام وکذلک بعده قاموا بتأسیس الامبراطوریة.

وأمّا فی الغرب فنجد المیل الشدید فی أن تتّخذ جمیع الأدیان حالة المسیحیة الحالیة، کما أنّ أتباع الدیانة البوذیّة یتّسمون بهذه الحالة (ولکن هذا الأمر محال) لأنّ المسلمین یعتقدون بأنّ اللَّه عادل ولا یرضی إلّا بإجراء العدالة فی جمیع مناطق المعمورة»(1).

ثمّ إنّه یصرّح بأنّ هذه المعرفة الجدیدة للإسلام حصلت بفعل المتغیّرات الأخیرة والصحوة الإسلامیة فی العصور المتأخّرة وخاصّة الثورة الإسلامیة فی ایران بحیث غیّرت فهم الغربیین عن الإسلام (2).

ثمّ ینطلق ماکسیم رودنسون بعد ذکره هاتین الخصوصیتین فی الإسلام، من موقع التحذیر وأنّ بیان هاتین الخصوصیتین من امتیازات الدین الإسلامی عن غیره من الأدیان الأخری، یؤدّی إلی نشر وتقویة هذا الدین، ولذلک یتحرّک علی مستوی نقد الإسلام ویقول:

«وطبعاً فإنّ نبیّ الإسلام (محمّد) کان نابغة عصره وقد وجد أنّ الظروف الاجتماعیة والسیاسیة فی الجزیرة العربیة الفاقدة للحکومة والخاضعة لنظام القبیلة، تحتاج لتشکیل حکومة، خلافاً لبلدان إیران والروم التی تملک الحکومة، وعلی هذا الأساس فإنّ الظروف الخاصّة فی ذلک الزمان وفی الجزیرة العربیة تقتضی ذلک، مضافاً إلی أنّ المسلمین فی طول تاریخ فتوحاتهم للبلدان الأخری أضافوا إلی ثقافتهم الإسلامیة ما وجدوه من حضارة فی تلک البلدان»(3).

ومع الأسف أنّ مثل هذه التعصّبات ورؤیة الذات التی یعیشها الغربیون عادة تصیب العلماء منهم أیضاً ولا تسمح لهم بقبول ما هو «الأصل الأوّلی» فی الإسلام، وأنّ الإسلام عندما یؤکّد علی ضرورة تشکیل الحکومة العادلة إنّما ینظر إلی جمیع شعوب العالم. وعلی هذا الأساس نری أنّ هذا المستشرق، کما رأینا فی کلامه، یتحرّک فی تحلیله من موقع تجاهل هذه الحقیقة.

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

3. آشنایی با أدیان بزرگ، حسین توفیقی، مؤسّسة الإمام الخمینی (ره)، قم (بالفارسیة).

4. اسد الغابة، ابن الأثیر، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

5. الأحکام السلطانیّة، الماوردی.

6. الإسلام سیاسة وعقیدة، ماکسیم رودنسون، دارالمطبعة، بیروت 1996 م.

7. الإصابة فی تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلانی، مطبعة السعاده، مصر.

8. أصول الفقه، محمّد رضا المظفّر، دارالتعارف للمطبوعات، بیروت، 1403 ق.

9. أضواء علی السنّة المحمّدیة، محمود أبوریه المصری، دارالکتاب الإسلامی، قم، 1980 م.

10. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء،


1- الإسلام، سیاسة وعقیدة لماکسیم رودنسون، ص 31- / 35.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

ص: 520

بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

11. تاج العروس، الزبیدی محمّد مرتضی، المطبعة الخیریة، مصر.

12. تاریخ ابن عساکر، دارالفکر، بیروت، 1415 ق (بالفارسیة).

13. تاریخ الطبری، محمّد بن جریر الطبری، مؤسّسة الأعلمی، بیروت، 1409 ق.

14. تذکرة الفقهاء، الحسن بن یوسف (العلّامة الحلّی)، مؤسّسة آل البیت علیهم السلام، قم.

15. التراتیب الإداریة، ابن ادریس الکتانی.

16. تفسیر التبیان، محمّد بن الحسن (الشیخ الطوسی)، مکتبة الأمین، النجف الأشرف.

17. تفسیر الکشاف، الزمخشری، دارالکتاب العربی، بیروت.

18. تفسیر نورالثقلین، عبد علی بن جمعة الحویزی، مؤسّسة إسماعیلیان، قم، الطبعة الرابعة، 1412 ق.

19. تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن (الشیخ الطوسی)، دارالکتب الإسلامیة، طهران.

20. جوامع الجامع، أبوعلی الفضل بن الحسن الطبرسی، دار الأضواء، بیروت، 1412 ق.

21. جواهر الکلام، محمّد حسن النجفی، دارالکتب الإسلامیة، النجف الأشرف، 1378 ق.

22. الحکومة الإسلامیة، أحمد الواعظی، مؤسسة التألیف ونشر المتون الدراسیة للحوزة، سامیر، الطبعة الاولی، 1380.

23. الدرّ المنثور، جلال الدین السیوطی، دارالمعرفة، بیروت، الطبعة الأولی، 1365 ق.

24. دروس فی علم الاصول، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر.

25. دیکشنری آکسفورد.

26. سفینة البحار، الشیخ عباس القمی، انتشارات کتابخانه سنائی.

27. سنن أبی داود، أبی داود سلیمان بن الاشعث السجستانی.

28. شرح الأزهار، الإمام محمّد المرتضی، غمضان، صنعاء، 1400 ق.

29. شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید، دارالکتب العلمیّة، قم، الطبعة الأولی، 1378 ق.

30. الصحیفة السجادیّة، الإمام زین العابدین علیه السلام.

31. صحیفة الإمام (نور)، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، طهران، 1379 ش.

32. الصحیح من السیرة، السیّد جعفر مرتضی، دارالهادی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1415 ق.

33. عاشورا؛ ریشه ها، انگیزه ها، رویدادها، پیامدها، سعید داودی- مهدی رستم نژاد، باشراف آیة اللَّه مکارم الشیرازی، مدرسة الإمام علیّ بن أبی طالب، قم، الطبعة الأولی، 1384 (بالفارسیة).

34. العلمانیة، الحکومة الدینیة، ولایه الفقیه، حسن خرّمی الآرانی، مؤسسة انتشارات الأنصاری، الطبعة الاولی، 1386.

35. عیون الحکم والمواعظ، علی بن محمّد اللیثّی الواسطی.

36. الغدیر، الشیخ عبدالحسین الأمینی، دارالکتب الإسلامیّة، طهران، 1366 ش.

37. الفتوح، ابن أعثم، دارالندوة الجدیدة، بیروت، الطبعة الأولی.

38. الفتوحات المکّیّة، محیی الدّین بن عربی، دار صادر، بیروت.

39. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی، دارالفکر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 ق.

40. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی الرازی، دارصعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

ص: 521

41. الکامل فی التاریخ، ابن الأثیر، دار صادر، بیروت، 1402 ق.

42. کتاب الامّ، الإمام الشافعی، دارالفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

43. الکتاب المقدّس.

44. کنز العمّال، المتقی الهندی، دار الرسالة، بیروت، 1405 ق.

45. لسان العرب، ابن منظور الأفریقی، دارالفکر، بیروت.

46. المحلّی ابن حزم الأندلسی، تحقیق أحمد محمّد شاکر، دارالفکر، بیروت.

47. مجمع البحرین، فخر الدین الطریحی، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1403 ق.

48. المجموع فی شرح المهذّب، محیی الدین النووی، دارالفکر للطباعة والنشر، بیروت.

49. المراجعات، السیّد عبدالحسین شرف الدین العاملی، مؤسّسة الأعلمی، بیروت.

50. مروج الذهب ومعادن الجواهر، وأبوالحسن علی بن الحسین بن علی المسعودی، دار القاری، بیروت، الطبعة الاوی، 1426 ق.

51. المستدرک علی الصحیحین، محمّد بن عبداللَّه (الحاکم النیسابوری).

52. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری الطبرسی، مؤسّسه آل البیت علیهم السلام، قم، 1407 ق.

53. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

54. المعجم الدینی، براین ویلسون، تصحیح میرجالیاده، جماعة المترجمین طرح نو، 1374.

55. المعجم الکبیر، الطبرانی.

56. مقدّمة ابن خلدون، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة.

57. المقنعة، محمّد بن محمّد النعمان (الشیخ المفید) جماعة المدرّسین، قم، 1417 ق.

58. مکاتیب الرسول، آیة اللَّه الأحمدی المیانجی، دارصعب، بیروت.

59. المنجد، لویس معلوف، المطبعة الکاثولیکیة، بیروت، 1966 م.

60. میزان الحکمة، محمّدی ری شهری، دارالحدیث، قم، الطبعة الأولی.

61. المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة السیّد محمّد حسین الطباطبائی، مؤسّسة النشر الإسلامی (التابعة لجماعة المدرسین فی الحوزة العلمیّة قم)، الطبعة الأولی.

62. النص والاجتهاد، السیّد عبدالحسین شرف الدین العاملی، مطبعة سید الشهداء، قم.

63. نفحات القرآن، آیة اللَّه مکارم الشیرازی بمساعدة جماعة من الفضلاء، مدرسة الإمام أمیرالمؤمنین، الطبعة الأولی، 1367 ش.

64. النهایة، الشیخ الطوسی، دارالکتاب العربی، بیروت، 1400 ق.

65. النهایة فی غریب الحدیث والأثر، ابن الأثیر، المکتبة الإسلامیّة، الطبعة الأولی، 1383 ق.

66. نیل الأوطار، محمّد بن علیّ بن محمّد الشوکانی، دارالجیل، بیروت.

67. وسائل الشیعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، الطبعة الرابعة، 1391 ق.

ص: 522

ص: 523

19

القسم التاسع عشر: الأحکام الإمضائیة و التأسیسیّة و صیرورة الأحکام عرفیّة

اشاره

کیفیة إمضاء الشارع

الأحکام الإمضائیة وصیرورة الأحکام عرفیّة

إدّعاء عدم الحاجة للأحکام الشرعیة!

ص: 524

ص: 525

الأحکام الإمضائیة و التأسیسیّة و صیرورة الأحکام عرفیّة

مقدّمة:

بالنسبة للأحکام الإمضائیة والتأسیسیة فلیس هناک بحث متین ومنقّح فی الکتب الفقهیة والأصولیة، إلّا بالقدر الذی لا یتعدّی قولهم فی بعض الموارد: إنّ الموضوع الفلانی یتطابق مع بناء العقلاء وقد

«أمضاه الشارع»

، ونشاهد هذا الکلام فی الکتب الأصولیة فی باب خبر الواحد وحجّیة ظواهر الألفاظ وما إلی ذلک، وأیضاً ورد فی الکتب الفقهیة وخاصّة فی باب المعاملات.

وأمّا ما یستوحی من مجموع هذه الکلمات فهو أنّ أحد هذه التقسیمات، هو تقسیم الأحکام الشرعیة إلی تأسیسیة وإمضائیة.

أمّا الأحکام التأسیسیة فهی الأحکام التی لم یکن لها سابقة قبل الإسلام وقد قام الشارع الإسلامی المقدّس بتأسیسها، من قبیل أغلب العبادات والکثیر من الأحکام التی تتّصل بمسائل الحلال والحرام، مثلًا نری أنّ الشرع الإسلامی حرّم بعض أنواع اللحوم وحلّل أنواعاً أخری منها، وهکذا بالنسبة للمشروبات وأمثالها التی لم تکن موجودة قبل الإسلام.

وبالطبع فلا ینبغی الغفلة عن أنّ الأحکام، التی کانت موجودة فی الشرائع السابقة وقد أقرّها الإسلام مع إجراء بعض التغییرات علیها کما هو الحال فی الصلاة والصوم وبعض العبادات الأخری؛ هی أیضاً من جملة الأحکام التأسیسیة. أمّا الأحکام الإمضائیة فهی الأحکام التی کانت متداولة بین العقلاء وأهل العرف وقد أقرّها الإسلام لما فیها من مصالح ومنافع للناس من قبیل البیع والشراء والإجارة والهبة والوصیّة والمصالحة، وحتّی فیما یتّصل بالنکاح والطلاق.

وقد ذهب البعض إلی أنّ النکاح والطلاق وبسبب التغییرات الکثیرة التی أجراها الإسلام علیهما، یعدّان من جملة العبادات، ولکن من المعلوم أنّ أحکامهما لا تدخل فی دائرة العبادات (1)، بل هی من قبیل الأمور العقلائیة التی أقرّها الإسلام وأمضاها بالرغم من إضافته لبعض القیود والشروط علیهما. وأمّا بالنسبة إلی ما یراه الإسلام فاقداً للمصلحة، فإنّه قد نهی وردع


1- جواهرالفقه للقاضی ابن البراج، ص 42؛ تذکرة الفقهاء، ج 2، ص 565؛ جامع المقاصد، ج 13، ص 183؛ المسالک للشهید الثانی، ج 8، ص 91.

ص: 526

المسلمین عنه، مثل مسألة الربا التی کانت منذ قدیم الأیّام إلی عصرنا الحاضر تعتبر مسألة متعارفة ومتداولة بین العقلاء وأهل العرف، بینما نری أنّ الإسلام قد حرّمها بشدّة.

وهناک نقطة جدیرة بالإلتفات، وهی أنّ الأحکام الإمضائیة تارة تتعلّق بموارد حکم العقل، وأخری تتعلّق بالأحکام العقلائیة بحیث یوجد بون شاسع بینهما.

مثلًا مسألة قبح الظلم وحسن العدل تعتبر من المستقلّات العقلیة لا أنّها أمر مستوحی من سیرة العقلاء. ثمّ أقدم الشارع المقدّس علی تحریم الظلم وإیجاب العدل، وعلی هذا الأساس فقد أمضی حکم العقل، والقاعدة التی تقرّر بأنّ

«کلّ ما حَکَم به العقل حَکَم به الشرع»

ناظرة إلی هذه الموارد، ولکن هناک بعض المسائل لا تدخل فی دائرة حکم العقل، بل هی بمثابة سیرة العقلاء ومنهجهم فی التعامل فیما بینهم لحفظ النظام الاجتماعی أو نظام الأسرة من خلال مجموعة من الآداب والرسوم التی تعتبر بأجمعها معاملات بالمعنی الأعمّ (أعمّ من البیع والشراء والإجارة والوصیة ...) وقد أقرّ الإسلام الکثیر منها ممّا له مصلحة للفرد والمجتمع، وعلی هذا الأساس فنحن لدینا فی الواقع نوعان من الأحکام الإمضائیة: إمضاء حکم العقل وإمضاء حکم العقلاء أو سیرتهم. حتّی بالنسبة لمسألة حجّیة الکثیر من الأمور مثل: خبر الواحد، ظواهر الألفاظ، والشهود فی باب القضاء، وأمثال ذلک تندرج فی هذا الفصل أیضاً ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ مصطلح الأحکام الإمضائیة ناظر فی الغالب إلی مورد الأحکام العقلائیة لا حکم العقل.

وممّا یجدر ذکره أیضاً أنّ الشارع المقدّس فی هذه الأحکام الإمضائیة وعند إمضائه لسیرة العقلاء وحکمهم ینشی ء حکماً شرعیاً طبقاً لحکمهم، لا أنّه لا یوجد إنشاء لحکم شرعیّ کما یظهر من کلمات بعض العلماء(1). وهذا بالضبط مثل إمضاء البیع فی مورد العقد الفضولیّ وأمثاله، الذی یعدّ نوعاً من الإنشاء الضمنیّ.

کیفیة إمضاء الشارع:

تبیّن من البحث السابق أنّ «الأحکام التأسیسیة» هی الأحکام التی أبدعها الشارع المقدّس فی موضوع معیّن، و «الأحکام الإمضائیة» هی الآداب والتقالید والمقرّرات التی کانت موجودة فی المجتمع وقد أقرّها الشارع بنفسها، أو مع إجراء بعض التعدیلات وإضافة بعض الشروط علیها.

والآن نواجه هذا السؤال: کیف یتحرّک الشارع علی مستوی إمضاء هذه الأحکام؟ لقد صرّح الکثیر من الفقهاء والأصولیین المعاصرین (2) بأنّ إمضاء الشارع یتصوّر علی نحوین:

1. أن یقبل الشارع بهذه الأحکام بشکل صریح، مثلًا یقول بالنسبة للبیع: «وَأحَلَّ اللَّهُ البَیْعَ»(3) أو بالنسبة إلی المعاملات والعقود بشکل عام یقول: «یأَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4).

2. أن یقبل بهذه الأحکام من خلال سکوته، بمعنی


1- أنوار الهدایة للإمام الخمینی، ص 204.
2- وقد أشار إلی هذا الموضوع کل من: اصطلاحات الأصول، ص 70؛ منتقی الأصول، ج 7، ص 24- 27؛ فی حواشی آیة اللَّه المشکینی علی الکفایة، ج 3، ص 336؛ أجودالتقریرات، ج 2، ص 383؛ الخیارات، ج 2، ص 66.
3- سورة البقرة، الآیة 275.
4- سورة المائدة: الآیة 1.

ص: 527

أن تکون هناک معاملات ومقرّرات فی العرف السائد بین الناس فی حضور الأئمّة المعصومین علیهم السلام ولم یصدر منهم نهی عن هذه المعاملات والآداب، بحیث یفهم من سکوتهم هذا رضاهم عن هذه الأمور وإمضاؤهم لها.

مثلًا: کان المتداول بین الناس فی ذلک الوقت أن یقوموا بدفن أمواتهم ثمّ یقیموا مراسم العزاء لهؤلاء الأموات، وعلی فرض أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم علیه السلام لم یتحدّث فی هذا المجال بشی ء أی لم یردع عنه، فحینئذٍ یدلّ عدم الردع هذا علی إمضاء الشارع لهذه السیرة، والکثیر من الأحکام الإمضائیة هی من هذا القبیل.

وهکذا بالنسبة للأصول والقواعد الأصولیة والفقهیة مثل حجّیة خبر الواحد ومسألة التقلید وتبعیّة الجاهل فی المسائل الفقهیة للعلماء وأهل الخبرة، والتی قامت سیرة العقلاء وأهل العرف علی ذلک، وقد أقرّ الشارع المقدّس هذه السیرة تارة بسکوته وعدم ردعه وأخری بتصریحه بذلک. ومن هذا البحث نخرج بنتیجة مهمّة وهی أنّ الأحکام الإمضائیة لا تعنی انقلاب أحکام الإسلام إلی أحکام عرفیّة بحیث تکون سیرة العقلاء وأهل العرف فی کلّ الموارد مقبولة فی نظر الإسلام، بل یجب أن تکون ممضاة من قِبل الشارع المقدّس بأحد الطریقین المذکورین.

الأحکام الإمضائیة وصیرورة الأحکام عرفیّة

اشارة

ممّا تقدّم یتبیّن بوضوح أن تقسیم الأحکام إلی تأسیسیة وإمضائیة لایعنی انقلابها إلی أحکام عرفیة کما یتوهّم البعض وأنّه یجب التمسّک بالأحکام العرفیة فی کلّ عصر وزمان فی غیر دائرة العبادات، مثلًا ما هو معروف فی هذا الزمان من حقوق الإنسان والمقرّرات التی تصدرها المنظمات الدولیة أو الأحکام التی تقرّها مجالس التقنین فی هذا الزمان، تکون مشروعة علی هذا الأساس.

إنّ الطریق الذی اتّبعه هؤلاء کالتالی:

1. إنّ ظاهر التحوّل والتغییر فی حرکة الحیاة للإنسان المعاصر والمجتمعات البشریة المعاصرة وما أفرزه التطوّر من اتّساع شبکة الاتّصالات بین المجتمعات والأفکار وتعقیداتها هی من جملة مظاهر «التمدّن» التی خلقت موضوعات جدیدة أمام الوعی البشری.

2. ومن جهة أخری فإنّ الإسلام خاتم الأدیان وأنّ أحکامه وتکالیفه شاملة لکلّ عصر وزمان.

3. ومن جهة ثالثة نری أنّ جمیع الموضوعات لم یرد لها حکم فی الکتاب والسنّة، وعلیه لابدّ من إیجاد طریق للتخلّص من هذه المشکلة والعثور علی ثغرة فی هذا الطریق المسدود، وطریق الحلّ حسب ما یتصوّر هو: إنّ الأحکام الإسلامیة تنقسم إلی قسمین:

ألف) قسم المناسک والعبادات والطقوس ممّا هو ثابت وغیر قابل للتغییر، والعقل البشری لایدرک جمیع المصالح الکامنة فی هذا القسم من الأحکام، بل لابدّ للإنسان أن یتحرّک فی العمل بذلک علی أساس الوحی الإلهی.

ب) القسم الذی یتّصل بالأمور الاجتماعیة.

والقوانین والمقرّرات فی هذه الدائرة متغیّرة دائماً ولابدّ فی إجرائها وعدم إجرائها من حساب المصلحة والضرر المترتّب علیها فی الواقع الموضوعی وفی الخارج.

وهذا القسم من الأحکام یقع فی دائرة عمل العقلاء الذین یتحرّکون دائماً من موقع إصدار المقرّرات والقوانین علی أساس المصالح الموجودة ومن خلال المشورة فیما بینهم. وبما أنّ الحکومات الدیمقراطیة

ص: 528

بإمکانها جمع قوی وتیّارات مختلفة فی عملیة الحکم والنظام السیاسی والاقتصادی فی ذلک المجتمع، وبالتالی إصدار الأحکام والمقرّرات علی هذا الأساس، فمثل هذا النظام یعتبر أعقل العقلاء والمقرّرات الصادرة للمجتمع تکون بعهدة العقلاء، لأنّ أمور المواطنین ینبغی إدارتها وفق المصالح والمنافع الوطنیة ومصالح المواطنین. وعلی هذا الأساس فإنّ الحکومة فی هذه الصورة تکون منشأ اعتبار الحقوق، وهذا هو معنی عرفیّة الأحکام.

ومن جملة التعبیرات المطروحة لدی هؤلاء، مقولتهم بالنسبة لعرفیة الأحکام، وهی أنّ آلیات الدین فی داخله من شأنها تسریع عملیة عرفیة الأحکام، ومن جملة ذلک تقسیم الأحکام إلی تأسیسیة وإمضائیة، بمعنی أنّ الإسلام قد أقرّ الکثیر من الأحکام العرفیة التی کانت سائدة فی عصر الجاهلیة ولم یؤسّس من الأحکام إلّاما یقع فی دائرة «فقه العبادة» فلو أنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله قد ظهر فی زماننا هذا، فإنّه سیقزّ الکثیر من الأحکام العرفیة الموجودة حالیاً، ویؤیّد صحّتها، لأنّ القوانین العرفیة فی زماننا هذا أفضل قطعاً من «فقه الجاهلیة» وأکثر انسجاماً مع القیم الأخلاقیة والمثل الإنسانیة.

وتعتقد جماعة من هؤلاء بأنّ هذه المشکلة غیر موجودة فی مذهب أهل السنّة، لأنّهم یتحرّکون علی مستوی الاستفادة من القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة وما إلی ذلک فی عملیة استنباط الحکم الشرعی (1).

نقد ومناقشة:

إنّ تقدیم مثل هذه الحلول یشیر من جهة إلی عدم الاطّلاع الکافی علی المبانی الفقهیة، ومن جهة أخری یدلّ علی تأثّر ذهنیة هؤلاء بالأفکار الغربیة وعلاقتهم العاطفیة بالتمدّن الغربی، والحال أنّ طرق حلّ مشکلة المسائل المستحدثة وأمثالها مطروحة فی الإسلام (2)، ولتوضیح هذا المعنی نذکر عدّة أمور:

1. إنّ الأحکام والمقرّرات للموضوعات الجدیدة، یمکن استنباطها من عمومات وإطلاقات الأدلّة الشرعیة بلا حاجة للاستعانة بالقیاس والاستحسان وما إلی ذلک. وقد تقدّم أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال فی خطبة حجّة الوداع:

«لَیْسَ مِنْ عَمَلٍ یقَرِّبُ إلَی الجَنَّةِ إلّاقد أمَرْتُکُم بِه وَلا عَمَلٍ یقَرِّبُ إلَی النَّارِ إلّاقد نَهَیْتُکُم عَنه»(3).

ومعلوم أنّه لیس المقصود من ذلک أنّ الأوامر والنواهی التی أصدرها للمسلمین فی الموارد الجزئیة تستوعب فی سیاقها جمیع ما تحتاج إلیه البشریة، بل المراد هو العمومات والإطلاقات الواردة بکثرة فی الکتاب والسنّة، کما قال الإمام الصادق علیه السلام:

«إنَّما عَلَیْنا أنْ نُلْقِیَ إلَیْکُمُ الأصُولَ وعَلَیْکُمْ أنْ تُفَرِّعُوا»(4).

ویقول الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام:

«عَلَیْنا إلقاءُ الأُصولِ وعَلَیْکُمُ التَّفْرِیعُ»(5).

وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«إنَّ اللَّهَ تَبَارَکَ وتَعالی لَمْ یَدَعْ شَیْئاً تَحْتَاجُ إلَیهِ الأُمَّةُ إلّا أنْزَلَهُ فِی کِتَابِه وبَیَّنَةُ لِرَسُولِهِ و جَعَلَ لِکُلِّ شَیْ ءٍ حَدّاً وَجَعَلَ


1- ما ورد أعلاه یعتبر رؤیة جماعة من المثقفین الجدد ویشیر إلی ذلک کتاب الشاهد السوقی، ص 80( بالفارسیّة).
2- انظر إلی بحث« الضوابط الحاکمة علی المسائل المستحدثة» فی هذاالکتاب.
3- مستدرک الحاکم، ج 2، ص 4؛ کنز العمّال، ج 4، ص 24.
4- وسائل الشیعة، ج 18، ص 41، باب عدم جواز القضاء والحکم بالرأی، ح 52.
5- المصدر السابق.

ص: 529

عَلَیهِ دَلِیلًا یدلُّ عَلَیه»(1).

والجدیر بالذکر أنّ أئمّة أهل البیت علیهم السلام بیّنوا لأتباعهم هذه الحقیقة، وکان الإسلام قد اتّسع نطاقه وظهرت مسائل مستحدثة کثیرة فی ذلک الوقت واستعان البعض بالقیاس والاستحسان وأمثال ذلک لإیجاد الحلول والأجوبة لمثل هذه المسائل.

وتقدّمت الإشارة فی هذا الکتاب إلی طرق استنباط الأحکام التی تتّصل بالمسائل الجدیدة فی بحث المسائل المستحدثة بصورة کاملة.

2. إنّ هذا المنهج ینتهی إلی إنکار قسم مهمّ من الأحکام الإسلامیة والکثیر من ضررویات الدین، ولا یبقی من الإسلام شی ء سوی ما یتّصل بباب العبادات وهذا خلاف الإجماع وضرورة الإسلام، ولم یقل بذلک أحد من علماء الإسلام، من الشیعة وأهل السنّة.

3. إنّ مفهوم هذا الکلام هو أنّ إرسال الرسل وإنزال الکتب، والأتعاب والجهود التی بذلها الأنبیاء والأولیاء کانت تنحصر فی دائرة تعلیم الناس أمور العبادة، وأمّا فی سائر الأمور الاخری فیرجعون إلی عقولهم وتفکیرهم وما یرونه من مصلحة فی ذلک الأمر مع أنّنا نعلم أنّ فکر الإنسان مهما تطوّر ومهما ازدادت معلوماته ومعارفه لا یجد الطریق إلی معرفة المصالح الواقعیة، بل یقع فی الکثیر من الموارد فی هوّة الخطأ والضلالة، والدلیل علی ذلک ما نراه من تغیّر سریع فی منظومة القوانین البشریة والتقاطع الموجود بین قوانین المجتمعات فیما بینها. وبدیهیّ أنّ اللَّه تعالی الذی خلق الإنسان من أجل إیصاله إلی أجواء السعادة هو أعلم بمصالحه ولابدّ أن یأخذ بیده فی طریق الخیر والهدایة والصلاح فی مختلف شؤون حیاته.

4. إنّ هذا النمط من التفسیر یشیر إلی أنّ هؤلاء لم یفهموا معنی الأحکام الإمضائیة فی الإسلام بشکل صحیح، وکما قلنا إنّ الأحکام الإمضائیة لیست بمعنی أنّ الإسلام یقرّ جمیع الأحکام العرفیة فی غیر العبادات بل إذا کان هناک حکم فی عرف العقلاء ویری الإسلام أنّه موافق لمصالح الناس، فعند ذلک یقرّه ویتحرّک علی مستوی إمضائه بشکل صریح أو من خلال سکوته.

وببیان آخر: إنّ إشکال منهج الحلّ المذکور، هو أنّه لم یقدّم ولا شاهداً واحداً علی أنّ الشارع أمضی بناء العقلاء بشکل کلّی وعامّ بل إنّ الثابت والمسلّم أنّ بعض بناءات العقلاء فی ذلک الوقت لم یقرّها الشارع، بل ردع عنها، وبعضها الآخر أقرّها وأمضاها، إذن فینبغی التحقیق فی کلّ واحدة من بناءات العقلاء فی العصر الحاضر لیتبیّن هل کانت موجودة فی زمان المعصوم أم لا؟ فإذا ثبت أنّ هذه السیرة بهذا الإطارالفعلی أو فی مضمونها وذاتها کانت موجودة فی عصر المعصوم ولم یردع عنها المعصوم بل أقرّها؛ فهی حجّة، وإلّا فلا یمکن إثبات حجیّتها بآلیة إمضاء المعصوم.

وبعبارة أخری: إنّ بناء العقلاء لا یعدّ من أشکال الحجّة الشرعیة القطعیة، ولیس علّة تامّة للحجّیة حتی یقال إنّه معتبر بدون الحاجة إلی إمضاء الشارع، وعلی هذا الأساس فلا یمکن اعتباره حجّة إلّافی صورة أن یقع مورد إمضاء الشارع أو عدم إنکاره، لأنّه من الواضح أنّ مجرّد استقرار سیرة العقلاء علی عمل معین لا یدلّ علی مقبولیة ذلک العمل عند الشارع المقدّس، بالتالی فإنّ کلّ واحدة من البناءات العقلائیة إنّما تکون معتبرة شرعاً إذا کانت فی مرآی ومنظر الشارع ولم


1- الکافی، ج 1، ص 59، ح 2.

ص: 530

یصدر منه ردع أو إنکار لها(1).

والجدیر بالذکر أنّ الکثیر من سلوکیات العقلاء الفعلیة، التی ترتدی قوالب جدیدة حسب الظاهر، تعود فی مضمونها وجوهرها إلی السلوکیات التی کانت متداولة لدی العقلاء فی زمن المعصومین ولکن بقوالب أخری، وفی الواقع أنّ ما وقع مورد إمضاء الشارع هو روح ذلک العمل وجوهره.

5. تصوّر البعض أنّ أهل السنّة یوافقون علی هذه المقولة، وهی أنّ بناء العقلاء وسیرتهم فی کلّ زمان وما یتّخذونه من قوانین ومقرّرات، ومن القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة، معتبر وحجّة بالتالی فهو مؤیّد لهذه الاطروحة، ولکنّ هذا التصوّر خاطی ء ومجانب للصواب لأنّه: أوّلًا: إنّ هذه الموارد إنّما یقولون باعتبارها وحجّیتها فی موارد عدم وجود النصّ، والحال أنّ هؤلاء یدّعون أنّ الأحکام العرفیة تجری فی جمیع الأحکام التی وردت فیها نصوص فی الکتاب والسنّة، (سوی العبادات). وعلی هذا الأساس فإنّ نظر فقهاء أهل السنّة یختلف کثیراً عن هذه الرؤیة.

ثانیاً: إنّ مفهوم اتّباع القیاس والاستحسان هو التحرّک فی ظلّ الأحکام المنصوصة فی الشریعة الإسلامیة، أی أن یکون الأصل والأساس فی إصدار الحکم هو النصوص الواردة من الشارع المقدّس، بحیث أنّ الأحکام المستنبطة من القیاس وأمثاله ینبغی أن تتناغم وتنسجم مع مدلول تلک النصوص، رغم أنّ فقهاء الإمامیة ینکرون الرجوع إلی القیاس والاستحسان الظنی ویرون أنّ القواعد الکلّیة والعمومات والإطلاقات الواردة فی النصوص الشرعیة کافیة لتلبیة حاجات البشریة والمسائل المستحدثة.

إدّعاء عدم الحاجة للأحکام الشرعیة:

اشارة

ومن هنا یتّضح الجواب عن ادّعاءٍ آخر أیضاً، حیث یقولون، إن هذه الأحکام تتعلّق بزمان لم یصل فیه الإنسان والبشریة إلی مستویات کافیة من الرشد العقلی والعاطفی، ولکن فی عصرنا الحاضر وصلت البشریة إلی هذه المرتبة ولا حاجة لها بعد ذلک إلی تلک الأحکام، مثل الطفل الذی یصل إلی سنّ البلوغ حیث ینبغی له الاعتماد علی نفسه فی تدبیر أموره وسلوکیاته فی حرکة الحیاة.

والجواب عن هذا الادّعاء واضح أیضاً:

أوّلًا: إنّ وجود المدارس والتیّارات الفکریة والحقوقیة المختلفة والمتضادّة والتغییرات المستمرّة فی الأفکار البشریة فیما یتّصل بالقوانین الموضوعة من قِبلهم؛ یکشف عن أنّ الإنسان لا زال یحتاج إلی عنصر الوحی، وقاصر عن الإحاطة العلمیة الکاملة التی تسوّغ له وضع القوانین. إنّ الإنسان المعاصر هو ذلک الإنسان الذی کان یحتاج إلی المرشد الذی یدلّه علی الطریق الصحیح ویقدّم له المعونة فی سلوکه فی خطّ الهدایة والصلاح والمسؤولیة.

ثانیاً: إنّ المقنّنین العقلانیین یقعون فی کثیر من الموارد تحت طائلة المؤثّرات والجواذب الخارجیة والباطنیة من عناصر القوّة والتحریک والأهواء، وبالتالی لا یعیشون أجواء هادئة وسلیمة لتتحرّک عقولهم فی الخطّ السلیم والصحیح، والشاهد علی ذلک النفوذ الواسع لأصحاب القدرات الکبیرة فی عملیة وضع القوانین فی عصرنا الحاضر فیما یخصّ المنظّمات الدولیة.


1- انظر: الأصول العامّة للفقه المقارن، ص 198.

ص: 531

ثالثاً: إنّ القبول بهذا الکلام یعنی إنکار ونسخ قسم کبیر من الشریعة السماویة، لأنّ مفهوم أنّ البشر وصل إلی مرتبة النضج العقلیّ وعلیه أنّ یعتمد علی نفسه، هو أنّه لا یحتاج إلی الوحی الإلهیّ بعد ذلک، وهذا یتنافی مع مقولة خاتمیّة النبیّ صلی الله علیه و آله وحدیث

«حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ وحَرَامُهُ حَرامٌ إلی یَوْمِ القِیَامَةِ»(1)

وأنّ الناس مکلّفون فی جمیع مراحل حیاتهم وفی جمیع الأعصار والحقب الزمنیة بالتکالیف الإلهیّة.

ملاحظة:

إنّ ما تقدّم الکلام فیه، کان بالنسبة للأحکام والمقرّرات الإمضائیة، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ هذا البحث یجری أیضاً فی أدلّة الأحکام أیضاً، بمعنی أنّ الشارع المقدّس ربّما یمضی طریق الوصول للحکم الشرعیّ علی أساس ما یکشفه الإنسان من بناء العقلاء وسیرتهم، من قبیل إمضاء حجّیة خبر الواحد.

مضافاً إلی ذلک، فإنّ البعض یعتقد بأنّ جمیع الطرق التی تستخدم فی عملیة استنباط الأحکام، هی إمضائیة، أی أنّها متداولة فی عرف العقلاء لإثبات المسائل الحقوقیة، وقد أقرّها الشارع الإسلامی المقدّس مع إضافة بعض الشروط أحیاناً، وأخری بدون إضافة شی ء، ومن هذا القبیل حجّیة ظواهر الألفاط وحجّیة الأصول العملیة الأربعة (البراءة، الاستصحاب، الاحتیاط، والتخییر، وإن ذهب البعض إلی أنّ الاستصحاب یعدّ أصلًا شرعیاً فقط لا عقلیاً) وکذلک المرجّحات فی باب التعارض، وحجّیة قول المجتهد وحجّیة الید، وحتّی حجّیة الإجماع، فهذه کلّها تعدّ أدّلة إمضائیة فی واقع الاستدلال الفقهی.

وقد تقدّم أنّ هذا الکلام لا یعنی أنّ الشارع المقدّس قد أقرّ واعترف بجمیع الأسالیب والتقالید المتداولة بین العقلاء وأمضاها بدون أیّ تغییر فیها، بل بمعنی أنّ هذه الأسالیب العقلائیة یمکن أن یقرّها الشارع أحیاناً مع بعض الإصلاحات والشروط، وعندما تنظّم هذه الأدلّة إلی صغریات المسائل المستوحاة من الکتاب والسنّة، فتشکّل دلیلًا کاملًا یمکن استنباط الدلیل الشرعی منه، وبالطبع فإنّ ذلک الحکم الشرعی لا یعتبر إمضائیاً.

مثلًا: الخبر الذی یقرّر استحباب غسل الجمعة والذی نقله الرواة الثقات عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أوالإمام المعصوم علیه السلام، ونعلم أنّ الشارع المقدّس قد أقرّ حجّیة أخبار الثقات، فهنا تتشکّل لدینا صغری وکبری فی هذا الدلیل، کالتالی: استحباب غسل الجمعة الوارد فی الخبر الذی نقله الثقات عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وخبر الثقات حجّة، إذن فغسل الجمعة مستحبّ، ومن الواضح أنّ هذا الحکم تأسیسیّ، وإن کان المنهج المتّبع فی عملیة الاستنباط لهذا الحکم، إمضائی.

النتیجة:

مع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدّم من بحوث، نصل إلی هذه النتائج:

1. لا شکّ فی أنّ الإسلام یعتبر خاتم الأدیان، وأنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله هو خاتم الأنبیاء، وأنّ حلاله حلال إلی یوم القیامة وحرامه حرام إلی یوم القیامة أیضاً.

2. إنّ تطاول الزمان وتطوّر المجتمع البشری والتنوّع الحاصل فی مختلف زوایا وأبعاد البشر والمتغیّرات التی


1- الکافی، ج 1، ص 58، باب البدع والرأی والمقاییس، ح 19؛ بحارالأنوار، ج 2، ص 260، باب 31، ح 17.

ص: 532

تتّصل بالعلاقات الاجتماعیة، تعمل کلّها علی خلق مسائل مستحدثة لم یرد حکمها الشرعی بشکل صریح فی نصوص الکتاب والسنّة، ولکنّنا نملک سلسلة من القواعد الکلّیة والعمومات والإطلاقات الواردة فی الکتاب والسنّة، یمکن من خلالها استنباط أحکام جمیع هذه الموضوعات الجدیدة، فعلیه، لا نحتاج حینئذٍ إلی القیاس والاستحسان الظنّی وأمثال ذلک فی عملیة الاستنباط ولا اللجوء إلی عرفیة الأحکام الشرعیة.

3. إنّ الأحکام الإسلامیة یمکن تقسیمها إلی ثلاثة أقسام:

أ) الأحکام التی أعلن عنها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله والتی استقاها من الوحی الإلهیّ للموضوعات والروابط الاجتماعیة السائدة فی ذلک الوقت.

ب) الأحکام التی کانت متداولة فی عصر الأنبیاء السابقین فی أقوامهم، وقد أمضاها الإسلام وجاء إمضاؤها فی نصوص القرآن الکریم أو الروایات الإسلامیة.

ج) الأحکام والمقرّرات التی کانت سائدة بین العقلاء علی أساس سلسلة من المصالح المتوفّرة فیها وقد أقرّها الشارع المقدّس فی الإسلام مع إجراء بعض التعدیلات علیها أحیاناً، وأحیاناً أخری بدون ذلک.

وهذه الأحکام هی التی یقال عنها أحکام إمضائیة، وأمّا أحکام القسم الأول فهی أحکام تأسیسیة. والقسم الثانی من الأحکام ربّما یقع ضمن الأحکام التأسیسیة أیضاً من جهة معینة وضمن الأحکام الإمضائیة من جهة أخری، فهی تأسیسیة لأنّها تنتهی إلی الوحی، حتی بالنسبة للوحی فی الشرائع السابقة، وإمضائیة من جهة أنّها کانت قبل الإسلام وقد أمضاها الإسلام.

4. إنّ الإمضاء ربّما یکون بشکل صریح، من قبیل قوله تعالی «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بالنسبة إلی المعاملات الاجتماعیة، وربّما یکون من خلال السکوت وعدم النهی من قِبل الشارع، وهذا إنّما یکون فی صورة حضور النبیّ صلی الله علیه و آله أو الأئمّة المعصومین علیهم السلام ولم یرد منهم النهی والردع عن هذه السیرة، وعلی هذا الأساس فکلّما وضعت أحکام ومقرّرات فی عرف العقلاء فی هذا العصر لم تکن فی السابق، فإنّها لا تکون من جملة الأحکام الإمضائیة ولا اعتبار لها شرعاً إلّاإذا وجدت أحکام مشابهة لها کانت فی عصر الشارع المقدّس وأمضاها الشارع، وببیان آخر، إلّاأن تقع جوهرة هذا الحکم فی قالب آخر، ومورد إمضاء الشارع.

5. الأحکام المستنبطة من عمومات وإطلاقات الأدلّة والقواعد الکلّیة فی الشریعة للموضوعات المستحدثة، یمکن أن تکون أحکام إمضائیة أو تأسیسیة، وهذا المعنی یرتبط بکیفیة استنباط ذلک الحکم من القواعد والعمومات والإطلاقات الواردة فی النصوص، فإذا کانت تلک العمومات والإطلاقات والقواعد تملک بعداً تأسیسیاً، فإنّ الفروع المستنبطة منها ستکون تأسیسیة أیضاً، وإذا کانت تملک بعداً إمضائیاً فإنّ الأحکام المتفرّعة عنها ستکون إمضائیة أیضاً.

6. إنّ تقسیم الأحکام إلی تأسیسیة وإمضائیة لا ینحصر بالأحکام الفقهیة، بل یستوعب القواعد الأصولیة مثل حجیّة خبر الواحد وظواهر الألفاظ والأصول العملیّة الأربعة، بل حتّی القواعد الفقهیة التی تعتبر برزخاً بین المسائل الأصولیة والمسائل الفقهیة؛

ص: 533

مثل قاعدة «لا ضرر» وقاعدة «التجاوز» و «الفراغ» و «القرعة» وما إلی ذلک، فهذه کلّها تندرج فی هذا التقسیم (التقسیم إلی التأسیسیة والإمضائیة).

***

المنابع والمصادر

1. أجود التقریرات، آیة اللَّه الخوئی، (تقریرات آیة اللَّه النائینی)، انتشارات مصطفوی، 1368 ق.

2. اصطلاحات الأصول، آیة اللَّه المشکینی، دفتر نشر الهادی، الطبعة السادسة، 1374 ش.

3. الإصول العامّة للفقه المقارن، محمّد تقی الحکیم، مؤسّسة آل البیت، الطبعة لثانیة، 1390 ق.

4. أنوارالهدایة، الإمام الخمینی قدس سره، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی قدس سره، 1415 ق.

5. بحارالأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

6. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلّی، المکتبة الرضویّة لإحیاء الآثار الجعفریّة.

7. جامع المقاصد، المحقق الکرکی، مؤسّسة آل البیت، الطبعة الأولی، 1411 ق.

8. جواهرالفقه، القاضی ابن البراج، تحقیق إبراهیم البهادری، جماعة المدرّسین، الطبعة الأولی، 1411 ق.

9. الخیارات، السیّد مصطفی الخمینی، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی قدس سره، 1418 ق.

10. الکافی، أبوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی، دار صعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

11. کنزالعمّال، علی المتقی الهندی، مؤسّسة الرسالة، بیروت، الطبعة الخامسة، 1405 ق.

12. المسالک، للشهید الثانی، مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی، 1416 ق.

13. مستدرک، الحاکم النیسابوری، دارالمعرفة، 1406 ق.

14. منتقی الاصول، محمّد حسین الروحانی، مطبعة أمیر، 1413 ق.

15. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی، طبع دارالکتب الإسلامیّة.

ص: 534

ص: 535

20

القسم العشرین: منابع الشریعة المسیحیة

اشارة

رسالة النبیّ عیسی المسیح علیه السلام

تقاطع الشریعة والطریقة

نسخ شریعة التوراة فی المسیحیّة

الشریعة المسیحیة

منابع التشریع فی المسیحیّة الکاثولیکیة

المصطلحات

ص: 536

ص: 537

منابع الشریعة المسیحیة

إشارة:

إنّ أهمیّة الفقه الإسلامی وتعالیم القرآن الکریم والسنّة النبویّة الشریفة ومدرسة أهل البیت علیهم السلام وامتدادها لتستوعب مساحات واسعة من حیاة الإنسان، إنّما تتّضح أکثر فیما إذا قورنت مع الشرائع الأخری الموجودة، وهذه المقارنة مثمرة جدّاً وتعدّ فخراً للمسلمین فی العالم.

رسالة النبیّ عیسی المسیح علیه السلام:

من المعلوم أنّ النبیّ عیسی علیه السلام بعث فی مجتمع موحّد وملتزم بالشریعة السماویة، وهو مجتمع بنی إسرائیل، وقد أیّد عیسی علیه السلام أحکام التوراة ولم یکن عصره یقتضی تشریع أحکام جدیدة کثیرة: «مُصَدِّقاً لِّمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِاحِلَّ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی حُرِّمَ عَلَیْکُمْ»(1).

وهناک أحکام شرعیة قلیلة مذکورة فی الأناجیل المعتبرة لدی المسیحیین (من قبیل تحلیل أحکام یوم السبت وتحریم الطلاق) ممّا نسب إلی المسیح علیه السلام ونقل عنه فی الأناجیل قوله:

«لا تظنوا أنّی جئت لألغی الشریعة أو الأنبیاء. ما جئت لألغی، بل لأکمل، فالحقّ أقول لکم: إلی أن تزول الأرض والسماء، لن یزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشریعة، حتی یتمّ کل شی ء. فأی من خالف واحدة من هذه الوصایا الصغری، وعلّم الناس أن یفعلوا فعله، یُدعی الأصغر فی ملکوت السماوات. وأمّا من عمل بها وعلّمها، فیُدعی عظیماً فی ملکوت السماوات. فإنّی أقول لکم: إن لم یزد برّکم علی برّ الکتبة والفریسیین، لن تدخلوا ملکوت السماوات أبداً»(2).

إنّ الغرض من هذا الکلام رفع توهّم نسخ المسیح علیه السلام لأحکام التوراة، لأنّه طبقاً لهذا الکلام الوارد فی الإنجیل أنّ السیّد المسیح علیه السلام کان یهدف فی ذیل کلامه هذا إلی إلفات نظر المخاطبین إلی باطن الأحکام لا ظاهرها، فربّما یتوهّم البعض أنّه یتحرّک علی مستوی نسخ هذه الأحکام.


1- سورة آل عمران، الآیة 50.
2- انجیل متّی، 5- / 20: 17.

ص: 538

وفی الواقع فإنّ السیّد المسیح علیه السلام فی خطبته المعروفة بخطبة «الجبل» فی أبواب 5 و 6 و 7 من إنجیل متّی یؤکّد علی «البعد العرفانی» لأحکام التوراة.

إذن فالمسیحیة فی بدایة الأمر کانت بمثابة حرکة عرفانیة فی واقع الدیانة الیهودیة وکان أتباعها یطلقون علی ذلک کلمة «الطریقة»(1) وإن أصبحت فیما بعد دیناً مستقلًا تدریجیاً. ومعلوم أنّ هذه المسیحیة التی قلنا أنّها بمثابة طریقة عرفانیة للیهودیة، کانت تملک عرفاء ومنظومة عرفانیة. والدیانة الیهودیة بدورها کانت تملک عرفاء ومنظومة عرفانیة کما هو الحال فی المسیحیة وأیّ دین آخر. ویسمّی العرفان الیهودی «قبالا» أی «المقبول».

تقاطع الشریعة والطریقة!

ماذا یعنی العرفان؟ إنّه التوجّه من الظاهر إلی الباطن، ومن الصورة إلی المعنی، ومن اللفظ إلی المحتوی، ومن الإسم إلی المسمّی، ومن الجسم إلی الروح، ومن المبادی ء إلی الغایات، ومن الشریعة إلی الطریقة، ومن الشهود إلی الغیب، ومن القرب إلی الحضور، ومن العقل إلی العشق و ....

وأساس هذا التوجّه یعدّ مقبولًا عند جمیع المتدیّنین ولا أحد ینکر ضرورته، ولکن هل ینبغی فی هذه الحرکة العرفانیة الجمع بین الظاهر والباطن، أم لابدّ من أجل الوصول إلی الباطن من ترک الظاهر وإلغائه، بل التحرّک فی مخالفته؟ هناک اختلاف فی الرأی.

وکلّنا یعلم أنّ سیّد العرفاء وهو الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنینن علی علیه السلام کانا فی عین التفاتهم الکامل للباطن، فإنّهما لم یتعاملا مع الظواهر من موقع الإهمال والاجتناب، بل کانت أقوالهما والأحادیث الواردة عنهما تعکس کمال الحرکة فی خطّ العبودیة والطاعة والانفتاح علی اللَّه بعیداً عن أقوال المتصوّفة وادّعاءاتهم الطویلة والعریضة، وکان الکثیر من العرفاء فی العالم الإسلامی یقتدون بهما فی السلوک المعنوی الخالص وفی کیفیة الوصول إلی مقام القرب المعنوی والإلهی.

ولکن بعد مدّة ظهر بعض الأشخاص الذین تحرّکوا فی هذا الخطّ وأخذوا یتعاملون مع ظاهر الدین بشکل سلبیّ ومن موقع اللامبالاة بذریعة الاهتمام بالباطن، وصدرت عنهم کلمات لا مسؤولة تتضمّن ادّعاء الإلوهیة وإهانة المقدّسات الإسلامیة، إلی حدّ أنّ بعضهم کانوا یستخدمون من أجل تحریک مشاعرهم الباطنیة، الموسیقی والرقص والخمر والمخدّرات وما إلی ذلک ویوصون أتباعهم بذلک.

نسخ شریعة التوراة فی المسیحیّة:

إنّ حالة اللامبالاة بالشریعة بذریعة الاهتمام بالطریقة حدثت فی زاویة صغیرة من الامّة الإسلامیة، إلّا أنّ هذه الظاهرة فی المجتمعات المسیحیة والفکر المسیحی کانت واسعة وشاملة، فلم تمرّ سوی أیّام قلائل علی صعود عیسی المسیح علیه السلام إلی السّماء حتّی اعتنق أحد المخالفین لهذا الدین الجدید والذی یسمّی «بولُس» هذا الدین وترک حالة العناد والعداء للدین الجدید، وبعد اعتناقه لهذا الدین قام بنسخ شریعة التوراة وذهب إلی أنّ العمل بهذه الشریعة یعدّ مانعاً لحرکة الإنسان فی طریق الکمال المعنوی. ویعدّ هذا «الرسول» کما ورد فی الأحادیث الإسلامیة(2) ودراسات


1- کتاب أعمال رسولان، 9: 2 و 22: 4.
2- بحار الأنوار، ج 8، ص 311.

ص: 539

المفکّرین الغربیین هو المؤسس للمسیحیة الموجودة حالیاً، وقد ترک رسائل عدیدة کتبها لبعض الأشخاص والأقوام من المسیحیین فی ذلک الوقت وذکر فیها جملة انتقادات للشریعة الیهودیة وقال:

«إذن، أجد نفسی، أنا الذی یرید أن یعمل ما هو صالح، خاضعاً لهذا الناموس، أنّ لدیَّ الشرّ، فإننّی وفقاً للإنسان الباطن فیَّ، ابتهج بشریعة اللَّه. ولکنّنی أری فی أعضائی ناموساً آخر یُحارب الشریعة التی یریدها عقلی، ویجعلنی أسیراً لناموس الخطیئة الکائن فی أعضائی. فیا لی من إنسان تعیس! مَن یُحرّرنی مِن جسد الموت هذا؟

أشکر اللَّه یسوع المسیح ربّنا! إذن، أنا نفسی من حیث العقل أخدم شریعة اللَّه، عبداً لها، ولکنّنی مِن حیث الجسد، أخدم ناموس الخطیئة عبداً له»(1).

ویستنتج بولس فی ختام کلامه هذا أنّ المسیحیین لا یؤاخذون بترکهم العمل بالشریعة لأنّ الشریعة أمر جسمانی:

«فالآن إذ لیس علی الذین فی المسیح یسوع أیّة دینونة بعد، لأنّ ناموس روح الحیاة فی المسیح قد حرّرنی من ناموس الخطیئة ومن الموت. فإنّ ما عجزت الشریعة عنه لکون الجسد قد جعلها قاصرة عن تحقیقه، أتمّه اللَّه إذ أرسل ابنه، متّحداً ما یشبه جسد الخطیئة ومُکفّراً عن الخطیئة فدان الخطیئة فی الجسد حتی یتمّ فینا البرّ الذی تسعی إلیه الشریعة، فینا نحن السالکین لا بحسب الجسد بل بحسب الروح. فإنّ الذین هم بحسب الجسد یهتمّون بأمور الجسد، والذین هم بحسب الروح یهتمّون بأمور الروح. فاهتمام الجسد هو موت، وأمّا اهتمام الروح فهو حیاة وسلام. لأنّ اهتمام الجسد هو عداوة اللَّه، إذا إنّه لا یخضع لناموس اللَّه، بل لا یستطیع

ذلک، فالذین هم تحت سلطة الجسد لا یستطیعون أن یرضوا اللَّه»(2).

وقد أعلن أیضاً أنّ عنصر الإیمان یکفی لنجاة الإنسان وأنّ الاهتمام بالشریعة یتنافی مع الإیمان:

«أمّا جمیع الذین علی مبدأ أعمال الشریعة، فإنّهم تحت اللعنة، لأنّه قد کتب: «ملعون کلّ من لا یثبت علی العمل بکلّ ما هو مکتوب فی کتاب الشریعة!» أمّا أنّ أحداً لا یتبرّر عند اللَّه بفضل الشریعة، فذلک واضح، لأنّ «من تبرّر بالإیمان فبالإیمان یحیا». ولکنّ الشریعة لا تراعی مبدأ الإیمان، بل «من عمل بهذه الوصایا، یحیا بها» إنّ المسیح حرّرنا بالفداء من لعنة الشریعة، إذ صار لعنة عوضاً عنّا، لأنّه قد کتب: «ملعون کلّ من علّق علی خشبة»، لکی تصل برکة إبراهیم إلی الامم فی المسیح یسوع، فننال عن طریق الإیمان الروح الموعود»(3).

وفی نظر بولس فإنّ عصر الشریعة قد انتهی وحلّ بدله عصر الإیمان، والشریعة فی حقیقتها معدّة للإیمان وهی بمثابة المربیّ للإنسان للوصول إلی مرتبة الإیمان:

«فقبل مجی ء الإیمان، کنّا تحت حراسة الشریعة، محتجزین إلی أن یُعلن الإیمان الذی کان إعلانه منتظراً، إذن، کانت الشریعة هی مؤدّبنا حتّی مجی ء المسیح، لکی نبرّر علی أساس الإیمان، ولکن بعدما جاء الإیمان، تحرّرنا من سلطة المؤدّب»(4).

الشریعة المسیحیة:

لا ینبغی أن نتصوّر ممّا تقدّم من کلام، أنّ المسیحیّة لا تملک شریعة، بل ینبغی القول أنّ المسیحیة لا تدور


1- رسالة بولس إلی الرومیین، 7: 21- 25.
2- المصدر السابق، 8: 1- 8.
3- رسالة بولس إلی غلاطیان، 3: 10- 14.
4- المصدر السابق، 3: 23- 25.

ص: 540

حول «محور الشریعة» خلافاً للیهودیة التی تقوم علی أساس الشریعة وتعتبر الشریعة أصلًا محوریاً لها. وقد بحث الفیلسوف الألمانی «هیجل» معطیات ظهور الشریعة المسیحیة فی کتابه «استقرار الشریعة فی الدیانة المسیحیة».

ومن أجل بیان صورة عن الشریعة المسیحیة لابدّ من الالتفات إلی عدّة نقاط ضروریة.

1. إنّ جمیع الأدیان تطلب من أفراد البشر أن یعیشوا حیاة أخلاقیة ومعنویة، ولذلک جاءت بتعالیم ومقرّرات لتفعیل عناصر الخیر والصلاح فی وجدان الإنسان. وأمرت الناس برعایة هذه التعالیم وامتثال هذه الأوامر فی هذه الدنیا لیتسنّی لهم تحقیق الفضیلة وتهذیب النفس فی واقعهم وشخصیتهم. أجل، فالحیاة الدینیة تتضمّن مقداراً من القیم الأخلاقیة دائماً.

2. إنّ المسیحیّة تهتمّ غایة الاهتمام باجتناب الذنوب الأخلاقیة، کقتل النفس، والسرقة، والزنا، والکذب، والغیبة، والتهمة وأمثال ذلک، وأساساً لا یوجد أیّ دین یبیح هذه الأمور أو لا یعیش الحسّاسیة بالنسبة لها. أجل إنّ الأحکام التعبّدیة مثل حرمة أکل لحم الخنزیر غیر موجودة فی المسیحیة.

3. إنّ تضحیة المسیح من أجل ذنوب البشر بدوره لا یفتح باب الذنب والإثم علی المسیحیین، کما أنّ التوبة والرحمة الإلهیّة وشفاعة الأولیاء لا تفتح باب الذنب علی المسلمین.

4. إنّ الاعتراف بالذنب لدی القسّ فی المسیحیة الکاثولیکیة، من أجل التخفیف من الذنوب ویعترف جمیع المسیحیین حتّی القساوسة والأساقفة والبابا کراراً عدیدة بذلک. وبالنسبة للإسلام والیهودیة والمسیحیة البروتستانتیة، فإنّ الاعتراف بالذنب لا یجوز. بل یجب فی هذه الأدیان أن ینفتح الإنسان علی خالقه الرحیم ویطلب منه العفو والمغفرة والتوبة.

5. إنّ المسیحیة تتضمّن بعض الأحکام التعبّدیة الواردة فی التوراة، کحرمة تناول لحم القربان الذی ذبح للأوثان، ودم الحیوان المخنوق (1).

6. إنّ المسیحیة تهتمّ ببعض الأحکام الشرعیة المنسوبة للسیّد المسیح عیسی علیه السلام بشکل جدّی من قبیل تحریم الطلاق.

7. وأخیراً فإنّ للمسیحیة شریعة مفصّلة باسم کانُن لو (waL nonaC) التی وضعتها الکنیسة لأتباعها، لأنّ الکنیسة المسیحیة تدّعی أنّ لها حقّ التشریع.

منابع التشریع فی المسیحیّة الکاثولیکیة:

اشارة

من المعلوم أنّ حقّ التشریع فی جمیع الأدیان الإلهیّة یختصّ بالذات المقدّسة، یعنی أنّه من شأن اللَّه تعالی بالذات، فهو الذی خلق العالم والإنسان وعالم بطبائع الإنسان وقابلیاته بشکل دقیق، وبالتالی فهو أعلم بما یحقّق لهذا المخلوق السعادة والکمال أو الفساد والضلال والانحراف.

لقد ورد التأکید فی الدیانة المسیحیة علی هذه النقطة أیضاً، وهی أنّ حقّ التشریع منحصر باللَّه تعالی، فلا أحد له هذا الحقّ غیر اللَّه تعالی، سوی فی موارد خاصّة قد فوّض اللَّه تعالی هذا الحقّ لبعض عباده لیضعوا القوانین بما یحقّق لهم الخلاص من بعض التعقیدات التی یفرضها الواقع. فکلّ ما وضعوه من أحکام فإنّه یعدّ جزءً من الشریعة السماویة، وبالتالی


1- کتاب اعمال رسولان، 15: 29.

ص: 541

یجب امتثال هذه الأحکام.

کما نقرأ فی الکتاب المقدّس عن قول اللَّه تعالی:

«بمعونتی یحکم الملوک ویشرّع الحکّام ما هو عدل بمعونتی یسود الرؤساء والعظماء وکلّ القضاة»(1).

وفی التعالیم الدینیة للمسیحیة فإنّ اللَّه تعالی قد فوّض حقّ التشریع هذا لطائفتین من الناس، وهما:

1. رجال الکنیسة

فهؤلاء یمکنهم وضع وتشریع الأحکام فی بعض الموارد، ویعدّ ذلک «أمراً إلهیاً» کما ورد فی الکتاب المقدّس حیث قال المسیح لبطرس:

«وأعطیک مفاتیح ملکوت السماوات، فکلّ ما تربطه علی الأرض، یکون قد رُبط فی السماء، وما تحلّه علی الأرض، یکون قد حلّ فی السماء»(2).

والمقصود من هذا الکلام الذی صرّح به «یوحنا بطرس غوری» هو أنّ کلّ حکم تضعه الکنیسة بعنوان شریعة یرتدی لباس القداسة ویکون بعنوان حکم اللَّه وأمره، ویجب علی الجمیع التحرّک علی مستوی طاعته وامتثاله (3).

وکذلک نقرأ فی الکتاب المقدّس أنّ النبیّ عیسی علیه السلام قال للحواریین:

«مَن یسمع لکم یسمع لی، ومَن یرفضکم یرفضنی؛ ومَن یرفضنی یرفض الذی أرسلنی»(4).

ویقول «یوحنّا بطرس غوری» فی کتابه «مختصر اللاهوت الأدبی : یستفاد من هذا الکلام:

«کلّ من یسمع کلامکم یسمع کلامی»

أنّ أولیاء الکنیسة یتمتّعون بمنصب جعل وتشریع الأحکام.

وینطلق یوحنّا من موقع الاستدلال العقلیّ علی هذا المطلب ویقول:

«إنّ أرباب الکنیسة یمثّلون هیئة کاملة تتولّی إدارة المجتمع من الناحیة الدینیة، فیجب لتنفیذ وإنجاز عمل هذه الإدارة أن یتناسب عملهم مع مسؤولیتهم الثقیلة أنْ تکون لهم صلاحیة فی تشریع الأحکام مضافاً إلی أداء بعض التکالیف، کمنع الناس من المنکرات وتشویقهم بالإتیان بالأمور التی تقرّب من اللَّه تعالی، فإنّهم یرون أنّ مثل هذا الحقّ ضروریّ ولازم»(5).

ثمّ أضاف: «ومضافاً إلی ذلک فإنّ المنهجیة والسنّة العملیة للکنیسة کانت دائماً تتمثّل فی وضع الأحکام والفرائض بوصفها أحکاماً شرعیة، وحتّی أنّه تمّ تشکیل شوری لهذا الغرض للکنیسة لکی تعمل علی تشریع الأحکام الجدیدة فی موارد اللزوم»(6).

***

أمّا من هم الأشخاص الذین یحقّ لهم وضع الأحکام فی الکنیسة؟

نقول فی الجواب: البابا، الشوری العامّة، الأساقفة، ومجامع الشوری الخاصّة، فکلّ واحد من هؤلاء له الحقّ فی وضع الأحکام بما یتناسب مع حاله ورتبته بالتفصیل اللاحق.

البابا، یعنی أسقف الروم، له الحقّ فی وضع أحکام لکلّ الکنیسة، کما ورد فی الکتاب المقدّس، أنّ المسیح علیه السلام قال لبطرس: «أطعم أغنامی ... وعلیک برعی أغنامی»(7) ومن الواضع أنّ المراد من «الرعی» فی هذه


1- کتاب امثال سلیمان، 8: 16- 15؛ مختصر اللاهوت، ص 114.
2- انجیل متّی، 16: 19.
3- انظر: مختصر اللاهوت، ص 114 و 115.
4- انجیل لوقا، 10: 16.
5- انظر: مختصر اللاهوت، ص 114 و 115.
6- المصدر السابق.
7- انجیل یوحنا، 21: 15 و 16.

ص: 542

العبارة هو الإدارة والتدبیر، وکذلک قال المسیح لبطرس أیضاً: «ما تعقدونه فی الأرض ینعقد فی السماء»(1) وهذا الکلام الذی قاله لبطرس یشمل البابا أیضاً، لأنّه خلیفة المسیح علی کنیسة روما العامّة، بل إنّ الاسقف الأعظم هو راعی الرعاة و نائب المسیح علی الأرض.

أمّا الشوری العامّة فکذلک یمکنها أن تضع أحکاماً تشریعیة لکلّ الکنیسة، لأنّ هذه الکنیسة لها حقّ التعلیم والتدبیر وخلافة الکنیسة، إذن یجب أن تضع لکلّ الکنیسة أحکاماً شرعیة، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ الأحکام الصادرة عن هذه الشوری لا تتّسم بالرسمیة لوحدها إلّابتأیید البابا أو نائبه، بأن یکون رئیساً لهذه الشوری، لأنّ الشوری لا یمکنها أن تکون خلیفة الکنیسة بدون تأیید البابا.

أمّا الأساقفة فیمکنهم وضع شرائع وأحکام فی الدائرة التی تخصّهم، لأنّ مثل هذه الولایة تعتبر ضروریة لأمر مدیریة حوزتهم، ومن جملة المؤیّدات لهذا الأمر ما ورد فی کتاب أعمال الرسل: «إذن فانظروا لأنفسکم ولجمیع القطیع الذی یهیمن علیه روح القدس، فالأسقف قرّر أن تتکفّلوا رعایة کنیسة اللَّه»(2).

وهذه الولایة للأسقف إنّما یحصل علیها من خلال النصب المشروع ولکن لیس له الحقّ فی وضع الحکم فی مقابل شریعة البابا، لأنّ الدانی لا ولایة له علی العالی، إذن لا یمکن إصدار حکم مخالف للشریعة العامة أو یؤدّی إلی ضعفها، وکذلک إذا وضع الأسقف أحکاماً ومقرّرات بعد الاستماع إلی آراء جماعة الکنیسة وبدون تشکیل الشوری، فإنّ هذه الأحکام تحظی علی الأصحّ بالأبدیة، ولأجل ذلک یتمّ تشکیل الشوری، وهذا ما قاله بندیکت الرابع عشر فی سینود شبانی «کتاب 13، الفصل 5، العدد 1).

إنّ الأساقفة الکبار والبطارقة لا یمکنهم وضع أحکام شرعیة فی دائرة سوفر جانات (nagarffuS) یعنی الأساقفة تحت ولایة الأسقف الأعظم أو البطارکة، لأنّ هؤلاء لیسوا فی الحقیقة رؤساء الحوزات المذکورة وإن کان لهم الحقّ فی تقدیم الشکاوی التی تحال إلیهم ویستمعون لها بشکل مشروع ویحکمون بینها.

أمّا مجامیع الشوری الخاصّة، فیمکنهم وضع أحکام تشریعیة لکلّ إقلیم، لأنّه کما أنّ کلّ فرد من الأساقفة یمکنه وضع أحکام فی دائرة حوزته، فجمیع هؤلاء الأفراد یمکنهم الاجتماع فیما بینهم و تشکیل شوری لطائفتهم أو إقلیمهم، و بالتالی یضعون أحکاماً لذلک الإقلیم أو الطائفة، ولکن یجب علیهم بعد تشکیل هذه الشوری أن یضعوا أحکاماً ومقرّرات فی هذه الشوری، و تقدیم «ترِنْت» لدراسته النهائیة للشوری، وهذا یکون بمقتضی القانون القدیم الذی قرّره البابا فی سیکستوس الخامس فی أحد فتاواه وقال بالنسبة لشوری ترِنْت:

«إنّ هذه الشوری یجب أن تأمر بحزم وأن تقدّم إلیها أحکام مجامیع الشوری الإقلیمیة فی کلّ مکان یتمّ تشکیلها کیما یتمّ نقد هذه الأحکام ودراستها واحداً بعد الآخر».

وکذلک ورد فی کلام بندیکت الرابع عشر فی سینود الراعی أنّه قال: «أمّا أن سیکستوس الخامس قد أمر بتقدیم هذه الأحکام لهذه الشوری قبل ابلاغها وذلک لیس من أجل تأیید مقام البابا لها، بل من أجل أنّه إذا وجد حکم صعب وشدید فیها أو شی ء موهن وإرباک


1- انجیل متّی، 16: 19.
2- کتاب اعمال رسولان، 20: 28.

ص: 543

فیتمّ إصلاحه ولکن أحیاناً یتفق أنّ أحکام مجامع الشوری الإقلیمیة بعد دراستها من قِبل هذه الشوری وإصلاحها تحظی بتأیید وترشیح الأسقف الأعظم أی البابا، وهذا یتمّ فی مقام الاستجابة لمطالب المطارنة الذین شکّلوا هذه المجامع للشوری» وعلی أیة حال فإنّ تأیید مقام البابا لهذه المجامع الشورائیة بشکل عام أو بشکل خاص، ممکن.(1)

ولکن فی مورد أحکام سینود الراعی فلم یشترط فیها وجوب تقدیمها للشوری وتأیید من قِبل مقام البابا.(2)

2. الامراء والقادة

الطائفة الثانیة التی لها مقام وضع الأحکام والتشریع فی التعالیم المسیحیة المعاصرة، الامراء والقادة فی المجتمع. فهؤلاء یمکنهم وضع الأحکام التشریعیة من أجل تحقیق مقاصدهم فی الواقع الاجتماعی وتیسیر عملیة إدارة المجتمع. ونقرأ فی کتاب «أمثال سلیمان من الکتاب المقدس» أنّ اللَّه تعالی یقول:

«بمعونتی یحکم الملوک ویشرّع الحکّام ما هو عدل»(3).

وکذلک ما ورد فی رسالة الرسول بطرس الذی یقول:

«فإکراماً للربّ، اخضعوا لکلّ نظام یُدیر شؤون الناس، للملک، باعتباره صاحب السلطة العلیا، وللحکّام باعتبارهم ممثّلی الملک ...»(4).

والمستفاد من هذه التعبیرات أنّ الامراء والقادة لهم الحقّ فی إصدار الأحکام ووضع القوانین الشرعیة، وأنّ هذا الحقّ قد فوّض إلیهم من قِبل اللَّه تعالی، ومضافاً إلی هذه الشواهد النقلیة، فإنّهم یعتقدون علی أساس الرؤیة العقلیة بأنّه إذا کان الحکّام والقادة فی المجتمع یمثّلون عقیدة دینیة معیّنة، ووکلاء اللَّه فی رعایة أمور عباده، فمن الطبیعی أن یفوّض إلیهم منصب التشریع أیضاً(5).

والآن یثار هذا السؤال: من هو الذی منح القادة فی الحکومات الدنیویة مقام التشریع؟

ونقول فی الجواب: علی أساس الدین المسیحی إنّ القادة یتمتّعون بمقام التشریع بما لهم من ولایة علیا علی الناس کالملک والأمیر ورئیس الجمهوریة القانونی وهذه الولایة لیست مقتبسة من ولایة أخری بخلاف قادة الجیش والمحافظین وسائر الأشخاص الذین لا یتمتّعون بولایة أصلیة.(6) وکذلک فإنّ هذا المقام یفوّض أیضاً إلی الأشخاص الذین لهم الولایة بالأصالة، وإذا اتّفق أن یکون تحت ولایة سقف آخر، فهذا الوالی الأعلی یمکنه تنقیح أو إبطال تلک الشرائع والأحکام من هذا القبیل من الشرائع المدنیة وامراء یولدار (yradoeF) لأنّ الولایة علی تلک الأرض قد صنعها تیول مع تنقیح الشرائع وإبطالها، کما أنّ البابا یمکنه تنقیح وابطال شرائع الأساقفة أو مجالس الشوری الإقلیمیة أو رئیس الرهبان الرسمی (7).

المصطلحات

أسقف: یطلق علی الوکیل والمباشر لأمور الناس


1- انظر: سینود الراعی بندیکت 14، کتاب 13، فصل 5 وکتاب 12، فصل 5، العدد 13.
2- المصدر السابق.
3- کتاب أمثال سلیمان، 8: 15.
4- الکتاب الأول بطرس، 2: 13 و 14.
5- انظر: مختصر اللاهوت، العدد 104.
6- انظر: فتاوای الذمی، العدد 79 وما بعد.
7- انظر: مختصر اللاهوت، ص 114. ولمزید من الاطلاع علی هذا الموضوع انظر: أ) دائرة المعارف فارسی، ص 2008- / 2009. ب) مجموعة الشرع الکَنَسی، جمع وترجمة حنانیا الیاس کسّاب.

ص: 544

وقد جاء فی العهد الجدید لفظ «شیخ» و «قسّیس» و «راعی» بهذا المعنی أیضاً، والفارق الوحید هو أنّ «اسقف» یطلق علی المنصب نفسه، ولکنّ «القسّیس» أو «الشیخ» أو «الراعی» یطلق علی الشخص المباشر لأمور المجتمع الیهودیّ. وعلی هذا الأساس نری أنّ «بُطرس» یخاطب المسیح علیه السلام بالراعی والاسقف، ویری بُولس الحواری، بعد ذکر صفات وخصوصیات الأسقف أنّ المسیح علیه السلام هو المثال الأعلی والأعظم لهذا المقام «الأسقف الأعظم»(1).

«الاسقف الأعظم» یقال للُاسقف الذی یتولّی رئاسة جمیع الأساقفة(2).

امراء تُیُولدار: ویقال لرئیس القوم أو الشیخ وزعیم الطائفة «أمیر»، وتطلق کلمة «تُیُول» علی العقار أو الأرض التی وهبها الملک لبعض رجال الحاشیة أو البلاط لیضمن استمرار دفعهم الحقوق المالیة للخزانة، ویقال لذلک الشخص «تُیُولدار». وتطلق کلمة «امراء تُیُولدار» علی القادة الذین یملکون مثل هذه الأراضی والعقارات (3).

بِنِدیکت: هو اسم لبعض البابوات و «بندیکت الرابع عشر» (1758- 1740) هو الذی اهتمّ بتقویة الکنیسة الشرقیة وسعی فی طریق تحقیق الوحدة والتوحّد فی صفوف أتباع الکنیسة(4).

البابا: وهو الأب والرئیس الروحانی لأتباع المذهب الکاثولیکی ومقرّه فی الفاتیکان فی (روما)(5) (وطبقاً لما ورد فی المتن یقال له «أسقف روما»).

بطریق: هو رئیس رؤساء الأساقفة(6) (نظیر قاضی القضاة).

بِطْرُس: هو أحد الحواریین لعیسی حیث یقال عنه باللغة السریالیة «کیفاس». وکان اسمه فی البدایة شمعون وبعد أن التقی بعیسی مع أخیه «اندریاس» ورفیقین آخرین لهما «یعقوب» و «یوحنّا» عندما کانوا یصطادون السمک، فأمره عیسی علیه السلام وسمّاه «کیفاس» وعلّمه صید الإنسان (للعمل علی تربیتهم بدلًا من صید السمک) حتّی أنّه صار من جملة الحواریین الإثنی عشر. وفی عام (64 أو 66 أو 68 م) تمّ صلبه واستشهد(7).

بُولس: وهو من حواریّی المسیح علیه السلام أیضاً ویقال له بالعبریة شاؤول. وعندما بلغ من العمر 30 سنة کان ذا شخصیة قویة فی أوساط الیهود ومحلّ احترامهم وتقدیرهم، وکان علی اطّلاع تامّ بالشریعة والعلوم الدینیة، وکان ینتمی إلی طائفة الفریسیّین (/ وهم طائفة من الیهود الذین اختاروا العزلة ولدیهم مذهب فقهی معروف لدی الیهود، فی مقابل مذهب الصدوقیین (8)) وقد تحرّک فی عملیة تهذیب النفس والریاضة الروحیة وکان عالماً مرتاضاً وحافظاً قویاً ومتعصّباً من بین علماء الیهود وأشدّ أعداء الدین المسیحی، وفی ذلک الوقت ظهر له المسیح علیه السلام فی طریق دمشق وهداه إلی المسیحیة بطریقة إعجازیة فصار من أتباع المسیح بکلّ وجوده وفکره وقوّته وجعل کلّ طاقاته وعمره فی طریق نشر إنجیل المسیح ومواجهة التقالید والرسوم


1- قاموس الکتاب المقدّس، ص 56.
2- قاموس عمید( بالفارسیّة).
3- قاموس الکتاب المقدّس، ص 108؛ قاموس عمید، مادّة« تیول».
4- المنجد، قسم الأعلام.
5- برهان قاطع، مصطلح« بابا».
6- المنجد، مادّة« بطر».
7- قاموس الکتاب المقدّس، ص 220- 223.
8- انظر: المصطلح« الفریسیین» فی الفصل« منابع شریعة الیهود».

ص: 545

والمناسک فی الدیانة الیهودیة والتصدّی لها ومحاربتها، ولذلک أمر ملک الروم بسجنه فی القیصریة.

إنّ ما تقدّم آنفاً هو الوارد فی «قاموس الکتاب المقدّس» ولکن علی أساس ما ورد فی متن هذا الکلام المکتوب، فإنّ بولس انتمی إلی المسیحیة بعد صعود السیّد المسیح إلی السماء، وقام بنسخ شریعة التوراة وکان یعتقد بأنّ العمل بها یعدّ مانعاً للکمال، وهو مؤسّس المسیحیة الحالیة، أی أنّ المسیحیة خرجت من بطن الیهودیة بجهود بولس بحیث صارت علی شکل دین مستقلّ تماماً عن الیهودیة، ففی البدایة تحرّک علی مستوی ترتیب العقائد المسیحیة الخاصّة بوجود اللَّه ومقولة التثلیث بحیث أصبح عیسی المسیح علیه السلام واحداً من الأقانیم الثلاثة للذات المقدّسة، والأخری حذف «الشریعة» من تعالیم المسیحیة (وعلی حدّ تعبیر بولس: حذف «شرّ الشریعة»).

ترِنت: تطلق هذه الکلمة علی الشوری العالمیة للکنیسة الکاثولیکیة التی تشکّلت فی القرن السادس عشر لمواجهة المدّ «البروتستانتی».

سوفرکان: وهو الأسقف الذی یعمل تحت ولایة الأسقف الأعظم أو باتریارک.

سیکستوس: وهو اسم لخمسة أشخاص من البابوات، وأشهرهم سیکستوس الرابع (1484- 1471 م) وسیکستوس الخامس (1590- 1585 م) هو الذی بنی کنیسة «القدیس بطرس» الکبیرة(1).

سینود الراعی: وهی مجموعة من الأحکام التی أصدرها بندیکت الرابع عشر.

فریسیون: جمع «فریسی» (بمعنی المعتزل) ویطلق علی طائفة من الیهود ولا یعلم أصل هذه الکلمة ولم تذکر فی کتاب العهد القدیم أیضاً. وکان أتباع هذه الفرقة فی أیّام المسیح یعیشون حالة الریاء والتظاهر بالصلاح ویهتمّون بمظاهر الشریعة بشدّة ولا یتحرّکون من موقع الاهتمام بجوهر الشریعة وحقیقتها، بل یتعبّدون بالنصوص الواردة فی تفسیر الشریعة المکتوبة التی وصلت إلیهم من موسی یداً بید، وانتقلت إلیهم بشکل سماعیّ (خلافاً للصدوقیین، وهم فرقة أخری من الیهود ینکرون الشرائع السماعیة، ویعتقد الفریسیون بخلود النفس والقیامة والعقاب والعذاب الإلهیّ والإمداد الربّانی (خلافاً للصدوقیین الذین ینکرون القیامة والثواب والعقاب والملائکة والأرواح ویعتقدون بأنّ الروح تفنی مع فناء البدن ویعتقدون أیضاً بحرّیة الإنسان المطلقة وتفویض جمیع الأمور للإنسان) وتری المسیحیّة أنّ الفرقة الفریسیة نشأت من أوهام وتحریفات بولس (الذی کان یتصوّر نهایة عصر الشریعة وحلول عصر الإیمان) وقد اتّهموا (أی الفریسیون) بأنّهم ضیّعوا روح الشرائع وجوهر الأحکام الإلهیّة والتزموا بأحکام النجاسة والطهارة وکانوا یبتعدون عن جمیع الأشیاء التی تعتبر عندهم نجسة شرعاً، فی حین أنّهم لا یهتمّون بالنجاسة المعنویة والقلبیة، ومن هنا فقد انصرفوا عن الاهتمام بالأمور الحقیقیة والأصلیة واهتمّوا بالأمور الظاهریة، فکان حدیثهم یدور غالباً حول أمور قشریة من قبیل إضاءة السراج یوم السبت، أو أنّهم کانوا یجادلون إلی حدّ الشجار والنزاع فی مسألة هل یجوز أکل البیضة التی باضتها الدجاجة یوم السبت أم لا؟(2).


1- المنجد، قسم الأعلام.
2- انظر: قاموس الکتاب المقدّس، ص 552 و ص 652 و 653.

ص: 546

قبالا: بمعنی «مقبول» ویطلق علی العرفان الیهودی.

کتبة: والکاتب هنا یراد به معنی المذکّر والمدوّن للوقائع، وهو أعلی منصب فی بلاط داود وسلیمان وملوک «یهودا» (یهودا: اسم أحد إخوة یوسف الإثنی عشر، وهو جدّ داود النبیّ من أبیه، وتسعة عشر ملکاً من أحفاد داود). مضافاً إلی منصب تدوین الحوادث فالظاهر أنّ الکاتب یملک مقام المستشار للملک أیضاً ویتکفّل فی مسؤولیاته تعمیر الهیکل فی أیّام الحرب (والهیکل: محلّ عبادة الیهود فی اورشلیم الذی بناه النبیّ سلیمان علیه السلام علی جبل اوریا)(1).

کانُن لو (waL nonaC): وهو اسم شریعة وضعتها الکنیسة لأتباع الدیانة المسیحیة، (لأنّ الکنیسة المسیحیة تدّعی بأنّها تملک حقّ التشریع).

متّی وهو أحد تلامذة المسیح وحوارییه والذی کان ملازماً للمسیح من بدایة بعثته إلی زمان صعوده إلی السّماء، وقد انتخب بواسطة القرعة لخدمة السیّد المسیح وقد کتب إنجیلًا باسمه (إنجیل متّی) ونشره قبل الأناجیل الأخری، ویری البعض أنّه ألّفه فی عام 38 م بینما یری البعض الآخر أنّه ألّفه ما بین 50 إلی 60 م.

(یقول المنجد فی قسم الأعلام: إنّه کتب هذا الإنجیل للمسیحیین من یهود فلسطین فی الأصل)، ویقول التقلیدیون (وهم أنصار واتّباع التعالیم والأحکام التی لم تذکر فی الکتاب المقدّس بل نقلت من شخص لآخر عن طریق السماع وأصلها من یوشع بن نون وتمّ نقلها إلی الأجیال اللاحقة من الیهود) أنّه کان یعظ الناس ویعلّمهم عن طریق السماع، وهناک نال مقام الشهادة، ویری البعض الآخر أنّه کان یخدم فی منطقة «الیهودیّة» إلی أنّ قبض علیه الیهود ورجموه (2).

المطارنة: «مطران» معرّب «متربولین» بمعنی «رئیس الأساقفة» ویعتبر من المقامات الروحانیة العالیة للکنیسة(3).

***

المنابع والمصادر

1. القرآن الکریم.

2. انجیل لوقا.

3. انجیل متّی.

4. انجیل یوحنّا.

5. بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، مؤسّسة الوفاء، بیروت، الطبعة الثانیة، 1403 ق.

6. البرهان القاطع، محمّد حسین خَلَف التبریزی، مؤسّسة انتشارات أمیرکبیر، طهران.

7. الجاهلیّة والإسلام، العلّامة یحیی النوری.

8. فرهنگ عمید، حسن عمید، مؤسّسة انتشارات أمیرکبیر (بالفارسیة)، طهران.

9. قاموس الکتاب المقدّس.

10. مجموعة الشرع الکَنَسی، جمعه وترجمه حنانیا الیاس کسّاب.

11. مختصر اللاهوت الأدبی، یوحنا بطرس الغوری.

12. المنجد، لویس معلوف، انتشارات الإسلام.


1- انظر: قاموس الکتاب المقدّس، ص 681 و 710 و 931.
2- المصدر السابق، ص 262 و 782.
3- الجاهلیّة والإسلام،( تألیف العلّامة یحیی النوری)، ص 462.

ص: 547

21

القسم الأحد و العشرون: منابع شریعة الیهود

اشارة

مراحل شریعة الیهود

منابع شریعة الیهود

- المنابع المکتوبة

- المنابع القانونیة لشریعة الیهود

مصطلحات

ص: 548

ص: 549

منابع شریعة الیهود

إشارة:

تقدّم أنّ أهمیة الفقه الإسلامی وتعالیم القرآن والسنّة النبویة وتعالیم مدرسة أهل البیت علیهم السلام وعمقها وشمولیتها إنّما تتجلیّ بوضوح عندما نتحرّک من موقع مقارنتها بالشرائع الأخری. وهذه العملیة فی المقارنة مثمرة جدّاً وتعدّ مصدر فخر واعتزاز لجمیع المسلمین فی العالم.

المقالة الأولی: مراحل شریعة الیهود

اشارة

إذا قلنا أنّ شریعة الیهود بدأت منذ زمان خروج بنی اسرائیل من مصر ونزول الوصایا العشر علی موسی (حدود 1280 ق م)، فإنّ تاریخ الشریعة الیهودیة یمتد إلی 33 قرناً من الزمان. وقد شهدت هذه المنظومة التشریعیة متغیرات کثیرة فی هذا المسار التاریخی الطویل. ومع هذا الحال فإنّه بإمکان تقسیم تاریخ شریعة الیهود إلی مرحلتین أساسیتین: الأولی: عصر «الشریعة المکتوبة» والثانیة: «الشریعة الشفهیة»، وقد بدأت الشریعة الیهودیة مع بدایة نزول التوراة ثمّ أُضیف إلیها بشکل تدریجیّ بحوث الشریعة الشفهیة إلی أن تمّ تدوینها أخیراً بشکل «میشنا» و «تلمود» (کما سیأتی توضیحه). وکان لهذه الشریعة الشفهیة تأثیرات کبیرة علی شریعة الیهود وحیاتهم.

وسنشیر فیما یلی إلی العصور التاریخیة للشریعة الیهودیة بشکل موجز، حیث تتشکّل من عشرة عصور.

العصور الثلاثة الأولی منها تختصّ بمرحلة «الشریعة المکتوبة» وسبعة عصور أخری والتی تسمّی بعصر تنّائیم- أی مراحل تدوین الشریعة الشفهیّة بشکل رسمی- تعتبر هذه العصور ضمن مرحلة «الشریعة الشفهیة».

أ) عصر الکتاب المقدّس

بدأ عصر الکتاب المقدّس أو التوراة منذ نزول الوحی بالتوراة علی موسی فی سیناء (1280 ق

ص: 550

م تقریباً) ویمتدّ إلی زمان عزرا ونحمیا (من قادة بنی إسرائیل) (فی أواسط القرن الخامس ق م تقریباً)، فبعد خروج بنی اسرائیل من مصر وخوضهم حروباً طویلة الأمد بقیادة موسی ویوشع وغیرهما، استطاع بنوإسرائیل الإستیلاء علی فلسطین (الأرض المقدّسة) وتشکیل الحکومة فیها، واستمرّت هذه الحکومة وازدادت قوّتها حتّی وصلت إلی ذروة العزّة والشوکة فی عصر حکومة داود (1004. 965 ق م) وابنه سلیمان (965. 928 ق م).

ب) عصر سوفریم (الکتبة)

ویبدأ عصر سوفریم (1) أو الکتبة، من القرن الخامس قبل المیلاد، أی من عصر عزرا و نحمیا، فبعد أن عاد الیهود من الأسر البابلی (528 ق م) أخذوا بالعمل علی إعادة بناء معبد اورشلیم، وعادت إلیهم حیویّتهم ونشاطهم. وفی هذا العصر تبدأ مرحلة المعبد الثانی (520 ق م- 70 م)، وهذه المرحلة فی غایة الأهمیّة بالنسبة للشریعة الیهودیة التی شهدت تحوّلًا کبیراً، فالقسم الأعظم من هذه المرحلة یتزامن مع حکومة الفرس علی فلسطین (538- 322 ق م). وقد عمد أحد کبار الیهود ویدعی عزرا الکاتب، لتشکیل شوری باسم المجمع الکبیر أو کِنِست هیجدولا(2) من علماء الیهود (سوفریم أو الکتبة) وأخذوا بتدوین وتفسیر التوراة(3) ..

ج) عصر زوجوت (الأزواج)

وبعد انتهاء عمل المجمع الکبیر فیما بین (250 إلی 200 ق م)، الذی یتزامن مع سیطرة الیونانیین علی فلسطین (332- 140 ق م)، بدأت مرحلة جدیدة فی تاریخ الیهود، حیث تشکّل مجمع سنهدرین (4) فی عام 160 ق م تقریباً، أو المجمع العالی والقضائی للیهود وبدأ نشاطه فی ذلک الوقت، وهذا المجمع (سنهدرین) یتکوّن من 71 من العلماء والکهنة الیهود، وکانت فی زمن حکومة حشمونائیم (جماعة من الیهود الذین انتصروا فی الحرب علی الیونانیین وحکموا فلسطین فی سنوات 140 إلی 37 ق م) وبدایة عصر الرومانیین (37 ق م فصاعداً) ویسمّی هذا العصر بعصر زوجوت (5)، لأنّه حکم الیهود خمسة أزواج (زوجوت أزواج) من علماء الدین الیهودی المعروفین حیث تکفّلوا قیادة سنهدرین فی هذه المرحلة. ومن کلّ زوج یقوم أحدهم برئاسة مجمع سنهدرین ویدعی ب «ناسی (6)» (أی الرئیس) والآخر ب «آو بت دین (7)» وهو القائم مقام الناسی ورئیس محکمة الشرع. وآخر زوج من هؤلاء القادة: هیلل وشَمّای، حیث أسّس کلّ منهما مدرسة فقهیة معروفة لدی الیهود، ومع موتهما (فیما بین 10 إلی 30 م) انتهی عصر الأزواج (زوجوت).

د) عصر تنّائیم (المعلّمین)

ویمتدّ عصر تنّائیم،(8) الذی یسمی بعصر الشریعة الشفهیة أو عصر «میشنا» طیلة القرنین الأولین للمیلاد،


1- 1 .soferim
2- 2 .Kenesset ha - Gedolah
3- 3 .Cf .Y .D .G .,"Soferim ",EJ .,v .51 ,p .97 - 18 .
4- 4 .Sanhedrin
5- 5 .zugot
6- 6 .nasi
7- 7 .av bet din
8- 8 .tannaim

ص: 551

أی من موت هیلل إلی موت یهودا هناسی (220 م تقریباً). وفی هذه المرحلة کان لمذهب هیلل وشمّای دور مؤثّر علی شریعة الیهود، فقد عاش فی هذا العصر ستة أجیال من معلّمی الشریعة الشفهیة باسم تَنّا(1) (أی المعلم؛ الجمع: تنّائیم .

وقد برز فی عصر «تنّائیم» مجموعتان من الأعمال لهؤلاء المعلّمین، إحداهما ما تمّ تدوینه علی شکل رسالة فی القانون، وفی هذه المجموعة تمّ تدوین هلاخا فی أبواب خاصّة من الشریعة بشکل مضغوط.

والثانیة عبارة عن میدرشه هلاخا أو میدراشات هلاخایات وهی نوع من التفسیر المفصّل للأسفار الخمسة. والمجموعة المهمّة الأولی عبارة عن میشنا، من تألیف یهودا هناسی، وأمّا المرحلتان التالیتان فی الأهمّیة فی نظر الیهود یمکن الإشارة إلی تألیفات عقیواومئیر. وتنتهی مرحلة التنّائی بموت یهودا هناسی (220 م) الذی تولّی الزعامة الدینیة للیهود أکثر من 50 سنة(2) ..

ه) عصر آمورائیم (الشرّاح)

آمورائیم (3) (جمع آمورا بمعنی الشارح والمفسّر) ویطلق علی علماء الیهود الذین عاشوا بعد إکمال «میشنا» إلی أنّ بدأت مرحلة «التلمود». وقد عمل هؤلاء علی شرح وتفسیر میشنا وکذلک بتدوین «میدراش اجادای» (أی التفاسیر الناظرة لمباحث غیرهلاخای، من قبیل الروایات، والأمثال والحکم وغیر ذلک). فقد عمل آموراها علی شرح وتفسیر هلاخای میشنا، وهلاخای النهائیة واستخرجوا منها قوانین الشریعة الیهودیة وأحکامها.

ویشمل عصر آمورائیم خمسة أجیال من علماء فلسطین (إلی نهایة القرن الرابع) وثمانیة أجیال من علماء بابل (إلی نهایة القرن الخامس) وکانت حصیلة جهودهم تدوین کتابی التلمود البابلی والفلسطینی (أو الأورشلیمی).

وفی فلسطین، یسمی هؤلاء آموراها ب «ربّی»(4) و فی بابل ب «راو»(5) ..

ولکن لا ینبغی الغفلة عن أنّ التلمود یقرّر بالنسبة لاعتبار ومرجعیة آمورائیم: أنّ آمورائیم لا ینبغی أن یخالفوا أقوال کتاب میشنا، وحتّی مخالفة أحد باریتاهای (6) تنّائیم. من هذه الجهة إذا تبیّن فی البحث التلمودی وجود رؤیة مخالفة لنظر المیشنا فإنّه یتمّ إنکارها وردّها(7) ..

إنّ نهایة التلمود البابلی فی (500 م تقریباً) تعتبر نهایة عصر الشارحین (آمورائیم).

و) عصر ساوورائیم (الحکماء)

بعد انتهاء عصر التلمود البابلی، بدأ عصر العلماء البابلیّین، حیث یعرف هذا العصر بساوورائیم (8) «حکماء»، ویمتد إلی نهایة القرن الثالث أو إلی أواسط القرن السابع علی قول، حیث تحرّک هؤلاء الحکماء


1- 1 .tanna
2- 2 .Cf .D .S .,"Tanna ,Tannaim ",EJ .,v .51 ,p .897 - 008 ;. کنوز من التلمود، ص 11- 15
3- 3 .amoraim
4- 4 .Rabbi
5- 5 .Rav
6- وسیأتی توضیح کلمة باریتا.
7- 7 .Sh .S .,"Amoraim ",EJ .,v .2 ,p .568 - 57 .
8- 8 .savoraim

ص: 552

علی مستوی تهذیب وتنقیح التلمود البابلی. وفی الحقیقة فإنّ هذه العصر یعتبر نهایة عصر التلمود، والمعلومات التی تتّصل بهذا العصر قلیلة ولا توجد فیه شخصیات مؤثّرة وفعّالة.

وقد عمل هؤلاء العلماء علی إجراء بعض التوضیحات والشروح المختصرة للتلمود بما یشبه آراء الآمورائیین، ولم یضیفوا موضوعاً جدیداً للتلمود.

وعلی هذا الأساس فإنّ عمل الساوورایین کان عبارة عن تنظیم وتبویب التلمود، وتوضیح بعض آراء الهلاخای المبهمة وبیان بعض البحوث والنصوص المضافة إلی التلمود أو إضافة عبارات مختصرة لتیسیر قراءة المتن (1) ..

ز) عصر کائونیم (النوابغ)

مع تدوین الشریعة الشفهیة للمشنا والتلمود فإنّ عصر تحوّل وتطوّر شریعة الیهود قد انتهی، وبدأ عصر جدید یتضمّن إنتاجات مهمّة فی شریعة الیهود، ومع نهایة عصر التلمود إلی منتصف القرن الحادی عشر یطلق علی هذه المدّة بعصر الکائونیم (2). وهذه الکلمة من مادة «کائون» (بمعنی النابغة، أو العلّامة) وهو اللقب الرسمی لرؤساء جامعات بابل (سورا وبومبدیتا). وقد کانت جامعات بابل لفترة طویلة من هذا العصر مرکزاً معنویاً وثقافیاً للمجتمع الیهودی، حیث أنّ المجتمعات الیهودیة تقبل بفتاوی وأحکام الکائونیین بشکل مطلق.

فقد کانوا یتحرّکون علی مستوی تفسیر التلمود بالشکل الذی أخذوه من الساوورائیم بحیث یکون کتاب قانونی مقبول یتضمّن جمیع الموضوعات الاجتماعیة والدینیة.

ومن أهمّ علماء عصر الکائونیم یمکن الإشارة إلی عمرام،(3) سعدیا،(4) سموئیل بن هوفنی،(5) شریرا وحای (6) ... الذی انتهی بموته عصر النوابغ أیضاً.

ح) عصر ریشونیم (المراجع الأولین أو المتقدّمین)

ویبدأ عصر ریشونیم (7) (أو المتقدّمین، المراجع الأولین) منذ زمان إسحاق الفاسی (8) فی أواسط القرن الحادی عشر وإلی القرن السادس عشر (عصر یوسف قارو وتدوین کتاب شولحان عاروخ وأیضاً مَبّا(9) من تألیف موسی ایسرلس (10))، ویعدّ هذا العصر من العصور البارزة والمهمّة لشریعة الیهود بعد عصر التلمود (عصر ما بعد التلمود) وفی هذا العصر تمّ تدوین مؤلّفات ومصنّفات مهمّة فی شریعة الیهود. وفی هذا العصر ازدادت حرکة التقنین الاجتماعی بین الیهود. ویبدأ عصر ریشونیم مع افول جامعات بابل وظهور مراکز تعلیمیة جدیدة فی بلاد المشردین، فی شمال أفریقیا، إسبانیا و بلدان اوربیة أخری فی ذلک الوقت. ومن علماء هذا العصر یمکن الإشارة إلی إسحاق الفاسی، إبن میمون، یعقوب آشر، یوسف قارو(11) ..


1- 1 .D .S .,"Savora ,Savoraim ",EJ .,v .41 ,p .029 - 12 .
2- .gaonim
3- 3 .Amram
4- 4 .Saadyah
5- 5 .Amram
6- 6 .Saadyah
7- 7 .rishonim
8- 8 .Isaac al - Fasi
9- 9 .Mappah
10- 01 .Moses Isserles
11- 11. M. E., op. cit., p. 221; I. T. S.," Rishonim", EJ , v. 41, p, 291- 3.

ص: 553

ط) عصر احَرونیم (المتأخّرین)

ویبدأ عصر احرونیم،(1) بمعنی «المتأخّرین» أو المراجع المتأخّرة من زمان یوسف قارو وموسی إیسرلس فی القرن السادس عشر ویمتد إلی القرن الثامن عشر أو إلی العصر الحاضر علی قول. وسبب تسمیة هذا العصر بأنّه عصر «المتأخّرین» لتمییزه عن عصر ریشونیم، أو المراجع المتقدّمین.

وقد تمّ فی هذا العصر تدوین کتاب شولحان عاروخِ یوسف قارو، مع مَبّا أثر موسی إیسرلس وهو فی الحقیقة من أجل رفع نواقص کتاب قارو، ویعدّ ذلک ذروة الإنتاج التقنینی فی دائرة الحقوق الیهودیة، ویعدّ هذا الکتاب مع إضافات إیسرلس مرجعاً مقبولًا فی دائرة الحقوق والشریعة فی الأعصار اللاحقة، ومن هنا فإنّ تدوین هذه الکتب یعتبر نقطة البدایة للعصر اللاحق أی عصراحرونیم.

ومن بین الشخصیات المعروفة فی عصر احرونیم یمکن الإشارة إلی داود بن سموئیل هَلوی،(2) شبتای بن مئیر هَکوهن،(3) هارون کیدانوور(4) وسلیمان. جنزفرید(5).(6) ..

ی) عصر إلغاء الاستقلال القضائی للیهود إلی العصر الحاضر

ویشکّل إلغاء الاستقلال القضائی للیهود فی أرض آوارگی، نقطة عطف فیما شهدته الشریعة الیهودیة من تحوّلات کبیرة، وهذا العصر یمکن تقسیمه إلی عدّة أقسام: من أواخر القرن الثامن عشر إلی بدایة القرن العشرین، ومن بدایة القرن العشرین إلی زمان احتلال فلسطین وتأسیس دولة إسرائیل فی عام 1948، ومن استقرار هذه الدولة إلی الآن (7) ..

وکان الیهود إلی ما قبل القرن الثامن عشر یشکّلون شریحة مستقلّة تعیش فی داخل البلدان الأوربیة والمجتمعات البشریة الأخری، ومع ذلک فإنّهم کانوا یتمتّعون فی هذه المجتمعات باستقلال قضائی نسبی وخاصّة فیما یتعلّق بالموضوعات والأمور المدنیة وکذلک إجراء بعض العقوبات فیما یتّصل بهم.

ومنذ القرن الثامن عشر ومع طرح نظریة «تساوی جمیع أفراد البشر فی الحقوق بدون النظر إلی اختلافهم فی القومیات والمذاهب و ...» التی سادت فی اروبا، فقد حصل الیهود علی حرّیة أکثر، وهذه الحریة کانت لها معطیات وآثار إیجابیة علی الیهود، فمن جهة ألغت الحکومات الأوربیة الاستقلال القضائی للیهود الذی کان موجوداً إلی ذلک الوقت، لأنّ من لوزام تساوی الأفراد أن یعیش جمیع المواطنین فی شکاواهم ومسائلهم القضائیة علی أساس الخضوع لقانون واحد فی المحاکم الرسمیة للدولة. ومن هذه الجهة فقد تمّ منع الیهود من إجراء العقوباب الخاصّة بهم، ومن جهة أخری فإنّ إزالة الحدود والقیود بین شرائح المجتمع جعل من الیهود کسائر المواطنین فی تلک المجتمعات من حیث التعامل وأشکال العلاقات الاجتماعیة بین الأفراد، وهذا الأمر أدّی إلی ضعف الالتزام بالقوانین


1- 1 .ahEaronim
2- 2 .David ben Samuel HaLevi
3- 3 .David ben Samuel HaLevi
4- .Aaron Kaidanover
5- 5 .Solomon Ganzfried
6- 6...،""،EJ . 8- 135. p, 17. v,.
7- 1 .M .E .,op .cit .,321 .

ص: 554

الیهودیة فیما بین الیهود.

إنّ إلغاء الاستقلال القضائی للیهود قد جعل الکثیر من العلماء الیهود یعیشون القلق علی مستقبل شریعتهم، وقد تمّ حصر صلاحیة المراجع الیهودیة فی أکثر المجتمعات الغربیة فی زاویة الحقوق الأُسریة (کالزواج والطلاق).

إنّ ظهور الحرکة الصهیونیة فی بدایات القرن العشرین أدّی إلی تأسیس مؤسّسات خاصّة بالیهود فی موسکو والأراضی الفلسطینیة والعودة إلی الشریعة الیهودیة بعنوانها رکناً حیویاً من أرکان حیاة الیهود. منذ ذلک الوقت کانت مسألة تلفیق الحقوق الشرعیة والقواعد العرفیة مورد بحث ومناقشة وسجال بین علماء الیهود، واستمرّ هذا السجال لحدّ الآن فی إسرائیل.

وفی عام 1921 تشکّلت المحکمة الحاخامیة العلیا فی أرض فلسطین. وتتولّی هذه المحکمة مضافاً إلی الإشراف علی محاکم الحاخامات، الإهتمام بالموضوعات التی تتّصل بالأحوال الشخصیة من قبیل أحکام الزواج والطلاق والوصیة وما إلی ذلک، وتتولّی أیضاً مهمّة وضع المقرّرات الجدیدة.

وإلی جانب المحاکم الحاخامیة أو المحاکم الشرعیة، فهناک المحاکم العمومیة أیضاً، وتتولّی هذه المحاکم أمر الفصل فی الخصومات التی ترتبط بالأحوال الشخصیة علی أساس القوانین الیهودیة إلّا فی صورة أن یکون هناک قانون فی الدولة یعیّن بصراحة الحکم لذلک الموضوع الخاصّ.

ویعمل جهاز التقنین فی إسرائیل بالنسبة للقوانین المتعلّقة بالحقوق المالیة وخاصّة بالعقوبات الجزائیة علی أساس الضوابط العرفیة، حیث لا تتطابق الضمانات الإجرائیة المقرّرة فی قوانین هذا البلد مع القوانین التقلیدیة للیهود(1) ..

کان هذا موجزاً عن عصور شریعة الیهود مع کلّ المتغیّرات الحاصلة فی هذه الشریعة علی طول مسار التاریخ، وضمناً لا ینبغی الغفلة عن التفاوت الموجود بین المجتمعات الیهودیة وبین الحرکة الصهیونیة، لأنّ الصهاینة یمثّلون مجموعة سیاسیة استعماریة لا تلتزم بأیّ شی ء من أحکام الدین الیهودی، وغالباً ما یقف الیهود الذین یعیشون فی الکثیر من بلدان العالم وحتّی فی البلدان الإسلامیة، موقفاً سلبیاً من الحرکة الصهیونیة فیما تعکسه من أعمال ونشاطات استعماریة مخالفة لمبادی ء الدین السماوی.

المقالة الثانیة: منابع شریعة الیهود

اشارة

بالإمکان مطالعة منابع شریعة الیهود من جهتین،

1- المنابع المکتوبة

اشارة

والمقصود من المنابع المکتوبة للشریعة، هی المنابع والمصادر المعتبرة والمکتوبة علی شکل قوانین وأحکام شرعیة.

وفی هذه المقالة نستعرض المنابع المکتوبة التی تتمتّع بأهمیّة خاصّة فی الشریعة الیهودیة، وفی المقالة اللاحقة نتحرّک من موقع التحقیق فی کیفیة الاستنباط من منابع الاستنباط.


1- 2 .M .E .,op .cit .,p .931 - 15 .

ص: 555

أ) التوراة
اشارة

یعتبر الکتاب المقدّس العبرانی للیهود مصدر حجّیة واعتبار النظام الشرعیّ والحقوقیّ للیهود بأجمعه، وأیضاً یعتبر أوّل وأهمّ مصدر مدوّن لهذه الشریعة، وهذا الکتاب الذی یطلق علیه الیهود «العهد» أو «تنخ» یسمّیه المسیحیون ب «العهد القدیم» یتشکّل من ثلاثة أقسام: «التوراة»، کتب الأنبیاء (نِویئیم)، ومدوّنات (کِتوویم). وأمّا ما یتّسم بأهمیّة أکثر فی هذا البحث فهو کتاب التوراة، لأنّ قوانین وأحکام الشریعة الیهودیة مقتبسة من التوراة غالباً، وتعتبر سائر الکتب المقدّسة العبرانیة الأخری ذات طابع تاریخیّ أو وعظیّ.

الأوّل: أسفار التوراة

إنّ مفردة التوراة (بالعبریة: تورا(1)) تأتی بمعنی «التعالیم» وقد کان یطلق علی ذلک فی قدیم الأیّام «قانون» أو «شریعة» والتی هی ترجمة غیر صحیحة لهذه المفردة، وهذا الخطأ فی الترجمة نشأ من الترجمة الیونانیة للکتاب المقدّس، وفی القرن الثالث قبل المیلاد طلب سبعون شخصاً من المترجمین من ملک مصر أن تترجم التوراة من العبریة إلی الیونانیة، وقد عرفت هذه الترجمة ب «السبعینیة» نسبة لعدد المترجمین، وفی هذه الترجمة تمّت ترجمة کلمة «تورا» ب «somon» بمعنی (القانون/ الشریعة) وتبعاً لذلک فقد ترجمت هذه الکلمة فی اللاتینیة ب «xeL» وأصبحت هی السائدة(2).

وعلی الرغم من ذلک فإنّ معنی التوراة بقی علی هذا المعنی بعد ذلک ویقصد به «الشریعة».

وتأتی کلمة توراة بعدّة معانٍ:

1. المعنی العام لهذه الکلمة ویشمل جمیع التعالیم والأعراف والسنن الیهودیة.

2. وأحیاناً یراد منها مجموعة الشریعة المدوّنة والشریعة الشفهیة للتوراة.

3. وأحیاناً یراد منها ما یشمل جمیع الکتاب المقدّس العبرانی (تَنَخ).

4. وتستعمل التوراة بالمعنی الخاصّ لهذه الکلمة وهو عبارة عن الکتب الخمسة لموسی والتی تسمّی بالأسفار الخمسة (وبالیونانیة:hcutatneP ) وفی بحثنا الحاضر نقصد بالتوراة هذا المعنی الخاصّ، وهذه الکتب الخمسة للتوراة عبارة عن: سفر التکوین، سفر الخروج، سفر لاویان، سفر الأعداد وسفر التثنیة.

1/ 1) سفر التکوین: وهذ السفر الذی یسمّی بالعبریة «بِرِشیت»(3) بمعنی «فی البدایة»(4) حیث یبدأ بحکایة کیفیة خلق العالم والإنسان، وکیف أنّ اللَّه تعالی خلق آدم علی صورته ثمّ أسکنه وزوجته حوّاء جنّة عدن، ولکنّه عصی وطرد من الجنّة.

ویتضمّن هذا السفر قصّة حیاة آدم وأولاده، قصة نوح، إبراهیم، إسحاق، یعقوب وأولاده وهم آباء الأسباط الإثنی عشر لبنی اسرائیل، و یشمل هذا السفر خمسین باباً وینتهی الباب الخمسون بقصّة موت یوسف فی مصر، فی عام 1600 ق م.

وبما أنّ مواضیع هذا السفر تاریخیة وتتحدّث عن عصر ما قبل شریعة موسی، ولذلک فقلّما یرجع إلیها فی باب الأحکام والشریعة، ومع ذلک یستقی علماء الیهود


1- 1 .torah
2- 2 .J .U .,"Torah ",Harper's Bible Dictionary ,p .3801 .
3- 3 .Bereshit
4- هذه الکلمة مقتبسة من أول هذا السفر: فی بدایة خلق اللَّه السماوات والأرض».

ص: 556

أحیاناً بعض الأحکام الشرعیة منها، علی سبیل المثال ورد المنع من القتل وسفک الدماء فی الباب التاسع من هذا السفر، حیث یقول: «فسافک دم الإنسان یحکم علیه بسفک دمه، لأنّ اللَّه خلق الإنسان علی صورته» (سفر التکوین 9: 6).

ومن جهة أخری فإنّ صلحاء بنی اسرائیل فی هذا السفر یرتکبون أحیاناً بعض الأعمال التی ورد تحریمها بعد ذلک فی شریعة موسی، ولکن لم یکن هناک نهی عن فعلها فی ذلک الوقت أی فی زمن ارتکابها، علی سبیل المثال مسألة زواج إبراهیم من أخته غیر الشقیقة (سفر التکوین 20: 12، خلافاً للحکم الوارد فی لاویان 18: 9)؛ وکذلک ما ورد فی سفر التکوین من زواج یعقوب من أُختین (سفر التکوین 29: 21 فصاعداً، خلافاً لسفر لاویان 18: 18).

2/ 1) سفر الخروج: یبدأ هذا السفر بروایة ولادة موسی، بعد أربعمائة عام من موت یوسف تقریباً، ثمّ یستعرض حوادث بعثة موسی وکیفیة خروج بنی إسرائیل من مصر. وبعد ثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، توجّه موسی إلی جبل سیناء واستلم وحی التوراة وفیها الوصایا العشر المشهورة وهی:

- أنا هو ربّ.

- لا یکن لک آلهة أخری سوای.

- لا تذکر اسم اللَّه بالباطل.

- احترم یوم السبت.

- احترم والدک ووالدتک.

- لا تقتل.

- لا تزن.

- لا تسرق.

- لا تشهد زوراً علی جارک.

- لا تشته بیت جارک، ولا زوجته ....

(سفر الخروج 20: 2. 17؛ سفر التثنیة 5: 6. 21).

إنّ هذه الوصایا العشرة قد وردت مرّة أخری فی سفر الخروج وسفر التثنیة بشکل کامل مع ذکرها بصورة متناثرة فی جمیع فصول وأبواب التوراة، وهذه الوصایا تعتبر أساس وبدایة الشریعة الیهودیة، وبعد هذه الوصایا العشر وردت بعض الأحکام الشرعیة فی أبواب مختلفة من هذا السفر (الباب 20 إلی 23)، وخاصّة ما یتضمّن المسائل الحقوقیة من قبیل القوانین التی تتّصل بمسألة القتل، الاختطاف، إهانة الأب والام، الضرب والجرح، الإجهاض، السرقة، التصرّف فی مال الغیر، الخیانة فی الأمانة، الزنا، السحر، مواقعة الحیوان، عبادة الأصنام، الربا، عدم العدل فی المحکمة، شهادة الزور، الرشوة و ....

ویسمّی هذا السفر بالعبریة ب «شِموت»(1) أی (الأسماء) وهذه الکلمة مأخوذة من أوّل آیة من هذا السفر.

3/ 1) سفر لاویان: وقد سمّی هذا السفر بهذا الإسم لأنّه یتضمن الأحکام التی تتّصل بالکهنة من أسرة لاوی، وتتحدّث الأبواب الأولی من هذا السفر عن کیفیة الأضحیة وتقدیم القرابین لغفران الذنوب وخاصّة ذنوب الکهنة، وکذلک وردت فیه أحکام الأطعمة، والطاهر، والنجس، ویوم السبت (شباک) و ... ویطلق علی هذا السفر بالعبربة «وَییقرا»(2) المأخوذة من الکلمة الأولی من هذا السفر. والأحکام الشرعیة المهمّة فی


1- 1 .Shemot
2- 2 .va - Yikra

ص: 557

هذا السفر مذکورة فی أبواب خمسة 5، 18 إلی 21، 24 وإلی 25 و 27 التی تتحدّث بصورة خاصّة عن الجرائم الجنسیة، والسرقة، والقسم الکاذب، والغصب وعدم العدل فی القضاء، والسحر، والکفر، والقتل، وأنواع الجراحات البدنیة، والوقف.

4/ 1) سفر الأعداد: ویتحدّث عن واقعة «التیه» لبنی اسرائیل فی سیناء وإحصاء عدد بنی اسرائیل والأعیاد والقرابین وبعض الأحکام الشرعیة والحقوقیة أیضاً. ویسمّی هذا السفر فی العبریة ب «بَمیدبار»(1) أی (الصحراء)، وهذه الکلمة مقتبسة من الآیة الأولی من هذا السفر. وأمّا المواضیع الحقوقیة فی هذا السفر فقد وردت فی الأبواب 5، 6، 27، 35 و 36. وبعض الأحکام الحقوقیة لهذا السفر عبارة عن: تعویض الخسارة وکذلک التحکیم الإلهی (اردالی) بالنسبة للنساء اللاتی یحتمل فی سلوکهنّ ارتکاب الزنا، والقتل العمدیّ وغیر العمدیّ، وعقوبة القتل، والمدن التی تعتبر ملجأً للیهود، وأحکام المنذورات والنذر، والإرث، وما إلی ذلک.

5/ 1) سفر التثنیة: وقد تکرّرت الأحکام السابقة فی هذا السفر أیضاً ویتحدّث هذا السفر أیضاً عن تاریخ بنی اسرائیل إلی وفاة موسی. ویسمّی باللغة العبریة «دِواریم ،(2) وتعنی «الکلام» وهی الکلمة المذکورة فی الآیة الأولی من هذا السفر. ووردت أحکام شرعیة فی هذا السفر کثیرة وخاصّة فی الأبواب 15 إلی 25.

وبعض هذه الأحکام الحقوقیة المذکورة فی هذا السفر عبارة عن: آداب القضاء، مدن الملجأ ومقرّراتها، عقوبة عبادة الأصنام، شروط الشهادة فی المحکمة، إجراء القسامة فی صورة العثور علی مقتول لم یعلم قاتله، عقوبة الإبن المعاند والمتمرّد، وکیفیة صلب المجرم، والقوانین التی تتّصل بالجرائم الجنسیة، وعقوبة الجلد، والحیوانات المحلّلة، سند الانفصال، وأحکام النکاح والطلاق وغیر ذلک.

الثانی: التوراة والقوانین المعاصرة لها

إذا نظرنا إلی الیهودیة من زاویة کونها «نظاماً حقوقیاً» فلا بأس بإلقاء نظرة علی الأنظمة الحقوقیة المعاصرة لها والتی کانت سائدة فی تلک الأجواء فی البلدان المجاورة. فقد ظهرت الیهودیة بتاریخ 1300 ق م، فی المنطقة التی تسمّی الشرق الأدنی أو حضارة ما بین النهرین، حیث کانت هذه الحضارات تملک قوانین ومقرّرات مهمّة. وأقدم قانون عثر علیه عبارة عن قانون اورنَمو(3) وهو مجموعة من القوانین السومریّة المتعلّقة بعام 2100 قبل المیلاد. والقوانین الأخری لهذه المنطقة عبارة عن قوانین اشنونا(4) (قبل 1900 ق م تقریباً) فی أکد، وقوانینِ لیبیت عشتار(5) (قبل 1900 ق م تقریباً) فی سومر، وقوانین حیتی (قبل حدود 1600 ق م تقریباً). ومع ذلک فإنّ قانون حمورابی ملک بابل، یعتبر بلا شکّ أهمّ هذه القوانین الذی یعود تاریخه إلی 1800 ق م. ویتشکّل هذا القانون من 282 مادّة (مضافاً إلی المقدّمة والمؤخّرة) وأهمّ المواضیع المطروحة فیه عبارة عن: شهادة الزور والقضاء الفاسد (المواد من 1 إلی 5)؛ والسرقة والاختطاف (من 6 إلی 25)؛ والقوانین


1- 1 .Bamidbar
2- 2 .Devarim
3- 3 .Urnammu
4- 4 .Eshnunna
5- 5 .Lipit Ishtar

ص: 558

المتعلّقة بالأموال (26- 126)؛ الخیانة فی الأمانة (112) والقوانین التی تتّصل بالأسرة والزنا بالمحارم والافتراء علی المحصنة، والزواج المجدّد، الطلاق، الإرث وغیر ذلک (127- 194)؛ وضرب وجرح الآخرین والأضرار البدنیة بهم (195- 214) و ...(1).

ومن جملة البحوث المطروحة فی العصر الحاضر حول قوانین التوراة هو موضوع منبع هذه القوانین حیث یحتمل تأثّرها بالقوانین والثقافات التی کانت سائدة فی تلک المناطق.

وفی عام 1934 کتب آلبرشت آلت (2) فی مقالة له بعنوان «مصدر الحقوق الإسرائیلیة»(3) من موقع نقد قوانین التوراة علی أساس صیاغتها، حیث یری أنّ کیفیة تدوین قوانین التوراة یخضع لنوعین من الصیاغة والمنهجیة. المقتبسة من نموذجین، الأوّل: القوانین التی أطلق علیها اسم القوانین الموردیة(4) التی تقع صیاغتها بهذا الشکل: «إذا ... سیکون ...»، مثل «إذا ضرب شخص إنساناً وقتله والضارب حتماً یموت» (سفر الخروج، 21: 12). فهذه الصیاغة المتوفّرة فی قوانین الشریعة الیهودیة مقتبسة من القوانین الکنعانیة وبلدان الشرق الأدنی فی ذلک التاریخ، حیث قام بنوإسرائیل بعد الاستیلاء علی هذه المناطق باقتباس هذه القوانین منهم، والغالب صیاغة المواد القانونیة فی منظومة حمورابی أنّها منظمة بهذا الشکل، علی سبیل المثال «إذا سرق شخص مالًا وألقی القبض علیه یجب قتله» (المادّة 22). وأمّا النموذج الآخر فهو عبارة عن قوانین أمریة(5) مثل موادّ الوصایا العشر: «لا تقتل؛ لا تزنِ» وغیر ذلک والتی ذکرت بشکل مطلق ومنجّز، وهذه القوانین تمتدّ فی جذورها إلی التقالید الإسرائیلیة القدیمة(6) ..

إنّ مقالة آلت، قد أحدثت سجالًا ونقاشاً کثیراً وأثارت زوبعة من ردود الفعل وأشکال النقد. حیث قال المخالفون إنّ کلا النحوین من القوانین یمکن العثور علیهما فی المنظومات القانونیة الأخری، ومثل هذا التقسیم وبهذه الدقّة والتحدید لیس له وجود فی الواقع الخارجی. وعلی أیّة حال فإنّ نظریة آلت قد حکم علیها فیما بعد بالبطلان.

والبحث الآخر فی هذا المجال هو: علی فرض إمکان اثبات أنّ القوانین الیهودیة مقتبسة ومتأثّرة بالأجواء الثقافیة فی ذلک الوقت، فهل هناک جهة خاصّة بهذا النظام التشریعی یمتاز بها عن غیره؟ هنا یطرح الموافقون خصوصیّتین أساسیّتین للشریعة الیهودیة:

الخصوصیّة الأولی: إنّ مبنی اعتبار وحجیّة القوانین الواردة فی لائحة قوانین ما بین النهرین تقوم علی أساس صدورها من الملک، وبإرشاد إله العدل (غیر الدینیة) وقد جاء فی مقدّمة ومؤخّرة قوانین حمورابی أنّ هذه القوانین العادلة أقامها حمورابی، «عندما أمرنی مردوک بهدایة الناس إلی طریق الصدق والحقّ، فقرّرت أن أعمل بهذا القانون وأقیم العدل فی الأرض ...»(7) وأمّا


1- انظر: قانون حمورابی، تئوفیل میک، ترجمة کامیار العبدی، ص 19- / 23.
2- 1 .Albrecht Alt
3- 2 .The Origins of Israelite Law
4- 3 .casuistic law
5- 4 .apodictic law
6- 5. Carl S. Ehrlich," Law, Israelite Law", Bruce M. Metzger and Michael D. Coogan) ed.(, The Oxford Companion to the Bible, ) Oxford, New York, 3991(, p. 124- 3 - - تاریخ الحقوق الجزائیة بین النهرین، علی حسین النجفی، الابرند آبادی وحسین البادامچی، ص 27( بالفارسیّة).
7- قانون حمورابی، ص 36.

ص: 559

بالنسبة لقوانین الکتاب المقدّس فإنّ موسی یعتبر واسطة لا أنّه هو المقنّن، وإنّما مصدر قوانین التوراة هو اللَّه تعالی وقد قام موسی بنقل هذه القوانین إلی الناس، ومن هذه الجهة فإنّ قوانین التوراة لها بعد دینی، وعلیه فإنّ الضمانات الإجرائیة فی هذه القوانین لا تنحصر بالجانب الدنیوی فقط.

ومن هنا یتبیّن الفارق الکبیر بین هاتین الطائفتین من القوانین. ففی قوانین التوراة هناک عقوبة الإعدام علی الکثیر من الأعمال التی تتّصل بنقض حکم دینی معیّن، أی الأحکام الناظرة إلی علاقة الإنسان باللَّه تعالی، فی حین أنّ القوانین الأخری تتضمّن ضمانات إجرائیة خاصّة بنقض القوانین التی تتّصل بعلاقة أفراد المجتمع فیما بینهم.

وأحد تجلّیات هذا الفارق المهمّ هو ما یتّصل بالجرائم الجنسیة فی هاتین الطائفتین من القوانین، ففی قانون حمورابی وحتّی قانون حیتی نری أنّ جریمة الزنا بالمحصنة قابلة للعفو والإغماض:

«إذا أمسک الرجل امرأة فی بیته (وواقعها) فالمرأة مجرمة ویجب أن تقتل ... فإذا أعلن زوجها أنّه لا یرضی بقتلها، فإنّه بهذه الطریقة قد أنقذ زوجته». (حمورابی، ش.

129).

«إذا القی القبض علی زوجة رجل مضطجعة مع رجل آخر، فیجب تقییدهما معاً وإلقائهما فی الماء، فإذا أراد الزوج العفو عنها، فیجب علی الملک العفو عن رعیته ...».

(حیتی، ش. 197 و 198)(1).

والسبب فی کون هذا الجرم قابل للعفو فی هذه المنظومة هو أنّ هذا الجرم یمثّل عدوان علی حقوق الزوج فقط، ومن هنا فإنّ هذا الجرم مع عفو الزوج لا یستحقّ العقوبة. ولکن فی دائرة الحقوق الیهودیة فإنّ هذا الجرم بحدّ ذاته یُعدّ ذنباً کبیراً ویستوجب الموت، وعفو الزوج لا یلغی هذه العقوبة لأنّ «هذا العمل معصیةً للَّه» (سفر التکوین، 39: 9).

الخصوصیة الثانیة: ما یتّصل بقیمة الإنسان والنفس وحیاته، فهناک تفاوت أساسیّ بین هاتین الطائفتین من القوانین فی دائرة اعتبار حیاة الإنسان، ففی قوانین التوراة تنحصر عقوبة الإعدام فیما لو تعرّضت حیاة الإنسان وکرامته وعفّته للخطر «من قبیل القتل، الإختطاف، بعض الجرائم الجنسیة» ولکن لم تلحظ هذه العقوبة الثقیلة علی أیّ من الجرائم التی تتّصل بالأموال، بل وضعت عقوبة ما دون ذلک، علی سبیل المثال: دفع تعویضات بعدّة أضعاف المال المسروق، أمّا فی قانون حمورابی، فنری أنّ عقوبة الإعدام قرّرت للجرائم المالیة عدّة مرات، مثل المادة 6 «السرقة من المعبد» و 7 «الخیانة فی الأمانة فی حکم السرقة» وکذلک 9، 10، 21، 22 وغیر ذلک، بل حتّی فی موارد تکون هناک عقوبة مالیة علی بعض أشکال السرقات فإنّ هذه العقوبة ثقیلة جدّاً وبالتالی فإنّ الشخص سیواجه الموت عند عدم تمکنّه من دفع الغرامة الثقیلة.

المادّة 8. إذا سرق شخص بقرة أو خروفاً أو حماراً فإن کان ذلک من متعلّقات المعبد ... أو ... یتعلّق بدائرة حکومیة فیجب علیه أن یدفع ثلاثین ضعفاً لثمنه کغرامة وإن کان یتعلّق بشخص من عامّة الناس، فیجب علیه دفع

عشرة أضعاف قیمته وإن لم یتمکّن السارق دفع الغرامةیجب قتله.


1- انظر: قوانین هیتی ها لهری هافنر، ترجمة( فرناز اکبری الرومنی)، ص 79( بالفارسیّة).

ص: 560

وفی الحقوق الیهودیة فإنّ التحقیق فی الجرائم المالیة من صلاحیات المحکمة المدنیة (المکونة من ثلاثة أشخاص) لا المحکمة الجنائیة (المکونة من 23 شخصاً) وهذا الأمر یبیّن بوضوح الفرق الشاسع بین هاتین الطائفتین من القوانین.

ومن جهة أخری فإنّ قانون حمورابی لم یهتم کثیراً بالجرائم الموجّهة ضدّ الأشخاص، ولاسیّما القتل العمدیّ (1)، ولذلک لا نری أیّ مادّة فی هذا القانون تتحدّث عن القتل العمدی بصراحة. باستثناء مورد واحد ورد فیه الکلام عن ارتکاب القتل فی حکم القتل العمد وأنّ عقوبة القاتل الموت، وذلک فی صورة ما إذا قصّر المعمار أو البنّاء فی عملیة البناء وأدّی ذلک إلی انهیار الجدار وموت صاحب البیت (المادّة 229).

وکذلک بالنسبة لمن ضرب امرأة حامل وأدّی ذلک إلی إسقاط جنینها وموت هذه المرأة أیضاً، فعقوبته الإعدام أیضاً، (المادّة 210)، وهنا نری أیضاً أنّ القاتل نفسه لا یقتل بل تقتل ابنته بدله. أمّا الموارد الأخری فهی ناظرة بشکل أساس إلی القتل غیر العمدیّ الذی یحکم علی القاتل بدفع غرامة مالیة، وحتّی فی صورة القتل فی حکم العمد فإنّ عقوبته لا تکون الإعدام مثل قتل المرأة من عامّة الناس أو الجاریة الحامل (المادة 212 و 214)؛ أو موت العبد بسبب تقصیر البنّاء (المادّة 231) و ...

ومع کلّ ذلک فهناک موارد متشابهة أحیاناً بین قانون التوراة وقانون حمورابی، مثلًا: طبقاً لقانون حمورابی لو أنّ شخصاً اتّهم آخر بارتکاب جریمة قتل کذباً، وجاء بشاهد زور لذلک، فیجب قتله (المادّة 1). ونری فی التوراة أیضاً أنّ عقوبة شاهد الزور هی العقوبة العملیة التی أراد هذا الشخص إثباتها للغیر من خلال ارتکاب الجریمة (سفر التثنیة، 19: 16- 21). إنّ عقوبة شاهد الزور متماثلة مع العقوبة المقرّرة علی الجریمة التی اتّهم بها الغیر فی هاتین المنظومتین من القوانین (وإن کان تفسیر الشریعة الشفهیة لشهادة الزور تختلف فی هذه المسألة).

والمثال الأوضح لذلک من حیث شکل التدوین، ما نراه فی القانون الذی یتّصل بالأضرار التی یخلّفها الثور الهائج، فقد ورد فی قانون حمورابی أنّه:

250. إذا نطح ثور إنساناً حین تردده فی الشارع وقتله، فلا یعترض علیه.

251. إذا کان الثور ناطحاً وأعلمت شوری المدینة صاحب الثور بأنّ هذا الثور ناطح ولکنّه لم یلفّ قرنی ثوره بخرقة، أو لم یربط ثوره بمکان معیّن، ثمّ إنّ هذا الثور نطح شخصاً من طبقة الأشراف وقتله، فیجب علی صاحبه دفع مبلغ نصف میناء فضّة.

252. إذا کان المتوفّی عبداً لشخص فیجب دفع ثلث میناء فضّة لصاحبه.

والملفت للنظر أنّ التوراة ذکرت هذه المسألة الحقوقیة بهذه الصورة أیضاً (رغم وجود اختلاف فی مقدار العقوبة فقط):

«إذا نطح ثور رجلًا أو امرأةً فمات، یُرجم الثور حتّی الموت ولا یأکلون لحمه، ویکون صاحب الثور بریئاً. أمّا إن کان الثور نطّاحاً من قبل، وسبق إنذار صاحبه، فلم یکبحه، فقتل رجلًا أوامرأةً، یرجم الثور، ویُقتل صاحبه.

إلّا إذا طولب بدفع الدیة، فیدفع آنئذٍ فداء نفسه ما هو متوجّب علیه ... وإذا نطح الثور عبداً أو أمةً، فإنّ صاحبه


1- 1 .Carl S .Ehrlich ,op .cit .,p .124 - 3 .

ص: 561

یدفع ثلاثین قطعة فضیّة تعویضاً لمولاه، ویرجم الثور» (سفر الخروج، 21: 28. 32).

إنّ الأجواء الثقافیة والتاریخیة المتماثلة لهذین النظامین الحقوقین یمکنها أن تعیّن الباحثین علی فهم مقصود التوراة فی بعض الموارد المبهمة، والمثال المناسب لذلک ما ورد فی مسألة إسقاط الجنین، فالتوراة ذکرت هذه المسألة فی مورد واحد فقط:

«إن تضارب رجال وصدموا امرأةً حاملًا فأجهضت من غیر أن تتأذّی، یدفع الصادم غرامة بمقتضی ما یطلب به الزوج، ووفقاً لقرار القضاة. أمّا إذا تأذّت المرأة، تأخذ نفساً بنفس، وعیناً بعین، وسنّاً بسنّ، ویداً بید ورجلًا برجل و ...» (سفر الخروج، 21: 22. 25).

وفی الفرض الثانی الذی طرح فی العبارة، أی إذا «حصلت خسارة أخری» یوجد نحو من الإبهام والغموض، فهل أنّ المراد منه الضرر علی الجنین أم علی الامّ؟ فقد وقع نقاش بین علماء الیهود فی هذا المورد وأخیراً تغلّب الرأی الثانی.

وکما قلنا أنّه یمکن الاستفادة من المواد القانونیة فی شریعة حمورابی الواردة فی هذا الموضوع لرفع ذلک الإبهام:

209. إذا ضرب شخص ابنة شخص آخر وأدّی ذلک إلی إسقاط جنینها، فیجب علیه أن یدفع عشر شکل

[/ شِقِل

الفضّة للجنین.

210. إذا ماتت تلک المرأة، فیجب أن تقتل ابنته بدلها.

إنّ ما ورد فی المادة 210 بشکل صریح یؤیّد أنّ المراد من العبارة المذکورة فی التوراة، الضرر علی الامّ أیضاً لا علی الجنین، «أی هو التفسیر الذی وافق علیه أخیراً علماء التلمود».

ومن المسائل الملفتة للنظر عند مطالعة تطبیقیة للمواد القانونیة المذکورة فی التوراة وفی قانون حمورابی هی ما یتّصل بقصاص العضو، فطبقاً لشریعة حمورابی (المادة 196- 200)، إذا أتلف شخص عین شخص آخر أو سِنّه أو عظامه الفردیة فیجب إتلاف هذا العضو من بدنه أیضاً. وجاء فی التوراة أیضاً قصاص العضو بشکل صریح (سفر الخروج، 21: 23- 25)، رغم وجود تفسیر آخر لهذا المورد فی الشریعة الشفهیة.

ب) المیشنا والتلمود

ب) المیشنا والتلمود(1)

إنّ أهم منبع للشریعة الیهودیة بعد التوراة هو المیشنا والتلمود، وهما مجموعة تعلیمات تمّ جمعها من الشریعة الشفهیة، ویعتقد الیهود أنّ هناک توراة أخری أوحیت إلی موسی مضافاً إلی التوراة المکتوبة التی هی الکتب الخمسة لموسی، وهذه التوراة الثانیة کانت بشکل غیر مدوّن ویعمل بها الیهود إلی جانب التوراة المدوّنة ولها نفس ذلک الاعتبار والقیمة التی للتوراة الأولی. ومن ذلک ورد التعبیر عنها بالتوراة الشفهیة.

یقول ابن میمون فی مقدّمة تفسیر المیشنا:

«کلّ

میصوا [

/ حکم

] الذی أنزله اللَّه تعالی علی معلّمنا موسی- سلام علیه- فإنّه أنزله مع شرحه وتفسیره أیضاً.

فقد قال له اللَّه الحکم ثمّ شرحه، ولذلک فإنّ ماهیة وکلّ حکمة فی آیات التوراة أعطیت له»(2) ..


1- سیأتی أنّ« میشنا» عبارة عن ما اوحی إلی موسی من تفسیر وتکمیل للتوراة ولکن بصورة شفویة ولم یدوّن، وفی عام 210 م تمّ جمعها من قِبل أحد علماء الیهود. أمّا« التلمود» فهو مجموعة الرسائل المکتوبة فی تفسیر المیشنا والتی سمیت ب« جمارا» مع متن المیشنا، أی أنّ التلمود هو مجموعة تتضمن المیشنا وشروحها.
2- 1 .Maim .,Introduction to Comm .Mishnah ,ch .1 .

ص: 562

إنّ هذه الفکرة وهی أنّ موسی کان قد ترک توراة شفیهة لتفسیر وإکمال توراته المدوّنة کانت هی الفکرة الغالبة فی الذهنیة الیهودیة وإن کان لها مخالفین من بین الیهود وخاصّة من فرقة الصدوقیین، ومن هنا فبعد تخریب المعبد الثانی علی ید الرومان فی عام 70 م ازدادت فکرة تدوین هذه التعالیم قوّة فی وعی الأحبار، فمن جهة الحجم الکبیر للشریعة الشفهیة، ومن جهة أخری تدمیر المعبد وآثاره وتبعاته السلبیة، (ومن ذلک تفرّق وتشتّت الیهود) عمل علی تعمیق هذه الفکرة وهی أنّ هذا الکمّ من التعالیم سوف یقع فی زاویة النسیان بمرور الزمان، ولا شکّ فی أنّ دروس هیلل وشَمّای فی دائرة تفسیر أحکام التوراة وتعالیمها کانت مؤثّرة فی إلفات نظر کبار الیهود لهذا الأمر.

وأخیراً تمّ تدوین هذه التعالیم من الشریعة الشفویة.

وفی أوائل القرن الثالث للمیلاد (فی 210 م تقریباً) قام أحد علماء الیهود ویسمّی ربّی یهودا هناسی (1) بجمع المدوّنات المتفرّقة والمتناثرة لهلاخای وضمّها وتدوینها فی کتاب واحد فصار للیهود کتاب خاصّ بالتوراة الشفویة الذی یسمی «میشنا» (بمعنی المطالعة، التعالیم، التکرار)، وقد تلّقی الیهود مجموعة هناسی بالقبول وأخذت طریقها إلی جمیع مدارس الیهود وحلّت محلّ جمیع آثار ومدوّنات السابقین. والمیشنا التی هی حصیلة عمل ستّة أجیال من علماء الشریعة الشفویة (تنّائیم)، تتضمّن ستة أقسام، ویقال لکلّ قسم منها سِدِر(2). وکلّ سِدِر یحتوی علی عدد من الرسائل أو مَسِخِت (3). والمیشنا تتکوّن فی مجموعها من 63 رسالة.

وأمّا الاقسام الستّة لمیشنا والرسالات التابعة لها فهی:

ألف) زراعیم (البذور)؛ وهذا القسم یبحث فی المسائل الزراعیة والخبز والصلاة والدعاء وما إلی ذلک، وأمّا الرسائل التابعة لهذا القسم فهی:

1. براخوت (برکات)؛ وتبحث فی آداب الصلاة والدعاء.

2. بئاه (زاویة)؛ وتبحث فی المحاصیل التی تنمو فی زوایا المزارع.

3. دامای (المشکوک)؛ وتبحث فی المحصولات الزراعیة من الشخص الذی یشکّ هل دفع سهم المعبد والکهنة من هذا الناتج أم لا؟

4. کیلاییم (اختلاط)؛ وتبحث حول الأحکام المتعلّقة بزراعة البذور المختلفة سویّة، وکذلک تلقیح الحیوانات المختلفة الجنس.

5. شویعیت (السنة السابعة)؛ وتبحث حول الأحکام المتعلّقة بالسنة السابعة (شمیطا)، حیث لا ینبغی زراعة الأرض فی هذه السنة (سفر لاویان، 25: 3).

6. تروموت (الهدایا)؛ أی أحکام الهدایا التی یجب دفعها للکهنة من المحاصیل الزراعیة.

7. معسروت (العُشر)؛ وهی أحکام العشر من محصول الأرض.

8. معسرشنی (العُشر الثانی)؛ وتبحث فی مقرّرات العُشر فی سفر التثنیة 14: 22- 27.

9. حلا (قرص الخبز)؛ وتبحث فی سهم الکهنة من الخبز.

10. عورلا (عدم الختان)؛ وتبحث فی أحکام ثمار


1- 1 .R .Judah HaNasi
2- 2 .seder
3- 3 .massekhet

ص: 563

الأشجار طیلة السنوات الأربع من بدایة غرسها.

11. بیکوریم (الفصائل)؛ وتبحث فی أحکام البراعم وما ظهر من الثمار التی یجب نقلها إلی المعبد.

ب) الموعد (الأعیاد، والأیّام المعیّنة)؛ وموضوع هذا القسم من الأحکام هو ما یتّصل بأحکام یوم السبت والأعیاد و ...، وأمّا الرسائل التابعة لهذا القسم: 1. شبات (السبت)؛ وتبحث فی أحکام یوم السبت والمحرمات فی هذا الیوم.

2. عرووین (الاختلاط)؛ وتبحث عن الحدود التی لا ینبغی تجاوزها فی لیلة السبت ویومه.

3. بساحیم (أعیاد البسح)؛ أی المقرّرات المتعلّقة بعد البسح وخبز الفطیر.

4. شقالیم (أشکال)؛ وتبحث فی الضرائب السنویة التی یجب دفعها للمعبد.

5. یوما (الیوم)؛ وتبحث حول أحکام یوم الکفّارة.

6. سوکا (المکان المضلّل)؛ وتبحث فی أحکام عید التضلیل.

7. بیصا (البیضة)؛ ویقال لهذه الرسالة یوم طو أو تالعید أیضاً وتبحث فی الأحکام التی تتّصل بالمحرّمات والمباحات فی أیّام الأعیاد المقدّسة.

8. روش هشانا (اوّل السنة)؛ وتبحث فی أحکام أیّام العید من السنة الجدیدة.

9. تعینت (الصوم)؛ وتبحث فی أحکام الصیام العام.

10. مجیلا (طومار)؛ وتتضمّن قراءة من الکتاب المقدّس فی احتفال بوریم.

11. موعد قاطان (العید الصغیر)؛ أحکام وسط أعیاد پسح وسوکوت.

12. حکیکا (أضاحی العید)؛ القرابین التی یجب تقدیمها عند زیارة المعبد فی الأعیاد، للَّه تعالی.

ج) ناشیم (النساء)؛ وهذا القسم یبحث فی أحکام الزواج والطلاق وبعض الأحکام الحقوقیة الأخری.

ورسائل هذا القسم عبارة عن:

1. یواموت (الارمال)؛ وتبحث فی زواج الرجل من أرملة أخیه (انظر: سفر التثنیة، 25: 5- 10).

2. کتوبوت (الاسناد)؛ وتبحث فی أحکام الصداق وعقد الزواج.

3. نداریم (النذور)؛ وتبحث فی أحکام النذور وإبطالها.

4. نازیر (نذیرة)؛ وتبحث الأحکام المتعلّقة بالأشخاص الذین یعیشون حالة الوقایة.

5. سوطا (المنحرف)؛ وتبحث حول المرأة التی یظنّ زوجها أنّها تخونه.

6. جیطین (رسالة الطلاق).

7. قیدوشین (مراسم القدّاس، وخطبة الزواج)؛ وتبحث فی أحکام الزواج.

د) نزیقین (الأضرار والخسائر)؛ وهذا القسم یبحث فی مسائل الحقوق الجزائیة والمدنیة و عقوبة الإعدام و العقوبات البدنیة، وکذلک أحکام المحاکم وإجراء العدالة وتشکیل المحاکم الحاخامیة. ورغم أنّ المسائل الحقوقیة متناثرة فی جمیع أقسام المیشنا إلّاأنّ قسم نزیقین یتعرّض للبحث فی هذه الأمور بشکل أوسع، ورسائل هذا القسم عبارة عن:

1. سنهدرین (المحکمة العلیا)؛ وهذه الرسالة تبحث فی الجرائم التی تستوجب الإعدام وطریقة إجراء هذا الحکم وتیسیر المحاکم والشهادة وإثبات الجرم.

2. مکوت (الجلد)؛ وهذه الرسالة استمرار لرسالة سنهدرین وتبحث فی العقوبات البدنیة والأحکام

ص: 564

المتعلّقة بالجرائم التی توجب الحدّ والجلد، وکذلک فی مدن الملجأ وشهادة الزور.

3. باوا قَما (الباب الأُولی)؛ وهذه الرسالة تبحث بصورة خاصّة فی مسائل الحقوق المدنیة والغرامة النقدیة والسرقة وأمثال ذلک.

4. باوا مِصیعا (الباب الوسطی)؛ وتبحث عن اللقطة، الضمانة، البیع والشراء، الإجارة، الأمانة، القرض وأمثال ذلک. 3

5. باوا بَترا (الباب الأخیر)؛ وهذه الرسالة تبحث عن الأحکام المتعلّقة بالعقارات والإرث والشرکة وأمثال ذلک.

6. شِووعوت (الأیمان)؛ وتبحث هذه الرسالة فی موارد الحلف والقسم فی المحکمة وخِرجها.

7. عدوویوت (الشهادات)؛ وتبحث فی شهادات علماء الیهود حول فتاوی العلماء السابقین.

8. عوودا زارا (عبادة الأصنام)؛ وتبحث فی تقالید عبّاد الأوثان ومنعها.

9. بیرقه آووت (فصول الآباء)؛ وهی رسائل أخلاقیة ومجموعة من مواعظ العلماء.

10. هورایوت (الفتاوی)؛ وتبحث فی الذنوب السهویة لأولیاء الدین.

ه) قُداشیم (المقدّسات)؛ ویبحث هذا القسم فی أمور القرابین والهدایا التی تقدّم للمعبد والضمانة وأمثال ذلک، ورسائل هذا القسم کالتالی:

1. زواحیم (القرابین)؛ أحکام القرابین فی المعبد.

2. مناحوت (الهدایا من الطحین).

3. حولین (الأشیاء غیر المقدسة)؛ أحکام ذبح الحیوانات والطیور وأحکام إطعامها.

4. بخوروت (البکور من الأولاد).

5. عراخین (التقییمات)؛ تقییم الأشخاص والأشیاء المنذورة للمعبد.

6. تمورا (تبدیل)؛ أی أحکام تبدیل الحیوانات المخصّصة للقربان.

7. کریتوت (الانقطاعات)؛ وتبحث فی الذنوب التی عقوبتها الانقطاع (کارِت .

8. معیلا (الخیانة)؛ خیانة المقدّسات وأموال المعبد.

9. تامید (القربان الدائم)؛ آداب العبادة الیومیة فی المبعد.

10. میدوت (الأبعاد)؛ حول التخطیط وأبعاد البناء وأقسام معبد بت همیقداش.

11. قینیم (أوکار الطیور)؛ حول القرابین التی تقدّم من أنواع الطیور.

و) طهاروت (الطهارات)؛ وموضوع هذا القسم یبحث عن الطهارة والنجاسة فی الشریعة:

1. کلیم (الأوانی)؛ تبحث حول طهارة ونجاسة الآنیة واللوازم المنزلیة.

2. اوهالوت (الخیم)؛ حول القبائح التی تظهر فی جسد المیت.

3. نکاعیم (البلایا)؛ الأحکام المتعلّقة بمرض البرص.

4. بارا (البقرة)؛ الأحکام المتعلّقة بالبقرة الحمراء.

5. طهاروت (طهارات)؛ النجاسات الباقیة إلی غروب الشمس.

6. میقوائوت (حوض الغسل)؛ حول الأحواض التی ییغتسل فیها المکلّف للتطهیر.

7. نیدا (فترة الحیض).

ص: 565

8. مخشیرین (المستعدّون)؛ حول السوائل التی تمهّد لقبول النجاسة فی الأشیاء. (سفر لاویان، باب 11 من الآیة 34 فصاعداً).

9. زاویم (الأشخاص الذین یشکون من مرض السلس وعدم القدرة علی إمساک البول).

10. طوول یوم (الغسل فی أثناء الیوم). الأحکام المتعلّقة بالشخص الذی اغتسل ولکنّه لم یتطهّر إلی غروب الشمس بشکل کامل.

11. یادییم (الأیدی)؛ حول نجاسة وطهارة الأیدی.

12. عوقصین (ذیل الفواکه)؛ حول ذیل الفواکه بعنوان أنها تورث القبائح.

***

وبعد مرحلة المیشنا تمّ تدوین رسائل أخری أیضاً لم یعرف مؤلّفوها وجمعت تحت عنوان ملحقات المیشنا (رسائل صغیرة) فی مجموعة التلمود (کما سیأتی توضیحه)(1).

وبعد تکمیل المیشنا عزم علماء الیهود علی تفسیرها. ویطلق علی هؤلاء العلماء کلمة: آمورائیم أو الشرّاح، حیث قاموا بعد تدوین المیشنا (فی 210 م) إلی عام 500 م تقریباً لتفسیر المیشنا وسمّوه «جمارا»(2) بمعنی التکمیل، وقد کتبوا «عنوانین من جمارا» من میشنا أحدهما جمارا فلسطین أو اورشلیم، والآخر جمارا البابلیة التی هی أکثر تفصیلًا من الأولی، ومن تلفیق المیشنا وجمارا برزت مجموعة کبیرة سمّیت فیما بعد ب «تلمود»، بمعنی التعلیم

بسبب اختلاف جمارا، ظهر للیهود تلمودان إثنان أحدهما التلمود البابلی والآخر التلمود الفلسطینی أو الأورشلیمی. والتلمود الفلسطینی مکوّن من 39 رسالة لشرح المیشنا، والتلمود البابلی من 37 رسالة ومع ذلک فإنّ حجم التلمود البابلی یعادل سبعة إلی ثمانیة مرات حجم التلمود الفلسطینی. وتختلف الرسائل فی شرح المیشنا فی هذین التلمودین، فبعض الرسائل شرحت کلا التلمودین، والبعض الآخر أحدهما، وثالث لیس فیه أی جمارا. وفی التلمود البابلی یختصّ ثلث من متونه بالمیدراش، وأمّا التلمود الأورشلیمی فهو سدس المیدراش. وفی فلسطین تشکّلت مجموعات من المیدراش منفصلة عن بعضها، ولکن فی بابل انظمّت جمیعها فی التلمود، ومن هنا صار التلمود البابلی أوسع وأضخم من التلمود الأورشلیمی.

إنّ تدوین التلمود الأورشلیمی کان فی عام 400 م تقریباً والتلمود البابلی فی عام 500 م تقریباً(3) ..

ج) بارَیتا.
اشارة

ج) بارَیتا(4).

فی عصر تنّائیم (5) کانت هناک مدوّنات أخری غیر المیشنا فی مجال هلاخا، وأحیاناً یقال لها بارَیتا (وهو اصطلاح خاصّ للمواضیع التی لم ترد فی المیشنا ولکن آمورائیم (الشرّاح) قد ذکروها فی التلمود) ومن بین مجموعة الباریتا هناک مجموعتان یحظیان بأهمّیة أکثر


1- وللمزید من الاطلاع علی أقسام ورسائل المیشنا انظر:. Adin Steinsaltz, The Talmud, The Esteinsaltz Edition, A Reference Guide, pp. 73- 74 - - کذلک: کنوز من تلمود، ص 15- 20.
2- 1 .gemara
3- 2 .Judith Z .Abrams ,A Beginner's Giude to the Steinsaltz Talmud ,p .2 - 3 .
4- 3 .baraita
5- أحد عصور الشریعة الیهودیة والذی یسمی أیضاً عصر الشریعة الشفویةأو المیشنا.

ص: 566

وهما توسفتا(1) ومیدراش هلاخایی. وهاتان المجموعتان بما أنّهما تقعان خارج المیشنا وتتضمّنان أحیاناً نظرات مخالفة للمیشنا، فلا اعتبار لهما فی دائرة المنابع الرسمیة:

الاوّل. میدراش هلاخای

میدرشة هلاخا(2) أو میدراش هلاخای کلمة تطلق علی مجموعة الشروح والتوضیحات للمعلّمین (تناها) علی أربعة أسفار من الأسفار الخمسة. وهذه المیدراشات وجدت من خلال استنتاج هلاخا (الشریعة) من التوراة، وبالرغم من أنّها تحوی أحیاناً علی اجادا(3) أیضاً. وبما أنّه لا یوجد فی سفر التکوین هلاخا وقانون، فإنّ میدراشات هلاخایی بحثت فی أربعة أسفار فقط: سفر الخروج، لاویان، الأعداد والتثنیة. وأشهر هذه المیدراشات عبارة عن: مِخیلتا، من ربّی ایشماعل بن الیشاع (4) علی سفر الخروج؛ سیفرا(5). علی سفر لاویان؛ سیفره (6) علی سفر الأعداد؛ و سیفره علی سفر التثنیة. وهذه المیدراشات تمّ تدوینها فی الغالب فی القرنین الثانی والثالث المیلادیین، بالتزامن مع المیشنا(7) ..

الثانی. توسفتا

وکلمة توسفتا (فی اللغة: «إضافی»، «ضمیمة») هی مجموعة من باریتایات العلماء المعاصرین للمیشنا (تنّائیم). وتوسفتا مثل میشنا تتألف من ستّة أقسام (وتسمی بهذه الأسماء). وکلّ قسم منها مثل أقسام المیشنا، ینقسم إلی رسائل والرسائل بدورها تنقسم إلی فصول والفصول إلی هلاخا بالشکل والترتیب الوارد فی المیشنا بأسمائها، وکلّ رسالة فی المیشنا لها رسالة مشابهة فی توسفتا (باستثناء بعض الموارد القلیلة). ومع ذلک فإنّ توسفتا أضخم من المیشنا بأربعة أضعاف تقریباً.

ویمکن تصویر الرابطة والعلاقة بین باریتا توسفتا وهلاخا المیشنا بأحد هذه العلاقات الخمس:

1. باریتا توسفتا تکون بشکل موازٍ ومشابه لهلاخا المیشنا تماماً.

2. باریتا مشابهة وموازیة لهلاخا ولکنّها تختلف فی حدود السیاق والمصطلحات.

3. إنّ باریتا ترتبط بشکل کامل مع هلاخا. ولکنّها تضیف قضایا وموضوعات جدیدة لها.

4. إنّ باریتا تتضمّن موضوعات جدیدة ترتبط بشکل أو بآخر مع الموضوعات المبحوثة فی الهلاخا.

5. إنّ باریتا تتضمّن بحوثاً جدیدة تماماً وتبحث حول الموضوعات والعناوین التی لم تبحث فی المیشنا أو تمّت الإشارة إلیها بشکل غیر مباشر.

إنّ توسفتا مثل المیشنا هی فی الأصل مجموعة من الهلاخا ولیست فیها اجادا (بحوث من غیر الشریعة)(8).


1- 1 .Tosefta
2- 2 .midreshei halakhah
3- « اجادا» یقصد به ذلک القسم من التعالیم الدینیة للیهود الذی یشمل التاریخ والمُثل الأخلاقیة والعبر والبحوث والنظریات الفلسفیة والکلامیة. ویقع فی مقابل« هلاخا» بمعنی الشریعة.
4- 4 .R .Ishmael ben Elisha
5- 5 .Sifra
6- 6 .Sifrei
7- 7 .M .D .H .,"Midreshei Halakhah ",EJ .,v .11 ,p .1251 - 3 .
8- 8 .M .D .H .,"Tosefta ",EJ .,v .51 ,p .3821 - 5 ;B .D .V .,"Baraita ",EJ .,v .4 ,p .981 - 39 .

ص: 567

وأمّا ما یتعلّق بتفاصیل توسفتا، وکتّابها، والزمان الدقیق لتدوینها ونسبتها إلی المیشنا، والمجامیع الأخری من الهلاخا، فهناک بحوث مفصّلة لایسع هذاالمختصر لبیانها.

د) المنابع المکتوبة للشریعة الیهودیة فی عصر ما بعد التلمود
اشارة

بعد إکمال التلمود تحرّک علماء الیهود علی مستوی البحث والتحقیق فی ثلاثة فروع مهمّة من الحقوق الیهودیة، وهی: الشروح والهوامش، مجموعة الفتاوی، لائحة القانون.

إنّ شروح (پروشیم)(1) هی حصیلة عمل المحقّقین لغرض تبیین المنابع المدوّنة الأقدم للشریعة الیهودیة للحصول علی فهم واضح ومیسّر لها. والشرح الکلاسیکی المعروف للتلمود عبارة عن ما کتبه ربّی سلیمان بن إسحاق المعروف ب «راشی» علی التلمود البابلی (فی القرن 11). حیث یعتبر القرن الحادی عشر نقطة الذروة فی شرح التلمود البابلی (ویعود تاریخ کتابة الشروح علی التلمود الأورشلیمی منذ القرن السادس عشر فصاعداً).

وقد قام المحقّقون بمطالعة الهوامش المختلفة (نوولّی (2) أو حیدوشیم (3)) ومقارنتها بالمنابع والمصادر. المتوفّرة وحلّ ما یظهر من تضادّ وتباین داخلی فی کلمات التلمود. وبالتالی ظهرت من هذا العمل هلاخات وتفاسیر جدیدة. نوولّی الکلاسیکی علی التلمود عبارة عمّا کتبه المحشّون علی التلمود البابلی فیما بین القرنین 12 و 13 المعروف (بتوسافوت). وقد استمرّ عصر کتابة الشروح (نوولّی) بعد الشروح المذکورة فی القرن الحادی عشر فصاعداً إلی زماننا الحاضر.

أمّا مجموعة فتاوی (شِئِلوت او تشووت)(4) فهی عبارة عن أجوبة علماء الیهود عن الأسئلة الشرعیة للیهود. وقد طرحت هذه المسائل فی عدّة صور لدی العلماء البارزین ومن لهم صلاحیة الهلاخا. فأحیاناً یتقدّم القضاة (دیّانیم)(5) بطرح استفتاء من علماء الهلاخا عندما یواجهون المشکلة فی التوصّل لحلّ بعض أشکال الخصومات، وأحیاناً أخری تنشأ هذه المسائل من خلال مواجهة الفرد للمجتمع أو حدوث مواجهة بین مجتمعین مختلفین، ففی هذه الفتاوی یعرض العلماء المقرّرات القانونیة فی المسائل الخاصّة التی تبرز علی السطح فی عملیة التفاعل الاجتماعی، ومن هنا فإنّ الفتوی تعتبر المحور الأصلی للتحوّل والتطوّر فی الشریعة الیهودیة فی مرحلة ما بعد التلمود، والفتاوی تتمیّز بشکل قضائی (6) ونظام شرعیّ للیهود وتشمل ثلاثمائة ألف حکم تقریباً.

ومن أکثر المنابع المدوّنة للشریعة الیهودیة فی مرحلة ما بعد التلمود هی رسائل ولوائح القانون. وفی هذا المجال هناک مدوّنات ملفتة للنظر تعتبر الآن من المنابع الأصلیة للحقوق الیهودیة، ومن أهمّ هذه المدوّنات ما نستعرضه هنا باختصار:

الأوّل: مدوّنات عصر الکائونی

إنّ أوّل من تحرّک علی مستوی شرح القوانین


1- 1 .perushim
2- 2 .novellae
3- 3 .hiddushim
4- 4 .she'elot u - teshuvot
5- 5 .dayyanim
6- 6 .case law

ص: 568

والأحکام فی مرحلة ما بعد التلمود هم العلماء الکائونیین. فهؤلاء مضافاً إلی تألیفهم لمجموعات من الفتاوی، کانوا أوّل من جمع مجامیع الهلاخات ودوّنوها بشکل وترتیب منطقیّ فی إطار نتائج البحوث التلمودیة.

ومن أوائل المدوّنات التی تمّ تدوینها بهذا الشکل هو سِفِر هشئیلوت من تألیف «راواحای کائون» فی منتصف القرن الثامن. وقد کان هذا عالماً بارزاً فی بابل، وقد أقدم علی ترتیب مواضیع هذا الکتاب فی 191 مقالًا علی أساس أقسام التوراة التی کانت تقرأ فی الکنیسة، وسعی لبیان أحکام التوراة بالنظر لما ورد فی التلمود والهلاخات الأخری. وفی هذا الوقت قام یهودای بن نحمان بتألیف کتاب هلاخوت بسوقوت الذی یعتبر أقدم نموذج کلاسیکی (کتب الهلاخوت) (الهلاخات) وبعد عدّة عقود وفی أوائل القرن التاسع قام ربّی شمعون قایرا بتألیف کتاب آخر هلاخوت جدولوت وسعی فیه لتنظیم أحکام الشریعة الیهودیة علی أساس موضوعی واتّخاذ الرأی فیها، وفی أوائل القرن الحادی عشر ظهرت لوائح قانونیة أیضاً شاملة(1).

الثانی: الفاسی

لا شکّ فی أنّ أهمّ مرحلة فی تدوین القانون فی الشریعة الیهودیة هی ما یسمّی بعصر ریشونیم (القرن 11- 16). حیث تمّ تدوین أهمّ المدوّنات فی دائرة الشریعة الیهودیة فی هذا العصر. وکانت بدایة ظهور المدوّنات، ما کتبه إسحاق (من أهالی فاس فی شمال أفریقیا)، المعروف بالفاسی فقد کتب کتابه المعروف وتابع فی ترتیبه ما ورد فی تبویب التلمود، ولکنّه أحیاناً یقوم بحذف الاستدلالات التی تفضی إلی رأی شرعی. و قد طرح الفاسی مقولة أحد العلماء علی أساس أنّها المعیار والقاعدة الشرعیة للأحکام، (هلاخا/ القاعدة الشرعیة). ویبیّن من خلال عدم التفاته إلی الرأی الغالب، أنّه لا علاقة له بالاستماع إلی ذلک الرأی (2).

الثالث: راشی وتوسافوت

وقد قام سلیمان بن إسحاق المعروف بالراشی فی القرن الحادی عشر المیلادی بکتابة شرح علی التلمود کان فی غایة الأهمّیة فیما بعد، وقد کان سلیمان بن إسحاق من أهل فرنسا، وکان یعیش فی وقت شاعت فیه الدراسات التی تدور حول التلمود بعد الافول الذی حصل فی هذا المجال فی بابل، وقد صارت شروحه وتوضیحاته التی کان یبیّنها فی دروسه أساساً مهمّاً لشرح عظیم للتلمود. «ویبتنی شرحه للتلمود علی الملاحظات الأولیة من آثار مدرسة ربّی جرشوم، والتی تعتبر حصیلة علمه الواسع وفی مختلف الأبعاد فی المدوّنات التلمودیة، وعمق اطّلاعه علی مشاکل تلامیذه الفکریة وبیانه القویّ»(3). وقد أظهر فی هذا الکتاب ماهیّة وکیفیة عمل الاستدلالات التلمودیة، إنّ کتاب راشی فی ذلک الزمان کان کتاباً للتدریس، حیث کان یدرّس إلی جانب التلمود، بحیث کان یتولّی حلّ تعقیدات وأسرار التلمود عملًا، إنّ هذا الکتاب الذی


1- مبانی حقوق الیهود لدیوید ام. فلدمن؛ العدالة الجزائیة فی الدیانة الیهودیة لحسین السلیمانی، ص 94 و 95؛. M. E.," Codification of Law", EJ., v. 5, p. 436.
2- مبانی حقوق الیهود، ص 95.
3- المصدر السابق، ص 96.

ص: 569

سمّی قونطروس (أی الشرح) طبع فی هامش متن التلمود، وفی ذلک الوقت وبعد انتشار کتاب راشی ظهرت مجموعة من العلماء الفرنسیین والألمانیین فیما بین القرن 12 إلی 14 م وقاموا بتدوین مجموعة عظیمة من شروح التلمود البابلی، حیث طبعت معانی التلمود إلی جانب کمارا (تفسیر المیشنا). وهذه الشروح سمّیت توسافوت (بمعنی الضمائم) وتمتدّ فی جذورها إلی کتاب الراشی، وکان نقطة البدایة فی توسافوت هو حفید الراشی، الذی یدعی ربنوتام (ربّی یعقوب بن میئر من أهالی رومرو). وهکذا أصبحت توسافوت أعلی من کونها شرحاً محضاً. وفیما یخصّ التقابل بین الراشی وتوسافوت أنّ ربنو تام «کان یلتذّ بإیجاد الأسئلة وخلق شبهات وعلامات استفهام دقیقة علی التوضیحات والمقترحات البدیعة ... ومع ذلک فمن الخطأ أن نتصور أنّ توسافوت لا تمثّل شیئاً سوی المیل للجدل أو الرغبة الجامحة فی النقاش ... إنّ کتّاب توسافوت کانوا یتحرّکون قبل راشی علی مستوی فهم معانی الهلاخا ... وبالتالی کشف القیاسات التی تیسّر لهم حلّ المسائل الجدیدة»(1) ..

والجدیر بالذکر أنّ جمیع الطبعات المتداولة للتلمود تتضمّن فی هامش المتن، شروح الراشی إلی جانب توسافوت.

الرابع: میشنه تورا

وفی الوقت الذی کان فیه الشرّاح الأوربیون یهتمّون بشرح وتفسیر التلمود، کان هناک فراغ فی وجود لائحة قانونیة دقیقة ومنظّمة بعد الفاسی، فقام أحد خلفاء الفاسی، الذی کان تلمیذ تلمیذه وهو موسی بن میمون، المعروف ب «رامبام»(2) (1204 1135)، من أهالی قرطبة فی اسبانیا، بالتصدّی لهذا الأمر المهمّ، وقد سمّی کتابه ب «میشنه تورا» الذی یعتبر أکبر کتاب للهلاخات.

وقد ألّف کتابه هذا وسمّاه بهذا الاسم بمعنی «التوراة الثانیة» وکما یقول ابن میمون فی مقدّمة هذا الکتاب «إذا قرأ شخص الشریعة المدوّنة ثمّ قرأ هذا الکتاب، فسوف یتعلّم جمیع ما ورد فی الشریعة الشفویة ولا یحتاج بعدها للرجوع لکتاب آخر» وقد کتب هذا الکتاب بأسلوب سهل وبشکل منظّم بحیث یستوعب جمیع الأقسام الأربعة عشر الأصلیة للشریعة التلمودیة (نظراً لأنّ النظام العددی لهم هو أربعة عشر التی تساوق یَد، من هنا اشتهر الکتاب بأنّه: یَد هحزاقا،(3) أی «الید القویة»، ونظّم هذا الکتاب وسیاقه علی أساس الجزمیة وبعیداً عن الاستدلال والبحث فی التفاصیل، لأنّ غرضه کان تدوین کتاب مرشد مختصر وکامل لفهم التلمود، ومع ذلک فالنقطة التی أثارت مشکلة فی هذا الکتاب هی أنّه لا یتضمّن آراء العلماء الفرنسیین والألمانیین. وهذا العمل أثار ضدّه انتقادات عدیدة، ومن جملة المنتقدین له إبراهیم بن داود من أهالی فرنسا الذی کتب إشکالاته وانتقاداته فی هامش کتاب ابن میمون. وقد سعی الکثیر من العلماء فی عصر ابن میمون أو بعده للتخفیف من نواقص هذا الکتاب، ومن ذلک أنّه لم یذکر المصادر التی رجع إلیها، و من هنا فإنّ آراء العلماء الفرنسیین والألمانیین بإمکانهم حلّ


1- 1 .M .Libel ,Rashi (Philadelphia ,6291 );. نقلًا عن: مبانی حقوق الیهود، ص 97 و 98.
2- 2 .Rambam
3- 3 .Yad HaHazakah

ص: 570

إشکالات ابن داود و ...، وبالرغم من کلّ ذلک فإنّ هذا الکتاب مع الشروح والإضافات التی اضیفت إلیه؛ یعتبر کتاباً فی غایة الأهمیّة(1) ..

الخامس: قانون آشری

وأحد القوانین المهمّة فی القرن الثالث عشر هو ما ألّفه ربّی آشر بن یحیئل (1250- 1327)، وهو المعروف ب «آشری»(2) أو «رُش»(3) الذی کان مقیماً فی. اسبانیا. وقد کتب هلاخوت تلموداً بمنهج الفاسی بشکل مختصر، ولکنّه کان یهتمّ بأفکار المراجع الکبار مثل ابن میمون وکتّاب توسافوت أیضاً، ولکتابه خصوصیة تعلیمیة، ولهذا وقع مورد استقبال شدید. وقد کتب الآشری مضافاً إلی قانونه المعروف، شرحاً علی بعض أقسام التلمود وعمل علی تدوین توسافوت منفصل لبعض الرسائل.

السادس: ارباعا طوریم

إنّ أهم لائحة قانونیة بعد کتاب ابن میمون هو کتاب ارباعا طوریم (المعروف بطور) وهو من تألیف یعقوب بن آشر وهو نجل آشری. وبالرغم من أنّ اسلوب کتابه مقتبس من میشنه تورا، إلّاأنّه یعدّ کتاباً مستقلّاً، وقد ضمّنه أفکاراً جدیدة. ومنذ ابن میمون إلی زمان تدوین طور (1340 م تقریباً) وبسبب سعة المطالعات وکثرتها فی باب الشریعة، فقلّما نجد مطلباً لا یوجد فیه اختلاف فی آراء العلماء، ومن هنا کان من اللازم إصدار کتاب فی المسائل الجدیدة یتضمّن الرأی القاطع فی هذه المسألة، وقد صار طور بعد قرنین من الزمان، أی عندما تمّ تألیف شولحان عاروخ مرجعاً للشریعة الیهودیة.

إنّ ترتیب المواضیع فی طور صارت بعد ذلک معیاراً للمصنّفات والکتب اللاحقة. وارباعا طوریم بمعنی «الصفوف الأربعة» وهو المقتبس من آیات الکتاب المقدّس (سفر الخروج 28: 17). کما یظهر أیضاً من اسم هذا الکتاب أنّه یتضمّن أربعة أقسام أو أربعة صفوف. القسم الأول: اورح حییم (4) (طریق الحیاة) ویتضمّن قوانین یوم السبت والأعیاد والأدعیة الیومیة وغیر ذلک، والقسم الثانی: یوره دعا(5) ویتحدّث عن الأطعمة المحرّمة والمحلّلة وکذلک النذور ومقرّرات الطهارة. القسم الثالث: اوِن هاعَزِر،(6) ویتضمّن أحکام الزواج، الطلاق، والعلاقات الجنسیة والموارد المشابهة لها. وفی القسم الرابع: حوشن همیشباط(7) ویبحث فی القوانین المدنیة والجزائیة، الإرث، والملکیّة وغیرها.

وقد صار کتاب طور حتّی فی زمن حیاة ربّی یعقوب نفسه معیاراً للقوانین، وحلّ محلّ الکثیر من المدوّنات فی هذا المجال (8) ..

السابع: شولحان عاروخ

السابع: شولحان عاروخ (9)

فی آواخر القرن الخامس عشر تمّ إخراج الیهود من


1- 1 .cf .M .E .,op .cit .,p .836 - 146 ;. مبانی حقوق الیهود، ص 98- 100.
2- 2 .Asheri
3- 3 .Rosh
4- 4 .Orah Hayyim
5- 5 .Yoreh Deah
6- 6 .Even HaEzer
7- 7 .Hoshen HaMishpat
8- 8 .M .E .,op .cit .,p .546 - 746 ;. نقلًا عن: مبانی حقوق الیهود، ص 103- 106.
9- شولحان عاروخ کما سوف یأتی، فی الأصل بمعنی« مائدة مرتبة» وهنا توجد إشارة لکتاب أحد علماء ا لیهود باسم« یوسف قارو» الذی نظّم ورتّب النظام الشرعی للیهود علی أساس الأعراق الجدیدة.

ص: 571

اسپانیا والبرتغال وهذا الأمر أدّی إلی تفرّقهم أشتاتاً فی مناطق مختلفة کترکیا، وهولندا، وآسیا الصغری و فلسطین و .... وهذه المسألة أدّت إلی ظهور أعراف وآداب جدیدة، وضعف الالتزام بالتقالید الیهودیة. ومن هنا کان من اللازم إحیاء النظام الشرعی من جدید وإقامته. فتصدّی العالم والعارف الیهودی الکبیر یوسف قارو، من أهالی صفد، إلی هذا الأمر، وقد کتب فی بدایة الأمر کتاب بیت یوسف وإن کان حسب الظاهر شرحاً لطور، ولکنّه فی الواقع کتاب مستقلّ. وهذا الکتاب هو حصیلة عشرین عاماً من التحقیق المتواصل والمطالعة الدقیقة لجمیع عبارات وسطور طور. ثم إنّه أعاد النظر فی بیت یوسف مدّة اثنی عشرة سنة أخری وعمل علی تلخیصه وبذلک ظهر شولحان عاروخ بمعنی المائدة المرتّبة (1564)، وأمّا مصادره المهمّة فی تألیفه هذا الکتاب فهی عبارة عن الفاسی، ابن میمون وآشری.

وقد کان یتقبّل عادة القول الذی قاله شخصان من هؤلاء الثلاثة، وإن کان یعرض أحیاناً آراءه بصورة مستقلّة.

ویتضمّن هذا الکتاب بعض النواقص والإشکالیات وقد واجه العدید من الانتقادات من قبیل أنّه أهمل المعلومات التی تتحدّث عن أعمال وآداب الاشکنازیین (یهود بولندا- وألمانیا)، ولهذا السبب قام موسی ایسرلس من أهالی بولندا بإکمال هذا النقص فی کتابه المسمی مبّا (علی المنضدة). وکذلک أورد سلیمان ابن لوریا انتقادات کثیرة علی شولحان عاروخ وادّعی بأنّ شولحان عاروخ ابتعد عن مضامین التلمود وعرض قانونه الخاصّ بدلًا من قانون التلمود. مع أنّ شولحان عاروخ یعتبر کتاباً مهمّاً فی الشریعة الیهودیة(1) ..

الثامن: المدوّنات بعد شولحان عاروخ

إنّ درجه اعتبار وحجیّة شولحان عاروخ کانت بحیث إنّه بعد انتشاره حدثت مرحلة جدیدة فی الشریعة الیهودیة، ویعتبر العلماء والشرّاح لمرحلة شولحان عاروخ بأنّهم احرونیم أی المراجع المتأخّرون. وهؤلاء اعترفوا بأنّ شولحان عاروخ یمثّل معیاراً للکتب والمدوّنات فی هذا المجال وما جاء بعده من مدوّنات بمثابة شرح وتفسیر لهذا الکتاب، فما کُتب فی هذه المرحلة التاریخیة کلّها تمثّل شرحاً وتفسیراً لشولحان عاروخ.

ومن جملة هذه المدوّنات هی طوره زاهاو(2) من تألیف داوود بن سموئیل هلوی، و سیفته کوهن،(3) تألیف ربّی شبتای بن مئیر هکوهن فی القرن السابع عشر.

وبسبب الاستقبال والمقبولیّة لهذه المدوّنات، فإنّها طبعت فی هامش شولحان عاروخ فی عام 1863، قام ربّی سلیمان کنز فرید بتلخیص شولحان عاروخ وجعل له کتاباً دلیلًا علیه ویتضمّن القوانین الیومیة للناس العادیین. وسمّی کتابه هذا قیصور (أی الخلاصة) لشولحان عاروخ ومع کلّ ذلک فقد صدرت فتاوی کثیرة فی هذه الفترة من قِبل علماء الیهود.

2- المصادر القانونیة لشریعة الیهود

والمقصود من المصادر القانونیة فی النظام الحقوقی هو المنابع التی یعترف بها النظام بأنّها منابع معتبرة والتی تستمدّ القواعد الحقوقیة قدرتها التنفیذیة


1- 1 .M .E .,op .cit .,p .746 - 056 ;. نقلًا عن: مبانی حقوق الیهود، ص 106- 108.
2- 2 .Turei Zahav
3- 3 .Siftei Cahen

ص: 572

والإلزامیة من هذه المنابع. والمنبع القانونی هو المصدر المباشر لوضع القانون. علی سبیل المثال من الممکن أن تستند القاعدة علی «مسلک قضائی» ویمتاز هذا المسلک نفسه بأنّه یملک امتداداً تاریخیّاً خاصّاً، فإنّ هذا المسلک القضائی یعتبر المنبع القانونی للقاعدة المذکورة، ویکون ذلک المسلک القضائی فی بعده التاریخی وسوابقه التاریخیة، من المنابع التاریخیة غیر المباشرة(1) ..

وهناک ستّة منابع فی الشریعة الیهودیة تعتبر منابع رسمیة وقانونیة، والتی نشیر إلیها هنا:

أ) قبالا(2) (السنّة).

والمراد من السنّة (قبالا) هو: «السنّة التی انتقلت من شخص إلی شخص» ویمتدّ تاریخها إلی النبیّ موسی الذی أخذها عن اللَّه تعالی (تلمود، آووت 1: 1)(3). وهذا المنبع التشریعی وخلافاً للمنابع القانونیة الحقوقیة للیهود یعتبر ثابتاً ومستقرّاً ولا یطرأ علیه التغییر والتحوّل، ولکنّ المنابع الأخری التی سنشیر إلیها تمتاز بالحرکة والتحوّل والإتّساع الدائم فی دائرة الحقوق الیهودیة، وبالتالی یتسنّی لها الإجابة عن المسائل المستحدثة الناشئة من طبیعة مقتضیات الزمان والمکان. والسنّة الیهودیة، کما تقدّمت الإشارة إلیها موجودة فی قالب الشریعة المدوّنة والسنّة الشفهیة، و السنّة المدوّنة نزلت فی قالب التوراة، بینما السنّة الشفویة تشکّلت بعد عدّة قرون من نزول التوراة علی شکل میشنا والتلمود وأضحت بصورة مدوّنة بعد ذلک.

ب) میدراش (4) (التفسیر).

وفی دائرة هلاخا، نری مفردة میدراش «التفسیر» وتستعمل فی الأنظمة الحقوقیة الجدیدة. ویشمل المیدراش قواعد مستنتجة من تفسیر الشریعة المدوّنة والهلاخات طیلة المراحل المختلفة. ومفردة میدراش أحیاناً تشیر إلی معطیات خاصّة من تفسیر نصّ معیّن (هرمنوتیک)؛ ومن هذه الجهة فإنّ التلمود أیضاً یتضمّن میدراشاً. وأحیاناً تأتی کلمة میدراش بمعنی تدوین النتائج والمعطیات التفسیریة المستوحاة من مجموعة من التفاسیر(5). والمیدراش بهذا المعنی یطلق علی مجامیع واسعة من تفاسیر الکتاب المقدّس الذی تقع خارج التلمود، وهذه المجامیع تشمل الهلاخات وکذلک اجادا بشکل مستقلّ. ویعتبر المیدراش منبعاً أصلیاً للحقوق الیهودیة بعد السنّة.

وقد واجه المحقّقون الیهود علی طول المسار التاریخی مشکلتین فی هذا الصدد:

1. رفع المشاکل الناشئة من مطالعة الکتاب المقدّس.

2. إیجاد الحلول للمشاکل الجدیدة الحادثة فی واقع الحیاة الیومیة، وخاصّة بالنسبة للمسائل الناشئة من تغییر المناسبات الاقتصادیة والاجتماعیة فی واقع الحیاة. وقد استعان علماء الیهود لرفع هذه المشاکل فی هاتین الدائرتین بمیدراش حیث ذهبوا إلی أفضلیّته علی الطرق الأخری المقرّرة لحلّ هذه المشاکل. وقد


1- 1. Salmond, op. cit., p. 901- 21; Cf. M. E., p. 511- 61;" Mishpat Ivri", EJ., v. 21.
2- 2 .kabbalah
3- 3 .Cf .Maim .,Introduction to Comm .Mishnah .
4- 4 .midrash
5- 5 .Cf .Jacob Neusner and Tamara Sonn , Comparing Religions Through Law, Judaism and Islam, p. 28- 3.

ص: 573

تحرّک هؤلاء العلماء قبل العثور علی طریق جدید لحلّ هذه المسائل علی مستوی البحث والتنقیب فی تفاصیل الکتاب المقدّس نفسه للعثور علی طریق للحلّ وکشف وفهم المعنی الباطنیّ أو الخفیّ لعبارات الکتاب المقدّس. فالمیدراش یقوم باستنباط الهلاخات الجدیدة من باطن الکتاب المقدّس ولایضیف إلیها شیئاً أو لا یتحرّک فی شرحه لها علی مستوی المخالفة «خلافاً لتقانا الذی یعمل علی تغییر الهلاخات الموجودة أو یضیف إلیها شیئاً» وبعبارة أخری أنّ مهمّة المیدراش کشف مفهوم عبارة الکتاب المقدّس، وهذا هو ما یراد به فی هذا العصر من عملیة تفسیر القانون (1). من هذه الجهة یمکن منطقیاً افتراض أنّ المحقّقین کانوا یتوجّهون لأجل حلّ هذه المشکلات باتّجاه المیدراش فإذا لم یحصلوا علی نتیجة من ذلک، فإنّهم یتوجّهون نحو المنابع القانونیة الأخری (2) ..

وفی السنوات الأولی من التاریخ المیلادی أو قبل ذلک بقلیل قام أحد العلماء الیهود المعروفین، وهو هیلل، بتفسیر سبعة أصول منها، وبعده کانت هذه الأصول مورد اهتمام العلماء. وفی بدایة القرن الثانی للمیلاد أضاف إلیه ربّی ییشماع أصولًا أخری وعمل علی توسعة دائرتها لتصبح ثلاثَ عشرة قاعدة تفسیریة.

وهذه القواعد الثلاث عشرة (میدوت)(3) ترتبط فی الأصل بدائرتین تفسیریتین، إحداهما دائرة التفسیر التوضیحیّ (4) (میدراش همِوائر)(5)، أی ما یتبیّن من. عبارات الکتاب المقدّس فی عملیة التفسیر، والأخری دائرة التفسیر القیاسی (6) (میدراش همقیش)(7)، بمعنی ما. یتّصل بقیاس موضوع علی موضوع آخر بقصد حلّ المشکلات الحقوقیة الجدیدة. ومن هذه القواعد التفسیریة الثلاث عشرة لربّی ییشماع، فإنّ عشر قواعد تتّصل بالتفسیر التوضیحی، وثلاث قواعد منها تتّصل بالتفسیر القیاسی (8)، وأحد الأسالیب التفسیریة المهمّة فی الأنظمة الحقوقیة هو التفسیر المنطقی (9)، الذی لم ترد الإشارة إلیه فی هذه القواعد الثلاث عشرة. والغرض من هذا الأسلوب التفسیری یشبه إلی حدّ ما التفسیر التوضیحیّ، لأنّ الغایة الأصلیّة له تبیین منطقیّ لقوانین الکتاب المقدّس واستعمالها فی أغلب الأحیان لوضع الهلاخات والأصول القانونیة الجدیدة. علی سبیل المثال فإنّ التوراة فی مورد العدوان الجنسیّ علی البنت المخطوبة، فی الصحراء (سفر التثنیة، 22: 25- 27) تقول بعدم عقوبة هذه البنت، «لأنّ المعتدی وجدها فی الصحراء وقد صرخت هذه البنت المخطوبة إلّاأنّه لم یکن مفیداً» فقد ورد فی تفسیر هذه العبارة أنّ کلمة «صحراء» لا ینبغی أن تؤخذ بمعناها اللفظی، بل الملاک هو الطهارة من الذنب أو عدمها فی هذه البنت المخطوبة، وکذلک مقاومة هذه البنت أو عدم مقاومتها لهذا العمل «فهل یمکن القول أنّها مسؤولة إذا کانت فی المدینة وغیر مسؤولة إذا کانت فی الصحراء؟ فالتوراة تقول: إنّها صرخت ولکن لم یکن هناک مغیث، فعند


1- انظر: فلسفة الحقوق لناصر کاتوزیان، ج 2، ص 208- 222( بالفارسیّة).
2- 2 .M .E .,"Interpretation ",EJ .,v .8 ,p .3141 - 61 .
3- 3 .midot
4- 4 .elucidative interpretation
5- 5 .midrash ha - meva'er
6- 6 .analogical interpretation
7- 7 .midrash ha - mekish
8- 8. Cf. ibid., p. 9141- 02; L. J.," Hermeneutics", EJ ., v. 8, p. 663- 27.
9- 9 .logical interpretation

ص: 574

عدم وجود المغیث والمنقذ، سواء کان فی المدینة أم فی الصحراء، فإنّها غیر مسؤولة ولا عقوبة علیها، وإذا کان هناک من ینقذها، سواء فی المدینة أم فی الصحراء، فهی مسؤولة» (سفر التثنیة 243)(1) ..

وقد استخدمت هذه الطریقة وهذا الاسلوب فی تفسیر الکثیر من عبارات التوراة.

ج) تَقانا(2) و جِزِرا(3) ..

تقانا بمعنی «التقنین» و جزرا بمعنی «الحکم»، أو «الدستور» وهاتان المفردتان تبیّنان عملیات تقنین مراجع الهلاخا أو المراجع الأخری ذات صلاحیة فی کلّ جیل وعصر.

والفرق بین تقانا وبین میدراش أنّ تقانا تضیف قاعدة أو قانوناً جدیداً إلی دائرة قوانین الهلاخا، وأمّا المیدراش فیحتوی علی المضمون الباطن للقانون الموجود ویعمل علی إظهار ما فی منظومة هذا النظام القانونی، وبعبارة أخری، أنّ میدراش کاشف عن قانونٍ موجود سابقاً، وأمّا تقانا فهی بمثابة إضافة قانون جدید. ومن هنا فإنّ القانون المستخرج بواسطة المیدراش من نصوص الکتاب المقدّس یسمی دِاورَیتا(4) «من التوراة»، وأمّا القانون الذی یوضع بواسطة تقانا فإنّه یرتبط ب: دِرَبانان (5) «من علماء» ..

إنّ عملیة التقنین لمحقّقی الهلاخا یطلق علیه أحیاناً تقانا وأخری جزرا. وتأتی مفردة جزرا عادة بمعنی النواهی التی تنهی عن ارتکاب عمل خاصّ، وأمّا مفردة تقانا فتشیر عادة إلی الأوامر، والتی تقرّر الوظیفة العملیة للإتیان بعمل خاصّ (6) ..

إنّ عملیة التقنین فی شریعة الیهود تتبع القواعد التی ذکرها آمورائیم فی التلمود. وفی حین أنّ الأوضاع والظروف الزمانیة والمقتضیات الأخلاقیة والاجتماعیة تستوجب أنّ یتحرّک علماء الهلاخا من موقع وضع القانون، والسماح لهم بذلک، وهذا الأمر کما یعتقدون من أجل حفظ التوراة «إقامة سور حول التوراة» ولیس من موقع الاعتراف بوجود الخطأ فیها. ففی صورة وجود مقتضیات وظروف خاصّة فبالإمکان إصدار أحکام تتّصل بالعقوبات وحتّی حکم الإعدام (التلمود، یواموت 90 ب؛ سنهدرین 46 أ)(7) ..

د) مینهاک (8) (العرف).

إنّ مینهاک «العرف» یبیّن القواعد الحقوقیة التی تستنتج من العرف بأشکال مختلفة، ومن جهة تاریخیة فإنّ العرف مقدّم علی سائر المنابع والمصادر الحقوقیة، حتی قالوا: إنّه بالنسبة للقوانین القدیمة وقوانین حمورابی و الیونان القدیمة والهند «مانوا» کلّها تمّ تدوینها علی أساس تقالید ومقتضیات العرف، وبالتالی فهی أحکام عرفیة(9)، وقالوا فی تعریف العرف: «هو القاعدة التی تصیر مقبولة بالتدریج بین جمیع أفراد المجتمع أو لدی طائفة خاصّة منهم بعنوان


1- 1. Cf. M. E.," Interpretation", op. cit., p. 2241.
2- 2 .takkanah
3- 3 .gezerah
4- 4 .atiaro - /ed ؛« اوریتا» معادل آرامی« تورات».
5- 5 .de - rabbanan
6- 6 .Maim .,Introduction to Comm .Mishnah ;Cf .M .E .,"Takkanot ",EJ .,v .51 .p .317 - 41 .
7- 7 .Cf .M .E .,"Takkanot ",op .cit .,p .817 .
8- 7 .minhag
9- فلسفة الحقوق، ج 2، ص 471( بالفارسیّة).

ص: 575

أنّها قاعدة ملزمة»(1).

وفی شریعة الیهود یعتبر العرف أیضاً من أهم أرکان ودعائم الهلاخا. ولعلّه یمکن القول أنّ التوراة أقرّت بعض الأعراف والتقالید التی کانت سائدة بین الناس قبل نزول الشریعة الموسویة، ومن هنا لم ترد الإشارة فی التوراة إلی بعض القوانین والمقرّرات المهمّة جدّاً والأساسیة فی نظر الیهود، کقوانین الزواج والبیع والشراء وأمثال ذلک (2). فالعرف فی الشریعة الیهودیة یملک وظیفة مهمّة بعنوان أنّه مصدر قانونی وحقوقی.

والعرف إنّما یکون منبعاً قانونیاً فیما إذا أیّد النظام الحقوقی فی ظروف خاصّة سلوک معیّن متداول عند الجمیع بمثابة کونه قاعدة حقوقیة ملزمة.

والعرف فی الشریعة الیهودیة له ثلاث وظائف:

1. کونه عاملًا قطعیاً لتعیین التکلیف فی صورة وجود اختلاف فی العقائد بالنسبة لقاعدة خاصّة من قواعد الهلاخا.

2. من أجل إضافة بعض الأمور إلی الهلاخا الموجودة وما تفرزه المناسبات العملیة فی زمان خاصّ من مسائل جدیدة، والتی لم یرد لها جواب عادة فی النصوص.

3. إیجاد قواعد جدیدة تنقض الهلاخا الموجودة والوظیفتان الأخیرتان للعرف تشبهان إلی حدّ ما وظائف التقنین (تقانا)(3) ..

ه) مَعَسه (4) (العمل والمنهجیة).

مَعَسه «العمل والمنهجیة» عبارة عن تلک القواعد الحقوقیة التی تصدر عن الأحکام القضائیة من جهة المحاکم القضائیة التی تتمتّع بالصلاحیة لذلک، أو المستنتج من سلوک علماء الهلاخا فی موضوع معین.

و «المَعَسه» تعتبر منبعاً قانونیاً لشریعة الیهود علی نحوین:

«المعسه» أحیاناً تکون بشکل حکم یصدر من المحکمة أو الجهاز القضائی الذی له الصلاحیة فی مورد معیّن ودعوی خاصّة وعینیة. «والمعسه» بهذا المعنی تشبه «السلوک القضائی» فی الأنظمة الحقوقیة الأخری .. وأحیاناً تکون معسه ناشئة من سلوک ورؤیة عالم من علماء الهلاخا الذی له الصلاحیة، ولکنّه لا یتمتّع بمنصب القاضی أو الحَکَم (5). ویمکن أن یکون هذا المورد شبیهاً ب «نظریة الحقوقیین» فی الأنظمة الحقوقیة الأخری. والقوانین الناشئة من «المعسه» تشکل قسماً مهماً من النظام الحقوقی للیهود. وعلی ضوء ذلک فإنّ النظام الحقوقی للیهود یعتبر نموذجاً قدیماً من الأنظمة الحقوقیة التی تتضمّن الکثیر من القوانین القائمة علی أساس مجموعة من «السلوکیات» أو الآراء القانونیة.

وقد اکتسبت الهلاخا هذه الخصوصیة من التوراة نفسها، لأنّ الکثیر من القوانین الواردة فی التوراة وضعت لموضوع واحد أو بمناسبة واقعة خاصّة، علی سبیل المثال، النطق بالکفر « (سفر لاویان، 24:

10- 23)؛ جمع الخطب فی یوم السبت (سفر الأعداد، 15: 32- 36)؛ وسهم الإرث للبنات (سفر الأعداد، 27: 1- 11) و ....


1- مقدّمة علم الحقوق لناصر کاتوزیان، ص 188( بالفارسیّة).
2- 2 .M .D .H ./M .E ,"Minhag ",EJ .,v .21 .,p 5 .
3- 3 .Ibid .,p .7 - 11 .
4- 4 .ma'aseh
5- 5 .M .E .,"Ma'aseh ",EJ .,v .11 ,p .146 .

ص: 576

ومع کلّ ذلک یجب التأمل بدقّة فی أنّ الشریعة الیهودیة تعتبر «معسه» منبعاً قانونیاً للحقوق علی أساس أنّ علماء الهلاخا قد جعلوا منها منبعاً للتقنین وأنّ أصول الهلاخا التی تعدّ قسماً من النظام العام للهلاخا تستخرج منها، لا بسبب أنّ «معسه» لدیها القدرة والاعتبار الذی للسلوک من حیث الإلزام (1) ..

و) سِوارا (العقل)(2).

«سِوارا» «النتیجة المنطقیة» أو «العقل» عبارة عن المنطق الحقوقی الذی یستدلّ به علماء الهلاخا، و «سوارا» تتمثّل فی مجموعة من القواعد الشرعیة التی تنشأ بصورة مباشرة من العقل البشری لعلماء هلاخا.

و «العقل» فی نظر علماء الیهود یمثّل أحیاناً منبعاً تاریخیاً لتفعیل المنابع القانونیة الأخری للشریعة الیهودیة، علی سبیل المثال عندما یتمّ وضع حکم شرعیّ بواسطة میدراش تتمّ عملیة تفسیر المصدر المستقیم لهذا الحکم والموجب له، ومع کلّ ذلک فإنّه یتمّ الاستفادة فی عملیة التفکیر، من العقل والمنطق والاستدلال. ومن هنا فإنّ «العقل» یعتبر منبعاً تاریخیاً وعملیاً لهذا الحکم. وهذا الکلام یأتی أیضاً بالنسبة للقواعد المستقاة بواسطة منابع التقنین، أی تقانا، معسه و مینهاک تکون مصداقاً لها، لأنّ القوانین التی یتمّ وضعها بهذه الصورة من أجل الإجابة علی الحاجات الجدیدة فإنّها تخضع لسیطرة «المنطق».

علی الرغم من ذلک فإنّ «العقل» یعتبر لدیهم منبعاً قانونیاً للشریعة الیهودیة أیضاً، وأحیاناً یکون العقل منبعاً مباشراً لقاعدة خاصّة، وذلک عندما یتمّ وضع هذه القاعدة علی أساس الاستناد إلی العقل والاستدلال العقلی فقط، فمن هذه الجهة یکون للعقل دور مهم فی جمیع مجالات الهلاخا. وبالإمکان مشاهدة المکانة السامیة للعقل فی ترتیب القوانین، وفی حین أنّ القوانین المستنبطة تقانا، معسه و مینهاک تعتبر من جملة القوانین المعروفة ب «دِرَبانان» «من العلماء»، فإنّ القوانین الصادرة من العقل بصورة مباشرة تقع فی طبقة دِاورَیتا «من التوراة». وهذه المکانة ناشئة من هذا الأصل الأساسی والذی یمثّل القاعدة التحتیة للبناء الکلّی فی نظام هلاخا حیث نزلت التوراة علی أساس وصلاحیة ومرجعیة الهلاخا، ومن هذه الجهة یمکن القول أنّ کلّ قاعدة صادرة عن عقل علماء الهلاخا فهی صادرة عن التوراة نفسها، لأنّ هؤلاء یعتقدون بأنّ عقل علماء الهلاخا یتطابق تماماً مع المنطق الباطنی للتوراة(3) ..

کمثال علی الاستناد للعقل بعنوانه مصدراً مباشراً لوضع القانون یمکن ملاحظة ما ورد فی البحث التلمودی المهمّ جدّاً وهو: أنّ الأصل المهمّ فی الشریعة الیهودیة هو أنّه لو قیل لأحد: یجب علیک نقض قانون التوراة وإلّا فسوف تقتل، فیجب علیه نقض القانون لئلّا یقتل (التلمود، سنهدرین 74 أ)؛ لأنّه علی حدّ قول علماء التلمود وکذلک ابن میمون، أنّ قوانین التوراة وضعت لضمان حیاة الإنسان لا أنّها وضعت لکی یقتل (یوما 85 ب)(4). ومع کلّ ذلک فهناک ثلاثة ذنوب کبیرة مستثناة من هذه القاعدة وهی: إذا فرض علی الشخص أن یختار بین ثلاثة ذنوب: عبادة الوثن، الزنا، القتل، وإلّا فسوف یقتل، فیجب علیه أن یسمح لهم بقتله ولا


1- 1 .Ibid .,p .246 .
2- 2 .sevarah .
3- 3 .M .E .,"Sevarah ",EJ .,v .41 ,p .5911 - 6 .
4- 4 .Yad ,Yesodei ha - Torah 5 :1 .

ص: 577

یرتکب تلک الذنوب الثلاثة (سنهدرین 74 أ؛ پساحیم 25 أ- ب). وهذا القانون وضع فیما یخصّ جریمة عبادة الوثن والزنا من خلال تفسیر الکتاب المقدّس، وأمّا بالنسبة لقتل شخص آخر فمصدر هذا الحکم هو العقل لا التفسیر. فقد ورد الاستدلال لذلک فی التلمود:

«والدلیل علی ذلک: ... من قال أنّ دمک أکثر حمرة من دم ذلک الشخص؟ لعلّ دمه أکثر حمرة!» (سنهدرین 74 أ). إذن فمصدر هذا القانون المباشر بالنسبة للقتل هو سوار(1) ..

ز) نموذج لعمل المصادر القانونیة

ومن المناسب هنا أن نستعرض نموذجاً لعمل المنابع القانونیة للشریعة الیهودیة فی عملیة استنباط الأحکام، والمثال الواضح لهذا الأمر، هو عقوبة قطع العضو. فقد ورد فی التوراة بالنسبة لهذا الحکم أنّه:

«وأمّا إذا تأذّت المرأة، تأخذ نفساً بنفس. وعیناً بعین، وسنّاً بسنّ، ویداً بید، ورجلًا برجل» (سفر الخروج، 21:

23. 25؛ وکذلک سفر لاویان، 24: 19. 20).

وبالرغم من صراحة هذا العبارات حسب الظاهر، إلّا أنّ الشریعة الشفویة سلکت طریقاً مختلفاً تماماً عن ذلک، فمیشنا تقول: «إنّ کلّ شخص یلحق ضرراً بشخص آخر یجب علیه دفع خمسة أنواع من الغرامة ...» (باواقما 8: 1).

ونری فی التلمود شرحاً لهذه العبارة یبدأ بهذه الجملة: «لماذا [الغرامة]؟ ألم یقل القانون الإلهیّ: العین فی مقابل العین، فلماذا لا نتمسّک بالمفهوم اللفظی لهذه العبارة [فی قصاص العضو]؟» (باواقما 83 ب).

وأمّا آمورائیم (شارحو المیشنا) فإنّهم تحرّکوا فی کلماتهم وفی عدّة صفحات من التلمود علی مستوی بیان وتبریر مبنی هذه الهلاخا وبالاستفادة من میدراش و سوارا فی عملیة تبریر هذا القانون، وفی البدایة استعانوا بالتفسیر القیاسی وقالوا:

هل یمکن أن نتصوّر أنّ الشخص إذا فقأ عین شخص آخر فیجب أن نفقأ عینه أو أنّه إذا قطع ید شخص آخر فیجب قطع یده، أو أنّه إذا قطع رجل شخص آخر فیجب أن تقطع رجله؟ إنّ التوراة تقول: «إذا ضرب شخص آخر ... وإذا ضرب بهیمة شخص آخر»

[سفر لاویان، 24:

17- 18

]؛ إذاً فلو أنّ الإنسان ضرب حیواناً فیجب علیه دفع غرامة مالیة، وإذا ضرب إنساناً فیجب علیه دفع غرامة مالیة أیضاً. (باواقما 83 ب)

فهنا نری أنّ التلمود وبالاستفادة من قیاس الإنسان بالحیوان ومن خلال استخدام المنطق الحقوقی فی التفسیر فإنّه فسّر العقوبة المذکورة فی التوراة بالدیة.

وکتّاب التلمود فی بحثهم هذا استفادوا من منهج آخر للتفسیر، حیث ذکروا علی أساس تحلیل المعنی اللغوی لعبارات التوراة وقالوا:

إذا لم تقنع بذلک، فعلیک الالتفات إلی هذا الدلیل، إنّ التوراة تقول: «لا تأخذ أیّ فدیة کعوض لروح القاتل الذی یستوجب القتل، بل یجب أن یقتل»

[سفر الأعداد، 35: 31

]. والمفهوم الضمنیّ لهذه الآیة هو أنّه لا یمکن أخذ الدیة فی صورة واحدة فقط، وهی فی مقابل نفس القاتل المتعمّد، ولکن بالنسبة لقطع الأعضاء الأصلیة للبدن، حتّی فی صورة عدم نموّها من جدید، فإنّه یمکن أخذ الدیة (باواقما 83 ب).


1- 1 .M .E .,"Sevarah ",op .cit .,p .6911 .

ص: 578

وهنا نری أنّ الشریعة الشفویة من خلال الاستفادة من لغة التوراة المدوّنة تمنح قانون التوراة مفهوماً جدیداً لا یتطابق مع المفهوم الأصلیّ حسب الظاهر(1) ..

إنّ بحث التلمود حول هذا القانون لا ینتهی بهذه التفاسیر، بل یستفاد أیضاً فی هذا البحث من العقل (سوارا) بعنوانه منبعاً مستقلّاً فی عملیة إثبات هذا القانون.

هل تقبلون أن یکون من المراد من قانون العین فی مقابل العین هو الغرامة المالیة، أو تقولون لعلّ المراد هو القصاص الواقعی

[بقلع عین الآخر

]؟ إذن ماذا تقولون فی صورة أن تکون إحدی العینین کبیرة والأخری صغیرة؟

فهنا کیف یمکن إجراء هذا الأصل، وهو أنّ العین فی مقابل العین؟ ... (باواقما 83 ب- 84 أ)

وبهذه الصورة، من خلال الاستفادة من أصول میدراش و سوارا، فسّرت عقوبة قطع العضو خلافاً لظاهر التوراة بالغرامة المالیة بدون أن یکون هناک مخالفة جدّیة لفقهاء الیهود لهذا الأمر.

وهذا مجرّد مثال واحد من أمثلة وموارد کثیرة تحرّک علماء الهلاخا ومن خلال الاستفادة من منابع حقوقیة مختلفة فی الشریعة الیهودیة إلی تفسیر الهلاخا السابقة تفسیراً جدیداً ومتناسباً مع مقتضیات الزمان وجعل قوانین تتناسب مع تحدّیات المرحلة ومقتضیاتها.

المصطلحات:

آشری: اسم أحد اللوئح القانونیة المهمّة للیهود التی تمّ تدوینها فی القرن الثالث عشر بواسطة ربّی آشربن یحیئل المعروف ب «آشری» أو «رُش» والمقیم فی اسپانیا.

«اجادا»: وهو ذلک القسم من التعالیم الدینیة التی تشمل حوادث التاریخ، الأمثال الأخلاقیة والمواعظ والبحوث والنظریات الفلسفیة فی دائرة العقائد.

آلبرشت آلت: هو أحد العلماء الذی کتب مقالة فی عام 1934 تحت عنوان «المصادر الحقوقیة لإسرائیل» وانطلق فیها من موقع بیان قوانین التوراة علی أساس صیاغة هذه القوانین (صیاغة القوانین الموردیة وصیاغة القوانین الأمریة).

آمورائیم: جمع آمورا بمعنی الشارح والمفسّر، وهو لقب العلماء الذین أقدموا علی شرح و تفسیر المیشنا بعد إکمالها، وعملوا علی تبدیلها إلی التلمود. والعمل الآخر لهؤلاء العلماء هو شرح وتفسیر المواضیع غیر الهلاخای، «البحوث الأخلاقیة و ...» وحصیلة عملهم تجسّدت فی ظهور التلمودین البابلی والفلسطینی (/ الاورشلیمی). ویقال لآمورا فی فلسطین «ربّی» وفی بابل «راو».

احَرونیم: بمعنی المتأخّرین أو المراجع المتأخّرة (فی مقابل ریشونیم/ المراجع المتقدّمة) حیث یبدأ هذا العصر من القرن السابع عشر ویستمرّ إلی القرن الثامن عشر أو إلی العصر الحاضر علی قول، والکثیر من مدوّنات هذا العصر تتمثّل فی نقد أو شرح کتاب شالحان عاروخ.

ارباعاطوریم: ویعدّ هذا الکتاب المعروف به (طور) من أهم اللوائح القانونیة التی تمّ تدوینها بعد کتاب موسی بن میمون «میشنه تورا»، وهو من تألیف یعقوب بن آشر وهو ابن آشری. ومعنی ارباعاطوریم هو «الصفوف الأربعة أو الفصول الأربعة»، لأنّ هذا الکتاب


1- 1. Cf. Jacob Neusner and Tamara Sonn, op. cit., p. 02- 22.

ص: 579

یتضمّن أربعة أقسام أو أربعة فصول.

أسباط: قبائل بنی إسرائیل الإثنا عشر.

إسرائیل: لقب النبیّ یعقوب علیه السلام.

الأسفار الخمسة للتوراة: أسفار جمع سِفْر بمعنی کتاب، والأسفار الخمسة للتوراة عبارة عن:: سِفْر التکوین، سفر الخروج، سفر لاویان، سفر الأعداد وسفر التثنیة. ویحتمل أن تکون هذه الأسفار قد أضحت بهذا الشکل الموجود حالیاً منذ نهایة السبی البابلی. وقد ورد توضیح مضامین هذه الأسفار فی شرح مفردة «التوراة».

الفاسی: وتعتبر أهم مرحلة من تدوین القانون بعد التلمود، مرحلة ریشونیم (من القرن 11 إلی 16 للمیلاد) وهی التی بدأت بکتاب إسحاق المعروف بالفاسی (وهو من أهالی فاس فی شمال أفریقیا).

باریتا: وتطلق هذه الکلمة علی المواضیع التی لم ترد فی المیشنا، ولکن آمورائیم (الشرّاح) ذکروها فی التلمود. ومن بین «مجموعة الباریتا» هناک مجموعتان باسم «توسفتا» و «میدراش هلاخا» یحضیان بأهمیّة أکبر.

بَمیدبار:---) توراة

بیت یوسف:---) شولحان عاروخ

بروشیم: بعد إکمال التلمود قام علماء الیهود بالتحقیق فی ثلاثة فروع مهمّة من الحقوق الیهودیة: 1.

الشروح والحواشی، 2. مجموعة الفتاوی، 3. لوائح القوانین. یقال للفرع الأول الشروح والهوامش «بروشیم» التی یمکن تبیینها من خلال الاستفادة من المدوّنات الأقدم فی شریعة الیهود، وبذلک یمکن طرح فهم أیسر لها. وأشهر هذه الشروح هو شرح «راشی» الذی یتبع الاسلوب التقلیدی الکلاسیکی، ویشرح التلمود البابلی، وکتاب ربّی سلیمان بن إسحاق الذی یتعلّق بالقرن 11. وأمّا الفرع الثانی وهو فرع الحواشی ویقال له «حیدوشیم» أو «نُوولِّی» وفیه تمّ حلّ ورفع التباین والتعارض الموجود فی باطن التلمود. وقد کتبوا هامشاً کلاسیکیاً علی التلمود بواسطة کتّاب التوسافوت (المحشیین) علی التلمود البابلی فیما بین القرن 12 و 13. إنّ کتابة الهامش استمرّت بعد کتابة الشروح فی القرن الحادی عشر فصاعداً وإلی عصرنا الحاضر. وفیما یتعلّق بالفرع الثالث وهو مجموعة الفتاوی التی یقال عنها «شِئِلوت او- تشووت» فهی عبارة عن الأجوبة التی یوردها علماء الیهود علی الأسئلة الشرعیة.

تابوت العهد: وهو الصندوق الذی کان یتضمّن الوصایا العشر لشریعة موسی علیه السلام المکتوبة علی لوحین، وکان بنوإسرائیل یحملونه أمامهم فی حرکتهم وانتقالهم إلی أن یضعوه داخل المعبد الذی ینبغی بناؤه فی أورشلیم.

وعلی أساس ما ورد فی کتاب «الجاهلیّة والإسلام تألیف العلّامة یحیی النوری، فی ص 400: «والإسم الآخر له هو «صندوق الشهادة» الذی یحتوی علی نسخ من التوراة والکتب التی کان بنوإسرائیل یرجعون إلیها فی مسائلهم الدینیة، وقد تلف فی الهجوم الثانی لنبوخذ نصّر علی فلسطین (عام 568 ق م) وتمّ تخریب المعبد وحرقه». وعلی أساس ما ورد فی قاموس الکتاب المقدّس: «إنّ تابوت العهدعبارة عن صندوق أمر اللَّه تعالی موسی علیه السلام بصناعته وجعل فیه المنّ (إناء) یحتوی علی مقدار من المنّ الذی کان ینزل علی

ص: 580

بنی إسرائیل فی الصحراء) والعصا ولَوْحَی العهد اللذین کتب علیهما الوصایا العشر، وإلی جانبها وضع موسی علیه السلام کتاب التوراة. وعندما غلب بنو إسرائیل فی «أفیق» (وهی إحدی المدن القدیمة فی فلسطین المحتلة) فإنّ هذا التابوت وقع بأیدی الفلسطینیین وقد ابتلوا بسببه بالأمراض والبلایا المهلکة، ولذلک اضطرّوا إلی إعادته إلی أرض إسرائیل بکلّ احترام، وعندما سکن داود علیه السلام فی أورشلیم نقل التابوت إلی هناک وبقی هناک إلی زمان بناء الهیکل، وبعد ذلک جعلوه فی الهیکل، ولا یبعد أنّ مَنَسّی (/ أحد ملوک یهودا:

687- 642 ق م) قد حمله إلی مکان آخر، ولکن یوشیا (/ أحد ملوک یهودا: 640- 609 ق م) أعاده مرّة ثانیة إلی مکانه ولکن بعد یوشیا لا یعلم هل هذا الصندوق حمل إلی بابل (عام 598 ق م) أم أنّه أُخفی فی مکان ما؟ والمقدار المسلّم أنّه لم یکن موجوداً فی «الهیکل الثانی» الذی بنی بأمر کوروش بعد رجوع بنی إسرائیل من الأسر البابلی (انظر قاموس الکتاب المقدّس، ص 237- 238).

ویتبیّن ممّا تقدّم أنّ تابوت العهد کان موجوداً إلی زمان موت یوشیا (عام 609 ق م) علی الأقلّ. وأمّا ما یستفاد من آیات القرآن الکریم فهو أنّ (التابوت» أوّلًا:

یتضمّن السکینة من قِبل اللَّه تعالی ویتسبّب فی طمأنینة قلوب بنی إسرائیل فی الحروب والحوادث الأخری، وثانیاً: إنّ فیه بقیة آثار آل موسی و آل هارون: «فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَّبِّکُمْ وَبَقِیَّةٌ مِمَّا تَرَکَ آلُ مُوسَی وَآلُ هَارُونَ» وثالثاً: إنّ الملائکة تحمله «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِکَةُ» ورابعاً: إنّ هذا التابوت فُقِد لمدّة من الزمان وقام أحد الأنبیاء وهو (شموئیل) بإخبار بنی إسرائیل بعودته لهم، وخامساً: إنّ عودة هذا التابوت علامة علی سلطنة أحد الملوک وهو (طالوت) المنصوب من قِبل اللَّه تعالی لقیادة بنی إسرائیل: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طَالُوتَ مَلِکاً ... إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ».

ویتبیّن من الروایات المعتبرة الواردة فی ذیل هذه الآیات المذکورة أنّ التابوت، أولًا: عبارة عن صندوق طوله ثلاثة أذرع بعرض ذراعین، وثانیاً: إنّ محتویات هذا الصندوق عبارة عن عصا موسی وفیه سکینة (بمعنی الطمأنینة)، وثالثاً: إنّ السکینة عبارة عن روح اللَّه الذی یتکلّم، وعندما یقع اختلاف بین بنی إسرائیل فی أمر من الأمور تتحدّث هذه الروح معهم وتخبرهم عن مرادهم. (تفسیر کنزالدقائق، ج 2، ص 383) ورابعاً: إنّ التابوت فی أیّ بیت وجد فإنّه علامة علی أنّ أهل هذا البیت قد جعلت فیهم النبوّة کودیعة (المصدر نفسه، ص 384).

الأسر البابلیّ: وتطلق هذه الکلمة علی عصر من عصور تاریخ الیهود بعد هجوم بخت نصّر (نبوخذنصّر) علی فلسطین وتخریبه المعبد وأسر الیهود وحملهم إلی بابل (538-/ 586 ق م).

تقانا: بمعنی «التقنین» وهی مثل «جزرا» وتعنی الحکم والدستور، وتبیّن تقنین ومراجع الهلاخا أو المراجع الأخری ذات الصلاحیة فی کلّ جیل وعصر من العصور، والفرق بین هاتین المفردتین هو أنّ «تقانا» تستخدم عادة فی مورد الأحکام الوجوبیة، وأمّا «جِکزرا» فتستخدم عادة فی مورد المحرّمات، والفرق بین تقانا ومیدارش هو أنّ تقانا تضیف قاعدة وقانوناً جدیداً إلی دائرة قوانین هلاخا، وأمّا «میدراش» فیتکفّل بتوضیح المضمون الغامض فی القانون الموجود

ص: 581

فی هذا النظام ویکشف عن قانون موجود سابقاً. ولذلک یقال لقانون میدراش «داوَریتا» (من التوراة) ویقال لقانون تقانا «دربانان» (من العلماء) کما أنّ القوانین الناشئة من «مَعَسه» و «مینهاک» أیضاً تندرج ضمن «دِرَبانان».

التلمود: وهو مجموعة أحکام الشریعة الشفویة التی تمّ تدوینها بواسطة بعض علماء الیهود بعد مقتل الیهود وخراب أورشلیم (وتخریب المعبد فی عام 70 المیلادی) وهجرة الیهود وتشتّتهم فی شتّی بقاع العالم، واستمرّ هذا الحال إلی عام 500 المیلادی ویتکوّن التلمود من قسمین رئیسیین: «میشنا» (تکرار الشریعة) و «جمارا» (الإکمال).

تنّائیم: جمع تنّا بمعنی المعلّم، ویطلق علی مرحلة من عصور الشریعة الیهودیة، ویقال عنها أیضاً عصر «میشنا» (لأنّ تدوین میشنا یتعلّق بهذه الفترة الزمنیة) وفی هذا العصر أی فی عام 30 للمیلاد إلی 220 م، کان هناک ستّة أجیال من معلّمی الشریعة الشفویة یعملون فی تلک الأجواء.

تَنَخ: بمعنی «عهد». ویقول الیهود للکتاب المقدّس «تَنَخ» (وهو یرمز إلی ثلاثة کلمات أصلیة للکتاب المقدّس لدی الیهود: حرف «ت» إشارة إلی التوراة، حرف «ن» إشارة إلی نوئیم کتاب الأنبیاء وحرف «خ» إشارة إلی کتوویم المدوّنات) ویسمّیه المسیحیون ب «العهد القدیم» أو ب «العهد العتیق» فی مقابل «العهد الجدید» الذی یطلق علی الإنجیل.

تورا: (وتأتی فی العبریة بمعنی التوراة) أی الشریعة والتعلیم سواء فی دائرة الأحکام الاجتماعیة (القانون) أم الأحکام الفردیة. وبالطبع فإنّ المعنی الصحیح هو التعلیم والتربیة، ولکنّه ترجم منذ قدیم الأیّام ترجمة خاطئة إلی کلمة قانون أو شریعة.

توراة: والمراد من التوراة لیس مجموع العهد العتیق، بل عبارة عن خصوص الأسفار الخمسة:

1. سِفر التکوین، الذی یرتبط بخلق العالم والإنسان وقصّة حیاة آدم وأبنائه وقصّة نوح، إبراهیم، إسحاق، یعقوب وأبنائه. وهذا السِفر یحتوی علی خمسین باباً، والباب الخمسون یدور الحدیث فیها عن موت یوسف فی مصر فی 1600 ق م تقریباً.

2. سفر الخروج، قصّة ولادة موسی (أربعمائة عام بعد وفاة یوسف) والحوادث التی تتّصل ببعثته وخروج بنی إسرائیل من مصر، والوصایا العشر التی نزلت علی موسی فی جبل سیناء. ویقال لهذا السفر فی العبریة «شِموت» (الأسماء) وهذه الکلمة مقتبسة من الآیة الأولی من هذا السفر.

3. سفر لاویان الذی یتحدّث عن کیفیة تقدیم القربان للتکفیر عن الذنوب (وخاصّة ذنوب الکهنة) وأحکام الأطعمة الطاهرة والنجسة وأحکام یوم شبات (السبت) و ...، ویقال لهذا السفر لاویان لأنّه یتحدّث عن الأحکام المتعلّقة بالکهنة من أُسرة لاوی (الابن الثالث لیعقوب والجدّ الأعلی لموسی). ویقال لهذا السفر فی العبریة «وییقرا» المأخوذة من الکلمة الأولی فی هذا السفر

4. سفر الأعداد ویروی قصّة هجرة وتیه بنی إسرائیل فی سیناء، وعملیة إحصاء النفوس لبنی اسرائیل، والأعیاد والقرابین وبعض الأحکام الشرعیة الحقوقیة و ...، ویقال له سفر الأعداد لأنّه یتحدّث عن عدد قوم بنی إسرائیل فی صحراء سیناءویقال له فی العبریة (بید بار)

ص: 582

(الصحراء) المأخوذة من الآیة الأُولی من هذا السفر.

5. سفر التثنیة الذی یتحدّث عن تاریخ بنی إسرائیل إلی وفاة موسی، وکذلک الأحکام الواردة فی الأسفار السابقة، ومن هنا جاءت تسمیته بسفر التثنیة لهذا التکرار کما أنّه فی العبریة دواریم (الکلام) المأخوذة من أوّل آیة من هذا السفر. ویظهر من کتاب التاریخ الثانی للعهد العتیق الباب 34 الآیة 14 أنّ التوراة ضاعت فی ذلک الزمان ثمّ عثر علیها فی زمان یوشیا (أحد ملوک بنی إسرائیل 609- 639 ق م) وبدیهیّ أنّ الشواهد التاریخیة وکذلک نصّ کتاب التواریخ الثانی تبیّن أنّ الذی عثر علیه لا یشکّل جمیع التوراة الفعلیة بل «سفر التثنیة» فقط، وأمّا الأسفار الأخری فقد أصبحت رسمیة ومتداولة بعد عودة الیهود من بابل بزعامة عزرا ونحمیا فی أواسط القرن الخامس قبل المیلاد.

توسافوت: بمعنی الهامش، وکتبة توسافوت هم الأشخاص الذین تحرّکوا بعد التلمود علی مستوی التحقیق فی المنابع المختلفة ومقارنتها وحلّ التعارض الداخلی الموجود فی مدوّنات التلمود م پروشیم.

توسفتا: بمعنی الضمیمة، وهی مجموعة من «بارَیْتا» وهو المصدر الثالث المدوّن لشریعة الیهود.

وهذه المجموعة بدورها تمثّل إحدی المجموعات المهمّة ل «باریتا» أی مجموعة «میدراش هلاخای» التی لم تذکر فی میشنا بل تشکّل قسماً من التلمود.

حاخام: بمعنی «حکیم»، وهو عالم التوراة والحکمة، ویطلق علی العلماء الربانیین وقضاة المحکمة «حاخام» یعنی المحکمة الشرعیة التقلیدیة للیهود فی مقابل المدنیة و العرفیة. ومحاکم الحاخامات، هی محاکم تتّصل بالموضوعات المتعلّقة بالأحوال الشخصیة، الزواج والطلاق والوصیة.

حشمونائیم: طائفة من الیهود الذین انتصروا فی معرکة ضدّ الیونانیین وقد حکموا فیما بین 140 إلی 37 قبل المیلاد.

حکومة الکهنة: الکاهن یطلق علی رجل الدین من الیهود والنصاری والذی یتولّی أداء الشعائر الدینیة، ورئیس الکهنة یتولّی الإشراف علی الهیکل «المعبد» أیضاً، و «رجال الکَهَنوت» (الکَهَنُوت وظیفة الکاهن) هم رجال الدین من الیهود والنصاری، وبالتالی فإنّ «حکومة الکهنة» بمعنی الحکومة الدینیة للیهود.

(قاموس الکتاب المقدّس، المعجم الوسیط، وقاموس عمید).

داوران: تطلق علی کبار بنی إسرائیل الذین تسلّموا قیادة بنی إسرائیل بعد یوشع، وکانوا مع کونهم ملوکاً، یتولّون أمور القضاء أیضاً (قاموس الکتاب المقدّس، ص 371).

دِاوَریتا:---) تَقانا

دِرَبانان:---) تَقانا

دِواریم:---) توراة

دین: وجمعه «دینیم» ویقترب فی معناه من القانون، ویشمل فی الأصل طائفتین من القوانین، إحداهما «دینه مامونوت» الذی یعادل فی معناه الحقوق المدنیة تقریباً (الأحکام المالیة) والأخری: «دینه نِفاشوت» والتی تساوق الحقوق الجزائیة. وبالطبع فإنّ مصطلح «دین» یستوعب دائرة أوسع من مفردة القانون لأنّه یشمل الأحکام الفردیة الناظرة لعلاقة الإنسان مع اللَّه تعالی أیضاً.

ص: 583

راشی:---) پروشیم

راو:---) ربّی

ربّی: کلمة تطلق علی آمورا (شارح) وهو عبارة عن مقام رسمیّ یتمّ نصب الشخص لهذا المقام من خلال «ناسی» أی قائد سنهدرین، وبما أنّ سنهدرین تقع فی فلسطین، فإنّهم یطلقون علی آمورا غیر الفلسطینیین أی البابلیین، اسم «راو» کعنوان رسمی.

رُش:---) آشری

ریشونیم: اسم مرحلة بارزة للشریعة الیهودیة بعدالتلمود (من القرن 13 إلی 16) وبمعنی المتقدّمین أو المراجع الأولی. فی هذا العصر اتّخذت عملیة التقنین الإجتماعی رونقاً ونشاطاً کبیراً حیث تمّ تدوین لوائح القوانین مثل کتاب شولحان عاروخ الذی ألّفه أحد علماء الیهود باسم «یوسف قارو».

زوکوت:---) سَنْهِدْرین

ساوورائیم: بمعنی «حکماء» ویطلق علی علماء الیهود البابلیین الذین عملوا بعد انتهاء التلمود البابلی علی تنظیم وتهذیب وتبویب التلمود فیما بین 500 م إلی نهایة القرن السادس.

سِدِر: بمعنی قسم، ویطلق علی کلّ قسم من میشنا، «سِدِر» وکلّ سِدِر له عدد من مَسِخِت (رسالة).

الأرض الموعودة: ویقصد بها «أرض کنعان»، وهی الأرض التی انتقل عنها أبناء یعقوب إلی مصر وبعد أن لقوا أذیً کثیراً من المصریین خرجوا من مصر بقیادة موسی علیه السلام وبعد سنوات من التّیه عادوا إلی الأرض الموعودة کنعان بعد وفاة موسی وفی زمن خلیفته یوشع بن نون.

أرض یهودا: «یهودا» هو الابن الرابع لیعقوب، وهو الذی اقترح من أجل إنقاذ یوسف من الموت بیع یوسف، وتطلق «أرض یهودا» علی الأراضی التی یملکها سبط یهودا من الأسباط الإثنی عشر ویقال لها أیضاً «مملکة یهودا». (انظر: قاموس الکتاب المقدّس، ص 979- 981).

سِفر الأعداد:---) التوراة

سِفر التثنیة:---) التوراة

سِفر الخروج:---) التوراة

سِفر لاویان:---) التوراة

سموئیل: «النبیّ سموئیلِ» هو أحد قضاة وزعماء بنی اسرائیل بعد شمعون وآخر القضاة العبرانیین وأفضلهم، وهم الذین حرّروا بنی إسرائیل من سلطة الفلسطینیین وحکموا إسرائیل بالعدل والقدرة وعملوا علی إشاعة الدین الحقیقی، واستطاعوا توحید الأسباط وتحرّکوا علی مستوی إیصال مجتمع بنی إسرائیل لدرجات عالیة من التطوّر والتمدّن، وعندما وصل سموئیل إلی الشیخوخة طلب منه بنو إسرائیل أن یعیّن لهم ملکاً، فعیّن لهم «شاؤل» (طالوت) ومن بعده داود. وقبره الآن فی «جبعون» والمعروف «الجیب» أو «الجب» وهو واقع علی تلال علی مقربة من «اورشلیم». (قاموس الکتاب المقدّس، ص 379 و ص 489- 490).

سَنْهِدْرین: (بمعنی المحکمة العلیا) وتطلق علی رسالة من رسائل قسم «نزیقین» (الأضرار والخسائر) من مجموعة «میشنا» التی تبحث فی أمور الجرائم التی تستوجب الإعدام وکیفیة تنفیذ هذه العقوبة.. وسَنْهدرین فی الأصل، اسم للمجمع الذی یضمّ العلماء والکهنة الیهود (71 نفراً) والذی کان

ص: 584

موجوداً فی 160 إلی 37 قبل المیلاد، ویقال لهذه الفترة الزمنیة «زوجوت» بمعنی الأزواج، لأنّ قیادة سنهدرین طیلة هذه الفترة کان بید خمسة أزواج من علماء الیهود وکلّ زوج یتکوّن من رئیس سنهدرین وآخر معاون له هو رئیس محکمة الشرع، وآخر زوج من هؤلاء القادة:

«هیلل» و «شَمّای» ولهما مدرستان فقهیتان معروفتان لدی الیهود.

سِوارا: (بمعنی «النتیجة المنطقیة» و «عقل») ویعد المنبع السادس من المنابع القانونیة فی شریعة الیهود.

وبالرغم من وجود حکم شرعی بواسطة میدراش، فإنّ العقل والمنطق وأدوات الاستدلال تعتبر مرشداً ومفسّراً فی عملیة تفسیر المراد فی الشریعة. کما أنّ المنابع الثلاثة: تَقانا، مَعَسه و مِنهاک بدورها تخضع فی عملیة التقنین للعقل والمنطق والاستدلال ولا تعتبر منفصلة عن العقل، ولکن فی ذات الوقت فإنّ علماء الیهود یرون العقل منبعاً مستقلّاً للقانون. وبالطبع فإنّ القانون المستخرج من هذا المنبع یوضع فی طبقة القوانین المعروفة «دِاورَیتا» (أی من التوراة) لا «دِرَبانان» (من العلماء) یعنی أنّ کلّ قاعدة تقرّها عقول علماء هلاخا فإنّها تعتبر من التوراة، لأنّهم یعتقدون بأنّ عقول علماء هلاخا تتطابق مع منطق باطن التوراة، (وهو من قبیل التصویب فی اصطلاح علم الأصول).

سوفریم: بمعنی الکتبة ویطلق علی الأشخاص الذین قاموا بتدوین «الشریعة الشفویة» إلی أن ظهرت علی شکل «میشنا» و «تلمود» (انظر «الشریعة الشفویة»، «میشنا» و «تلمود»).

شِئِلوت او- تشووت:---) پروشیم

شالحان عاروخ: بمعنی المائدة المرتّبة، وهو إسم کتاب ألّفه أحد علماء الیهود ویدعی «یوسف قارو» فی عصر ریشونیم، ویعتبر مع إضافات «ایسرلس»- وهو أحد علماء الیهود أیضاً- مرجعاً حقوقیاً وشرعیاً معتبراً فی جمیع الأعصار اللاحقة. وذکر یوسف قارو، فی بدایة کتابه «بیت یوسف» وهو حسب الظاهر یعدّ شرحاً لطور (ارباعا طوریم من تألیف یعقوب بن آشر) ولکنّه فی الواقع یمثّل کتاباً مستقلًا وقد استغرق تألیفه عشرین عاماً، وکتاب شولحان عاروخ الذی استغرق 12 عاماً؛ یعدّ خلاصة لکتاب «بیت یوسف».

الشریعة الشفویة: وهی توراة أخری یعتقد الیهود بإضافتها إلی التوراة المدوّنة التی أوحیت لموسی، ولکنّها بقیت بشکل شفوی وغیر مدوّن إلی جانب التوراة المدوّنة، وتعتبر تفسیراً وشرحاً للتوراة المکتوبة، ومن أجل حفظها من النسیان بمرور الزمان قام علماء الیهود بعد ذلک بجمعها وتدوینها علی شکل مجامیع متناثرة، إلی أن قام أحد علماء الیهود ویدعی «یهودا هناسی» فی عام 210 للمیلاد بجمعها فی کتاب واحد یسمّی میشنا، (التوضیح الثانوی، تکرار الشریعة). وبعد «میشنا» تمّ تدوین رسائل متعدّدة بعنوان «ملحقات میشنا» وکذلک تفاسیر میشنا بعنوان «جمارا» (بمعنی الإکمال) ومن مجموع هذه المدوّنات الثلاثة (میشنا، ملحقات میشنا وجمارا) تتکوّن مجموعة ضخمة تسمّی «التلمود».

الشریعة المدوّنة: وهی عبارة أخری عن التوراة النازلة علی موسی علیه السلام وتعتبر بدایة شریعة الیهود، وتقع فی مقابل «الشریعة الشفویة» وقد استمرّت إلی زمن «عزرا» و «نحمیا» (فی منتصف القرن الخامس قبل المیلاد) وتعتبر أحد الأقسام الأربعة عشر من الکتاب

ص: 585

المقدّس، والکتاب المقدّس الذی یسمّیه الیهود ب «العهد» أو «تَنَخ» ویطلق علیه المسیحیون «بالعهد القدیم» مکوّن من أربعة أقسام:

1. التوراة، وهی عبارة عن الأسفار الخمسة (سِفر التکوین، سِفر الخروج، سِفر لاویان، سِفر الأعداد وسِفر التثنیة).

2. کتب الأنبیاء السبعة عشر (نویئیم).

3. المدوّنات الإثنا عشر فی التاریخ وکیفیة الحکم (کِتوویم).

4. الکتب الخمسة فی النشید والشعرو المناجاة والأمثال.

والجدیر بالذکر أنّ الیهود یعتقدون بأنّ الأسفار الخمسة هی التوراة التی تنزّلت علی موسی علیه السلام بدون أن تمسّها ید التحریف والتغییر، فی حین أنّه مضافاً إلی أنّ القرآن الکریم لا یعتبر هذا الکتاب هو التوراة الأصلیّة، بل یقرّر أنّها ملیئة بالکذب والبهتان والأساطیر والأحکام الموضوعة والعقائد المنحرفة، فإنّ المحقّقین والعلماء من مختلف المجتمعات (ومنهم جماعة من علماء الیهود أنفسهم) توصّلوا إلی إثبات هذه الحقیقة بأدوات علمیة ومن خلال إجراء عملیات مقابلة للنصوص التاریخیة، حیث أثبتوا أنّ کلّ واحد من أسفار التوراة تفصله عن الآخر مدّة قرون من الزمان، وهی بأجمعها قد جمعت بعد رحیل موسی بعدّة قرون وظهرت بهذا الشکل الحالی، وأمّا النسخة الأصلیّة من «التوراة» و «ألواح الوصایا العشر» فقد وضعت بعد وفاة موسی علیه السلام فی «صندوق الشهادة» (وعلی حدّ تعبیر القرآن: «تابوت») وعلی هذا الأساس ذکر المفسّرون فی ذیل الآیات التی تتحدّث عن طالوت وجالوت، أنّ هذا التابوت کان موجوداً إلی زمان النبیّ داود فی (1000 عام قبل المیلاد تقریباً)، وقد تعرّض للتلف قبل میلاد المسیح بعدّة قرون (عام 568 ق م) فی عملیة التخریب والإحراق فی هجوم بخت نصّر، إلی أن قام أحد علماء الیهود ویدعی «عزرا» فی زمن «کوروش» عند عودة الیهود من الأسر البابلیّ بتدوین التوراة «العهد القدیم» بمساعدة جماعة من علماء الیهود (انظر کتاب «الجاهلیّة والإسلام تألیف العلّامة یحیی النوری، الطبعة التاسعة، ص 397- 407).

شمّای:---) سَنْهِدْرین

شِموت:---) توراة

صِدوشیم:---) پروشیم

طور:---) ارباعاطوریم.

عبرانیان: وهم بنو إسرائیل الذین ینتمون إلی العرق «السامی» (نسبة إلی «سام» ابن نوح) ویتّصل نسبهم إلی إبراهیم (قبل 2000 عام ق م تقریباً).

عزرا: الکاهن المعروف للعبرانیین والکاتب الماهر للشریعة، وکان یحضی باعتبار کبیر فی بلاط ملوک ایران (کوروش، جشتاسب واسفندیار) وفی عام 457 قبل المیلاد عاد إلی اورشلیم مع طائفة کبیرة من أسری الیهود وأسس عدّة کنائس لهم، وکتاب عزرا (وهو أحد الکتب التاریخیة للعهد العتیق) وقسم من کتاب نحمیا (وهو کتاب تاریخی آخر من العهد العتیق) الذی ألّفه عزرا وجمع فیه جمیع کتب العهد العتیق وقام بتصحیحها. ویشمل کتاب عزرا تاریخ عودة الیهود منذ عصر کوروش وقد کتبه بعد هذا التاریخ بستّین عاماً ویتحدّث فیه عن الوقائع التی حدثت فی عام 456 قبل المیلاد. (قاموس الکتاب المقدّس).

عقیوا: «عقیوا» و «مئیر» نفران من «تنّائیم»

ص: 586

(المعلّمین) الذین قاموا بتدوین الشریعة الشفویة أی شرح الأسفار الخمسة للتوراة، وقد ترکا عدّة کتب ومصنّفات، وتأتی کتبهما هذه من حیث الأهمیة بدرجة تالیة بعد «میشنا» تألیف یهودا هناسی، ویقال لمصنّفات وکتب عقیوا ومئیر، میدرشه هلاخا أو مدراش هلاخای (انظر مفردة «میدرشه هلاخا»)، واللافت أنّ «عقیوا» یعتبر أحد أساتذة «مئیر» کما أنّ «مئیر» یعتبر أحد أساتذة «یهودا هناسی».

عهد: یقال للکتاب المقدّس للیهود، «عهد» لأنّ اللَّه کما تقول التوراة، قد عقد عهداً مع قوم بنی إسرائیل أنّه سیختارهم ویصطفیهم من بین جمیع البشر فی مقابل رعایة أحکام التوراة.

الضیف الغریب: أو «نصف مؤمن» یطلق علی غیر الیهودی الذی یعمل بالقوانین الأخلاقیة السبعة للتوراة التی تسمّی «قوانین نوح» بقصد أنّ التوراة قد أمرت بها (لا علی أساس العقل والفطرة) فمثل هذا الشخص یکون محترماً لدی الیهود. والقوانین السبعة عبارة عن:

لا تعبد الوثن، لا تکفر، لا تسفک دم إنسان، اجتنب الذنوب الجنسیة، لا تسرق، لا تأکل من لحم حیوان حیّ، أقم محکمة العدل.

قانون اورنَمو: وهو مجموعة من القوانین السومَریة (سومَر/ منطقة تقع فی جنوب ما بین النهرین) التی یمتدّ تاریخها إلی 2100 عام قبل المیلاد وتعتبر من الموارد التی اقتبست منها قوانین التوراة المعاصرة.

قانون حمورابی: ویعتبر من أهمّ القوانین المعاصرة للتوراة حیث اقتبست التوراة الکثیر منه، وهذا القانون یعود إلی 1800 سنة قبل المیلاد ویعتبر حمورابی من أشهر ملوک بابل.

قبالا: بمعنی «السنّة» وهو عبارة عن التقالید التی انتقلت من موسی علیه السلام بشکل شفویّ من شخص إلی شخص، وتعتبر «قبالا» أو «السنّة» أحد المنابع الستّة للقانون الرسمیّ لشریعة الیهود.

القوانین الأمریة: وهی القوانین الواردة فی التوراة علی شکل أمر، نظیر الوصایا العشر: «لا تقتل، لاتزنِ و ...».

القوانین الموردیة: وهی القوانین الواردة فی التوراة بشکل «إذا ...» أو «عندما ...» من قبیل «إذا ضرب شخص إنساناً ومات المضروب فإنّه یقتل».

القوانین السبعة لنوح:---) «الضیف الغریب».

کِتوویم:---) نویئیم

کِنِست هیجدولا: بمعنی «المجمع الکبیر» ویطلق علی شوری الکتبة الیهود الذی أسّسه «عزرا» من أجل شرح وتفسیر التوراة.

کائونیم: جمع کائون (بمعنی النابغة والعلّامة) وهم رؤساء الجامعات فی بابل، وتعتبر هذه الجامعات مراکز معنویة وثقافیة للمجتمع الیهودی. وبعد انتهاء تدوین التلمود عاش الکائونیم إلی القرن الحادی عشر للمیلاد وکان عملهم شرح التلمود بحیث یصبح قانوناً مقبولًا لجمیع الموضوعات الاجتماعیة.

جِزِرا:---) تَقانا

جمارا: قسم من «التلمود» الذی یبحث فی تفسیر المیشنا، أی أنّ «التلمود» له متن یسمّی «میشنا» وشرح وتفسیر لهذا المتن یسمّی «جمارا».

مئیر:---) عقیوا

مپّا: بمعنی علی المنضدة، وهو اسم کتاب تمّ تألیفه فی عصر ریشونیم بواسطة أحد علماء الیهود ویدعی

ص: 587

موسی ایسرلس، من أجل رفع نواقص کتاب شلحان عاروخ.

مَسِخِت:---) سِدِر

مَعَسه: (بمعنی العمل أو الأسلوب) وتقال هذه الکلمة للقواعد الحقوقیة الصادرة من الأحکام القضائیة من قِبل المحاکم القضائیة ذات الصلاحیة، أو تطلق علی اسلوب علماء هلاخا الذین یملکون الصلاحیة فی استنتاج الحکم من الموضوع. وفی الصورة الأولی فإنّ معنی مَعَسه هو «أسلوب القضاء» وفی الصورة الثانیة یکون المقصود ما یشبه «نظریة الحقوقیین» الموجودة فی الأنظمة الحقوقیة الأخری، وتعتبر مَعَسه خامس منبع من المنابع القانونیة فی الشریعة الیهودیة.

میدراش: وهو أحد المنابع القانونیة والرسمیة فی شریعة الیهود، والمراد منه تلک القواعد المستخرجة من تفاسیر الکتاب المقدّس غیر التلمود والمیشنا.

میدرشه هلاخا: أو میدراش هلاخای وهو نوع من التفسیر المفصّل للأسفار الخمسة للتوراة (میدرشه أو میدراش بمعنی التفسیر) أی أّن «میدراش» یبحث فی دائرة ما یستنبط من هلاخا (/ الشریعة) فی التوراة بالرغم من أنّها تحتوی أحیاناً علی «اکادا» (/ البحوث التاریخیة الأخلاقیة و ... فی التوراة). میدراش هلاخای عبارة عن مجموعة تمثّل المنبع الثالث المدوّن من الشریعة الیهودیة، أی «باریتا» التی لم ترد فی میشنا بل ذکرت فی التوراة، ولذلک لیس لها اعتبار فی المنابع الرسمیة.

میشباط: ویعنی فی النصوص الشرعیة الیهودیة «القانون»، وخلافاً لمصطلح القانون، فإنّه ناظر للأحکام التی تتّصل بعلاقة الإنسان مع اللَّه (الأحکام الفردیة) أیضاً.

میشنا: ظهرت فی عصر تنّائیم (المعلّمین) مجموعتان من المدوّنات، المجموعة الأولی عبارة عن الکتب والمصنّفات من اللوائح القانونیة، وفیها یدور الحدیث عن تفاسیر الأسفار الخمسة للتوراة ضمن أبواب خاصّة للشریعة، و قد دوّنت بشکل مضغوط وسمّیت میشنا، والمؤلّف لها أحد علماء الیهود ویدعی «یهودا هناسی» الذی کان یمتاز بالدقّة فی جمع الهلاخا، وقد اختار من الهلاخا الواردة فی هذا الکتاب ما یتّفق علیه علماء الیهود.

میشنه تورا: وهو أحد خلفاء الفاسی (أهمّ مقنّن للیهود فی عصر ریشونیم فی ما بین 11 إلی 16) وهو تلمیذ تلمیذه ویعرف بموسی بن میمون أو «رامبام». من أهالی قرطبة فی اسبانیا (1135- 1204 م). ویعتبر کتابه «میشنه تورا» (/ التوراة الثانیة) أکبر کتاب فی الهلاخا. ویتضمّن هذا الکتاب جمیع الشریعة التلمودیة فی أربعة عشر قسماً أصلیاً وقد کتبه بأسلوب سهل ومعروف ب «یَدهخراقا» (/ الید القویة).

میصوا: بمعنی الحکم والتکلیف، سواء فی دائرة الأحکام الاجتماعیة یساوی (/ القانون) أو الأحکام الفردیة الناظرة لعلاقة الإنسان مع اللَّه.

مینهاک: (بمعنی «العرف») وتطلق هذه الکلمة علی القواعد الحقوقیة التی تستنتج من الأشکال المختلفة للعرف، ویعدّ مینهاک المنبع الرابع من المنابع القانونیة للشریعة الیهودیة.

نحمیا: ولد فی بابل فی زمن أسر الیهود هناک وعمل فی شوش فی منصب الساقی لملک إیران، أردشیر درازدست. وطلب من ملک إیران أن یأذن له بالتوجّه إلی اورشلیم، ولذلک أرسله الملک أردشیر (فی عام

ص: 588

444 قبل المیلاد تقریباً) والیاً علی اورشلیم وذلک فی السنة 20 من حکومة اردشیر وقد بذل جلّ اهتمامه فی بناء سور حول مدینة اورشلیم وقد أکمل بناءه بعد سنة واحدة، وکان من أصدقائه الخلّص «عزرا». وعاد نحمیا فی عام 432 ق م تقریباً إلی موطنه الأصلی بابل ثمّ طُلبَ بعد عدّة سنوات من قِبل أهالی اورشلیم لإجراء بعض الإصلاحات علی المسائل الدینیة التی کانت مورد خلاف بین الیهود، ومن هنا کان «کتاب نحمیا» (وهو اسم أحد الکتب التاریخیة للعهد العتیق) یتضمّن جمیع هذه المسائل والوقائع، وقد ألّفه فی سنة 400 قبل المیلاد ویعدّ بمثابة تتمّة وتکملة لکتاب عزرا والبعض یعتقد بأنّ هذا الکتاب هو الکتاب الثانی لعزرا.

نووِلّی:---) پروشیم

نِویئیم: إنّ الکتاب المقدّس للیهود یتألّف من ثلاثة أقسام: 1. التوراة، 2. نِویئیم بمعنی کتب وصحُف أنبیاء بنی إسرائیل التی بمجموعها سبعة عشر کتاباً ومعروفة بالنبوّة السابعة عشرة. 3. کِتوویم بمعنی المدوّنات وهی:

اثنا عشر کتاباً تتعلق ببحوث تاریخیة ومسائل القضاء، وخمسة کتب أخری تتضمّن أناشید وأشعار ومناجاة وأمثال لبعض الأنبیاء.

وَییقرا:---) التوراة

هلاخا: تساوق «شریعة» بالمعنی العامّ، حیث تشمل جمیع التعالیم الدستوریة فی الدین، وفی المعنی الخاصّ یعنی کلّ قاعدة شرعیة جدیدة.

هلینیسم: نمط التفکیر الیونانی فی عصر 332 قبل المیلاد فصاعداً، حیث أثّر هذا النمط من التفکیر تأثیراً کبیراً علی الذهنیة الیهودیة بعد تسلّط الیونانیین علی الیهود، ویطلق الیهود علی الأقوام التی خضعت لسیطرة الیونانیین، ب «هلنیز». (قاموس الکتاب المقدّس، ص 974).

هیکل سلیمان: رمز الصمود وبقاء قوم بنی إسرائیل والذی بناه سلیمان فی مدینة اورشلیم ویتضمّن معبداً کبیراً، یجب علی الیهود الإتیان بالکثیر من مناسکهم وطقوسهم الدینیة کتقدیم القرابین و ... فیه، وقد تمّ تخریبه علی ید بخت نصّر مرّة، وأیضاً علی ید القائد الرومانی «تیتوس» مرّة ثانیة.

هیلل:---) سَنْهِدْرین

یوسف قارو:---) شولحان عاروخ وریشونیم

یوشیا: هو الملک الخامس عشر من ملوک «مملکة یهودا» التسعة عشر (/ «أرض یهوا» التی سبق الکلام عنها فی عنوان «أرض یهودا»). وقد تسلّم زمام الحکومة والملک فی عمر 8 سنوات وحکم مدّة 31 سنة (639- 609 قبل میلاد المسیح) وهو معروف بالتقوی والورع والاستقامة. وفی زمانه عثر علی سِفر التثنیة من التوراة، وقد تحرّک فی حکومته من موقع التصدّی لعبادة الأوثان ومحاربتها بشدّة (خلافاً لأبیه «آمون» وهو الملک الرابع عشر) وعمل علی ترمیم الهیکل (المعبد) وتوفّی وله من العمر 39 سنة (قاموس الکتاب المقدّس مفردة یوشیا).

***

المنابع والمصادر

1. الأدیان العالمیة الکبیرة، هاشم الرضی، منظمة انتشارات فروهر، طهران، الطبعة الخامسة، 1360.

ص: 589

2. تاریخ الحقوق الجزائیة بین النهرین، النجفی الأبرندآبادی، علی حسین وحسین بادامچی (ترجمة): طهران سمت، الطبعة الأولی، 1383.

3. تاریخ قوم یهود، کلاپرمن، ژیلبرت ولیبی، 3 ج، ترجمة مسعود همتی، طهران، لجنة اوتصر هتورا الثقافیة، الطبعة الأولی، 1347.

4. شریعة حمورابی وأصل التشریع فی الشرق القدیم، جماعة من الکتّاب، مترجم (عربی) أسامة سراس، دمشق، دارعلاءالدین، 1992.

5. عدالت کیفری در آیین یهود، حسین سلیمانی، مرکز مطالعات وتحقیقات أدیان ومذاهب، قم، الطبعة الأولی، 1384 (بالفارسیة).

6. فلسفة علم الحقوق، ناصر کاتوزیان، 3 ج، شرکة سهام انتشار، طهران، الطبعة الثانیة، 1380.

7. قانون حمورابی، میک، تئوفیل، ترجمة کامیار عبدی، الطبعة الثانیة، منظمة میراث الثقافی، طهران، 1376.

8. قوانین هیتی ها، قانون نامه ای از آسیای صغیر، هافنر، هری، ترجمة فرناز أکبری الرومنی، طهران، انتشارات حقوقی، الطبعة الأولی، 1384 (بالفارسیة).

9. الکتاب المقدّس، بمساعی لجنة نشر الکتب المقدّسة، 1985 (افست من النسخة الأصلیة 1904).

10. کنوز من التلمود، کهن، راب، ترجمة أمیر فریدون جرجانی، مطبعة زیبا، 1350.

11. مقدّمة علم الحقوق، شرکة سهام انتشار، طهران، الطبعة الرابعة عشر، 1370.

***. 21.

Encyclo paedia Judaice( EJ ).," Israel, Legalan dJudicial System", A. F. L./ S. Lev v. Decennial Book) 3891- 2991 (, pp. 512- 81.

31.

A Beginner's Guide to the Steinsaltz Talmud, Abrams, Judith Z. Jason Aronson Inc, 9991.

41." Baraita",

EJ., B. D. V., v. 4, pp. 981- 39. 51." Savoraim",

EJ., D. S., v. 41, pp. 029- 12. 61. D. S.," Tanna, Tannaim",

EJ., v. 51, pp. 897- 308. 71.

The Cambridge History of Judaism, Davies, egdirbmaC, 2. v: ). de( nietslekniF siuoL dna. D. W University Press, 1 st published, 9891.

81. Do. L.," Israel, Legal and Judicial System",

EJ., v. 71, pp. 163- 3.

91. Ed.," Zugot",

EJ., v. 61, pp. 2321- 4. 02.

The Oxford Companion to the Bible, Ehrlich, Carl S.:" Law, Israelite Law", Bruce M.

Metzger and Michael D. Coogan( ed. ), Oxford University Press, New York, 3991.

, slov 17. 12.

, aciaduJ aideapo lcycnE Encyc lopaedia Judaica Jerusalem, corrected ed., 6991( Peusd.:

EJ. ). 22.

Code of Jewish Law, Kitzur Shulh

anArukh Ganzfried, Rabbi Solomon: Translated by Hyman E. Goldin, LL. B., revised ed., Hebrew Publishing Company, New York, 1691.

32. H. E. Ba.," Israel, Legal and Judicial System",

EJ., v. 9, pp. 826- 55.

42.

ص: 590

Divine Command Ethics, Jewish andChristian Perspectives, Harris, Michael J.:

RoutledgeCurzon, 1 st published, 3002.

52.

The Cambridge History of Judaism, Horbury, William and W. D. Davies, v. 3, Cambridge University Press, 1 st published, 9891.

62. I. T. S.," Rishonim",

EJ., v. 41, pp. 291- 3. 72.

Harper's Bible Dictionary, J. U.:" Torah", Paul J. Achtemeir( ed. ), Harper San Francisco, 5891.

82.

Harper's Bible Dictionary, J. U.:" Torah", Paul J. Achtemeir( ed. ), Harper San Francisco, 5891.

92. L. J.," Hermeneutics",

EJ., v. 8, pp. 663- 27. 03. M. D. H.," Midreshei Halakhah",

EJ., v. 11, pp. 1251- 3.

13. M. D. H.," Tosefta",

EJ., v. 51, pp. 3821- 5. 23. M. D. H./ M. E.," Minhag",

EJ., v. 21, pp. 4- 52. 33. M. E.," Codification of Law",

EJ., v. 5, pp. 826- 656. 43. M. E.," Interpretation",

EJ., v. 8, pp. 3141- 92. 53. M. E.," Ma'aseh",

EJ., v. 11, pp. 146- 9. 63. M. E.," Mishpat Ivri"

EJ., v. 21, pp. 901- 15. 73. M. E.," Sevarah",

EJ., v. 41, pp. 5911- 8. 83. M. E.," Takkanot",

EJ., v. 51, pp. 217- 82. 93. M. Man.," Pharisees",

EJ., v. 31, pp. 363- 6. 04. M. Man.," Saducees",

EJ., v. 41, pp. 026- 22. 14.

Maimonides' Introduction to the Talmud, Maimonides: A Translation of the Rambam's Introduction to His Commentary on the Mishna, Translated by Zvi Lampel, the Judaica Press, Inc., U. S. A., revised ed., 8991.

24.

Maimonides' Intro duction to the Talmud, Maimonides:

A Trans lation of the Rambam'sIntro duction to His Comm entary on the Mishna, Trans lated by Zvi Lampel, the Judaica Press, Inc., U. S. A., revised ed., 8991.

34. Mo. W./ L. I. R.," Pent ateuch",

EJ., v. 31, pp. 132- 46. 44.

Compar ing Religions ThroughLaw, Judaismand Islam, Neusner, Jacob and Tamara Sonn:

Routledge, London and New York, 9991.

54.

Comparing Religions Through Law, Judaism and Islam, Neusner, Jacob and Tamara Sonn: Routledge, London and New York, 9991.

64. Sh. S.," Amoraim",

EJ., v. 2, pp. 568- 57. 74. Si. A./ J. Br.," Gaon",

EJ., v. 7, pp. 513- 81. 84. St. Sch./ Sa. B.," Noachide Laws",

EJ., v. 21, pp. 9811- 19.

94.

The Talmud, The Steinsaltz Edition, AReference Guide, Steinsaltz, Rabbi Adin: Random House, New York, 9891.

05.

The Talmud, The Steinsaltz Edition, AReference Guide, Steinsaltz, Rabbi Adin:

Random House, New York, 9891.

15.

The Babyl onian Talmud, 81 vols, ed.: Rabbi Dr. J. Epstein, the Soncino Press, London, 5391- 2591.

25.

The Babylonian Talmud, 81 vols, ed.: Rabbi Dr. J. Epstein, the Soncino Press, London, 5391- 2591.

35.

The Jewish Bible TANAKH, the Jewish Publication Society, 5891.

45.

The Jewish Bible TANAKH, the Jewish Publication Society, 5891.

55. Y. D. G.," Soferim",

EJ., v. 51, pp. 97- 18. 65. Y. Ho.," Aharonim",

EJ., v. 71, pp. 531- 8 ..

ص: 591

22

القسم الثانی و العشرون: مصادر التشریع و مبانی الحقوق فی المدارس الحقوقیة المعاصرة

اشارة

مذهب الحقوق الفطریة

المذاهب التاریخیة والوضعیة الخصائص المشترکة لهذه المذاهب

- المذهب التاریخی

- المذاهب التجریبیة

- نظریّة اتّحاد الحقوق مع الدولة

- المذاهب الوضعیة

ص: 592

ص: 593

مصادر التشریع و مبانی الحقوق فی المدارس الحقوقیة المعاصرة

المقدّمة:

1. عندما نتحدّث عن منابع الحقوق الإسلامیة، فذلک یعنی البحث فی المنابع الأربعة المعروفة: الکتاب، السنّة، الإجماع والعقل. والمراد من المنابع فی هذا المصطلح، الأمور التی ینبغی للفقیه المسلم مراجعتها للبحث عن القوانین والأحکام الإسلامیة، کما أنّ مجلس التقنین فی أحد البلدان الإسلامیة یجب علیه، فی عملیة وضع القوانین، الرجوع إلی المنابع المذکورة والاستناد إلیها، والمراد من الحقوق الإسلامیة، النظام الحقوقی فی الإسلام، أی مجموعة الأحکام والقوانین الإسلامیة التی تعتبر أساساً ومنشأ لظهور جمیع الحقوق والتکالیف.

وبعبارة أخری: إنّ کلّ حقّ وتکلیف فی الإسلام یجب أن یکون مستنداً إلی قانون، وهذا القانون بدوره یجب أن یکون مبتنیاً ومستخرجاً من أحد المنابع الأربعة المذکورة: الکتاب والسنّة والإجماع والعقل، وبالتالی فإنّ هذه المنابع الأربعة فی الواقع تعتبر مصادر التشریع، «أو منابع التقنین».

ومعلوم أنّ فقهاء أهل السنّة یذهبون إلی منابع أخری غیر العقل کالقیاس والاستحسان والاستصلاح، ویرون أنّها من شُعب العقل ومعطیاته.

والملاحظة الجدیرة بالالتفات هی أنّ الإرادة الإلهیّة تمثّل الأساس الذی یقوم علیه صرح الحقوق الإسلامیة، وفی الواقع فإنّ الکتاب والسنّة والإجماع والعقل بمثابة عناصر کاشفة عن الإرادة الإلهیّة ومبیّنة لها، وعلی هذا الأساس یمکن القول أنّ المصدر الأصلی للحقوق الإسلامیة أو التشریع فی الإسلام هو الإرادة الإلهیّة، وأنّ کلّاً من الکتاب والسنّة والإجماع والعقل بمثابة الدلیل والمرشد لنا لمعرفة معالم الإرادة الإلهیّة. ومن هنا فالتعبیر الدقیق لذلک هو أنّ هذه العناصر الأربعة تمثّل مصادر التشریع أو مبانی وأدلّة الحقوق الإسلامیة أو الأحکام الشرعیة، کما أنّ الوارد فی کلام الفقهاء أیضاً تسمیتها بالأدلّة الأربعة، ولکن بما أنّ السائد فی هذه الأمور أنّها تعتبر مصادر الحقوق الإسلامیة، ولهذا فنحن نستخدم هذه العبارة أیضاً.

2. إنّ اصطلاح «منابع الحقوق» فی علم الحقوق المعاصر له معنی آخر یختلف عن معنی مصادر التشریع، لأنّ علماء الحقوق عادة یذکرون فی ذیل هذا

ص: 594

المصطلح أربعة منابع أو مصادر للتشریع: القانون، العرف، الذوق القضائی وأقوال علماء الحقوق. وعلی هذا الأساس فإنّ کلمة «قانون» تعدّ فی هذا الاصطلاح أحد مصادر الحقوق، فی حین أنّه علی ضوء الحقوق الإسلامیة، فإنّ القانون لا یعتبر من مصادر الحقوق، بل یبتنی علیها، ویستنبط بواسطتها.

النتیجة أنّ ما یصطلح علیه ب «منابع الحقوق» یأتی بمعنیین مختلفین فی کلّ من الحقوق الإسلامیة وعلم الحقوق المعاصر، لأنّه کما تقدّم، أنّ المقصود من منابع الحقوق فی الإسلام هی مصادر التشریع فی الإسلام أو منابع وضع القانون فی الإسلام، فی حین أنّ المقصود من منابع الحقوق فی اصطلاح علم الحقوق المعاصر هو ما یکون منشأ لظهور «الحقوق» و «التکالیف» لا منشأ ظهور القانون، ولذلک نری فی الأنظمة الحقوقیة غیر الدینیة، أنّ القانون یعتبر أحد منابع ظهور الحقّ والتکلیف «لا أنّه المصدر الوحید لها» ویعتبر قسماً من منابع الحقوق، ولکن فی النظام الحقوقی الإسلامی فإنّ کلّ حقّ وتکلیف ینبعث من القانون، ولذلک فإنّ القانون هو المنشأ الوحید للحقّ والتکلیف، لا أنّه أحد المنابع والمناشی ء، وهو بدوره یقوم علی أساس بعض الأمور التی تعتبر مصادر التشریع أو منابع وضع القانون، أی الکتاب والسنّة والإجماع والعقل التی هی عناصر تساهم فی الکشف عن الإرادة الإلهیّة التی تمثّل أساس ومصدر کلّ قانون، وعدم الالتفات إلی هذا المعنی ربّما یؤدّی إلی الوقوع فی أخطاء أساسیة، وهو ما نراه مع الأسف فی کلمات بعض الکتّاب الذین خلطوا بین هذین المعنیین لهذا المصطلح.

3. والآن یثار هذ السؤال: ما هی المفردة التی تساوق مصطلح «منابع الحقوق» فی علم الحقوق المعاصر التی تأتی بالمعنی المقصود فی الحقوق الإسلامیة «أی بمعنی مصادر التشریع الإسلامی»؟

وبعبارة أخری: بما أنّ منابع الحقوق فی الإسلام هی الأمور التی یرجع إلیها الفقیه المسلم للعثور علی الحکم الشرعیّ والکشف عن القانون الإلهیّ، إذن فلابدّ من ملاحظة المصطلح الوارد فی علم الحقوق المعاصر للإشارة إلی الأمور التی یبتنی علیها القانون ویرجع إلیها المقنّن فی عملیة تدوین القوانین. ومن خلال التدقیق فی الاصطلاحات الحقوقیة نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ هذا المصطلح هو «مبانی الحقوق».

4. وقد ذکروا فی تعریف «مبانی الحقوق» أنّها العوامل التی تجعل من القانون الخاصّ ملزماً للمکلّف بحیث یجب علیه امتثال هذا القانون وإطاعته، وفی الواقع تقع فی مقام الجواب عن هذا السؤال: لماذا یجب امتثال وإطاعة قوانین معیّنة (لا مطلق القانون)؟(1).

وتوضیح ذلک؛ بعد إحراز حاجة الإنسان إلی الحیاة الاجتماعیة فلا یبقی شکّ فی أنّ بقاء هذه الحیاة الاجتماعیة وبقاء النظام الاجتماعی یرتبط بوجود القانون الذی بواسطته یمکن حلّ الکثیر من مظاهر التزاحم والتقاطع بین مصالح الأطراف ومواجهتها، وکذلک بالإمکان تقسیم الحقوق والتکالیف بین أفراد المجتمع بصورة عادلة.

إنّ هذه الضرورات العقلیة والعقلائیة لا یطلق علیها مبانی الحقوق، لأنّ مبانی الحقوق لیست ناظرة إلی دلیل لزوم إطاعة مطلق القانون فی المجتمع البشریّ، بل ناظرة إلی العوامل التی تفرض علی الإنسان أن یتحرّک


1- فلسفة الحقوق لناصر کاتوزیان، ج 1، ص 39( بالفارسیّة).

ص: 595

فی خطّ الطاعة لمجموعة من القوانین الخاصّة والمعینة، وهی القوانین المبتنیة علی أساس رؤیة خاصّة ومذهب فکریّ خاصّ، یعنی بعد أن تبیّنت ضرورة إطاعة القانون بشکل مطلق، فإنّ کلّ قانون یتمّ تدوینه یواجه هذا السؤال الأساسیّ، وهو: لماذا یجب علی الإنسان إطاعة هذا القانون بالذات لا قانون آخر؟ وبعبارة أخری: ما هو الدلیل لترجیح هذا القانون علی غیره من القوانین الأخری؟

النتیجة، یجب التحرّک علی مستوی التفکیک فی هذا البحث بین هذین المصطلحین، أحدهما مصطلح منابع الحقوق، وهو المستخدم فی علم الحقوق المعاصر بمعنی المصادر والمناشی ء التی ینشأ منها الحقّ والتکلیف، ویستخدم فی تبیینها مفردات من قبیل القانون والعرف والذوق القضائی وأقوال علماء الأخلاق «نظریاتهم».

والآخر، مصطلح مبانی الحقوق الذی یقصد به العوامل والعناصر التی تجعل من قوانین خاصّة ملزمة للمکلّف، أی تکون منشأ لوضع قوانین معیّنة.

ومع الأسف، فإنّ بعض الکتّاب قد سلک فی هذا البحث مسلک التسامح، وذکر أنّ الکتاب والسنّة والإجماع والعقل والتی هی مصادر بروز القانون فی الإسلام «القانون الذی أصبح فی مرتبة لاحقة مصدر ظهور «الحقّ والتکلیف» بعنوان أنّها منابع الحقوق فی الإسلام، فی حین أنّه ینبغی القول عنها بأنّها مبانی الحقوق فی الإسلام، لأنّ منابع الحقوق مصطلح حقوقی خاصّ ویقصد بها ما یکون منبعاً ومصدراً لظهور الحقّ والتکلیف، لا أنّها مصدر لظهور القانون، ولذلک فإنّ القانون یعتبر بذاته أحد منابع الحقوق، إذن فلا شکّ فی عدم إمکانیة استخدام مصطلح منابع الحقوق بمعنی مناشی ء ومصادر وضع القانون فی عالم الحقوق المعاصر، لأنّ أحد المنابع القطعیة للحقوق هو القانون نفسه، وبدیهیّ أنّ القانون بذاته لا یمکنه أن یکون منشأً لوضع القانون أیضاً.

وعلی هذا الأساس، وطبقاً للاصطلاحات الحقوقیة السائدة، فإنّ ما یؤخذ بنظر الاعتبار عند وضع وتدوین القانون، مبانی الحقوق التی یتمّ وضع القانون علی أساسها، لا منابع الحقوق. وأمّا ما یؤخذ بنظر الاعتبار عند التحکیم أو القضاء، ویکون مورد استناد القاضی هو منابع الحقوق (القانون، العرف، الذوق القضائی وأقوال ونظریات علماء الحقوق) لا مبانی الحقوق.

والحاصل أنّه مضافاً إلی وجود فرق بین معنی مبانی الحقوق ومنابع الحقوق، فهناک فرق أیضاً بین محلّ ومورد استناد کلّ منهما، لأنّ مبانی الحقوق تقع مورد استناد المقنّن، وأمّا منابع الحقوق فتقع مورد استناد القاضی.

وفی مقام الجواب عن السؤال السابق عن مبانی الحقوق، وما هی العوامل التی تلزم الإنسان العمل بقانون خاصّ وتفرض علیه إطاعته، فهناک مذاهب مختلفة یمکن تقسیمها إلی طائفتین: 1- مذهب الحقوق الفطریة أو الطبیعیة، 2- المذاهب التاریخیة والوضعیة.

إنّ أنصار مذهب الحقوق الفطریة أو الطبیعیة یرون أنّ أصل الحقوق یقوم علی أساس العدل، وأمّا أتباع المذاهب التاریخیة والوضعیة فیرون أنّ المبنی للحقوق یتمثّل فی عنصر السلطة فی المجتمع أو الوجدان العام (1).


1- انظر: کلیّات الحقوق، ص 19 إلی 22 و المقدّمة العامة لعلم الحقوق، ص 30( بالفارسیّة).

ص: 596

ومعلوم أنّ کلّ واحد من هذین المذهبین یتحدّث مضافاً إلی مبناه الأصلیّ، عن مبانٍ أخری من قبیل معطیات العقل والتجربة البشریة وإرادة الشعوب وما إلی ذلک وهو ما سنتحدّث عنه فی هذا الفصل:

1. مذهب الحقوق الفطریة

اشارة

إنّ المبنی الأصلیّ للحقوق فی هذا المذهب هو العدل، فطبقاً لهذه الرؤیة فإنّ المقنّن من جهة یجب علیه اتّباع أصل العدالة فی عملیة التقنین، والأتباع یجب علیهم التحرّک فی خطّ الطاعة للقانون فیما إذا کانت المقرّرات الصادرة، من الحکومة العادلة، وبالتالی یجب علیهم تطبیقها وامتثالها. علی هذا الأساس فإنّ القانون الذی لا یقوم علی أساس العدل فإنّه یتّخذ صورة القانون فی الظاهر لا الواقع، وعندما یتحرّک أفراد المجتمع من موقع الالتزام بإطاعة هذا القانون فإنّ ذلک لا یعنی وجود تکلیف وجدانی فی واقعهم النفسی (1).

وإلی جانب أصل العدالة فی هذا المذهب الذی یعتبر أساساً للحقوق، هناک مبانٍ أخری أیضاً فی هذا المذهب، من قبیل لزوم حفظ النظام العامّ وتوفیر الرفاهیة لأفراد المجتمع والتی تأتی فی مرتبة متأخّرة عن أصل العدالة.

تحوّل الحقوق الفطریة:

والنقطة المهمّة هنا أنّ الملاحظة فی هذا المذهب هی تحوّل هذا المفهوم علی طول المسار التاریخی، بحیث أنّه إلی ما قبل القرن السابع عشر المیلادی فإنّ الحقوق الفطریة فی نظر الکثیر من العلماء کانت تتمثّل بمجموعة قواعد عالیة وسامیة لا یمکن للعقل البشری فهمها وإدراکها. والملاحظ أنّ الدین المسیحی کان له دور مؤثّر فی صیاغة هذه الرؤیة للحقوق فی الغرب، کما نری أنّ سن توماس داکن الفیلسوف الدینی فی القرن الثالث عشر للمیلاد یقسّم القوانین إلی ثلاثة أقسام: «إلهیّة» و «فطریة أو طبیعیة» و «بشریة».

والقوانین الإلهیّة تنشأ فی نظره من الإرادة الإلهیّة وبالتالی فهی حاکمة علی عالم الوجود. والعقل البشری الناقص قاصر عن الإحاطة بها ومعرفتها، ومن هنا فإنّ اللَّه تعالی وکذلک الأنبیاء الإلهیین وبواسطة الوحی الإلهیّ یحیطون بها علماً.

أمّا القوانین الطبیعیة أو الفطریة فهی فی نظر سن توماس داکن مستقاة بواسطة العقل البشریّ علی ضوء المشیئة الإلهیّة، وأمّا القوانین البشریة فهی ولیدة فکر الإنسان ویجب تحقیق عملیة إجراء القوانین الفطریة فی دائرة مصادیقها(2).

کما یلاحظ وفقاً لهذه الرؤیة أنّ المنبع الأصلیّ للحقوق الفطریة یتمثّل بالإرادة الإلهیّة، وبدیهیّ أنّ هذه الإرادة تتعلّق بإقامة العدل فی فضاء الفرد والمجتمع.

وفی ذات الوقت فإنّ اللَّه تعالی قد خلق الإنسان بحیث یدرک بعقله فقط وبدون أیّة واسطة، تلک القواعد للحقوق الفطریة، وهذه القواعد الحقوقیة مطابقة لفطرة الإنسان ومطابقة لطبیعة العدالة، بحیث أنّه لا یتمکّن أیّ شخص وفی أیّ مقام من التحرّک علی مستوی إنکارها ونفیها.

والنتیجة، أنّه طبقاً لهذه الرؤیة فإنّ الحقوق الفطریة ثابتة وعامة ولا تتعرّض للخلل بعامل تغیّر الزمان


1- مقدّمة علم الحقوق، ص 5( بالفارسیّة) الطبعة التاسعة، 1367 ه. ش.
2- انظر: تاریخ الفلسفة السیاسیة، ج 1، ص 309( بالفارسیّة).

ص: 597

والمکان، ولا یقلّ من اعتبارها وقدرتها(1).

وتدریجیاً وفی القرن 17 و 18 م، بدأت الحقوق الفطریة تفقد جذورها الدینیة والإلهیّة فی أوربا، ومن روّاد هذه النهضة الجدیدة: جروسیوس الهولندی، بوفندروف الآلمانی، دیکارت الفرنسی وجون لوک البریطانی.

إنّ مفهوم الحقوق الفطریة فی هذا العصر یمتاز بعدّة خصوصیات:

1. إنّ منبع الحقوق الفطریة هو الإنسان لا اللَّه.

2. إنّ الغایة من الحقوق الفطریة، حمایة الحقوق الفردیة لا تنفیذ إرادة اللَّه فی واقع الحیاة وفی المجتمع.

3. إنّ الحقوق الفطریة تعدّ أساساً للمبانی الحقوقیة ولا تنحصر فی أصول مجرّدة وکلیة.

وتوضیح ذلک: إنّ الحقوق الفطریة فی عصر ما قبل القرن السابع عشر المیلادی وإن کانت واضحة علی مستوی المفهوم، ولکنّها کانت تملک اعتباراً فی دائرة الأخلاق غالباً، ولم تلحظ من جهة کونها حقوقاً، ولکن فی القرنین 17 و 18 للمیلاد وجدت لها أساساً فی مورد الحقوق. وعلی هذا الأساس ألّف العالم الفرنسی المعروف منتسکیو کتابه «روح القوانین» وسمّاه بهذا الإسم لتوضیح هذه الفکرة، وهی أنّه قبل وضع القوانین کان هناک معیار وملاک لتمییز العدل من الظلم وعلی الحکومة أنّ تتحرّک علی مستوی تقنین القوانین بملاحظة هذا المعیار(2).

وفی القرن التاسع عشر والقرن العشرین وبعد توجیه انتقادات کثیرة لمذهب الحقوق الفطریة، فإنّ أنصار هذا المذهب أبدعوا تفاسیر جدیدة لمفهوم الحقوق الفطریة أدّت إلی خلق تحوّل جدید فی هذا المفهوم، ولا بأس بالإشارة إلی بعض هذه التفاسیر والرؤی:

1. ذهبت طائفة من الکتّاب المفکّرین إلی أنّ قواعد وأصول هذه الحقوق، مع الاحتفاظ بالمفهوم السائد للحقوق الفطریة وثباتها، أنّ هذه الحقوق تندرج ضمن عدّة قواعد کلّیة وعامّة مثل وجوب الوفاء بالعهد ولزوم جبران الضرر الواقع علی الآخرین إذا کان بغیر حقّ، وأمّا سائر القواعد والقوانین الأخری فی واقع الحیاة فهی قابلة للتغییر وناتجة من طبیعة الضرورات والحاجات الإجتماعیة(3).

2. وذهب بعض آخر إلی إنکار ثبات الحقوق الفطریة بشکل کلّی وأنّ موضوع قواعد هذه الحقوق یتغیّر فی کلّ عصر وزمان، وعلی هذا الأساس لم یبق من هذه النظریة سوی اسمها. ویری استاملر عالم الحقوق النمساوی، أنّ الحقوق الفطریة غیر ثابتة ولیست دائمیة، بل یجب العمل فی کلّ مرحلة وفق مقتضیات ومتغیّرات تلک الأجواء الاجتماعیة. وأمّا ما هو ثابت بصورة دائمیة فهو مفهوم العدل والظلم والشوق لتحقیق العدالة فی واقع المجتمع، والتی تفرض حقوقاً فطریة خاصّة لهذه الأجواء(4).

3. وذهب أکثر الحقوقیین الفرنسیین المعاصرین إلی أنّ الحقوق الطبیعیة أو الفطریة تمثّل مجرّد عنصر إلهام للمقنّن فی عملیة التقنین وتنحصر هذه الحقوق بحسّ طلب العدالة فقط(5).


1- انظر: مقدّمة علم الحقوق، ص 7( بالفارسیّة).
2- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 59- 61( بالفارسیّة).
3- رسالة مقدّمات الحقوق المدنیة، تألیف بلانیول، ج 1، العدل 4 و 7 مکرر و دورة مقدّمات الحقوق المدنیة، تألیف کولن و کابیتان، ج 1، العدل 3 فصاعداً من: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 96.
4- انظر: کلیّات الحقوق، ص 41( بالفارسیّة).
5- المصدر السابق، ص 42.

ص: 598

أصول وخصائص الحقوق الفطریة:

ومع الأخذ بنظر الاعتبار، اختلاف الآراء بین أنصار مذهب الحقوق الفطریة والتحوّل الذی طرأ علیها طیلة مسارها التاریخی، فإنّه بالإمکان تلخیص فصول هذا المذهب بما یلی:

1. إنّ الحقوق الطبیعیة أو الفطریة، هی القواعد التی تقع فوق إرادة السلطة، وعلی المقنّن أن یأخذها بنظر الاعتبار عند وضع القوانین الاجتماعیة، والظاهر أنّ جمیع أنصار هذه المدرسة یتّفقون علی هذه الخصوصیة.

2. إنّ قواعد الحقوق الفطریة ثابتة للجمیع ولا یمسّها التغییر، وبالإمکان إجراؤها بالنسبة لجمیع الأقوام والشعوب فی جمیع مناطق العالم بشکل متساوٍ.

وفی هذه الخصوصیة أیضاً لا یوجد اختلاف حسب الظاهر بین أنصار وأتباع هذه المدرسة. إلّاأنّ استاملر عالم الحقوق النمساوی شکّک فی هذا المورد، وبالطبع فإنّ رأیه هذا لم یقع مورد اعتراض أنصار هذه المدرسة فحسب، بل إنّ الآخرین انتقدوه علی هذا الرأی وذهبوا إلی تخطئته.

3. إنّ قواعد الحقوق الفطریة بدیهیة ویتمکّن جمیع أفراد البشر من فهمها ودرکها بقلیل من التأمّل والالتفات.

وفی هذه الخصوصیة هناک اختلاف کبیر فی الرأی بین أتباع هذه المدرسة، والمسلّم أنّ جماعة من فلاسفة الیونان، أی الرواقیین کانوا یرون هذه الرؤیة بالنسبة للحقوق الفطریة، ولکن فلاسفة آخرین من الیونانیین وکذلک فقهاء المسیحیة، یعتقدون بعدم بداهة هذه الأصول والقواعد بالرغم من أنّهم لا یتردّدون فی ضرورة العمل بها فی الواقع الاجتماعی والنفسیّ، ویمکن القول أنّ أکثر أنصار مذهب الحقوق الفطریة یعتقدون بأنّ قواعد هذه الحقوق یمکن اکتشافها بالتأمّل والتحلیل العقلانی، ولا لزوم لکونها بدیهیة، إلّا أنّ بعض المفکّرین مثل جان جاک روسو الکاتب وعالم الحقوق الفرنسی المعروف یعتقد بأنّ العقل البشریّ عاجز عن تشخیص قواعد الحقوق الفطریة، ویدّعی أنّ الطریق إلی إدراک هذه القواعد یمرّ فقط من قناة الوجدان (1).

4. إنّ الحقوق الفطریة تقوم علی أصالة الفرد، وبالتالی فهی تدافع دائماً عن حقوق الأفراد فی مقابل السلطة والحکومة. ولا یمکن تحدید حقوق الأفراد ومصادرتها لحساب مصالح المجتمع أو الأکثریة، وکذلک فإنّ الحکومة لا یحقّ لها أن تقوم بتحدید وتقیید حرّیة الأفراد إلّافی صورة أن تکون هناک ضرورة غیر قابلة للاجتناب تهدّد منافع الأفراد. وفی هذه الخصوصیة أیضاً هناک خلاف کبیر بین أتباع هذه المدرسة، ویمکن القول أنّ هذه الخصوصیة مؤیّدة فقط من قِبل الرواقیین وبعض المفکّرین اللیبرالیین. أمّا بعض الفلاسفة مثل کونت (الفیلسوف الفرنسی المعروف) فقد أیّد فی البدایة هذه الخصوصیة، ولکنّه وبعد إعدام ملک فرنسا لویس السادس عشر، قام بتعدیل أفکاره فی هذا المجال (2).

مناقشة مذهب الحقوق الفطریة:

وفی ختام التوضیحات حول مذهب الحقوق الفطریة وما طرأت علیه من تحوّلات علی امتداد تاریخه یمکن الخروج بهذه النتیجة، وهی أنّ المبنی


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 108( بالفارسیّة).
2- انظر: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 89- 92( بالفارسیّة).

ص: 599

الأصلیّ لوضع القوانین فی نظر هذا المذهب هو أصل العدالة، وعلیه فینبغی علی المقنّن أن یزن کلّ قانون بهذا المعیار والمیزان لتقنینه، ولکنّ المشکلة هنا هی أنّ مذهب الحقوق الفطریة لا یملک تعریفاً ثابتاً وواحداً لمفهوم العدالة، مضافاً إلی أنّ تشخیص مصادیق العدالة بدوره لیس بالأمر الیسیر فی جمیع الموارد.

والنتیجة المهمّة التی تترتّب علی تأصیل هذا المذهب للعدالة بعنوان أنّه المبنی الأصلیّ للحقوق، هی الاعتراف بمشروعیة التصدّی للقوانین التی تتقاطع مع المبنی الأصل، أی العدالة، ولا تتحرّک فی هذا الاتّجاه.

وعلی هذا الأساس ورد فی لائحة حقوق الإنسان الفرنسیة (عام 1789) وفی بعض الموارد من القانون الأساسیّ الفرنسی (عام 1793) فی المادة 33 و 34، الإقرار بحقّ المقاومة والثورة باعتباره أحد أقدس الحقوق البشریة. ومعلوم أنّ حقّ المقاومة والتصدّی للقرارات الظالمة وبسبب أنّ هذا الحقّ وبذاته ناشی ء من أصل العدالة، فإنّه لا یمکن أن یکون ناقضاً لهذا الأصل، وعلیه یثار هذا السؤال: ما هی الطریقة العادلة فی عملیة التصدّی للقوانین غیر العادلة وکیفیة مقاومتها؟

إنّ أتباع مدرسة الحقوق الفطریة غیر متّفقین فی هذا المجال، بل إنّ بعضهم مثل الفیلسوف الألمانی الکبیر (کانت) یری عدم جواز مواجهة أفراد المجتمع للقوانین غیر العادلة بسبب التداعیات السلبیة والفوضی التی تترتّب علی ذلک (1).

إنّ الاختلاف ناشی ء من أنّ مفهوم العدالة یتّسم بالکلیة، وبالتالی صعوبة تشخیص مقتضیات هذا المفهوم وخاصّة الموارد التی لها أبعاد مختلفة، ولابدّ من النظر للمصالح فی جهات مختلفة. ومعلوم أنّ أکثر الموضوعات التی تحتاج لوضع قانون هی من هذا القبیل، وعلی هذا الأساس فإنّ مدرسة الحقوق الفطریة تواجه مشکلة جدّیة فی عملیة تشخیص مقتضیات العدالة فی تلک الموارد، وهذه المشکلة تدلّ علی أنّ أدوات العقل البشری قاصرة عن الإحاطة بمصادیق العدالة فی الکثیر من الموارد، لأنّ القیم الأخلاقیة والعدالة مثلًا، تتسّم بالکلیة والشمولیة بحیث أنّها فی مقام العمل لا یمکن أن ترسم لنا طریق الحلّ فی جمیع الموارد، لأنّ وجوب إحقاق الحقّ وإقامة العدل لا یقول لنا ما هو هذا الحقّ وعلی أیّ عوامل یعتمد فی طبیعته؟(2)

إنّ الالتفات إلی هذه المشکلة أدّی إلی توجیه النقد لأصول نظریة الحقوق الفطریة، بحیث أنّ الفیلسوف والریاضی الفرنسی باسکال، یقول فی هذا المورد: لیس هنا اتّفاق فی الرأی علی معنی العدالة بین أفراد المجتمع، ولذلک فالأقرب للعقل أنّ نهتمّ بدراسات القواعد الموجودة الواقعیة، بدلًا من الاهتمام بالحقوق العامة والثابتة التی لا تقبل التغییر.

وبالطبع فهناک إشکالات أخری واردة علی مذهب الحقوق الفطریة بحیث أدّت فی مجموعها إلی تعبید الطریق لظهور مدارس أخری فی الحقوق، کالمدرسة التاریخیة والوضعیة وتوجّه المفکّرین وعلماء الحقوق نحو هذه المدارس (3).


1- الحقوق المدنیة، تألیف مارتی ورینو، ج 1، العدد 13، نقلًا عن کلیّات الحقوق، ص 59( بالفارسیّة).
2- ومن هنا یعرف سرّ حاجة الإنسان إلی الوحی والتعالیم الإلهیّة.
3- للمزید من الاطلاع علی الإشکالات الواردة علی مذهب الحقوق الفطریة انظر: مقدمة الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 104- 109( بالفارسیّة).

ص: 600

2. المذاهب التاریخیة والوضعیة

الخصائص المشترکة لهذه المذاهب

اشارة

منذ منتصف القرن التاسع عشر المیلادی وبالتزامن مع ظهور الفلسفة الوضعیة لآجوست کنت الذی شکّک فی صحّة الإدراکات العقلیة والوجدانیة، وذهب إلی انتهاء دورها وبالتالی استبدالها بمعیار الحسّ والتجربة علی أساس أنّه المصدر الوحید للمعرفة البشریة، ومنذ ذلک الوقت وعلم الحقوق فی الغرب شهد کسائر العلوم، تحوّلات کبیرة، وظهرت نظریات ورؤی جدیدة ولاسیّما فی دائرة مبانی الحقوق، وهذه النظریات بالإمکان إدراجها تحت عنوان کلّی وعام وهو ما یسمّی بالمذاهب التاریخیة والوضعیة التی تشترک فی إنکار الأصول والقواعد المشترکة والثابتة للحقوق المبتنیة علی الواقع النفسانی والباطنی.

فی هذه المذاهب الأخلاقیة یتحرّک علماء ومفکّرون فی هذه المذاهب من موقع إنکار أیة قاعدة مثالیة للحقوق الموضوعة والتشکیک فی قدرة العقل البشریّ لإیجاد أفضل الحلول لمسألة الحقوق الفطریة وبالتالی إنکار ثبات هذه الحقوق ودوامها(1).

وطبقاً لرؤیة هذه المذاهب فإنّ الواقع الذی یبتنی علیه القانون والحقائق التی تشکّل الأساس فی عملیة التقنین أی مبانی القانون، لابدّ أن تکون محسوسة وقابلة للتجربة والمشاهدة فی واقع الحیاة الاجتماعیة للإنسان (2).

وهذه الحقائق لیست بثابتة، ولا تملک عنصراً مشترکاً فی المجتمعات البشریة، بل هی فی حالة صیرورة مستمرّة وتغیّر دائم علی امتداد الزمان والمکان.

وهنا نستعرض شرحاً مختصراً لهذه المذاهب الأخلاقیة:

الأوّل: المذهب التاریخی
اشارة

ومؤسس هذا المذهب هو عالم التاریخ الإلمانی المشهور: ساوینی (3) (1779- 1861) ..

یعتقد ساوینی بأنّ الحقوق لا تنبع من طبیعة الأشیاء ولا تقوم علی أساس الإدراک العقلانی والتحلیل الواقعی، بل إنّ حقوق کلّ قوم خاصّة بهم، وهذا النظام الحقوقی یتحرّک فی خطّ النموّ والرشد تزامناً مع نموّ ورشد ثقافة أولئک الأقوام وحرکتهم فی خط التحضّر والتمدّن والتکامل. وعلیه فإنّ کلّ عملیة تقنین تتمّ علی أساس التحلیل العقلی، تتقاطع مع النموّ الطبیعی للحقوق، وتعمل علی تجمید الحرکة التکاملیة لذلک المجتمع فی مواقع التحضّر والتمدّن (4).

وعلی أساس هذه الرؤیة فإنّ الحقوق أیضاً، من معطیات الوجدان العام والحرکة التاریخیة للمجتمع البشری، حالها حال اللغات والعادات، ولا یمکن لإرادة الأفراد والحکومات المتعاقبة التدخّل فی إیجاد وخلق هذه الحقوق، وعلیه فإنّ المبنی الأصلی للحقوق فی هذا المذهب هو إرادة الشعب، ولکن لیس المراد منه مجموعة من الناس یعیشون فی زمان معیّن، بل مفهوم واحد یصدق علی أجیال متتابعة وعلی ما یعیشونه من سنن وعادات وتقالید، وبالتالی تبرز فی ثقافة هذا الشعب قواعد حقوقیة تنتقل إلی الأجیال اللاحقة کتراث ثقافیّ لهذا الشعب (5).

ویری أنصار المذهب التاریخی أنّ الحقوق تأتی


1- انظر: کلیّات الحقوق، ص 60( بالفارسیّة).
2- النظریة العامة للقانون، ص 144.
3- 3 .Savigny .
4- مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 141( بالفارسیّة).
5- کلیّات الحقوق، ص 61( بالفارسیّة).

ص: 601

بالتدریج وعلی امتداد الزمان بسبب إرادة الشعوب من أجل تأمین الحاجات العامة لأفراد المجتمع، فلا یمکن خلق القواعد الأخلاقیة لمجتمع بشریّ معیّن فی وقت واحد، أو العمل علی تغییر مضمونها کذلک. فالقانون الأخلاقی یمکنه تثبیت وتکریس الأصول الأخلاقیة التی سبق وأن وجدت من خلال الوجدان العام.

وببیان أدقّ إنّ إیجاد القواعد الحقوقیة فی نظر هذه المدرسة الأخلاقیة یمرّ بثلاث مراحل:

1. العرف المنبعث من الوجدان العام وإرادة الناس ویعدّ المنبع الأصلیّ للحقوق.

2. علم الحقوق أو الذوق القضائی والأفکار والنظریات الحقوقیة التی تعتبر مکمّلةً للقواعد والأصول المنبعثة من العرف.

3. القانون، الذی یتمّ الإعلان عنه بصورة رسمیة والذی یبتنی علی الحقوق العرفیة والعلمیة فی المرحلتین السابقتین (1).

وخلاصة نظریة أصحاب المذهب التاریخی فی الحقوق، إنّ المبنی الأصلی للحقوق هو إرادة الناس التی تتجلّی فی إطار العرف والعادات، وکذلک أمور أخری کنظریات علماء الحقوق القضائی الذی یأتی فی مرتبة لاحقة علی مستوی الأهمّیة. والمقنّن لا یمکنه وضع قانون وصیاغة قواعد حقوقیة إلّافی صورة عدم المساس بواقع وطبیعة الحقوق العرفیة، لأنّ الحقوق والقوانین لا توضع علی أساس إرادة شخص معیّن أو جماعة خاصّة، وأساساً فإنّ أنصار هذا المذهب یعتقدون بأنّ القول بثبات الحقوق یعدّ مانعاً أمام الحرکة الطبیعیة للحقوق فی خطّ النموّ والتکامل.

نقد ومناقشة المذهب التاریخی:

1. إنّ أهم نقد یوجّه إلی هذه النظریة هی أنّها لا تأخذ بنظر الاعتبار دور الاختیار وحرّیة وعقل الإنسان فی ظهور الحقوق، بل هی نتیجة قهریة وحتمیة للحیاة الاجتماعیة لأفراد البشر. یقول عالم الحقوق الألمانی ایرینک ضمن نقده الشدید للمذهب التاریخی: إنّ الحقوق وخلافاً لما یدّعی أنصار هذا المذهب، لیست من قبیل اللغة التی تعیش الصیرورة والتحوّل بمرور الزمان. بل إنّ إیجاد کلّ قاعدة جدیدة وحتّی حفظ القواعد السابقة، یتعارض مع مصالح طائفة من الناس، ولهذا السبب فإنّ التحوّل والتغییر فی القواعد الحقوقیة یقترن دائماً بمظاهر الجدل والنزاع والسجال. إنّ جمیع النجاحات التی حقّقتها البشریة فی مجال إلغاء الرقّ وحریة الفکر والبیان والملکیة الخاصّة فی هذا العصر کانت نتیجة مواجهة مستمرّة وطویلة، بحیث أنّها ربّما تمتدّ لقرون من الزمان وتتزامن مع صراعات دامیة ومقتل الکثیر من الناس، إذن فکیف یمکن إنکار دور أولئک الأشخاص الذین انطلقوا من مواقع التصدّی للوضع الموجود ومن أجل الدفاع عن الحقوق المشروعة وبالتالی نجحوا فی إیجاد وخلق مثل هذه الحقوق؟(2)

أمّا العالم الفرنسی ریبر فإنّه یؤیّد رأی ایرینک فی کیفیة تحقّق ووجود القواعد الحقوقیة فی واقع المجتمع ویری أنّ هذه القواعد الأخلاقیة إنّما هی حصیلة المواجهة المستمرّة بین عناصر القوّة فی الدائرة السیاسیة والاجتماعیة(3).


1- فلسفة الحقوق، تألیف جورج دِل وِکیُو، ص 321، نقلًا عن کلیّات الحقوق، ص 62( بالفارسیّة).
2- کلیّات الحقوق، ص 64- 65( بالفارسیّة).
3- عناصر بناء الحقوق، تألیف ریبر، العدد 25 و 44 فصاعداً نقلًا عن کلیّات الحقوق، ص 65( بالفارسیّة).

ص: 602

2. النقد الآخر الموجّه إلی هذا المذهب، هو أنّه یعمل علی إیصاد الباب أمام أیّة حرکة إصلاحیة وثوریة فی المجتمع البشری، لأنّه طبقاً لهذه النظریة، فإنّ الناس والمقنّنین یجب علیهم التحرّک وراء المیول الاجتماعیة والأغراض الذاتیة لأفراد المجتمع مهما کانت متسافلة، وعلی هذا الأساس فإنّ هذا المذهب لا یمکنه إطلاقاً أن یکون له دور مهمّ فی طبیعة الحرکة التکاملیة للمجتمع فی خطّ القیم والفضائل والمثل الإنسانیة.

3. إنّ هذه النظریة تمنح الأصالة لمسألة العرق والقومیة التی تسبّبت فی تکریس النزاعات والصراعات فیما بین المجتمعات البشریة علی امتداد التاریخ، والتی سعی الأنبیاء الإلهیّون والمصلحون تحویر الاتّجاه فی التقییم إلی جهة منح الأصالة للقیم والمثل الإنسانیة المشترکة، والعمل علی تهمیش مسألة العرق والقومیة فی المجتمع البشری لیتحرّک بالتالی نحو التوحّد والسلام والوئام، وتقلیل وقوع النزاعات وأشکال الصراع فی واقع المجتمعات البشریة، ومن المعلوم أنّ المذهب التاریخی للأخلاق یتقاطع مع هذا الهدف السامی والأصیل للبشریة.

ومن هذا المنطلق ذهب بعض المفکّرین إلی أنّ هذا المذهب کان هو الممهّد لظهور حرکة النازیة العنصریة فی الهتلریة الألمانیة(1).

الثانی: المذاهب التجریبیة
1. مذهب أصالة النفع

کما هو معلوم من توجّه الفلاسفة الألمان والفرنسیین أنّهم یأخذون بنظر الاعتبار الإدراکات العقلیة ودورها المهمّ فی تطویر حرکة العلوم، إلّاأنّ الفلسفة فی بریطانیا تتحرّک بخلاف هذا الاتّجاه، حیث یری هؤلاء الفلاسفة أنّ أصل ومبنی جمیع العلوم إنّما یقوم علی المشاهدة والتجربة، وأنّ المحسوسات تشکّل المحور الأصلی لجمیع العلوم والمعارف، ولهذا فإنّ الفلاسفة الانجلیز یعدّون من أنصار التجربة والحسّ، وعلی أساس هذه الرؤیة فإنّ الأصول العقلیة فی علم الأخلاق والحقوق غیر معتبرة، والمعیار فی مفاهیم الحسن والقبح والتکلیف یتمّ تقییمه من خلال ملاکات ومعاییر تجریبیة وخارجیة. وعلی هذا الأساس فإنّ هذا المذهب فی الواقع یمثّل إحیاءً لفلسفة ابیقور المعروفة، وهو فیلسوف یونانی کان یعیش قبل میلاد المسیح (2).

وبما أنّ کبار وروّاد هذا المذهب طرحوا تفاسیر مختلفة لتفاصیل هذا المذهب، فنحن بدورنا سنشیر بشکل موجز إلی بعض هذه الأقوال والرؤی من أجل الإلمام بمعرفة أدقّ لهذا المذهب الأخلاقی:

بنتام (3) (مذهب اللذة أو أصالة اللذّة) ..

یعتبر جرمی بنتام (1742- 1832) مؤسّس مذهب أو أصالة النفع فی بدایة القرن التاسع عشر للمیلاد.

وکان بنتام یعتقد بأنّ کلّ لذّة خیر وکلّ ما یوجب للإنسان الألم فهو شرّ، وأنّ الهدف والغایة من الحیاة هو التوصّل إلی اللذات الدنیویة. ویعرّف بنتام الفائدة بأنّها:

«الخصوصیة أو القابلیة فی الشی ء تمنع من الألم أو تؤمّن له اللذّة»، وقد ذکر فی کتابه «نظریة المقنّنین»:

«إنّ الطبیعة جعلت الإنسان تحت سیطرة اللذّة


1- للمزید من الاطلاع علی الانتقادات الموجهة إلی هذا المذهب انظر: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 143- 145( بالفارسیّة).
2- کلیّات الحقوق، ص 66( بالفارسیّة).
3- 3 .Bentham .

ص: 603

والألم، وإنّ جمیع حیاتنا وأفکارنا وحکمنا واقع تحت تأثیر اللّذة والألم. ولابدّ من أن یتحرّک فلاسفة الأخلاق والمقنّنین من موقع التوجّه والالتفات إلی هذا الإحساس الأبدیّ والدائمیّ فی واقع الإنسان. إنّ أصل النفع یضع جمیع الأمور تحت شعاعه، وحتّی بالنسبة للشخص الذی یتحمّل الألم حسب الظاهر ویجتنب اللذة، فإنّه یتحرّک فی ذلک من أجل الوصول إلی لذّة أکبر ونفع أهمّ، أو من أجل الخلاص من ألم أشدّ»(1).

فی نظر بنتام إذا تقرّر أن یتحرّک کلّ إنسان وراء منافعه ویتغافل عن منافع الآخرین، فإنّ الجمیع سیحرمون من اللذة والسعادة، وعلی هذا الأساس فإنّ حبّ الذات یقتضی أن یتحرّک الإنسان علی مستوی التفکیر بمنافع الآخرین أیضاً، وعلیه فإنّ بنتام یستنتج فی نهایة هذا التحلیل أنّ الغایة من الأخلاق لا تنحصر فی تأمین السعادة الفردیة، بل لتحصیل الحدّ الأکثر من المنافع للحدّ الأکثر من الناس. وفی نظر بنتام أنّ ما هو طبیعیّ فی الإنسان، إحساس اللذة والألم ولا یوجد أیّ قانون طبیعی آخر فی مقابل المقنّن. وعلی أساس هذا المبنی فإنّ بنتام یرفض الحقوق الطبیعیة والفطریة، ویری أنّ لائحة حقوق الإنسان هی نوع من السفسطة الفارغة التی تثیر حالات الفوضی فی تفاصیل المجتمع (2).

ویعتقد بنتام بأنّ دور الحقوق والسلطة هو توفیر الأمن فی واقع المجتمع، لأنّه بدون إلا احساس بالأمن فإنّ السعادة الفردیة الجمعیة لا تکون ممکنة، ویقول فی کتابه «أثر الزمان والمکان فی عملیة التقنین»:

«فی کلّ مجتمع بشریّ هناک بعض الأصول الثابتة التی ترسم بین الجریمة والعقوبة، وکذلک بین الفائدة ومقدار الثواب، وهکذا بالنسبة لتبویب الجرائم، بحیث أنّه لو أخذنا بنظر الاعتبار عدالة هذه الضوابط فی الوقت الحاضر، فیبدو أنّها تکون کذلک فی المستقبل وفی جمیع الأزمنة أیضاً».

ومن هنا یستنتج بنتام وجود قواعد وأصول ثابتة فی الحقوق إلی جانب القواعد المتغیّرة، وهذه الأصول الثابتة لا تدرک من خلال العقل المحض، بل من خلال ما تمنحه من فائدة للفرد والمجتمع. واللافت هنا أنّ بنتام واستناداً إلی أصالة النفع هذه یؤیّد المثلیّة الجنسیّة، لأنّه یعتقد بأنّ من یری أنّ المثلیة جریمة، فإنّه لا یتصوّر النفع من هذا الحکم، مضافاً إلی أنّ تشخیص وتعریف هذه الجریمة مشکل ومحاط بالإبهام وبحاجة إلی شاهد ودلیل فی إثبات هذا العمل الذی یتحقّق عادة فی أجواء الکتمان والخفاء.

مضافاً إلی أنّ هذا العمل من الناحیة الاجتماعیة لیس بذی أهمیة، وعلیه فإنّ النفع الحاصل من ترک عقوبة هؤلاء الأشخاص راجح علی الضرر القلیل جدّاً الذی یلحق بالمجتمع منه.

وعلی أساس هذه الرؤیة وتعطیل عنصر النفع والفائدة، فإنّ بنتام یری أنّ النظام الاجتماعی وتحقیق الأمن فیه یعدّ من أعظم الفوائد، وبالتالی فإنّ النظام المستبدّ یکون مشروعاً علی هذا الأساس، لأنّ إطاعة الناس للسلطان المستبدّ فیه نفع لهم (3).

نقد ومناقشة:

1. إنّ نظریة بنتام هذه تواجه مشکلة کبیرة علی


1- انظر: النظریّة العامة للحقوق، ص 149 فصاعداً( بالفارسیّة).
2- انظر: کلیّات الحقوق، ص 67( بالفارسیّة).
3- انظر: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 125- 128( بالفارسیّة).

ص: 604

مستوی التنفیذ والتطبیق فی الواقع الخارجی، لأنّه، أولًا:

إنّ القیم مختلفة فی نظر أفراد المجتمع.

وثانیاً: إنّ أدوات توفیر اللذة مختلفة أیضاً. وثالثاً:

لم یذکر بنتام معیاراً محدّداً لتشخیص حدود اللذّة والألم، وما هی اللذائد التی یأخذها المقنّن بنظر الاعتبار مع وجود لذّات مختلفة وأذواق متفاوتة للناس، وبالتالی ینعکس هذا الأمر علی عملیة وضع القانون حیث لا یمکن حینئذٍ وضع القانون علی أساس الاعتقاد بأنّ اللذّة خیر وأنّ الألم شرّ بشکل مطلق.

2. إنّ أحد خصوصیات هذه النظریة، تفکیک الحقوق عن أصل العدالة، وهذا بإمکانه أن یمهّد الأرضیة المناسبة لاستغلال السلطة وتحوّلها إلی قدرة دکتاتوریة مستبدّة، کما ورد التصریح بذلک فی کلام بنتام نفسه، فی حین أنّه، إذا جعلنا المعیار هو أصل العدالة فی المجتمع، فبالإمکان منع الکثیر من أشکال الاستغلال للسلطة فی واقع الحیاة السیاسیة والاجتماعیة.

3. إنّ هذه النظریة التی تری أنّ جمیع أشکال التعارض والصراع الاجتماعی ناشی ء من تعارض المنافع، ومع حلّ التعارض بین المنافع ستنحلّ المشاکل الاجتماعیة أیضاً، وتتحقّق الغایة من النظام الحقوقیّ؛ تعدّ خطأ کبیراً آخر فی نظریة بنتام لأنّ الإنسان فی ذات الوقت الذی یهتمّ فیه بالأمور المادّیة والمسائل الاقتصادیة، فإنّه یتحرّک أیضاً علی مستوی اتّباع القیم الأخری والاهتمام بالفضائل الأخلاقیة والمثل المعنویة فی حرکة الحیاة(1).

أتباع بنتام:

لقد کان لآراء وأفکار بنتام تأثیراً ملحوظاً فی أوساط الحقوقیین الغربیین، وکانت منشأً لوقوع تحوّل فی دائرة الحقوق فی المجتمع البریطانی وسائر البلدان الأوربیة وکذلک أمریکا، ومن أشهر أتباع بنتام هم: استین، جان استوارت میل، هارت، ایرینک وکِلْسِنْ. وهنا نشیر إلی أفکار وآراء بعض هؤلاء بشکل موجز:

آستین (1790- 1859)(2):.

یعترف آستین فقط- کبنتام- بأصلین مهمّین من بین الأصول والقیم الأخری، وهما: الأمن والنفع. وبالرغم من أنّ آستین من حیث العقیدة یعتبر فی دائرة المفکّرین الإلهیین، ولکنّه علی مستوی الواقع العملیّ لا یخالف مسلک بنتام المادّی سوی فی مورد واحد، وهو أنّ آستین فی موارد سکوت أو إبهام القانون لا یری لزوم مراجعة القاضی للمقنّن، بل یقول: إنّ القاضی یمکنه وضع ما یناسب الحالة فی دائرة اختیاراته. ویری أیضاً أنّ حکم القاضی فی الموارد المتماثلة لا یجب أن یکون متماثلًا أیضاً، بل یمکنه أن یملک تفسیراً مختلفاً لکلّ واحد من الموردین علی أساس اختلاف مقتضیات الزمان والمکان، لأنّ المقنّن قد أخذ بنظر الاعتبار حلّ وفصل الأمور بطریقة عقلانیة تمکّنه من تحقیق العدالة والابتعاد عن الظلم والجور ورعایة الموازین الأخلاقیة بشکل کامل. وعلی هذا الأساس فإنّ آستین بالنسبة لمشروعیة القوانین التی یضعها الحاکم لا یری لزوم رعایة القیم والمبادی ء الأخلاقیة، ولکنّ رعایة هذه الأمور والقیم صحیح أخلاقیاً.

ویری آستین بالنسبة لخصوصیات المقنّن أنّه ینبغی


1- راجع لمعرفة الانتقادات الأخری الواردة علی نظریة بنتام: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 131 و 132( بالفارسیّة).
2- 2 .Austin .

ص: 605

وضع القوانین لموجودات واعیة وأشخاص یتحرّکون من موقع الشعور والمسؤولیة، ویجب أن یکون واضع القانون یملک سیطرة وسلطة علی هؤلاء الأشخاص لیتمکّن من تنفیذ هذا القانون وتطبیقه علی مستوی العمل والواقع. وعلی هذا الأساس فإنّه یعتقد بأنّ القانون الواقعی الذی یتضمّن أحکاماً ومقرّرات تکلیفیة علی الناس، إمّا أنّ یکون موضوعاً من قِبل اللَّه تعالی علی الناس أو بواسطة أشخاص یملکون القدرة والسلطة السیاسیة علی الآخرین (1).

هارت:

یعتبر هارت أحد أتباع مذهب بنتام فی مسألة منابع الحقوق- ولکنّه خلافاً لبنتام و آستین اللذین یعتقدان بأنّ الحکومة أو سلطة الدولة هی المنبع للحقوق- یری أنّ القانون والذوق القضائی یمثّلان أساسین مهمّین للحقوق، ویقول:

إذا کانت الحکومة مصدراً للحقوق، فإنّ النظام الحقوقی سیتغیر بتغیّر النظام السیاسی أیضاً، فی حین أنّ الأنظمة السیاسیة تتغیر مع بقاء النظام الحقوقی فی ذلک المجتمع علی حاله، وهکذا بالنسبة للأحکام الجزائیة التی تستوعب فی دائرتها الموظفین العاملین فی جهاز الحکومة، ولذلک لا یمکن اعتبار الشخص الذی یکون بنفسه مشمولًا للحقوق الجزائیة منشأً ومنبعاً لهذه الحقوق، وبالطبع فلا شک فی أنّ الضمانات التنفیذیة للقواعد الحقوقیة تقع علی عاتق الحکومة، ولکن لزوم الضمانة التنفیذیة للقانون لا یعنی ضرورة إطاعة الأفراد للحکومة، مضافاً إلی وجود عوامل أخری توجب لزوم طاعة الناس للحکومة، والنتیجة أنّه لا یمکن القول إنّ سلوک الناس عادة فی خطّ التبعیة والطاعة للحکومة ناشی ء دائماً من خوفهم من الحکومات، بل هناک ضمانات تنفیذیة أخری أیضاً.

ویقسّم هارت المعادلات الحقوقیة إلی قسمین:

1. المعادلات الثابتة والأولیة.

2. المعادلات الثانویة والمتفرّعة علی المعادلات الأولیة.

أمّا المعادلات الأولیة فتظهر بنفسها فی المجتمع منذ قدیم الأعصار أی من زمان المجتمعات البدویة، وقد اعتاد الناس علی هذه السلوکیات، مثل قبح الانتقام وتسویة الحسابات الشخصیّة من خلال بعض أعمال العنف، کالضرب والشتم، أو لزوم رعایة احترام الآخرین. والسبب فی سلوک الناس هذا الطریق لأنّهم یرون سعادتهم تتحقّق فی الحرکة فی هذا الخطّ من اعتبار القیم والتقالید واحترامها، وأمّا السلوکیات الثانویة فعادة تتجلّی بصورة اتّباع القانون وإطاعته.

وبالرغم من أنّ هارت یری ثبات السلوکیات الأولیة، ولکنّه فی ذات الوقت لا یراها مسلّمة لدی جمیع الشعوب، یقول: لیس من الضروریّ أن تکون مقبولة لدی جمیع الأفراد فی المجتمع بل یکفی قبولها من قِبل الأقلّیة الحاکمة لتکون قانوناً مشروعاً.

وفی ذات الوقت یقول فی مکان آخر: لا یجب علی الأغلبیة اتّباع رأی الأقلیة إلّاإذا کانت الأقلیة تتحرّک علی مستوی مراعاة الموازین الأخلاقیة القانونیة، وفی غیر هذه الصورة فإنّ لسائر الأفراد الحقّ فی الاعتراض والمخالفة فی مقام العمل والممارسة.

ویری هارت، کآستین، مجموعة اختیارات علیا للقاضی (2).


1- انظر: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 129( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 130 و 131.

ص: 606

وبدیهیّ أنّ أکثر الإشکالات الواردة علی نظریة بنتام واردة أیضاً علی نظریات أتباع هذا المذهب کآستین و هارت أیضاً.

2. مذهب المصلحة أو البراغماتیة

وقد طرح هذه النظریة عالم النفس والفیلسوف الأمریکی فی القرن التاسع عشر: ویلیام جیمز(1) (1842-/ 1910) وبعده شاعت هذه النظریة وصار لها أتباع کثیرون، ویعترف ویلیام جیمز بأنّ البراغماتیة إسم جدید علی بعض الأفکار والمناهج القدیمة للفکر.

ویقوم هذا المنهج علی أساس التحقیق فی نتائج وثمرات أفعال الإنسان وجعلها معیاراً للتقییم بدلًا من البحث فی دائرة الغایات والمُثل العلیا.

ومع أنّ جیمز لم یکن من العلماء المادیین بل کان یهتمّ کثیراً بالأمور المعنویة، ولکنّ عقیدته بالتجربة والمشاهدة أدّت إلی أن یتحرّک علی مستوی تمییز الحقّ من الباطل فی الأمور العقلیة من هذا الطریق أیضاً، وفی الواقع فإنّ جیمز یرید إیجاد طریق وسط فی عملیة التوفیق بین نظرات أتباع المدرسة المادیة والمدرسة الإلهیّة والدینیة.

ویری جیمز أنّ المیزان فی تمییز الحقّ عن الباطل یکمن فی الثمرة العملیة التی تتولّد من إجراء الحکم علی مستوی التطبیق فی أرض الواقع، وکلّ قاعدة تنفع البشر فی رفع حاجاتهم وتحسین ظروف الحیاة فهی حق، وإذا کانت مضرّة للإنسان فهی باطل. وبعبارة أخری: إنّ جمیع الحقائق نسبیة وإضافیة ولا یوجد أیّ معیار ثابت ومطلق فی هذا الباب (2).

ویعتقد جیمز بأنّه لا یمکن رفض أیّة نظریة مفیدة لحیاة الإنسان. وعلیه فلا یبقی فرق فی المذهب البراغماتی بین النافع والحقیقة.

وعلی حدّ تعبیر مورتون وایت فإنّ فلسفة ویلیام جیمز یمکن تصویرها بهذا الشکل: إذا کانت عقیدة معیّنة مفیدة لنا فی واقع الحیاة، فیجب أن نعتقد بها ونعلم بأنّها حقیقة. إذن علی هذا الأساس یمکن القول أنّ الحقیقة هی النافعة(3).

وببیان آخر، إنّ جیمز قام بتغییر التعریف السائد للحقیقة من کونها عبارة عن مطابقة الفکر للواقع، إلی مطابقة الفکر للنافع فی الواقع العملی وما یوجب لنا النجاح فی الوصول إلی مطلوبنا بشکل أفضل (4).

إنّ التأثیر الکبیر لنظریة جیمز أدّت إلی أن ترتبط الحقوق فی بریطانیا وأمریکا، ومیزان اعتبارها مرتبط بالأوضاع والأحوال الخاصّة فی کلّ قضیة، وقلّما یتمّ الرجوع إلی النظریات العامّة فی الحقوق. یعنی فی الواقع أنّ کل قضیة حقوقیة یتمّ تشخیص الحقّ فیها علی أساس ما تقتضیه المصلحة المنبعثة من أوضاع وأحوال تلک القضیة بالخصوص، خلافاً للأسلوب السائد فی دائرة الحقوق الفرنسیة الذی یهتمّ أکثر بطرح وبحث النظریات العامة فی الحقوق.

ولابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ مراد ویلیام جیمزمن المصلحة هو التوجّه لجمیع الآثار والمعطیات البعیدة والقریبة والماضیة والمستقبلیة لعمل معیّن، وهذه النقطة


1- 1 .James .
2- انظر: مسار الحکمة فی أوربا، ج 3، ص 266( بالفارسیّة).
3- عصر التجزیة والتحلیل، ترجمة: برویز داریوش، ص 187 نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 172( بالفارسیّة).
4- الفلسفة العامة، تألیف: بیل فولکیه، ترجمة: الدکتور یحیی المهدوی، ص 358( بالفارسیّة).

ص: 607

بالذات تقلّل من خطر الوقوع فی إشکالیة رؤیة المصلحة الشخصیة فی الدعاوی والقضایا الحقوقیة وتدفع القضاة إلی رعایة العدالة النوعیة لا الشخصیة(1).

أتباع ویلیام جیمز:

إنّ آراء وأفکار جیمز امتدّت فی الأوساط العملیة فی أمریکا وجعلت الکثیر من العلماء الأمریکیین یتأثّرون بها، ومنهم: جان دیوی، هومز وبوند الذین سنشیر إلی بعض آرائهم وأقوالهم فی هذا المجال بشکل مختصر:

جان دیوی (2):.

یعتبر الکثیر من المفکّرین أنّ جان دیوی أکبر فیلسوف أمریکی فی القرن العشرین. وقد کان فی عام 1930 أستاذ الفلسفة فی جامعات شیکاغو وکولومبیا واستمرّ فی نشاطه العلمیّ فی دائرة التحقیق والتألیف إلی نهایة عمره (1952). وقد کانت کتبه وآراؤه وخاصّة فی أمور التعلیم والتربیة مورد اهتمام کبیر فی الأجواء العلمیة هناک. وقد کان جان دیوی فی البدایة من أتباع فلسفة هیجل، ثمّ أعجب بأفکار جیمز، ویعدّ الیوم أحد أشهر المفکّرین للمدرسة البراغماتیة.

وقد منح دیوی عقائد وآراء ویلیام جیمز، جهة عملیة وعقلیة أکثر، ومع ذلک وبسبب نفوذ فلسفة هیجل فی أفکاره یختلف أحیاناً مع جیمز فی بعض الأمور، بل یری ویلیام جیمز أنّ الحرّیة تعدّ من أسمی المفاهیم الإنسانیة، فی حین یهتمّ دیوی أکثر بالنظام السیاسی والإجتماعی، ویری أنّ استقراره أفضل من الحریة.

ویعتقد دیوی بأنّ الظروف الاجتماعیة لابدّ أن تکون بشکل یتمکّن جمیع الأشخاص من إبراز طاقاتهم الخلّاقة والتحرّک فی خطّ الإبداع، فالمجتمع لابدّ أن یکون وسیلة لترشید قابلیات الأفراد ویثیبهم علی سعیهم وجهدهم.

ّ الوصف الذی یراه دیوی لمجتمع نزیه ومطلوب هو فی الواقع بمثابة جبران نقاط الضعف الأخلاقیة لنظریة ویلیام جیمز، فبدلًا من التأکید علی النفع المشترک للناس بعنوان أنّه معیار القیم الأخلاقیة والحقوقیة، فإنّه یری أنّ التوصّل إلی الحدّ الأکثر من الفائدة للناس هو المعیار والملاک للقیم (3).

روسکو بوند(4) (1870- 1964):.

یعتبر الحقوقی الأمریکی «بوند» وهو الرئیس السابق للکلّیّة الحقوق فی هاروارد، من أبرز روّاد مدرسة أصالة النفع والمصلحة، وخلافاً لبعض الحقوقیین مثل کِلْسِن الذی یسعی إلی فصل علم الحقوق عن جمیع المؤثّرات والعوامل الاجتماعیة والمصالح والضرورات وبالتالی یرید علی حدّ تعبیره إنتاج علم خالصّ؛ فإنّ «بوند» یعتقد بأنّ الاهتمام بتحلیل وتقییم العوامل الاجتماعیة یمثّل مفتاح معرفة ماهیة الحقوق.

فی نظر بوند، فإنّ الحقوق لا تتلخّص بمجموعة من القواعد المجرّدة والملزمة للأشخاص، بل عبارة عن منظومة متکاملة تتحرّک علی مستوی إیجاد التعادل بین المصالح المتعارضة للأفراد وتهدف إلی توفیر الحدّ الأکثر من رغبات الأشخاص بحدّ أقلّ من المواجهة السلبیة(5).


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 173( بالفارسیّة).
2- 2 .John Dewey .
3- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 178( بالفارسیّة).
4- 4 .Roscoe Pound .
5- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 183( بالفارسیّة).

ص: 608

وبعبارة أخری فإنّ بوند یعتقد بأنّ الحقوق یجب أن تتضمّن مثل هذه الرسالة، وهذا العمل إنّما یکون ممکناً فیما إذا قام علم الحقوق علی أساس ومبنی علم الاجتماع. وفی هذا الصدد تحرّک بوند علی مستوی التحقیق ودراسة آراء المحاکم لمعرفة العوامل المؤثّرة فی صیاغة رأی المحکمة، وکذلک الغایات التی یتوخّاها القضاة ویسعون للوصول إلیها، والتأثیر الذی تخلّفه هذه الغایات علی المسلک القضائی فی عملیة حلّ الخصومات.

ویؤیّد بوند بأنّنا یجب أن نتحرّک فی کلّ قضیة أو دعوی لحلّها بشکل عادل ومتناسب مع الأحوال والظروف المحیطة بالدعوی. وإحدی أهمّ النتائج المترتّبة علی هذه الرؤیة أنّ مقولة فردیة العقوبة تعنی أنّ المحکمة لا ینبغی أن تنظر إلی کیفیة وقوع الجرم، بل یجب علیها فی بدایة الأمر دراسة شخصیة المتّهم وبالتالی الحکم علیه بما یستحقّه من خلال ظروفه (1).

ویعتقد بوند بأنّه من أجل معرفة ماهیة الحقوق یجب معرفة الهدف منها، وهدف الحقوق بدوره یتغیّر علی امتداد التاریخ، وبالتالی فإنّ القواعد والنظریات الحقوقیة ستکون متغیّرة ومتحوّلة بالتبع. وتوضیح ذلک کما یتصوّر بوند، أنّ تاریخ الحقوق یمکن تقسیمه إلی خمس مراحل:

1. مرحلة الحقوق القدیمة. حیث کان الهدف من جمیع القواعد الحقوقیة حفظ السلام والصلح ومنع حالات الحقد وسفک الدماء، ولذلک کانت المجتمعات والأقوام البشریة تقرّر القصاص لجبران أیّ عدوان وضرر علی الطرف المقابل، کالعین بالعین والسن بالسنّ.

2. مرحلة الحقوق المنضبطة. وفی هذه المرحلة نری أنّ الحقوق تهدف لتوفیر الوضوح والصراحة للدساتیر القانونیة وإیجاد الانسجام والتناغم فیما بینها، وفی هذه المرحلة یتمّ الاهتمام بصورة الأعمال الحقوقیة وظاهرها أکثر من الإرادة النفسانیة الواقعیة للأشخاص، من قبیل أنّ الوثائق التی تملک إمضاءً وختماً تکون ملزمة للکاتب وصاحب الإمضاء وإن کانت قد نظّمت بأدوات الحیلة والخداع.

3. مرحلة الإنصاف. وفیها تحلّ الغایات والمثل الأخلاقیة محلّ الصور والقوالب الجافّة، ویکون الاهتمام بحسن النیّة وصدق وأمانة الطرفین أکثر من التشریفات الظاهریة فی العقد. وفی هذه المرحلة أصبحت الحقوق الطبیعیة والإنصاف هی المعیار لتمییز الحقّ من الباطل، وبدلًا من أن یکون صاحب الحقّ «رئیس الأُسرة والأب فیها» فإنّ کلّ فرد من أفراد المجتمع هو صاحب حقّ.

4. مرحلة رشد الحقوق. وفی هذه المرحلة فإنّ الحقوق تتضمّن الغایات الخاصّة بالمرحلة الثانیة والثالثة، أی مرحلة الانضباط ومرحلة الإنصاف معاً.

ویمکن مشاهدة تأثیر هذا الهدف فی تکامل النظریات والآراء التی تتّصل بما لم یمکن تحقیقه من القوانین والسعی من أجل إزالة الامتیازات والفوارق الحقوقیة بین الرجل والمرأة فی الأسرة، وبالتالی نیل النساء لحقوق سیاسیة واجتماعیة متکافئة.

5. مرحلة الحقوق الاجتماعیة. وفی هذه المرحلة التی لازالت موجودة فی و اقع المجتمع البشریّ المعاصر فإنّ الأخلاق الاجتماعیة حلّت محلّ الأخلاق


1- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 184 و 185( بالفارسیّة).

ص: 609

الفردیة وأدّت إلی تقدیم حقوق المجتمع علی حقوق الأفراد فی کثیر من الموارد، من قبیل تحدید الملکیة الفردیة فی الموارد التی تکون مضرّة للمجتمع، وتحدید الحرّیات فی دائرة المعاملات والعقود، ومسؤولیة أرباب العمل فی مقابل العمّال والمستهلکین بدون أن تکون هذه المسؤولیة مشروطة بتقصیرهم، والاعتراف بالشخصیات الحقوقیة، من قبیل الشرکات والنقابات والمؤسسات فی واقع المجتمع.

ولابدّ من الالتفات إلی أنّ نظر بوند فی مسألة تمییز المراحل الخمس لتاریخ الحقوق، کان فی الأغلب یرتکز علی الصور النوعیة فی القواعد النوعیة، وإلّا فیمکن الإشارة إلی بعض المعالم الخاصّة لکلّ مرحلة متوفّرة أیضاً فی غیرها من المراحل، کما نری بوضوح فی کتابات الفلاسفة، الاعتقاد بالحقوق الطبیعیة ولزوم رعایة الإنصاف وما إلی ذلک فی العصور المتقدّمة، وهذا بذاته شاهد علی أنّ تقسیم بوند لایتمیز بالدقّة المطلوبة(1).

نقد ومناقشة:

1. إنّ تشخیص الحقّ والباطل علی أساس الربح والخسارة المترتّبة علی الأعمال، عسیر للغایة فی دائرة الواقع العملیّ، لأنّ تمییز المصالح والمنافع البعیدة والقریبة لکلّ فکرة أو سلوک، لیس بالأمر السهل، وأحیاناً یکون أصعب من معرفة الحقیقة عن طریق علّتها.

2. ما هو الملاک فی تشخیص النفع والضرر؟ وما هما المصلحة والمفسدة الواقعیتان؟ إنّ مذهب البراغماتیة لا یجیب عن هذه الأسئلة الأساسیة، والنتیجة أنّ القیم الحقوقیة والأخلاقیة ستکون بتشخیص الأفراد أنفسهم، وما أکثر ما تتدخّل الأغراض الشخصیة أو المصالح الفئویة والأهواء والنوازع النفسانیة لهؤلاء الأشخاص فی عملیة تشخیص النفع والضرر، فکلّ شخص یعتقد فی ذهنه بحقیقة معینة ویتحرّک باستمرار علی مستوی تغییرها وتحویرها بما یتناسب مع الظروف الاجتماعیة ومقتضیات المحیط.

3. إنّ القبول بالمذهب البراغماتی یتسبّب بإلحاق خسائر کبیرة فی مقام العمل والممارسة للفرد والمجتمع وإذا فرض إجراؤه بشکل کامل فی المجتمع فسوف یؤدّی إلی إثارة الفوضی والهرج والمرج، أو یتسبّب فی نقض القانون بشکل واسع، لأنّ مصلحة الفرد أحیاناً تکمن فی عدم إطاعته للقانون، وطبقاً للنظریة البراغماتیة فإنّ الحقیقة أیضاً تکمن فی طبیعیة المصلحة فحسب.

وربّما یجیب أتباع هذا المذهب ومن أجل اجتناب هذا اللازم الفاسد، بأنّ تشخیص المصلحة والمفسدة لکلّ فکرة وسلوک، إنّما یکون بید واختیار المقنّن، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ هذا العمل یمثّل فی الواقع خروجاً عن مبانی البراغماتیة وبمثابة نقضها.

الثالث: نظریة اتّحاد الحقوق والحکومة

إنّ منشأ فکرة اتّحاد الحقوق مع الدولة، تمتد إلی مصنّفات وکتابات الفیلسوف الألمانی فردریک هیجل (2) (1770- 1831). وقد أعلن علماء الحقوق العامة الألمان من خلال الاستلهام من عقائد هیجل أنّ مبنی الحقوق هو إرادة السلطة الحاکمة، وهی بدورها أیضاً


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 186- 188( بالفارسیّة).
2- 2 .Hegel .

ص: 610

ولیدة سلسلة من القواعد الحقوقیة.

وبالرغم من أنّ هیجل لا یعدّ من الفلاسفة المادّیین ولکنّ نفوذ فلسفته فی أوساط المادّیین کبیر إلی درجة أنّه یجب وضع فلسفته کمقدّمة للمدارس المادّیة والاشتراکیة.

ویری هیجل أیضاً مثل کانت، أنّ الغایة من الحقوق هی توفیر حرّیة الإنسان واختیاره، ولکنّه یضیف إلیهما أنّه لا ینبغی الخلط بین الحرّیة والمیول والنوازع الشخصیة فی الإنسان، إنّ الحریة إنّما تکون مقبولة فیما إذا وضعت فی إطار النظام، ومظهر النظام فی المجتمع والحافظ له هو الدولة، والمجتمع بدون دولة یتحوّل إلی میدان مواجهة بین الأفراد، وحینئذٍ لا یتصوّر أیّ حقّ لأیّ فرد فی مثل هذه الأجواء. فکلّ فرد مدین فی تکامله الأخلاقی ورشده العاطفی والمعنوی للدولة، لأنّ مفهوم الحقّ والتکلیف إنّما یتحقّق فی الوعی العام فی ظلّ النظام السیاسی وإرادة الدولة والسلطة السیاسیة. وعلیه فإنّ تشکیل الدولة (خلافاً لما یراه جان جاک روسو) لا یعتبر نتیجة عقد اجتماعی أو إرادة بعض الأشخاص، بل هو أمر معقول للتوصّل إلی الهدف النهائی لحیاة الإنسان، أی صیرورة الإنسان کائناً إجتماعیاً، وامتلاکه للحریة والاختیار.

علی الجمیع أن یعتقدوا بأنّ الدولة شی ء مقدّس وأنّ إطاعتها واجبة علیهم، ولا حقّ للفرد فی مقابل سلطة الدولة. وعلیه فلا یمکن فرض وجود اختلاف بین حقوق الدولة والسیاسة والأخلاق. فالدولة تتحرّک فی سبیل تحقیق النفع العام علی حساب النفع الخاصّ للفرد، وإذا لزم الأمر فبإمکانها التضحیة بالفرد فی سبیل المجتمع، لأنّ الدفاع عن النفع العامّ یتضمّن حمایة منافع الأفراد أیضاً.

وفی نظر هیجل فإنّ الدولة تمثّل فکرة اللَّه المتجسّدة فی الأرض (1).

ویری هیجل أنّ الأخلاق هی أمور وجدانیة وباطنیة، والمعیار فی معرفة العمل الحسن هو: «إرادة الخیر» والشخص الأخلاقی أو الملتزم بالقیم الأخلاقیة هو الذی یمیل قلبه نحو الخیر والعدل ویری أنّ وظیفته التحرّک فی خطّ الفضیلة والعدل بدلًا من طلب المصلحة الشخصیة(2).

إنّ فلسفة هیجل تقوم علی أساس ثلاثة مبانٍ أصلیة: 1. الدیالکتیک 2. اتّحاد الواقع مع المعقول 3. التحوّل والتکامل التاریخی الحتمی.

وبدیهیّ أنّ البحث فی هذه المبانی الفلسفیة له مکان آخر، ولکن لا بأس بالالتفات إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ بعض هذه المبانی کالدیالکتیک لم یرد تعریف لها من قِبل هیجل، مضافاً إلی أنّ کتابات هیجل تمتاز بالغموض الشدید(3)، ولذلک فإنّ هذه العوامل أدّت إلی ظهور تفاسیر مختلفة للکتّاب والمفکّرین حول نظریات وآراء هیجل.


1- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 191- 193( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 195.
3- وعلی سبیل المثال یقول الفیلسوف الألمانی شوبنهاور( 1788- 1860) عن هیجل: « إذا فکرت یوماً أن تعمل علی تشویش ذهن شابّ وتعطّل قواه العقلیة فأفضل وسیلة لذلک أن تعطیه کتب هیجل لیقرأها ... لأنّها ستؤدّی إلی أن یصرف طاقاته الذهنیة فی حلّ التعقیدات اللفظیة وفهم معانی کلمات هیجل حتّی یصاب بالتعب والإرهاق، وبالتالی ستنهار قواه الفکریة تماماً، ویتحوّل إلی شخص یملک مجموعة من الألفاظ بدل الأفکار»( نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 211 بالفارسیّة).

ص: 611

نقد ومناقشة:

1. إنّ تمجید هیجل للدولة بشکل مفرط لا یقوم علی أیّ دلیل معقول ومنطقیّ، لأنّه من غیر المعلوم لماذا یجب أن تتطابق إرادة الدولة مع العدالة دائماً ولاسیّما مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات الموجودة بین الدول والحکومات من حیث المبانی الفکریة والواقع العملیّ والسلوکیّ، حیث یترتّب علی ذلک وقوع التضادّ والتناقض فی مفهوم العدالة، لأنّه مثلًا، ینبغی من جهة أن تکون إرادة الدولة المبتنیة علی نظریة أصالة الفرد، بعیدة عن موارد التدخّل فی الأمور العامّة علی مستوی العمل والممارسة، وأنّ ذلک یمثّل عین العدالة، ومن جهة أخری، فإنّ إرادة الدولة المبتنیة علی مقولة أصالة المجتمع التی تتدخّل فی الأمور العامة، بالحدّ الأکثر من أشکال التدخّل، وحتّی فی موارد الحیاة الخاصة للأفراد، علی أساس أنّ ذلک عین العدالة.

2. الإشکال المهمّ الآخر علی نظریة هیجل بالنسبة إلی اتّحاد الحقوق مع الدولة، ناظر إلی النتائج والمعطیات السلبیة فی مقام التطبیق والعمل، یقول برتراندراسل: «إنّ نظریة هیجل إذا وقعت مورد القبول فإنّ ذلک یعنی منح المشروعیة لکلّ أشکال الاستبداد الداخلیّ والعدوان الخارجیّ الذی تمارسه السلطة»(1).

وعلی هذا الأساس، ذهب بعض المفکّرین إلی أنّ ظهور الفاشیة فی إیطالیا والنازیّة فی ألمانیا إنّما هو حصیلة تأثیر أفکار هیجل فی الوعی الغربی (2).

وتعدّ الفاشیة والنازیة السبب الأساس فی وقوع الحرب العالمیة الثانیة وما تضمّنت من دمار وجرائم وفجائع بشریة وقتل ملایین الأبریاء، وتلاشی ملایین الأُسر وتلف الکثیر من الثروات المالیة والطبیعیة فی المجتمع البشری.

أتباع مدرسة هیجل:

مارکس و انجلس (المدرسة المارکسیة):

إنّ أصول نظریة مارکس (3) (1818- 1883) وانجلس (1820- 1895) تقوم- کنظریة هیجل- علی أساس اتّحاد الحقوق مع الدولة. ورغم أنّ مارکس وانجلس کانا یتحرّکان فی رؤیتهما من موقع تحقیر الحقوق إلّاأنّهما عملًا کانا یهتّمان اهتماماً خاصّاً بها والشاهد علی ذلک کتاب «رأس المال» لمارکس.

یقول مارکس: إنّ فلسفة الحقوق لهیجل یجب أن تؤخذ بالمقلوب، لأنّ الأفراد فی نظر هیجل یتنازلون عن حقوقهم السیاسیة لحساب الدولة فی مقابل ما یحصلون علیه من رفاه وأمن، فی حین أنّ الحیاة الواقعیة للعمّال مأساویة، حیث یعیشون مشاکل مادّیة واقتصادیة دائمیة(4).

وذلک أنّ العمّال لا یتنازلون باختیارهم عن حقوقهم السیاسیة لحساب الدولة، بل إنّ الطبقة الحاکمة تعمل علی استضعافهم واستثمارهم، وبالتالی فإنّ العمّال یجدون أنفسهم مجبرین علی التصدّی للطبقة الحاکمة ومواجهتها. وفی نظر مارکس أنّ نظریة هیجل التی تضحّی بالفرد لحساب المجتمع، تتسبّب فی حالة الاستغراب السیاسی (5).

إنّ المبنی الأصلیّ لدی مارکس فی فلسفة الحقوق والدولة، یقوم علی أساس المفهوم الاقتصادی الذی یمثّل البنیة التحتیة لفلسفة الحقوق فی المدرسة


1- تاریخ فلسفة الغرب، تألیف برتراندراسل، ص 437.
2- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 213( بالفارسیّة).
3- 3 .Marx .
4- مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 146( بالفارسیّة).
5- المصدر السابق، ص 147( بالفارسیّة).

ص: 612

المارکسیة والتی تفرز من خلال أیدیولوجیة خاصّة المؤسسات الحقوقیة فی المجتمع والسلطة. ویری مارکس، أنّ الدولة لا تمثّل قوّة تفرض نفسها علی المجتمع من خارجه، کما أنّها لیست ولیدة رعایة الأصول الأخلاقیة وطبیعة التعقّل، وکذلک خلافاً لنظریة هیجل لیست ولیدة العقل الکلّی، بل إنّ الدولة منتوج ذلک المجتمع وحصیلة مرحلة خاصّة من التحوّل الاجتماعی فی حرکته التاریخیة، بمعنی أنّ المجتمع الذی یعیش التناقضات الداخلیة فی أعماقه ولا یستطیع حلّ هذه التناقضات، یتحرّک علی مستوی تشکیل الدولة لیتمکّن من إیجاد النظم وبالمقدار الممکن، وعلی حدّ تعبیر انجلس، أنّ الطبقة الحاکمة هی التی تخلق الدولة لإیجاد النظم فی فضاء المجتمع.

ویقول مارکس فی کتاب آیدیولوجیة الألمان: «إنّ الحقوق کالدّین لیس لها مکان مستقلّ فی التاریخ، وخلافاً لنظر الحقوقیین البرجوازیین الذین یرون أنّها ظاهرة مستقلّة، فإنّها لیست بذات قیمة بحیث تستحقّ المطالعة والدراسة بشکل مباشر، بل علی العکس من ذلک، فهی ظاهرة تتّصل فی واقعها وطبیعتها بظروف «الإنتاج»(1).

ویعتقد المارکسیون بأنّ الحقوق والدولة هما ولیدا مرحلة خاصّة من مراحل التحوّلات الاقتصادیة التی تتّسم بالضرورة والحتمیة المقطعیة. فالمجتمع البشری فی بعض المراحل لا یحتاج إلی مقولة الحقوق والدولة، وفی المستقبل أیضاً وعند وصول المجتمع البشری إلی مرحلة الشیوعیة، فإنّ الحقوق والدولة ستفقد ضرورتها فی واقع الحیاة الاجتماعیة».

ویعتقد انجلس بأنّ الناس فی المجتمعات البدائیة کانوا یعیشون التساوی بالنسبة لاستخدام وسائل الإنتاج والاستفادة منها، فالهدف من الإنتاج رفع الحاجات العامّة لأفراد المجتمع، ولا أحد یملک سلطة علی آخر، وعلیه فإنّ الشیوعیة الأولی کانت هی المنهج الذی اختاره الإنسان فی تلک العصور فی عملیة استخدام وسائل الإنتاج، وفی مثل هذا المجتمع لا ضرورة للحقوق والدولة.

وبعد هذه المرحلة، تحرّک المجتمع البشریّ تدریجیاً نحو تقسیم الأعمال الاجتماعیة وظهرت حینئذٍ الطبقات الاجتماعیة، فأخذت طبقة معیّنة بالعمل علی احتکار وسائل الانتاج علی نفسها وحرمان الآخرین من الاستفادة منها، ومن هنا نشأت ضرورة وضع القوانین الحقوقیة وتأسست الدولة علی هذا الأساس وفرضت إرادتها بالقوّة علی الناس لتتمکّن من حمایة مصالح الطبقة الحاکمة وتطویع الطبقة المحرومة والحدّ من طغیانها.

ومنذ ذلک التاریخ کان مفهوما الدولة والحقوق یتحرّکان بشکل متوازٍ ومتقارن. ومادام هناک اختلاف طبقیّ وتقوم طبقة معیّنة باستلام مقالید السلطة لصالحها فإنّ هاتین المقولتین موجودتان فی الواقع الاجتماعی لإسداء المعونة للحاکم فی حرکة الحیاة والواقع (2).

والخلاصة أنّ المارکسیین یعتقدون بأنّ الحقوق تمتدّ بجذورها إلی التحوّلات الإقتصادیة، وربّما تکون ضروریة فی مراحل خاصّة من هذه التحوّلات، وتکون الغایة لیس حفظ النظام الاجتماعی وإقامة العدل فی أجواء المجتمع، بل حفظ مصالح الطبقة الحاکمة فی


1- مقدّمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 148.
2- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 351( بالفارسیّة).

ص: 613

عملیة استثمار الطبقات المحرومة فی المجتمع. وتصل هذه الحالة إلی ذروتها فی النظام الرأسمالی، ولکنّ الحتمیّة التاریخیة تقول أنّ المجتمع البشریّ یسیر نحو آفاق الإشتراکیة الثانیة أو الشیوعیة. وفی هذه المرحلة ستزول الملکیة الخاصّة وینتهی مفعول الحقوق والدولة.

بمعنی أنّه عندما تقع السلطة بید أکثریة الناس فلا حاجة حینئذٍ لقدرة قاهرة باسم الدولة لتتکفّل حلّ مشاکل المجتمع وسدّ نقائصه، بل إنّ أکثریة الناس ستتکفل هذا الأمر تجاه الأقلّیة، لأنّ الدولة فی العصور السابقة إنّما قامت علی أساس أنّ الأقلّیة ترید التسلّط علی الأکثریة فی حین أنّ القدرة فی المجتمع الشیوعی تکون بید الأکثریة لا الأقلیة.

وکذلک فإنّ المجتمع الشیوعی الثانی لا یحتاج إلی حقوق فی أجواء التفاعل الاجتماعی بین الأفراد، لأنّ مثل هذا المجتمع لا مکان فیه لحکومة الإنسان علی الإنسان، بل إنّ الناس هم الذین یحکمون علی الأشیاء، وتحلّ هذه القاعدة «من کلّ حسب طاقته، ولکلّ حسب حاجته» محلّ الحقوق، بمعنی أنّ کلّ شخص یسعی بمقدار طاقته وقدرته من أجل تطویر المجتمع وتحریکه نحو الأهداف المنشودة، وفی ذات الوقت فإنّه یستفید بمقدار حاجته من الإمکانات الموجودة.

نقد ومناقشة:

إنّ المدرسة المارکسیة، مضافاً إلی ما واجهته من هزیمة علی مستوی التطبیق والممارسة، وما أثبته الواقع العملیّ من بطلان هذه النظریة بانهیار الاتّحاد السوفیتی والدول التی کانت تدور فی فلکه، فإنّه یواجه من الناحیة النظریة أیضاً إشکالات وانتقادات کثیرة، نشیر هنا إلی بعضها:

1. علی الرغم من وجود حتمیّة تاریخیة تشمل کما یدّعی المارکسیون، جمیع المجتمعات البشریة وأنّها تتحرّک بشکل حتمیّ نحو المجتمع الاشتراکیّ أو الشیوعی الثانی، فإنّ هذه الحادثة لم تحدث علی أرض الواقع الخارجی حتّی فی عصر الاتّحاد السوفیتی السابق، بل شاهد العالم التراجع الآیدیولوجی لهذه المدرسة عن أصولها الفکریّة ومبادئها النظریّة، حیث أعلن قادة وزعماء هذه المدرسة أنّه ومن أجل الوصول إلی مرحلة المجتمع الشیوعیّ الذی لا تحکمه الدولة فإنّه لابدّ من إیجاد دولة قویة تعتمد علی طبقة العمّال لتهیئة الأرضیة للوصول إلی المجتمع الاشتراکی اللّاطبقی. وتسمّی هذه الدولة ب «دکتاتوریة البرولیتاریا» والعجیب أنّ هذه الدولة التی تعتبر مقدّمة للمجتمع المثالی لم تتمکّن وعلی طیلة ما یقارب من 70 عاماً من عمر الاتّحاد السوفیتی السابق، للوصول إلی ذی المقدّمة وإیجاد المجتمع الشیوعی.

2. إنّ الحاجة للحقوق والدولة لا تنتهی من واقع الإنسان إطلاقاً، لأنّه حتّی لو فرض أنّ جمیع أفراد المجتمع بلغوا مستویات عالیة من النضج والصلاح والفهم، وزالت الفوارق الطبقیة من المجتمع، بل من جمیع أفراد البشر بحیث أصبحوا یشکّلون طبقة واحدة، فمع ذلک، فإنّ تقسیم الوظائف بین الأفراد والعمل علی حلّ التعارضات وأشکال التزاحم الناشئة من الخطأ الاحتمالی لکلّ فرد فی تشخیص دائرة حقوقه وتکالیفه یفرض إیجاد نظام حقوقی وسلطة تتولّی تنفیذ المقرّرات والقوانین الحقوقیة، وهذه الحاجة الملحّة فی واقع الإنسان والمجتمع البشریّ لا یمکن إنکارها.

مضافاً إلی ذلک، فإنّ وظیفة الدولة لا تنحصر برفع

ص: 614

الخلافات والقضاء علی النزاعات والفوارق الطبقیة بحیث یقال مع فرض وجود مجتمع خالٍ من الطبقیة والاختلاف فإنّه لا یحتاج إلی الدولة «وبالطبع فهذه الفرضیة خیالیة ومخالفة للواقع» فإنّ إحدی الوظائف المهمّة للدولة، تعیین الأهداف العلیا فی مسیرة التنمیة الاجتماعیة والاقتصادیة ووضع المقرّرات والتخطیط والبرمجة من أجل الوصول إلی تلک الأهداف والغایات فی حرکة الواقع الاجتماعی.

ومن الواضح أنّ الوصول إلی هذه الغایات وتحقیق هذه الأهداف لا یتسنی إلّامن خلال وضع قوانین وتعیین ورسم برامج مشخّصة مع إیجاد ضمانات إجرائیة لها فی دائرة التطبیق والممارسة، أی ضرورة وجود الحقوق والدولة فی کلّ مکان یوجد فیه مجتمع بشریّ.

3. إنّ ادعاء المارکسیة بأنّ الاقتصاد یمثّل قاعدة تحتانیة لجمیع الأمور الأخری کالدین والعقائد والثقافة والعلاقات الحقوقیة والاجتماعیة، غیر صحیح، لأنّ لازم ذلک وجود تماثل فی الدین والثقافة والعلاقات الحقوقیة والاجتماعیة فی مختلف المجتمعات البشریة والتی تتّمتع بحالة اقتصادیة متشابهة، فی حین أنّ بطلان هذا المطلب إلی درجة من الوضوح والبداهة فی جمیع المجتمعات القدیمة والمعاصرة لا یمکن إنکارها، من خلال ما نراه من تفاوت کبیر فی هذه الأمور بینها.

4. وبالنسبة للنظام الحقوقی لبلد معیّن، فأیضاً لا یمکن بأیّ وجه أن تبتنی جمیع المقرّرات الحقوقیة علی أساس العلاقات الاقتصادیة، لأنّه بالرغم من تأثیر عامل الاقتصاد فی بعض القوانین والمقرّرات کالملکیة وعلاقات المؤجّر والمستأجر، والعامل وربّ العمل وأمثال ذلک، إلّاأنّ هذا المعنی لایرد فی الکثیر من المقرّرات الحقوقیة الأخری، کالأحکام والقوانین التی تتّصل بالأحوال الشخصیة والزواج والاسرة وما إلی ذلک، فإنّ عامل الاقتصاد لیس له دور مهمّ فی مثل هذه الأمور. وبعبارة أخری: إنّ أتباع المدرسة المارکسیة وقعوا فی خطأ کبیر بالنسبة لمعرفة الإنسان وتصوّروا أنّه کائن ذو بعد واحد ویتمثّل فی البعد الاقتصادی من الطعام واللباس والمسکن وما إلی ذلک، فی حین أنّ جمیع مذاهب علم النفس و التجارب التاریخیة والاجتماعیة تؤکّد علی أنّ النفس الإنسانیة لها أبعاد مختلفة من دوافع وعواطف ورغبات متنوّعة بحیث إنّ الإنسان وفی کثیر من هذه الموارد یضحّی بالمسائل الاقتصادیة لتحقیقها وإرضائها. وینبغی الالتفات إلی أنّ المارکسیة لا تدّعی تأثیر عامل الاقتصاد فی الجملة فی الروابط الحقوقیة وسائر الروابط الاجتماعیة حتّی یقال أنّه بإمکانهم من خلال ذکر بعض الأمثلة الناقصة، إثبات ادّعائهم المذکور، بل إنّهم یعتقدون بأنّ الإقتصاد یمثّل الأساس والمحور لجمیع أشکال التحوّلات الأخری وأنّ کلّ تحوّل فی الاقتصاد یؤدّی إلی إیجاد تحوّل فی جمیع الروابط والعلاقات البشریة الأخری سواءً فی دائرة الدین أم الثقافة أم الروابط الحقوقیة والاجتماعیة، وکذلک فإنّ کلّ تحوّل فی الروابط والعلاقات المذکورة فإنّه ناشی ء حتماً من تحوّل فی الاقتصاد، والاقتصاد بدوره واقع تحت تأثیر وسائل الإنتاج وما یحدث فیها من تغییرات.

هانْس کِلْسِن (1) (ولد فی عام 1881): (نظریة الحقوق المحضة):

ینطلق عالم الحقوق النمساوی الشهیر (هانس


1- 1 .Hans Kelsen .

ص: 615

کلسن) من موقع قبوله لمدرسة اتّحاد الحقوق والدولة وأنّ إرادة الدولة هی الأساس لمبنی الحقوق، لتأسیس مذهب جدید فی هذه المدرسة سمّاه بالمذهب التعبّدی أو نظریة الحقوق المحضة، أو نظریة الأصول المبدئیة(1).

والسبب فی تسمیة هذه النظریة بنظریة الحقوق المحضة هو أنّ کلسن یری لزوم التحقیق فی الحقوق ومطالعتها بعیداً عن جمیع مؤثّرات العوامل الاجتماعیة والسیاسیة والأخلاقیة، لکی یمکننا الکشف عن حقیقتها ومعرفة ماهیّتها الأصیلة.

وبالرغم من أنّ کلسن لا یعترف بحقوق أخری غیر الحقوق الوضعیة، فإنّه یری ارتباطاً وثیقاً بین الدولة والحقوق، ویقول: إنّ الحقوق ناشئة من الدولة، والدولة بدورها مجموعة من الحقوق. ویمثّل کلسن لذلک بمثال ملفت للنظر، ویقول: «کما أنّ اللَّه فی نظر الإلهیین هو الخالق والمدبّر لعالم الوجود، وفی ذات الوقت فإنّه غیر منفصل عن عالم الوجود، فإنّ الدولة أیضاً هی المؤسسة والحافظة للحقوق، وفی ذات الوقت لا تقع خارج دائرة هذه الحقوق»(2).

ویؤکّد کلسن فی کتابه (النظریّة العامّة للحقوق والدولة)، أنّ الحقوق لیست سوی أحکام صادرة من قِبل دولة ولا تتمتّع بضمانة إجرائیة. ثمّ یجیب عن هذا السؤال، وهو: هل یجب علی الدولة ملاحظة عنصر العدالة فی الأحکام الصادرة منها، أم لا؟ فیقول: إنّ النظریة الحقوقیة الخالصة بما أنّها علم من العلوم لا یمکنها الإجابة عن هذا السؤال، لأنّ هذا السؤال لا یمکن الإجابة عنه بشکل علمیّ. فماذا یعنی القول أنّ النظام الفلانی عادل، هل یعنی أنّ النظام الحقوقی العادل هو الذی یعمل علی تنظیم سلوکیات الأفراد بشکل یکسب رضا جمیع الأفراد وقبولهم له؟

وبهذا المعنی لا یوجد أیّ نظام عادل، لأنّه فی هذه الصورة لابدّ من وجود تضادّ بین رضا الناس وقبولهم وأنّ سعادة أحدهم تتقاطع مع سعادة الآخر. وحتّی علی أساس هذا التصوّر، وهو أنّ النظام العادل یسعی لتوفیر الحدّ الأکثر من السعادة لعدد أکبر من الأفراد، فأیضاً لا یمکن تحقیق النظام العادل، لأنّ السعادة التی تتحقّق فی النظام الاجتماعی تقع فی دائرة السعادة الجمعیة أی إشباع الحاجات التی یتصوّرها أولیاء الأمور والمقنّنون، فهؤلاء یتحرّکون علی مستوی قبول بعض الحاجات المناسبة وإرضائها کالحاجة إلی الغذاء واللباس والمسکن، ولکن یثار أیضاً هذا السؤال، وهو:

أیّ حاجة من هذه الحاجات البشریة یجب إرضاؤها؟

هذه الأسئلة لا یمکن الإجابة عنها بأدوات المعرفة العقلانیة، فالإجابة عنها تعتمد علی عنصر التحکیم من خلال القیم، أی أنّها ذات طبیعة قیمیة یتمّ تشخیصها بواسطة عوامل الإحساس والشعور النفسانی. وعلیه فإنّها تملک فضیلة ذهنیة وتکون معتبرة لدی الشخص نفسه، وهو الذی یقوم بتعیین وتشخیص المصادیق، ومن هنا فهی نسبیّة(3).

والنتیجة المستوحاة من آراء کلسن أنّ الحقوق یجب أن تتولّی حلّ التعارض فی دائرة منافع الأفراد والعمل علی إیجاد وتحقیق النظام فی واقع المجتمع بدون اللجوء إلی أصل العدالة، والفرق بین نظریة کلسن


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 227؛ مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 133( بالفارسیّة).
2- مقدّمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 134( بالفارسیّة).
3- النظریّة العامة للحقوق والدولة، تألیف هانس کلسن، ص 3 نقلًا عن مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 135 و 136( بالفارسیّة).

ص: 616

ونظریة هیجل یتّصل ببیان ماهیة الدولة. فی رأی هیجل أنّ الدولة أمر معقول وضروریّ علی مستوی کونها منشأ الحقوق والمبنی العام لها، وأمّا علی رأی کلسن فإنّ الدولة فی ذات الوقت التی تخلق الحقوق فإنّها لا تکون مستقلّة ومنفصلة عن الأصول الحقوقیة الملزمة، بل إنّ الدولة بمثابة مؤسسة حقوقیّة ومظهر للنظام الحقوقیّ فی المجتمع، وأمّا النسبة بین الدولة والحقوق فهی کالنسبة بین اللَّه تعالی وسائر الموجودات، حیث یعتقد کلسن کما أنّ اللَّه تعالی هو الخالق لجمیع المخلوقات وفی ذات الوقت غیر منفصل عنها، فإنّ الدولة أیضاً هی الخالقة للحقوق ولکنّها فی ذات الوقت غیر منفصلة عن مجموعة من القوانین والمقرّرات، وبالتالی فهی متّحدة معها اتّحاداً وجودیاً.

نقد ومناقشة:

بالرغم من أنّ نظریة کلسن تتمتّع بقبول واسع فی ألمانیا و النمسا، ولها أتباع کثیرون، ولکنّها لا تخلو أیضاً من جملة من الإشکالات الواردة علیها:

1. إنّ کلسن یری أنّ دراسة الأسباب والعوامل الاجتماعیة تضع القانون خارج دائرة الحقوق، ومن هنا فإنّه یعمل علی قطع الارتباط بین الحقوق والعالم الخارجیّ ویحصل هذا العلم بدائرة التحقیق فی إیجاد القواعد الحقوقیة، فی حین أنّ تطابق کلّ قاعدة مع أصل أو قاعدة علیا، لا یمکنه أن یمثّل بمجرّده قیمة واقعیة للأصول الحقوقیة، لأنّه ینبغی ملاحظة هل القاعدة العلیا متطابقة مع عنصر العدالة والقیم العقلیة أم لا؟ وعلیه، فمن الواضح أنّ انطباق قاعدة معیّنة علی قاعدة علیا کالقانون الأساسیّ لتلک الدولة «الذی یعتبر القانون الأُم» لا یقرّر مشروعیة هذه القاعدة الأدنی فیما إذا اقترنت بالظلم والعدوان علی کرامة الإنسان، وإن کانت حسب الظاهر لا تواجه إشکالًا منطقیاً حسب نظریة کلسن (1).

2. إنّ کلسن یقول: إنّ أصول الحقوق لکونها نتیجة الأعمال الإرادیة للأفراد، فبإمکانها التحوّل والتغیّر حسب مقتضیات الزمان وإرادة الشعوب المختلفة(2).

ولکنّ هذا الکلام لا یمکن قبوله، لأنّ الضرورات الناشئة من الحیاة الاجتماعیة تحدّد اختیارات الدولة فی وضع القواعد والقوانین الحقوقیة، فالدولة لا تضع القوانین لمجرّد إظهار قدرتها، بل هناک أسباب وعوامل مختلفة فی عملیة وضع القانون، وهناک قوی مختلفة تتصارع فی دائرة خلق القوانین، فالقانون هو نتیجة للقوّة الغالبة فی هذا الصراع، فکما یقول عالِم الحقوق الفرنسی ریبر فإنّ منبع الحقوق یتمثّل فی الدولة ولکنّ کلّ عین تظهر علی سطح الأرض بفعل ضغط الماء فی باطن الأرض، إذن لا ینبغی الاکتفاء بالبناء العلویّ الظاهر فقط، بل ینبغی البحث فی جذور العوامل والقوی التی تکمن وراء ظهور الماء(3).

3. إنّ کلسن وتبعاً لهیوم یری أنّ الواجبات تعکس الأمور القیمیّة، وهذه الأمور نسبیة وتختصّ بصاحب الرؤیة الذی یری هذه القیم، ولذلک لا یمکن من خلال الاستدلال المنطقیّ والعلمیّ نقل هذه القیم لشخص المنکر لها، علی سبیل المثال: إذا کان الشخص یلتذّ بارتداء اللباس الرمادی، ویعتقد بأنّ لون لباسه یجب أن


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 236 و 237( بالفارسیّة).
2- المصدر السابق، ص 237.
3- القوی البنّاءة للحقوق، العدد 27، ص 80 نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 237( بالفارسیّة).

ص: 617

یکون رمادیاً، فهذا المطلب لا یمکن إثباته ونقله إلی من ینکر هذه القیمة ولا یری جمال اللون الرمادی.

وهذا یعنی أنّ قیمة أمر معیّن فی ذائقة شخص خاصّ لا تکون دلیلًا علی لزوم أن یکون شخص آخر مقتنعاً بهذا الذوق.

والإشکال الوارد علی هذه النظریة هو أنّه لدینا ثلاثة أنحاء من «الوجوب» أو ما ینبغی:

ألف) الواجبات التی تعکس ذوق خاصّ للأفراد، وهذه نسبیّة بطبیعتها.

ب) الواجبات التکوینیة التی تعکس ضرورة وجود المعلول مع وجود علّته التامّة، وتحکی عن واقع خارجیّ من قبیل أن یقال: یجب أن تبلغ درجة حرارة الماء ماءة درجة مئویة لتحقیق ظاهرة الغلیان.

ج) الواجبات التی تتّصل بالقوانین والعلاقات الاجتماعیة التی تقع فی دائرة الاعتبار وتملک خاصیّة شمولیة، وهذه الواجبات وإن کانت فی حدّ ذاتها اعتباریة ولکنّ منشأ اعتبارها هو الواقع الخارجی والحقائق الموضوعیة فی واقع الأمر. وعلیه فهی غیر نسبیة، من قبیل أن یقول المقنّن: یجب علی کلّ شخص دفع الضرائب. وهذا الوجوب ناشی ء من ضرورة توفیر النفقات الخاصّة بالخزانة التی تفضی إلی إیجاد النظم فی عملیة إدارة أمور المجتمع.

والنتیجة أنّ ما یرتبط بالنظام الحقوقیّ من هذه الأشکال للوجوب، هو القسم الثالث منها، أی الواجبات المنتجة للقیم الحقوقیة وما ینبغی فعله أو ما لا ینبغی، ولیست من القسم الأوّل وهی التی تقع فی دائرة الواجبات النسبیة، وعلیه فکون هذه الواجبات إنشائیة فی مقام البیان والخطاب من قبیل أنّ کلّ شخص یجب علیه دفع الضرائب أو یجب علیه إطاعة قوانین المرور، لا یعنی کونها نسبیة وتابعة لذوق الأشخاص وسلیقتهم (1).

الرابع: المذاهب الوضعیّة
اشارة

هذه المذاهب التی تقوم علی أساس الحقائق الخارجیة تنقسم إلی قسمین: إجتماعیة وحقوقیة:

1. بالنسبة للمذهب الوضعی الاجتماعی، فإنّ مبنی القواعد الحقوقیة فی الإرادة العامّة والحوادث الاجتماعیة، وطبقاً لهذه النظریة فإنّ الملاک الحقوقیّ لا ینشأ من إرادة الفرد ولا من الدولة، بل إنّ اعتبار کلّ قاعدة حقوقیة یرتبط بمیزان احترامها فی واقع الحیاة الاجتماعیة، کما ذهب أحد علماء الحقوق فی تعریفه للحقوق: إنّ حقوق کلّ دولة تمثّل مجموعة القواعد الصادرة فی زمان معیّن من قِبل المحاکم وسائر الأشخاص الذین یعملون فی دائرة الحقوق، حتّی لو تصوّر الناس صحّتها أو خطأها، مفیدة أو مضرّة(2).

وعلی هذا الأساس، فلو تمّ وضع قانون من قِبل الدولة ولکنّه أصبح مهجوراً فی الواقع العملیّ ولم یکن له أیّ أثر فی الحیاة الاجتماعیة، فإنّه لا ینبغی عدّه من جملة الحقوق، والعکس صحیح، فالقواعد والتقالید الصادرة من العرف والتی یتمّ رعایتها والالتزام بها من قِبل أفراد المجتمع، تعدّ من جملة القواعد الحقوقیة حتّی لو لم تتدخّل الدولة فی وضعها.


1- انظر: مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، ج 2، ص 138( بالفارسیّة).
2- المراد من هذه العبارة هو أنّه أحیاناً یلتزم الناس بأمور معینة وفی ذات الوقت یعترضون علیها من قبیل تعیین صداق باهض فی مسألة الزواج فی المجتمع الإیرانی المعاصر، فالناس وإن کانوا لا یقبلون بذلک، فإنّهم مع ذلک یلتزمون به علی مستوی العمل.

ص: 618

2. إنّ منشأ الحقوق فی المذهب الوضعیّ للحقوق هو إرادة من یتمتّعون بالصلاحیة فی جهاز الحکومة، وینبغی البحث عن القوی والعوامل المؤثّرة فی ا رادة الدولة فی عملیة صیاغة تلک القوانین والقواعد الحقوقیة.

1. المذهب الوضعی الاجتماعی

وهذا المذهب هو حصیلة جهود علماء الاجتماع الذین یرون أنّ المجتمع بمثابة کائن حیّ یفترق عن العناصر المکوّنة له، وأنّ الأصول والقواعد الحاکمة علیه مثل الأصول والقواعد الحاکمة علی سائر الموجودات الحیة.

وبالنسبة للمبتکر والمؤسّس لهذا النمط من علم الاجتماع الذی یقوم علی أساس المذهب الوضعیّ الاجتماعیّ من هو؟ فهناک اختلاف فی ذلک، فبعض المفکّرین یعتقد بأنّ مؤسّس علم الاجتماع العلمی هو الاشتراکی الفرنسی المعروف سان سیمون (1760- 1825) لأنّه أعلن بصراحة أنّ المجتمع البشریّ بمثابة کائن حیّ وله وجود وضعیّ.

وذهب آخرون إلی أنّ عالم الحقوق الفرنسی (مونتسکیو) هو المؤسس لعلم الاجتماع الحدیث، لأنّه تحرّک فی جمیع فصول کتابه «روح القوانین» علی مستوی البحث فی القوانین الحاکمة علی المجتمعات البشریة.

ولکن بعض علماء الحقوق المعاصرین یرون أنّ العالم والمؤرّخ التونسی ابن خلدون، الذی کان یعیش فی القرن الرابع عشر المیلادی قد سبق سان سیمون ومونتسکیو فی عملیة تأسیس علم الاجتماع بعدّة قرون، وقد بحث ابن خلدون الظواهر الاجتماعیة من خلال التحقیق الدقیق فی حرکة التاریخ والطبیعة الاجتماعیة للإنسان، وملامح المجتمع البدویّ والمدنیّ ودور الدولة، والمعادلات الاقتصادیة فی عملیة التفاعل الاجتماعی، کلّ ذلک علی أساس المنهجیة العقلیة التجریبیة(1).

لکن مع الأسف فإنّ کتابات ابن خلدون قد تراکم علیها غبار النسیان والإهمال لعدّة قرون، وعندما تمّ اکتشاف هذه الآراء لابن خلدون، کان علم الاجتماع قد خطا خطوات کبیرة، ودخلت مناهج أخری فی هذا النمط من الدراسات، فالمبنی العلمیّ لعلم الاجتماع فی العصر الحاضر یقوم علی أساس آراء اجوست کونت وامیل دورکایم، وهنا نستعرض جملة من هذه الآراء والمقولات:

اجوست کونت (2) (1757- 1798):.

یری اجوست کونت وأتباعه أنّ الأخلاق والدین لا یؤثّران فی إیجاد الحقوق، والمبنی الأصلیّ فی تشکیل القواعد الحقوقیة هو الوجدان العام فی واقع المجتمع البشریّ، وتقوم فلسفة اجوست کونت علی أساس عنصر المشاهدة والتجربة واجتناب کلّ ما یدخل فی المفاهیم المجرّدة الماورائیة. والبشریة فی نظر اجوست کونت قد مرّت فی مسیرتها التاریخیة بثلاث مراحل:

1. مرحلة الدین، حیث کان الإنسان القدیم یتصوّر أنّ جمیع القوی المؤثّرة فی الطبیعة عبارة عن اللَّه المتجسّد فی هذه الظواهر. وفی هذه المرحلة کانت


1- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 242( بالفارسیّة).
2- 2 .Auguste Conte .

ص: 619

الحکومات العسکریة هی المسیطرة علی المجتمعات البشریة.

2. مرحلة الفلسفة الأولی أو ما وراء الطبیعة، حیث إنّ الإنسان کان فی هذا العصر یتصوّر مجرّدات خیالیة فی ذهنه لغرض تبریر القوانین الطبیعیة، وفی هذه المرحلة سادت حکومة علماء الحقوق والفلسفة علی الناس.

3. المرحلة العلمیة أوالوضعیة، حیث تحرّک الإنسان فی دراسة الأمور من موقع مشاهدة الحقائق الخارجیة والابتعاد عن الأمور التجریدیة والخیالیة، وفی هذه المرحلة أدرک الإنسان هذه الحقیقة، وهی أنّ الطریق الوحید للتوصّل إلی الحقائق العلمیة هو الاعتماد علی منهج الاستقراء وأدوات الحسّ.

وقد سار الإنسان فی هذا العصر نحو بناء المجتمع الصناعیّ والحضاریّ فی واقع حیاته (1).

إنّ الوجدان العامّ الذی هو الأساس للقواعد الحقوقیة فی نظر اجوست کونت، عبارة عن أمر مستقلّ عن التصوّرات وأشکال التقییم الفردیة، ولا ینبغی أن نتصوّر أنّه أمر وهمیّ وخارج عن إطار الطبیعة، لأنّه یمکن التوصّل إلی المبادی ء والأصول التی تعدّ روح وأساس الحقوق من خلال تحلیل الظواهر الاجتماعیة وتفسیرها، وهذه الأصول وبسبب شمولیتها، لابدّ أن تکون ملزمة.

وفی نظر کونت فإنّ القواعد الناشئة من الوجدان العام تسمو علی سائر القواعد الأخری وتقع فی مرتبة أعلی، ولهذا السبب فإنّ اجوست کونت کان مخالفاً للائحة حقوق الإنسان التی تقرّر أنّ الحقوق الفردیة للأشخاص أعلی مرتبة من القوانین الاجتماعیة، إلی حدٍّ أنّه کان یقول: إنّ مفردة «حقّ» تذکّرنا بالمرحلة الدینیة وعصر ماوراء الطبیعة، ویجب أن تحذف هذه الکلمة من القاموس السیاسی المعاصر. ففی المرحلة العلمیة لابدّ من زوال مفهوم الحقّ، فکلّ شخص یعیش تکالیفاً معینة ومسؤولیة فی مقابل الآخرین، ولکن لا أحد یملک حقّاً معیّناً بمعناه الخاصّ ... وبعبارة أخری، لا أحد یملک أیّ حقّ سوی حقّ امتثال التکلیف (2).

وسیأتی الکلام فی نقد نظریات کونت بعد بیان آراء دورکیم.

امیل دورکایم (3) (1858- 1917):.

وقد انطلق أمیل دورکایم وأتباعه، بالاقتباس من اجوست کونت علی مستوی الاستفادة من عنصر التجربة والاستقراء والمشاهد، وجعلها أساساً لأبحاثهم العلمیة. ففی نظر دورکایم لابدّ من إحراز ظروف العلاقات الاجتماعیة والعوامل المؤثّرة فی الحوادث التاریخیة، و القواعد الحاکمة علی المسیرة التاریخیة للمجتمعات من خلال الاستفادة من مشاهدة الوقائع والحوادث، بالاستعانة بالإحصاءات وعملیات التنقیب الارکولوجی للتاریخ.

وعلی أساس هذه النظریة، فلو تمّ منع السرقة وعملیات النهب والسلب، فذلک بسبب أنّ هذه الجرائم تتقاطع مع ظروف الحیاة الاجتماعیة ومظاهر التمدّن و التحضّر فی واقع المجتمع، ولذلک فإنّ الخطوة الأولی هی تحرّک المجتمع علی مستوی إنزال العقوبة


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 244 و 245 وکلیّات الحقوق، ص 80 و 81( بالفارسیّة).
2- کلیّات الحقوق، ص 81( بالفارسیّة).
3- 3 .Emile Durkheim .

ص: 620

باللصوص وقطّاع الطرق، وبعد ذلک ومن خلال التجارب، توصّل المجتمع إلی لزوم إیجاد ضمانات للملکیة والتصرّف المالی بواسطة القواعد الحقوقیة، فی حین أنّ أتباع نظریة الحقوق الطبیعیة أو الفطریة یرون أنّ القتل والسرقة عبارة عن تعدٍّ وتجاوز علی الحقوق الأساسیة للفرد، ولهذا السبب فقد منعت القواعد الحقوقیة من هذا السلوک السلبیّ.

وعلی هذا الأساس فإنّ الحقوق تعدّ أدوات ووسائل یستخدمها المجتمع فی عملیة ضبط النظم والتصدّی للفوضی وأشکال الهرج والمرج المانعة من بقائه وحرکته فی خطّ التقدّم والتحضّر. إنّ قواعد الحقوق لا شأن لها سوی بیان العلاقات الأساسیة فی المجتمع، وتمثّل مرآة لأقوی حالات الشعور الجمعیّ (1).

ویعتقد دورکایم بوجود تشابه بین احترام الشخص للعلاقات الاجتماعیة، وبین الاحترام والطاعة لدی المتدیّنین فی مقابل اللَّه تعالی. ویقول: إنّ الباعث لحرکة المتدیّن فی خطّ الطاعة والتعبّد للَّه تعالی هو أنّه الخالق له والمدبّر لأموره، إذن فبهذا السبب نفسه یجب علی الشخص غیر المتدیّن أن یحترم الحیاة الاجتماعیة ویعمل علی الإخلاص لها وحبّها(2).

وممّا تقدّم من رؤیة أتباع المذهب الوضعیّ الإجتماعیّ فی تحلیلهم لمقولة الحقوق، یمکن الخروج بنتیجة أنّ هذا المذهب یری أنّ الأساس والمبنی الأصلیّ للحقوق یقوم علی الوجدان العام، وأنّ مبنی القواعد الحقوقیة یقوم علی أساس حاجة المجتمع لحکومة تلک القواعد علی العلاقات الاجتماعیة. وعلی هذا الأساس، فلا یوجد فرق أساسیّ بین القانون والعرف والذوق القضائیّ، بل إنّ جمیع هذه المنابع للحقوق تعتبر مظاهر خارجیة للوجدان العام، وامتیازها عن بعضها یکمن فی نمط بیان الصیاغة الخارجیة لهذه القواعد والمسائل الفنّیة المتعلّقة بها، فوظیفة المقنّن هی أن یتحرّک علی مستوی التحقیق الدقیق فی الإرادة العامّة للمجتمع واستلهام القواعد الحقوقیة التی یفرضها الوجدان العام، والعمل علی تدوینها والإعلان عنها.

وطبقاً لهذه الرؤیة فإنّ اعتبار الأصول الکلّیة للحقوق لا یعتمد علی قدرة واعتبار المقنّن، بل یعتمد علی الوجدان العام (3).

نقد ومناقشة:

1. إنّ أهمّ النقود والإشکالات الواردة علی هذا المذهب الوضعیّ الاجتماعیّ، هو إنکاره لتأثیر الأخلاق والدّین فی إیجاد الحقوق، لأنّ أتباع هذه المدرسة یتصوّرون أن المبنی الأصلی للقواعد الحقوقیة هو الوجدان العام، فی حین أنّ تشکیل الوجدان العام یخضع لمؤثّرات وعوامل مختلفة، ومن أهمّها الأخلاق والدین. والشاهد الحیّ علی هذا المعنی، تطابق الکثیر من أشکال الحکم للوجدان العام فی المجتمعات الدینیة علی تعالیم الدین السائد فی أجواء هذه المجتمعات، من قبیل قبح الربا وکراهیة الاختلاط بین الجنسین فی هذه المجتمعات.

2. إنّ الهدف من القواعد الحقوقیة طبقاً لهذا المذهب یتلخّص فی تثبیت وتکریس الوضع الموجود وتبیین وتدوین الوجدان العام، فی حین أنّ أحد أهداف


1- کلیّات الحقوق، ص 83( بالفارسیّة).
2- فلسفه حقوق، ج 1، ص 254( بالفارسیّة).
3- انظر: کلیّات الحقوق، ص 85( بالفارسیّة).

ص: 621

المقنّنین هو العمل علی هدایة المجتمع من خلال وضع القوانین المناسبة فی خطّ التکامل والتقدّم والفضیلة.

وبالطبع فهناک اختلاف فی آراء العقلاء علی مستوی معرفة مصداق الکمال والتقدّم، إلّاأنّه لا یوجد اختلاف بینهم فی أصل ضرورة تحقیق التکامل والتقدّم فی أجواء المجتمع. وأساساً فإنّ الإنسان یتحرّک دائماً، لا فی وضع القوانین فحسب، بل فی جمیع أعماله وسلوکیّاته، فی سبیل تحقیق السعادة و الکمال الأخلاقیّ والمعنویّ وإلّا فإنّ حیاته ستکون فارغة وعدیمة المعنی. إنّ صیاغة الوجدان العام لابدّ أن تقوم علی هذا الأساس أیضاً، ومن هنا نری أنّ جمیع المقنّنین، حتّی أتباع هذه المدرسة، یتحرّکون فی وعیهم وسلوکیّاتهم علی أساس هذا الفهم الفطریّ وبدون الالتفات إلی عدم مطابقته للأصول المقرّرة فی مذهبهم ویصرّحون بأنّه «إذا تقرّر منع السرقة والعدوان علی الآخرین فهو من أجل أنّ هذه الجرائم تتقاطع مع ظروف الحیاة الاجتماعیة وحرکتها فی طریق الکمال والرقیّ والفضیلة»(1).

وبدیهیّ أنّ الحرکة فی خطّ التقدّم والکمال لا معنی لها بدون لحاظ الغایة العلیا للکمال البشریّ. ومن هنا نشاهد أنّ المفکّرین فی المجتمع البشریّ یعیشون دائماً هذا الهاجس، وینطلقون فی عملیة صیاغة الوجدان العام من خلال رفع المستوی الثقافی لأفراد المجتمع والقیام بإصلاحات أساسیة للأخطاء وأشکال الخلل المحتملة فی عملیة التقنین للوصول إلی وضع قوانین أکمل وأفضل.

ویقول أحد علماء الحقوق الفرنسیین، ویدعی روبیه، بالنسبة لوجود أهداف علیا لکلّ مجتمع بشریّ والتحرّک للوصول إلی هذه الأهداف والغایات:

«لا ینبغی الغفلة عن هذه الحقیقة، وهی أنّ الغایة العلیا للمجتمع تتمحور حول الإنسان نفسه، أی أنّ هدف المجتمع توفیر السعادة للإنسان، لا أنّ الإنسان یجب علیه توفیر السعادة للمجتمع، ولا ینبغی الغفلة عن أنّ الفلاسفة من أتباع سقراط کانوا یتصوّرون أنّ الأصل هو المجتمع، ولذلک کانوا یرون مشروعیة الرقّ خلافاً للغایات العلیا التی کانوا یعتقدون بها(2).

3. الإشکال الآخر علی المذهب الوضعیّ الإجتماعیّ هو عدم اهتمامه بدور الدولة فی توفیر ضمانات إجرائیة للقوانین والقواعد الحقوقیة، ومن الواضح أنّ الدولة ومن خلال أدوات السلطة التی تملکها، تعمل علی جعل القواعد الحقوقیة ملزمة للأفراد، فإذا تصوّرنا أنّ القواعد الأخلاقیة ناشئة فی عملیة الإلزام من الوجدان العام کما یقول أتباع المذهب الوضعیّ الاجتماعیّ، فإنّ القواعد المذکورة وبسبب عدم وجود ضمانات إجرائیة مادّیة لها، لا تکون ملزمة فی کثیر من الموارد، فی حین أنّ الدولة من خلال استخدام قدرتها والاستفادة من إمکاناتها المادّیة کقوّات الشرطة والمراجع القضائیة، بإمکانها العمل علی تحقیق هذه القواعد علی أرض الواقع الاجتماعی (3).

والجدیر بالذکر أنّه مضافاً إلی هذه الإشکالات والنقود، فهناک إشکالات أُخری علی آراء أتباع هذا المذهب، ومنها ما ورد من تقسیم مراحل الحیاة البشریة علی طول الحرکة التاریخیة إلی ثلاث مراحل، کما


1- انظر الصفحة السابقة من هذه المقولة نفسها.
2- النظریّة العامة للحقوق، تألیف روبیه، ص 160 نقلًا عن کلیّات الحقوق، ص 88 و 89( بالفارسیّة).
3- انظر: مقدّمة علم الحقوق، ص 15، الطبعة التاسعة، 1367 ه. ش.

ص: 622

یتصوّر آجوست کونت: مرحلة الدین والفلسفة والعلم، فمضافاً إلی أنّ هذه النظریة تعدّ ادّعاءً محضاً لا یقوم علی أساس الدلیل والشواهد العلمیة، بل إنّ الشواهد التاریخیة غیر قابلة للإنکار تقرّر خلاف هذه الرؤیة، ومن هنا نلاحظ فی العصر الحاضر الذی یدّعی کونت أنّه عصر العلم، شیوع واتّساع مساحة العقائد الدینیة وتنوّعها. والإحصاءات التی تنشر فی البلدان الصناعیة والکبیرة فی الغرب، تشیر إلی الإزدیاد الدائم فی دائرة هذه العقائد فی أجواء المجتمعات الغربیة.

وتشکّل العقائد الدینیة قسماً عظیماً من ثقافة المجتمعات البشریة علی امتداد التاریخ.

2. المذهب الوضعیّ الحقوقیّ أو الحقوق الوضعیة
اشارة

ویسمّی هذا المذهب بالوضعیة الحکومیة أیضاً(1).

ولابدّ من الالتفات إلی أنّ هذا العنوان ونظائره غیر ناظر إلی مذهب واحد بالخصوص، بل یشیر إلی مذاهب متعدّدة أفرزتها عقول جماعة کبیرة من علماء الحقوق من خلال اطروحاتهم وقرائحهم المتنوّعة.

وأهمّ قاسم مشترک بین هؤلاء الحقوقیین، أنّهم یعتقدون بأنّ الحقوق عبارة عن مجموعة من القواعد الصادرة من قِبل الدولة والتی تتکفّل بتنفیذها أیضاً.

ویری هؤلاء العلماء أنّ النظریات المذکورة فی دائرة الحقوق إنّما تفید المقنّن فی تعیین القواعد التی تقوده فی توضیح الرؤیة، وإلّا فما هو مهمّ فی نظر المقنّن والحقوقیّ هی قواعد الحقوق الوضعیة، وهی التی تضعها الدولة وتثبت اعتبارها ومشروعیتها فی هذا الوضع، فلا توجد قاعدة أخلاقیة علیا تکون بمستوی أعلی من هذه الحقوق الوضعیة. یعنی أنّ القانون السیّ ء یکون ملزماً أیضاً بنفس المقدار الذی یکون فیه القانون الأکمل والأفضل (2).

وفی نظر هذه المدرسة الحقوقیة فإنّ القواعد الحقوقیة المطلوبة والمثالیة، سواء کانت ناشئة من طبیعة الأشیاء أو من العادات والتقالید الاجتماعیة، لا تتمکّن بأیّة حالٍ من معارضة الحقوق الموضوعة، وبالطبع لابدّ من فهم العوامل المؤثّرة فی وضع القانون والقوی التی تتدخّل فی طبیعة الحرکة التقنینیة للدولة.

وبعبارة أخری أنّ أتباع المذهب الوضعیّ الحقوقیّ یقبلون بتأثیر أمور مختلفة فی إرادة الحکومة بالنسبة لوضع القانون من قبیل القواعد المطلوبة والمثالیة الناشئة من طبیعة الأشیاء أو من الوجدان العام والعادات والتقالید الاجتماعیة، ولکنّ هذه الأمور بحدّ ذاتها تدخل ضمن القواعد الأخلاقیة غیر الملزمة، وما یبعث علی ظهور القواعد الأخلاقیة وإیجاد حالة الإلزام لها لیس سوی إرادة الدولة. ویری عالم الحقوق الفرنسی ریبر وهو من أنصار المدرسة الوضعیة، أنّ الحقوق الموضوعة ناشئة من قدرة الدولة، ولکنّ المقنّن لیس حرّاً ومختاراً فی وضع هذه القواعد، لأنّه یخضع بدوره للضرورات الاجتماعیة والأخلاقیة والدینیة والحضاریة التی یعیشها الناس. ففی الحکومات اللیبرالیة یکون وضع القانون بعهدة الوکلاء المنتخبین من قِبل الشعب، فالشعب مؤثّر بشکل غیر مباشر فی إیجاد هذه الحقوق.

ویقول ریبر، إنّ حقوق کلّ قوم مرآة تنعکس فیها


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 380( بالفارسیّة).
2- القوی البناءة للحقوق، العدد 26، تألیف ریبر، نقلًا عن کلیّات الحقوق، ص 108( بالفارسیّة).

ص: 623

ثقافة ومدنیة وأخلاق الناس وأفراد المجتمع، ولا یتمکّن المقنّن من وضع قانون بدون الالتفات إلی هذه العناصر والعوامل. فالقواعد الأخلاقیة فی نظره تحیط بالحقوق من جمیع الأطراف (1).

لکن لابدّ من الالتفات إلی أنّ أتباع المذهب الوضعیّ الحقوقیّ لا یتّفقون مع ریبر فی عقیدته هذه، و لا یفکّرون مثل تفکیره بالنسبة إلی تأثیر العوامل الاجتماعیة والأخلاقیة فی الحقوق، وهذا ما یوضّح ضرورة تقسیم أتباع هذا المذهب إلی مجامیع متعدّدة کما ستأتی الإشارة إلیه.

أتباع المذهب الوضعی فی الحقوق:

یمکن تقسیم أتباع هذا المذهب إلی ثلاثة فئات أو مذاهب فرعیة:

1. مذهب الحقوق الدستوریة أو التحلیلیة: ففی نظر أتباع هذا المذهب، أنّ العنصر الأصلیّ للحقوق هو اعتمادها علی القوّة السیاسیة للدولة، وهذه الخصوصیة هی التی تمیّز هذه القواعد عن سائر القواعد الاجتماعیة. وطبقاً لهذه النظریة یجب أن تتمیّز الحقوق عن القواعد الدستوریة التی لیست ذات بعد سیاسی کالأخلاق والعادات والتقالید الاجتماعیة. فلو کانت القاعدة فاقدة للضمانة التنفیذیّة من قِبل الحکومة والنظام السیاسی، فلا تکون جزءً من الحقوق، لذلک فإنّ هذا المذهب لا یعتبر الحقوق العالمیة العامّة فرعاً حقوقیاً کاملًا وشاملًا. وعلی هذا الأساس فإنّ کلّ قاعدة حقوقیة تمتاز بثلاث خصال تمیّزها عن غیرها من القواعد الأخری:

أ) کیفیة الأمر أو الدستور.

ب) إنّ هذا الأمر صادر من قِبل القدرة السیاسیة العلیا.

ج) إنّ أمر القدرة السیاسیة أو الدولة یتزامن مع وجود إجراءات علی مستوی التطبیق.

ومن هنا فإنّ أتباع هذا المذهب یریدون حصر علم الحقوق بما هو موجود فعلًا، وتطهیره من الملاحظات الاجتماعیة والمثل الفلسفیة، وبالتالی تفسیر جوهر الحقوق بدون اللوازم الخارجیة(2).

نقد ومناقشة:

هناک إشکالات متعدّدة واردة علی هذا المذهب ومن أهمّها عدم اهتمامه بأمر العدالة، بل وتبریر مظاهر الظلم والاستبداد. لأنّ هذا المذهب الحقوقیّ یری أنّ القاعدة الحقوقیة إنّما تکون ملزمة إذا کانت مقترنة بضمانة اجتماعیة من قِبل القدرة السیاسیة العلیا، فحینئذٍ تکون قاعدة حقوقیة یلزم اتّباعها والعمل بها حتّی لو کانت تمثّل الظلم المحض. وعلیه فإنّ هذا المذهب یخالف علی مستوی النظر حکم العقل والعقلاء فی قبولهم للعدالة وضرورة التوصّل إلیها وتحقیقها فی أجواء المجتمع، ومن جهة عملیة أیضاً فإنّه یفتح الطریق لظهور حکومات استبدادیة ودکتاتوریة، والنتیجة أنّ هذه الرؤیة لیست مقبولة لا من الناحیة النظریة ولا العملیة، ولذلک لا نحتاج هنا لطرح إشکالات أخری واردة علی هذا المذهب.

2. مذهب علم النفس الحقوقی: وهذا المذهب فی حین أنّه یری أنّ الحقوق ناشئة من قدرة الحکومة


1- کلیّات الحقوق، ص 109( بالفارسیّة).
2- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 383- 387( بالفارسیّة).

ص: 624

والدولة، فإنّه یری اعتبار وتأثیر الضرورات الاجتماعیة والأخلاقیة علی مستوی کونها مرتکزات واقعیة للقواعد الحقوقیة. ویعتقد أصحاب هذا المذهب أنّ الأخلاق حاکمة علی الحقوق، وتعدّ معیاراً لتقییمها، فالأخلاق تجری فی تفاصیل القضایا الحقوقیة کجریان الدم فی البدن، والحقوق تمثّل الرواسب التاریخیة للأخلاق الاجتماعیة(1).

إنّ مهارة الحکّام تتجلّی فی عملیة استفادتهم من العناصر الأخلاقیة لصالحهم، لأنّ القانون الذی یتوافق وینسجم مع طبیعة القیم الأخلاقیة السائدة بین الناس یسهل أمر تطبیقه، والأخلاق مضافاً إلی تدخّلها فی وضع القاعدة الحقوقیة، فإنّها تؤثّر أیضاً فی کیفیة تفسیرها وتطبیقها علی واقع الحیاة، بل إنّها تتمتّع بالصلاحیة لإلغاء تأثیر القاعدة الحقوقیة، وعلی هذا الأساس فإنّ الأخلاق هی العامل الأساس لإیجاد الحقوق، ولا ینبغی أن نتصوّر أنّها أحد المبانی التی یقرّر الحقوقیون معالم الحقوق علی أساسها فی عملیة التقنین وفی المبانی الحقوقیة(2).

والنقطة الملفتة للنظر هنا أنّ أحد کبار أتباع المذهب النفسیّ فی الحقوق، أی الحقوقیّ الفرنسیّ المعروف ریبر لا یری أنّ المثل الأخلاقیة تتمحور حول المفهوم الکلّی للعدل، لأنّ هذا المفهوم مادام باقیاً فی دائرة کلّیته وإبهامه، ویحتمل تفاسیر متعدّدة، فإنّه لا یتمکّن من وضع أحکام صارمة وقویة لإدارة أمور الحیاة الاجتماعیة.

وکذلک یری ریبر أنّ العدالة إذا أُخذت منفصلة عن الدِّین فإنّها ستکون ناقصة ویحیط بها الإبهام والغموض، ویصرّح بأن: «لا ینبغی للحقوقیین الفرنسیین الغفلة عن أنّ الحقوق یجب إجراؤها فی أجواء المجتمع البشری الذی یقوم علی أساس الأخلاق المسیحیة»(3).

نقد ومناقشة:

إنّ اهتمام مذهب علم النفس الحقوقی بالأخلاق وتأثیرها الکبیر فی صیاغة وتفسیر وإجراء القواعد الحقوقیة، یعتبر عملًا محموداً وقیّماً، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ الأخلاق فی المجتمعات غیر الدینیة لیست أمراً ثابتاً، بل واقعة تحت تأثیر عوامل أخری کالعامل الاقتصادی والقوی السیاسیة، بحیث لا یمکن اعتبار الأخلاق عاملًا أصلیاً فی إیجاد الحقوق. وعلیه فإنّ ما یؤثّر تأثیراً کبیراً فی ظهور الحقوق فی الواقع الاجتماعی لیست الأخلاق الفردیة، بل الأخلاق الإجتماعیة التی بدورها متأثّرة بمجموعة عوامل من قبیل العامل الاقتصادی والسیاسی والثقافی والإجتماعی.

والنتیجة أنّ هذا المذهب قد بالغ إلی حدّ ما فی مقولة تأثیر الأخلاق فی الحقوق، ومن جهة أخری أغفل تأثیر أمور أخری، کالعوامل الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة أو لم یهتمّ بدراستها بدقّة.

3. المذهب الواقعیّ للحقوق (رئالیسم) فی أمریکا: وطبقاً لرؤیة هذا المذهب، فإنّ الحقوق تنشأ من آراء


1- الحقوق المدنیة، تألیف ریبر وبولانجه، ج 1، العدد 53؛ القاعدة الأخلاقیة فی المواثیق المدنیة، تألیف ریبر، العدد 14؛ القوی البناءة للحقوق، العدد 69 نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 396( بالفارسیّة).
2- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 396 و 397( بالفارسیّة).
3- القاعدة الاخلاقیة فی المواثیق المدنیة، العدد 17، نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 397- 401( بالفارسیّة).

ص: 625

المحاکم، ومن هنا یعتمد هذا المذهب بشکل خاصّ علی علم النفس القضائیّ والعوامل الأخری التی تساهم فی عملیة التحقیق فی القواعد الحقوقیة. والقاضی فی نظر أتباع هذا المذهب کالمقنّن، وأنّ الحقوق هی منهج بإمکانه تعیین حکم المحکمة فی کلّ قضیة فی مرتبة سابقة.

ومن أجل أن تکون لنا رؤیة أفضل لتفاصیل هذا المذهب، لابدّ من الالتفات إلی کیفیة دخوله فی نظام «کامن لو» الذی یعتبر أحد الأنظمة الحقوقیة الثلاثة الکبیرة فی العالم (أی النظام الحقوقی الإسلامی، نظام الحقوق المدوّنة [/ الرومیة والألمانیة] والنظام الحقوقی کامن لو). وعلی أساس النظام «کامن لو» السائد فی بلدان کبریطانیا، وأمریکا، وکندا واسترالیا، فإنّ الحقوق تظهر بالتدریج، ومن خلال تصمیمات المحاکم فی الدعاوی الخاصّة، وتدخّل مجالس التقنین فی تدوین الحقوق، لها جهة استثنائیة، وبعبارة أخری، فإنّ المنبع الأصلی للحقوق هو الذوق أو المسلک القضائی الذی یتشکّل بواسطة آراء المحاکم، وأمّا القانون الصادر من مجالس التقنین والتشریع، فیعتبر مصدراً من الدرجة الثانیة للحقوق، حیث یحدّ من دائرة «کامن لو» فی بعض الموارد، وهذا فی مضمونه الدقیق مخالف للنظام الحقوقی الإسلامی والحقوق المدوّنة (الرومیة والألمانیة).

وعلی أساس نظام (کامن لو)، فإنّ الحقوق لا تمثّل مجموعة من القواعد الکلّیة التی تعرض علی المحاکم لتنفیذها وتطبیقها، بل إنّ رأی المحکمة هو الذی یقنّن الحقوق (1).

وطبقاً لرؤیة المذهب الواقعی للحقوق، فبما أنّ العامل الأصلی لصیاغة الحقوق، آراء القضاة، والقضاة فی إصدارهم للحکم فهم یقعون تحت تأثیر العوامل النفسیة والاجتماعیة المختلفة، فإنّ الرؤیة الواقعیة توجب الاهتمام بدراسة هذه العوامل وعدم الاکتفاء بدراسة ظاهر عبارة القاضی أوالمقنّن. ویری أصحاب هذا المذهب أنّ الحقوق لا تمثّل مجموعة من القواعد المدوّنة سابقاً والحاکمة علی أجواء المجتمع، بل عبارة عن سلوک القضاة فی مقام حلّ وفصل الدعاوی والمخاصمات. وبالطبع فإنّ بعض روّاد هذا المذهب لا یرون أنّ الحقوق ناشئة من تصمیم المحکمة فقط، بل کذلک سلوک القضاة وأفراد الشرطة تمثّل أیضاً منابع للحقوق (2).

نقد ومناقشة:

1. إنّ مبالغة هذا المذهب بالنسبة لدور آراء القضاة فی صیاغة الحقوق، لا تخفی علی أحد، وبالتالی فإنّ هذ الرأی یتنافی مع أصل تفکیک السلطات (3) وفصل السلطة المقنّنة عن السلطة القضائیة، وهو من الأصول الأساسیة المقبولة فی واقع المجتمعات البشریة والحکومات المعاصرة، وبالتالی فإنّه یؤدّی إلی تفوّق وتعالی إرادة القضاة علی إرادة نوّاب الشعب فی مجالس التشریع والبرلمان.

2. إنّ قبول المسلک القضائی کمنبع أصلی للحقوق والذی یقوم أساساً علی استنتاج القضاة السابقین ورؤیتهم الخاصّة لمقولة العدل والإنصاف، یؤدّی إلی أن


1- انظر: فلسفة الحقوق، ج 1، ص 405- 409( بالفارسیّة).
2- انظر: المصدر السابق، ص 409- 413.
3- والجدیر بالذکر أنّ رأی الإسلام یختلف عن رأی العالم الغربی ومنظمةحقوق الإنسان فی تفکیک القوی، وقد ذکر هذا البحث فی محلّه، فی حین أنّ الإسلام لا یعتبر القضاة مقنّنین، ولا یعتبرهم منبعاً أصلیاً للحقوق.

ص: 626

یکون أصحاب الدعوی وطرفی الخصومة فی کثیر من الموارد جاهلین بالحکم الذی سیجری فی شأنهم وقضیّتهم عند مراجعتهم للمحاکم، لأنّه لا یعلم ما هو مقتضی العدل والإنصاف الذی سیقرّره قاضی هذه القضیة، وبدیهیّ أنّ هذا الأمر لا ینسجم مع ضرورة اطّلاع الناس علی القانون، و کذلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان التی تعتبر قاعدة عقلیة أو عقلائیة.

3. الإشکال المهمّ الآخر الوارد علی المذهب الواقعی للحقوق، أنّه لا یأخذ بعین الاعتبار فی جمیع تحقیقاته، جمیع المسائل الحقوقیة المبحوثة فی المحاکم کیما تکون آراء القضاة منبعاً أصلیاً للحقوق، بل یتمّ الرجوع للدعاوی الخاصّة التی تقع بین الأفراد وتقدّم للمحکمة، فی حین أنّ الکثیر من المسائل الحقوقیة تجری بین أفراد المجتمع فی دائرة الأمور الاقتصادیة والسیاسیة والاجتماعیة وأمثال ذلک بدون أن تقع خصومة أو دعوی فی موردها، یقول الحقوقیّ الفرنسی (کاربونیه): «إنّ واقع الحقوق لا یتّسق دائماً مع المسلک القضائی، بل حتّی أنّه یتعرّض للتحریف من هذه الجهة، لأنّ المسلک القضائی عبارة عن ترافع، والترافع یختصّ ب (حقوق معرفة الخسائر) لا الحقوق العادیة»(1).

4. ما أدخله بعض أتباع هذا المذهب- من أجل جبران النقص الموجود فیه، من إضافة أعمال المدّعی العام وأفراد الشرطة- إلی منابع الحقوق، فإنّه یثیر علیهم إشکالًا أهمّ، لأنّه إذا کان هناک محلّ لصلاحیة القضاة فی أمر الحقوق، وقلنا أنّها من لوازم تفسیر القانون بواسطتهم؛ فإنّه لا یمکن القول بذلک بالنسبة إلی رجال الشرطة الذین یتولّون مهمّة إجراء القانون فقط لاتفسیره. وإذا أمکن لوظیفة إجراء القانون أن تکون لها صلاحیة التقنین، فهل یمکن القول أنّ هذا الکلام یشمل جمیع أفراد المجتمع الذین یتولّون بشکلٍ أو بآخر إجراء القانون فی واقع المجتمع؟ وهل یجب فی هذه الصورة اعتبار سلوک جمیع أفراد المجتمع کمنبع أصلیّ للحقوق؟!(2)

النتیجة:

إنّ ما تقدّم بیانه عبارة عن موجز لسعی البشریة لتعیین المبانی الواقعیة للحقوق وتأسیس نظام اجتماعی یکون قادراً علی توفیر مصلحة الناس وسعادتهم دون الاعتماد علی تعالیم الوحی والدّین ولمدّة قرون متمادیة، ولازالت هذه المساعی مستمرّة من أجل تعیین مبانی الحقوق الواقعیة، وتأسیس نظام اجتماعیّ لتأمین المصلحة والسعادة فی واقع الحیاة.

إنّ التأمّل فی هذه المذاهب المختلفة والمتباینة بالشکل المذکور آنفاً، یشیر إلی أنّ هذا الطریق زاخر بالتجربة والخطأ، وکلّما تقدّم الزمان فإنّ التناقضات فی هذه الدائرة تشتدّ وتتجلّی أکثر.

أنّ الطریق الوحید الذی نعتقد بأنّه یوصلنا إلی العلم الصحیح والموثوق، هو ما یقودنا إلی خالق الإنسان والعالم، ومعرفة سعادة الإنسان وکیفیة وصوله إلی هذه المرتبة لابدّ أن تؤخذ من تعالیم الوحی الذی نزل علی النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله وتمّ تبیینها بواسطة خلفائه المعصومین علیهم السلام للناس وهذا هو العلم الصحیح الذی


1- الحقوق القابلة للانعطاف، تألیف کاربوینه، ص 18، نقلًا عن فلسفة الحقوق، ج 1، ص 416( بالفارسیّة).
2- فلسفة الحقوق، ج 1، ص 417( بالفارسیّة).

ص: 627

قدّمه أئمّة أهل البیت علیهم السلام عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله کما یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«حَدِیثی حَدِیثُ أبی، وحَدِیثُ أبی حَدِیثُ جَدِّی وحَدِیثُ جَدِّی حَدِیثُ الحُسَیْنِ وحَدِیثُ الحُسَینِ حَدِیثُ الحَسَنِ وحَدِیثُ الحَسَنِ حَدِیثُ أمیرِالمُؤمِنینَ علیه السلام وحَدِیثُ أمِیرِالمُؤمِنینَ حَدِیثُ رَسولِ اللَّه صلی الله علیه و آله وحَدِیثُ رَسولِ اللَّهِ قَولُ اللَّهِ عزَّ و جَلَّ»(1).

وکذلک عن الإمام نفسه علیه السلام أنّه قال:

«شَرِّقا وَغَرِّبا فَلا تَجِدانِ عِلْماً صَحِیحاً إلّاشَیْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنا أهْلِ البَیْتِ»(2)

وکذلک ما قاله فی جواب السائل الذی تصوّر أنّ الإمام کغیره من المجتهدین، حیث یتمثّل کلامه فی الاستنباط الظنّی، فقال::

«مَهْ، مَا أجَبْتُکَ فِیه مِنْ شَیْ ءٍ فَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّی اللَّهُ عَلَیهِ و آلِهِ، لَسْنا مِنْ: أَرَأَیْتَ فِی شَیْ ءٍ»(3).

***

المنابع والمصادر

1. تاریخ فلسفة السیاسة، بهاءالدین بازارجاد، انتشارات زوار، طهران، 1359.

2. تاریخ فلسفة الغرب، برتراندراسل، ترجمة نجف الدریابندری، نشر برواز، طهران، 1365 ش.

3. درآمدی بر حقوق اسلامی، نشر سازمان مطالعه و تدوین کتب علوم انسانی دانشگاهها (سمت)، طهران، الطبعة الأولی، 1368 ش (بالفارسیة).

4. سیر حکمت در اروبا، محمّد علی الفروغی، طهران، الطبعة الثانیة، 1317 ش.

5. فلسفة الحقوق، الدکتور ناصر کاتوزیان، شرکت سهامی انتشار، طهران، الطبعة الأولی، 1377 ش.

6. الفلسفة العامة أو ما بعد الطبیعة، بل فولکیه، ترجمة الدکتور یحیی المهدوی، مؤسّسة انتشارات و طبع جامعة طهران، 1347.

7. الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، دارصعب- دارالتعارف، بیروت، الطبعة الرابعة، 1401 ق.

8. کلیّات الحقوق، الدکتور ناصرکاتوزیان، شرکت سهامی انتشار، طهران، الطبعة الأولی، 1379 ش.

9. مقدّمة علم الحقوق، الدکتور ناصر کاتوزیان، انتشارات بهنشر، طهران، الطبعة التاسعة، 1367 ش.

10. مقدّمة عموم علم الحقوق، الدکتور محمّد جعفر جعفری اللنکرودی، مکتبة گنج دانش، طهران، 1362 ش.

11. النظریّة العامة للحقوق، بیل روبیه، باریس،yeriS ، 1957 م.

12. النظریة العامة للقانون، مصطفی محمّد الجمال وعبدالحمید محمّد الجمال.


1- الکافی، ج 1، ص 53.
2- المصدر السابق، ص 399.
3- المصدر السابق، ص 58.

ص: 628

ص: 629

فهرست الآیات

الفاتحة (1)

الآیه رقمها الصفحة

«مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ» 264

البقرة (2)

«مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهذا مثلًا» 37327

«هُوَ الَّذی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الارْضِ جَمیعاً» 36829

«وَلا تَتَّخِذُوا آیَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْکُرُوا نِعْمَةَ ...» 41231

«وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...» 62237

«اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ» 17843

«وَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّکَاةَ» 17843، 313

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُبْطِلُواصَدَقَاتِکُمْ ...» 40264

«یَاأَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ ...» 62178

«وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً» 12983

«مَا نَنسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَیْرٍ ...» 177106

«إِنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» 494124

«وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا ...» 168143

«وَ ما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتی کُنْتَ عَلَیْها ...» 386143

«إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَیِّنَاتِ ...» 165159

الآیه رقمها الصفحة

«کُلُوا مِمَّا فِی الْأَرْضِ حَلَالًا طَیِّباً» 265168

«وَأَنْ تَقُولُوا عَلَی اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» 482169

«فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَیْهِ» 207173

«کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَی ...» 331178

«وَلَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا اولِی الالْبابِ ...» 381179

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ ...» 175183، 329، 381

«فَمَنْ کَانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ عَلَی سَفَرٍ ...» 175184

«یُریدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُریدُ بِکُمُ الْعُسْرَ» 381185

«أُحِلَّ لَکُمْ لَیْلَةَ الصِّیَامِ الرَّفَثُ إِلَی نِسَائِکُمْ» 408187

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّی لَاتَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ ...» 269193

«یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ ...» 381219

«وَلَا تَنکِحُوا الْمُشْرِکَاتِ حَتَّی یُؤْمِنَّ» 90221

«فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَیثُ ...» 343222

«وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الْمَحِیضِ قُلْ هُوَ أَذیً ...» 340222

«والمُطلّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» 342228

«وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ...» 506231

«وَلَا تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ...» 41231

«وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَیْنِ ...» 241233

ص: 630

الآیه رقمها الصفحة

«حَافِظُوا عَلَی الصَّلَوَاتِ» 178238

«إِذْ قَالُوا لِنَبِیٍّ لَهُمُ ...» 493246

«وَقَالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ ...» 580247

«رَبِّ ارِنی کَیْفَ تُحیی الْمَوتَی 374260

«وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» 25275، 175، 259، 312، 452، 562

«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَیُعَلِّمُکُمْ اللَّهُ» 38282

«لَا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» 58286

آل عمران (3)

«مِنْهُ آیَاتٌ مُحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ ...» 1597

«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...» 1919

«لَا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ ...» 20728

«وَسَارِعُوا إِلَی مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّکُمْ وَجَنَّةٍ ...» 63133

«قال رَبِّ انّی یَکُونُ لی غُلامٌ ...» 37440

«قالَتْ رَبِّ انَّی یَکُونُ لی وَلَدٌ ...» 37447

«مُصَدِّقاً لِّمَا بَیْنَ یَدَیَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ...» 53750

«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ...» 38179

«وَلْتَکُنْ مِّنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ ...» 505104

«کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» 168110، 505

«لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَکْتُمُونَهُ» 165187

«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» 369191

النساء (4)

«یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلَادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ ...» 17511

الآیه رقمها الصفحة

«وَمَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُ ...» 2414، 35

«وَلَا تَنکِحُوا مَا نَکَحَ آبَاؤُکُمْ مِّنَ النِّسَاءِ ...» 34622

«فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فتَیَمَّمُوا» 19143

«حُرّمَتْ عَلَیکُم أُمَّهَاتُکُمْ وَبَنَاتُکُمْ ...» 34423

«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنّ ...» 33844

«وَآتَیْنَاهُم مُلْکاً عَظِیماً» 49354

«أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ ...» 16259، 214

«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ ...» 18059

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ ...» 50759، 510

«فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَایَکَادُونَ یَفْقَهُونَ ...» 1978

«لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» 46883

«وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ ...» 46983

«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ ...» 46883

«إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمْ ...» 39191

«وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ...» 31293

«لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاکَ اللَّهُ» 186105

«وَمَنْ یُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ...» 180115

«الصُّلْحُ خَیْرٌ» 452128

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوَّامِینَ بِالْقِسْطِ» 453135، 493

«لَنْ یَجْعَلَ اللَّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ ...» 455141، 496

«وَأَخْلَصُوا دِینَهُمْ للَّهِ» 26146

«فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِینَ هَادُوا حَرَّمْنَا ...» 381160

المائدة (5)

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 521، 129، 259، 320، 449، 450، 452، 532

ص: 631

الآیه رقمها الصفحة

«یأَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 5261

«أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعَامِ» 3291

«وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ» 1622

«الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ» 593، 436، 495، 498

«الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ ...» 1633، 210

«حُرِّمَت عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ ...» 2653، 453

«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا» 176385، 345

«إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ...» 1766، 178، 240، 339

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ ...» 2836

«وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ» 1616، 343

«ما یُریدُ اللَّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ ...» 3766

«وَإِنْ کُنتُمْ مَّرْضَی أَوْ عَلَی سَفَرٍ ...» 256، 346

«ما یُریدُ اللَّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ ...» 3766

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...» 389

«إنّما جزاءُ الذینَ یُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...» 34233

«إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِیهَا هُدیً وَنُورٌ ...» 33044

«وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا انَّ النفسَ ...» 6245، 331

«لِکُلٍّ جَعَلْنَا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً» 2748

«یَا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَیْکَ ...» 15567، 498

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَاتُحَرِّمُوا طَیِّبَاتِ مَا ...» 21587

«وَمَا عَلَی الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِینُ» 5399، 155

«وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا ...» 473104

الآیه رقمها الصفحة

الأنعام (6)

«وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِانذِرَکُمْ بِهِ ...» 5319، 435

«مَّا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَیْ ءٍ» 21238

«إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا للَّهِ ...» 15657

«انظُرْ کَیْفَ نُصَرِّفُ الْآیَاتِ لَعَلَّهُمْ یَفْقَهُونَ» 1965

«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِکْرَی لِلْعَالَمِینَ» 43590

«وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا» 15892

«وَهُوَ الَّذِی أَنشَأَکُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ...» 1998

«وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا ...» 1997

«قَدْ فَصَّلْنَا الْآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ» 1997

«وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِینَ» 435107

«وَلَا تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...» 324108

الأعراف (7)

«أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنی مِنْ نارٍ ...» 37212

«وَطَفِقَا یَخْصِفَانِ عَلَیْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» 25122

«حَتَّی لَاتَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ للَّهِ» 26139، 269

«إِذْ تَأْتِیهِمْ حِیتَانُهُمْ یَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» 27163

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...» 6396

«عَسَی رَبُّکُمْ أَنْ یُهْلِکَ عَدُوَّکُمْ ...» 494129

«فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَکَ یَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا» 194145

«یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنکَرِ ...» 206157

«قُلْ یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ ...» 435158، 496

ص: 632

الآیه رقمها الصفحة

الأنفال (8)

«إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ یَجْعَلْ لَّکُمْ فُرْقَاناً» 3829

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ ...» 28241، 452

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّةٍ» 45560

التوبة (9)

«لَا یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ ...» 2629

«اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ...» 47331، 474

«هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَی وَدِینِ ...» 2633

«وَمِنْهُمْ مَّنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقَاتِ ...» 16858

«کَالَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ کَانُوا أَشَدَّ مِنْکُمْ قُوَّةً ...» 44669

«وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَکْبَرُ» 3472

«لَا یَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ» 27979

«طُبِعَ عَلَی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَایَفْقَهُونَ» 1987

«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ ...» 58103

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَ ...» 58111

«فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ...» 34122، 468، 476

«لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ» 19122، 468، 472

«وَما کانَ المُؤمنونَ لِیَنفِرُوا کَافَّةً ...» 228122

یونس (10)

«قُلِ اللَّهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَی ...» 5735

«إِنَّ الظَّنَّ لَایُغْنِی مِنْ الحَقِّ شیئاً» 17136، 196، 319، 321، 442

«قُلْ مَا یَکُونُ لِی أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِی» 25615

الآیه رقمها الصفحة

هود (11)

«وَهُوَ الَّذی خَلَقَ السَّمواتِ وَالارْضَ فی ...» 3767

«قَالُوا یَا شُعَیْبُ مَا نَفْقَهُ کَثِیراً مِّمَّا تَقُولُ» 1891

«وَلَوْ شاءَ رَبُّکَ لَجَعَلَ النَّاسَ امَّةً واحِدَةً ...» 118- 379119

یوسف (12)

«إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا للَّهِ» 20640

الرعد (13)

«وَاللَّهُ یَحْکُمُ لَامُعَقِّبَ لِحُکْمِهِ» 15541

ابراهیم (14)

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ...» 534

الحجر (15)

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» 1599

النحل (16)

«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ ...» 22843، 483

«وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ...» 5344، 179

«فِیهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ» 25169

«وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَاناً ...» 5989، 496

«کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَهَا ...» 25192

«وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُکُمْ الْکَذِبَ ...» 155116

«وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَن» 481125

ص: 633

الآیه رقمها الصفحة

الاسراء (17)

«وَأَمْدَدْنَاکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ ...» 4376، 446

«فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا» 17723، 191، 392

«اوفوا بِالْعَهْدِ» 25934

«وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ ...» 17136، 463، 482

«وَإِنْ مِّنْ شَیْ ءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ...» 1944

الکهف (18)

«انَّا جَعَلْنا ما عَلَی الارْضِ زینَةً لَها ...» 3797

مریم (19)

«إِنَّ الَّذِینَ آمَنُواوَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَیَجْعَلُ ...» 3855

طه (20)

«اقِمِ الصَّلَاةَ لِذِکْری» 38114

«رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی ... یَفْقَهُوا قَوْلِی» 25- 1928

«رَبُّنَاالَّذِی أَعْطَی کُلَّ شَیْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَی» 2055020

الأنبیاء (21)

«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ» 4687، 483

«وَ ما خَلَقْنَا السَّمواتِ وَ الارْضَ وَمابَیْنَهُما ...» 37116

«لا یُسْئَلُ عَمَّا یَفْعَلُ وهُم یُسالُون» 37323

«قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَکُمْ» 48224

«وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ» 16427

«فَفَهَّمْنَاهَا سُلَیْمَانَ ...» 1778

الآیه رقمها الصفحة

«وَ ما ارْسَلْناکَ الَّا رَحْمَةً لِلْعالَمینَ» 376107

الحج (22)

«وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» 1067822، 161، 188، 240، 458

«الَّذِینَ إِنْ مَّکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقَامُوا ...» 50841

المؤمنون (23)

«وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ...» 4- 3396

«افَحَسِبْتُمْ انَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً» 369115

«افَحَسِبْتُمْ انَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً ...» 379115

النور (24)

«وَالَّذِینَ یَرمُونَ الُحصَناتِ ...» 4- 3435

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ ...» 49355

الشعراء (26)

«لَهَا شِرْبٌ وَلَکُمْ شِرْبُ یَوْمٍ مَّعْلُومٍ» 331155

قصص (28)

«وَنُرِیدُأَن نَّمُنَ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا ...» 493528

العنکبوت (29)

«إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ» 3445، 61

ص: 634

الآیه رقمها الصفحة

الروم (30)

«وَهُوَ الَّذِی یَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ ...» 19327

«فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللَّهِ ...» 5830

«لَا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ» 5930

الأحزاب (33)

«وَلکِن رَّسُولَ اللَّهِ ...» 49640

«وَاللَّهُ لَایَسْتَحْیِ مِنَ الْحَقِّ» 5753

«إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا ...» 47367

«لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...» 16721

«إنّما یُریدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ ...» 31433، 315

«مَا کَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّنْ رِّجَالِکُمْ ...» 43540

«لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» 49821

سبأ (34)

«وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلَّاکافَّةً لِلناسِ ...» 2828، 435

الفاطر (35)

«هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَیْرُ اللَّهِ یَرْزُقُکُمْ ...» 1553

«إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطیِّبُ وَالعَمَلُ ... 2410، 37

«إِنَّمَا یَخْشَی اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» 3428

یس (36)

«قَالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظَامَ وَهِیَ رَمِیمٌ ...» 78- 19279

الآیه رقمها الصفحة

ص (38)

«فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» 49126

«وَماخَلَقْنَا السَّماءَ وَالارْضَ وَما بَیْنَهُما ...» 37927

«یَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ ...» 41228، 491

«أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنی مِنْ نارٍ ...» 37276

الزمر (39)

«فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ...» 17- 19418

«وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ مِّنْ رَّبِّکُمْ» 19455

غافر (40)

«وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ ...» 4815

«مَا یُجَادِلُ فِی آیَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِینَ کَفَرُوا» 4814

فصلت (41)

«لَّا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَلَامِنْ خَلْفِهِ» 15942

الشوری (42)

«لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَی وَمَنْ حَوْلَهَا» 1587

«أَمْ لَهُمْ شُرَکَاؤُا شَرَعُوا لَهُمْ مِّنَ الدِّینِ مَالَمْ ...» 2721

«وَأَمْرُهُمْ شُورَی بَیْنَهُمْ» 25338

«شَرَعَ لَکُمْ مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّی بِهِ نُوحاً ...» 3613، 329

«کَبُرَ عَلَی الْمُشْرِکِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَیْهِ» 2613

«وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِیهِ مِنْ شَیْ ءٍ فَحُکْمُهُ ...» 17410

ص: 635

الآیه رقمها الصفحة

الزخرف (43)

«بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا ...» 47322، 479

الدخان (44)

«وَما خَلَقْنَا السَّمواتِ وَ الارْضَ وَ ما بَیْنَهُما ...» 37138

الجاثیة (45)

«ثُمَّ جَعَلْنَاکَ عَلَی شَرِیعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ» 2718

الاحقاف (46)

«وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً» 24115

«قالَ اِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُکُمْ مَّا ...» 15523

محمد (47)

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» 47919

الفتح (48)

«لَّقَدْ رَضِیَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبَایِعُونَکَ ...» 16818

الحجرات (49)

«إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ» 3913

«یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ ...» 51213

«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ...» 1686

«أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَی ...» 1746

الآیه رقمها الصفحة

الذاریات (51)

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ» 2356، 371، 376، 379

«وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالانْسَ الَّا لِیَعْبُدوُنِ» 56

النجم (53)

«إِنَّ الَّذِینَ لَایُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...» 28-/ 47927

«وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ ...» 3- 1624، 498

القمر (54)

«وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَیْنَهُمْ» 33128

الحدید (57)

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ ...» 49325، 516

الحشر (59)

«فَاعْتَبِرُوا یَا أُولِی الْأَبْصَارِ» 1922

«وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَی رَسُولِهِ مِنْهُمْ ...» 6- 3457

«وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ ...» 1627

«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِی صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ...» 2013

«کَی لا یَکون دُوْلَةً بَیْنَ الاغْنِیاءِ مِنْکُمْ» 3817

الممتحنة (60)

«وَلَا تُمْسِکُوا بِعِصَمِ الْکَوَافِرِ» 24010

ص: 636

الآیه رقمها الصفحة

الجمعة (62)

«هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا ...» 5072

الطلاق (65)

«وَمَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» 351

«وَأَشْهِدُوا ذَوَی عَدْلٍ مِنْکُمْ ...» 852، 312

«اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ سَبْعَ سَمواتٍ وَمِنَ الارْضِ ...» 37912

الملک (67)

«الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیاةَ لِیَبْلُوَکُمْ ...» 3792

نوح (71)

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ ...» 1071- 6312

«وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ» 44612

الجن (72)

«أَنَّ الْمَسَاجِدَ للَّهِ» 34518

المرسلات (77)

«انطَلِقُوا إِلَی ظِلٍّ ذِی ثَلَاثِ شُعَبٍ» 25130

الآیه رقمها الصفحة

الشمس (91)

«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَکَّاهَا» 249

«وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» 3810

العلق (96)

«إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَی* أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَی» 696- 517

البینة (33)

«مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ» 265

«رَّضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِکَ لِمَنْ ...» 348

النصر (110)

«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ...» 1861

الاخلاص (112)

«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» 1581

ص: 637

فهرس الأحادیث

الحدیث القائل الصفحة

ائتِ ابانَ بنَ تَغلبَ فانَّهُ قَدْسَمِعَ مِنّی ... الامام الصادق علیه السلام 239

اتاهُم رَسُولُ اللَّهِ بِمَا اکتَفَوا بِه ... الامام الکاظم علیه السلام 495

اجْلِسْ فی مَسْجِدِ المَدِینَةِ ... الامام الباقر علیه السلام 477

اجلس فی مسجد المَدِینَةِ وافْتِ النّاسَ ... الامام الباقر علیه السلام 106، 239

اذا ارادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَیْراً فَقَّهَهُ فِی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 23

اذا ارادَ اللَّهُ بعَبدٍ خَیراً فقَّهَه فی الدّین رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 35

إذا حکم الحاکم فاجتهد فأصاب فله أجران ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 310

إذا شرب الکلب فی إناء أحدکم فلیغسله ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 340

اذا قال الامام: سمع اللَّه لمن حمده ... الامام الصادق علیه السلام 333

إذا ماتَ المُؤمِنُ الفَقِیهُ ثُلِمَ فی الإسلامِ ... الامام الصادق علیه السلام 36

إذا ماتَ المُؤمِنُ الفَقِیهُ ثُلِمَ فی الإسلامِ ... الامام الصادق علیه السلام 24

اذا وَرَدَ عَلَیْکُم حَدِیثانِ مُخْتَلِفان ... الامام الصادق علیه السلام 242

أربَعةٌ نُجباءُ، أُمناءُاللَّهِ علی حَلالِه وحَرامِه ... الامام الصادق علیه السلام 106

الْإِسْلام یَعْلُو وَلا یُعْلی عَلَیْهِ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 455

اسْلِمْ تَسْلَم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 497

اشدّ الناس عذاباً یوم القیامة ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 337

أصحابی کالنّجومِ بأیّهِمُ اقتَدَیتُم اهتَدَیتُم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 168، 317، 484

اطِیعونی فِیما امَرْتُکُم بِه ... امیرالمؤمنین علیه السلام 382

اعْمَلوا فَکُلٌّ مُیَسَّرٌ لِما خُلِق لَهُ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 380

اغسلیه ان کان رطباً ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 347

أفضَلُ الفِقْه الوَرَعُ فِی دینِ اللَّه والعَملُ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 34

افٍّ لکُلِّ مُسلمٍ لا یَجعَل فی کُلّ جُمُعةٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 36

اقامَةُ الحُدودِ الی مَن الیهِ الحُکْمُ الامام الصادق علیه السلام 503

الحدیث القائل الصفحة

اقرار العقلاء علی انفسهم جائزرسول اللَّه صلی الله علیه و آله 302

الا أُخْبِرُکُم بِالفَقِیهِ حَقّ الفَقِیهِ؟ امیرالمؤمنین علیه السلام 23

الَا وقَد قَطَعْتُم قَیْدَ الاسْلامِ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 504

اللّهُمَّ ادِرِ الحَقَّ مَع علیٍّ حَیثُ داررسول اللَّه صلی الله علیه و آله 97

اللّهُمَّ انَّکَ تَعْلَمُ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 504

امّا بَعدُ! فأقِمْ للنّاسِ الحَجَّ وذَکِّرْهُم ... امیرالمؤمنین علیه السلام 239

اما واللَّهِ ما دَعَوْهُم الی عِبَادَةِ انْفُسِهِم ... الامام الصادق علیه السلام 474

انا دارُ الحِکمَةِ وعلیٌّ بابُهارسول اللَّه صلی الله علیه و آله 315

انَّ الامامَةَ اسَاسُ الإِسْلامِ ... الامام الرضا علیه السلام 511

ان الخمس عوننا علی دیننا وعلی عیالنا ... الامام الرضا علیه السلام 269

انَّ الفَقِیهَ حَقَّ الفَقیهِ الزاهِدُ فی الدُّنیا ... الامام الباقر علیه السلام 20

انّ اللَّه اذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 274

انّ اللَّه انزَلَ فِی القُرآنِ تِبْیانَ کُلِّ ... الامام الصادق علیه السلام 210، 242

انّ اللَّهَ تَبارکَ وتَعالی لَم یُبحْ اکْلًا وَ لا ... الامام الرضا علیه السلام 382

إنّ اللَّه تبارک وتعالی لم یَجْعَلْه لزمان دونَ ... الامام الصادق علیه السلام 265

انّ اللَّهَ تَبارکَ وتَعالی لَمْ یَخْلُقْ خَلْقَهُ ... الامام الصادق علیه السلام 380

إنّ اللَّه تَبارَک وتَعالی لَم یَدَع شَیئاً تَحتاجُ ... الامام الصادق علیه السلام 35، 528

انّ اللَّه تعالی نَدَبَنا لِسِیاسَةِ الامَّةِالمام الحسن علیه السلام 499

إنّ اللَّه عزّوجلّ خَلَقَ الجِنّ والإنْسَ لِیَعْبُدوه ... الامام الکاظم علیه السلام 380

انّ اللَّه عزّوجلّ ما خَلَق العِبادَ الّا ... الامام الحسین علیه السلام 33

إنّ اللَّه قضی الجهاد علی المؤمنین فی ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 186

انَّ اللَّهَ یُحِبُّ ان یُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ کَما ... امیرالمؤمنین علیه السلام 215

إنَ المؤمن أَخَذ دینه عن ربّه ولم یأخُذه ... امیرالمؤمنین علیه السلام 186

ص: 638

الحدیث القائل الصفحة

انّ المُؤمِنین الفُقهاءَ حُصونُ الاسلامِ الامام الکاظم علیه السلام 36

انا مدینة العلم وعلیٌّ بابُهارسول اللَّه صلی الله علیه و آله 315

انّ أُمّتی لا تَجتَمِعُ علی ضَلالَةٍرسول اللَّه صلی الله علیه و آله 180

انتِ علی مکانک وانتِ الی خیررسول اللَّه صلی الله علیه و آله 315

انّ حُسْنَ الخُلُقِ یُذِیبُ الخَطِیئةَ ... الامام الصادق علیه السلام 40

انّ دین اللَّه لا یُصابُ بالعقولِ الناقِصَةالامام الصادق علیه السلام 321

أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان فی زمان مقفر جرب ... الامام الصادق علیه السلام 271

ان شاء اهلها ان یقتلوه قتلوه ... الامام الصادق علیه السلام 331

ان شیعتنا من ذلک وآباءهم فی حلّ امیرالمؤمنین علیه السلام 269

انَّ فِی اخْبارِنَا مُتَشابِهاً کَمُتَشابِه ... الامام الرضا علیه السلام 241

إنّک لن یُتَقَبَّلَ مِن عَملِک إلّاما أخْلَصْتَ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 40

انَّکُم انْ فَعَلتُم ذلِکَ، قَطَعْتُم ارْحامَکُم رسول اللَّه 38319

مإنَّ لِکُلِّ شَی ءٍ دِعامةً ودِعامَةُ هذا الدِّین ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 24، 35

انَّ لِلوَلَدِ علی الوَالِدِ حَقّاً ... امیرالمؤمنین علیه السلام 506

انّ للَّهِ علی النّاسِ حُجَّتَیْنِ ... الامام الکاظم علیه السلام 187، 384

انَّما الفَقِیهُ، الزاهِدُ فی الدُّنیا، الراغبُ ... الامام الباقر علیه السلام 20

إنَّما امِرُوا بالصَّلاةِ علی المَیِّتِ لِیَشْفَعُوا ... الامام الرضا علیه السلام 384

إنَّما جُعِلَتِ الخُطْبَةُ لأنَّ الجُمُعَةَ مَشْهَدٌ ... الامام الرضا علیه السلام 509

إنَّما عَلَیْنا أنْ نُلْقِی إلَیکُم الأُصُولَ الامام الصادق علیه السلام 105، 239، 528

إنَّما فَرَضَ اللَّهُ الصِّیامَ لِیَسْتَوِی بِه الغَنِیُّ و ... الامام الصادق علیه السلام 384

انّما قال صلی الله علیه و آله ذلِکَ والدِّینُ قُلٌّ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 52، 269، 446

إنّما کان یَکفِیک أن تضرِبَ بیدَیک الأرضَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 333

انّما هو بمنزلة المخاط ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 347

انّما یغسل الثوب من خمس ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 347

إنَّ مَجارِی الأُمورِ والأحْکامِ علی أیْدِی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 469

انَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ کَعابِدِ وَثَنٍ ... الامام الباقر علیه السلام 383

انْ ولغ الکلب فی اناء احدکم فلیهرقه ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 341

أنْهاکَ عَن خَصْلَتَیْنِ فِیهِما هَلَک الرِّجالُ ... الامام الصادق علیه السلام 240

انّها من الطّوافین علیکم والطَّوّافاتِ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 383

انه لم یُجعَل شَی ءٌ الّا لِشَیْ ءٍالامام الصادق علیه السلام 365، 370

380، 382

إنّی تارِکٌ فِیکُمُ الثّقْلَینِ ما إنْ تَمَسَّکْتُم ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 211، 316

الحدیث القائل الصفحة

إنّی کنتُ إذا سألتُه أنبَأنی، واذا سکت ... امیرالمؤمنین علیه السلام 164

انّی مُخَلِّفُ فِیْکُم الثَّقَلَیْنِ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 442

أهل بَیتی کالنُّجوم بأیِّهِمُ اقتَدَیتم اهتَدَیتم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 168

إِیّاکُمْ وَالْمُثْلَةَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 436

ایُّها النّاسُ انَّ لِی عَلَیْکُمْ حَقّاً ... امیرالمؤمنین علیه السلام 507

ایها النّاسُ لا نَبِیَّ بَعْدِی وَلا سُنَّةٌ بَعدَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 496

أیُّها النّاسُ، واللَّهِ مَا مِنْ شَی ءٍ یُقَرِّبُکُم مِنَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 495

أَفْضَلُ العِبادَةِ الفِقهُ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 35

أَلا إنَّ الفَقِیهَ مَنْ أَفَاضَ عَلَی النَّاسَ خَیْرَه ... الامام الرضا علیه السلام 23

أَنَّهُ خَرَجَ حَاجّاً ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 392

بَلْ کُلُّ شَی ءٍ فی کتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ نَبیِّه الامام الکاظم علیه السلام 60، 242

بَیِّنَةٌ مِن رَبِّنا بَیَّنَها لِنَبِیِّه فَبَیَّنَها ... الامام الباقر علیه السلام 163

تَرِدُ علی أحَدِهِمُ القَضِیّةُ فی حکمٍ مِن ... امیرالمؤمنین علیه السلام 211

تَزَوَّجُوا فَإِنِّی مُکاثِرٌ بِکُمُ الْأُمَمَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 437

تَعمَلُ هذِه الامَّةُ بُرهةً بِکِتابِ اللَّه ثمّ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 193

تفقَّهوا فی الحلالِ والحَرامِ والّا فأنْتُم ... الامام الباقر علیه السلام 36

ثَلاثةٌ من لم تَکُن فیه لَم یَقُم له عَمَل ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 40

جامعوهنّ فی البیوت ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 343

جَمالُ السِّیاسَةِ العَدْلُ فی الامْرةِ امیر المؤمنین علیه السلام 492

حدثنی رسول اللَّه بألف حدیث یفتح کل ... امیرالمؤمنین علیه السلام 162

حَدیثٌ فی حَلالٍ وحَرامٍ تأخُذُه مِن صادقٍ ... الامام الصادق علیه السلام 36

حَدِیثی حَدِیثُ أبی، وحدیث أبی ... الامام الصادق علیه السلام 164، 314، 627

حدٌّ یُقامُ فی الْارْضِ ازْکی فِیْها ... الامام الباقر علیه السلام 504

حَرامُ مُحَمَّدٍ حَرامٌ الی یَوْمِ القِیَامَةِالامام الصادق علیه السلام 215

حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ أبَداً إلی یَومِ القِیامَةِ ... الامام الصادق علیه السلام 52، 272، 443، 531

الحَمْدُ للَّهِ الّذِی لَمْ یُخْرِجْنِی مِنَ الدُّنْیَا ... امیرالمؤمنین علیه السلام 495

خَلَق اللَّهُ الماءَطَهوراً لایُنَجِّسُه شَی ءٌ إلّا ... امیرالمؤمنین علیه السلام 29

رَحِم اللَّه امِرءاً علم من این وفی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 364

رَحِمَ اللَّهُ علیّاً ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 315

سألتُ اللَّهَ أن لا یَجْمَعَ أمَّتی علی ضَلالَةٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 180

سَلِ العُلَماءَ ما جَهِلْتَ ... الامام الصادق علیه السلام 469

ص: 639

الحدیث القائل الصفحة

شَرِّقا وَغَرِّبا فَلا تَجِدانِ عِلْماً صَحیحاً ... الامام الصادق علیه السلام 627

شُقَّتِی بَعِیدَةٌ ولَستُ اصِلُ الیک ... الامام الرضا علیه السلام 477

شهادة الصّبیان جائز بینهم ... امیرالمؤمنین علیه السلام 322

الصَّلاةُ قُربانُ کُلِّ تَقیِ الامام الرضا علیه السلام 61

صُومُوا تَصِحُّوارسول اللَّه صلی الله علیه و آله 385، 387

طَلَبُ العِلْمِ فرِیضَةٌ علی کُلِّ مُسلمٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 36

الطَّوافُ بالبَیتِ صَلاةٌرسول اللَّه صلی الله علیه و آله 176

طهور انائکم اذا ولغ فیه الکلب ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 340

عَثَرتُ فَانْقَطَعَ ظُفْری فَجَعَلتُ عَلی ... الامام الصادق علیه السلام 240

العَدْلُ اساسٌ بِه قِوامُ العالَم امیر المؤمنین علیه السلام 492

العقلُ دلیلُ المؤمن الامام الصادق علیه السلام 187

العقلُ ما عُبِد به الرّحمن ... الامام الصادق علیه السلام 187

علی الید ما اخذت حتّی تؤدّیه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 349

علیٌّ مع الحقُّ والحقُّ مع علیٍّ 315

عَلَیْنا القاءُ الاصولِ الَیکُم وعَلَیکُم ... الامام الصادق علیه السلام 239، 517، 528

غَیِّرُوا الشَّیْبَ وَ لا تَشَبَّهُوا بِالْیَهُودِرسول اللَّه صلی الله علیه و آله 52، 446

فاذا عَرَفوهُ عَبَدوه فاذا عَبَدوه ... الامام الحسین علیه السلام 33

فَأمّا مَنْ کانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناًلِنَفْسِه ... الامام العسکری علیه السلام 465، 469

فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِکارِ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 508

فانّا لانَعُدُّ الفَقِیهَ مِنْهُم فَقِیهاً حتّی ... الامام الصادق علیه السلام 23

فانْ وَجَدْتُمُوه لِلقُرآنِ مُوافِقاً فَخُذوا ... الامام الباقر علیه السلام 161

فانّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَیْکُمْ حاکِماًالامام الصادق علیه السلام 412

فَجَعَلَ اللَّهُ الایمانَ تَطْهِیراً لَکُم ... زهراء علیها السلام 383

فَجَعَلَ اللَّهُ الصَّلاةَ تَنزِیهاً لکُم عن الکِبْرزهراء علیها السلام 34

فَرَضَ اللَّهُ الایمانَ تَطْهِیراً مِنَ الشرکِ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 383

فَرَض اللَّهُ الصَّلاةَ تَنْزِیهاً عن الکِبْرِ والزَّکاةَ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 61

فَرَض اللَّه الصَّلاة تَنزِیهاً عن الکِبْر والصِّیامَ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 37

فزوروا القبور فانّها تذکّر بالموت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 325

فَضْلُ الفَقیهِ علی العابِد کفَضْلِ الشَّمْسِ ... الامام الرضا علیه السلام 23

الفُقَهاءُ قادَةٌ والجُلوسُ الیهِم عِبادَةٌ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 36

الفقه ثمّ المَتْجَرُ، فإنَّ مَنْ باعَ واشْتَری ... امیرالمؤمنین علیه السلام 22

الحدیث القائل الصفحة

الفَقیهُ کُلُّ الفَقیهِ مَن لَم یُقَنِّط النّاسَ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 20، 23، 24

فَقیهٌ واحِدٌ اشَدُّ علی ابلیسَ من الفِ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 36

فَلَوْ لَمْ یُکمِل سُنَّتَه وفَرائِضَه ... امیرالمؤمنین علیه السلام 495

فَهِمْتُ مَا ذَکَرْتُما ... الامام هادی علیه السلام 469

فی الابهام اذا قطع ثلث دیة الید ... الامام الصادق علیه السلام 335

فی الخیل السائمة فی کلّ فرس دیناررسول اللَّه صلی الله علیه و آله 336

القَاتِلُ لَایَرثُ مِمَّن قَتَلَه امیر المؤمنین علیه السلام 175

قال إبلیسُ: إذااستَمْکَنتُ من ابنِ آدَمَ فی ... الامام الصادق علیه السلام 40

قال اللَّه تَبَارَکَ وتَعالی: لأُعَذِّبَنَّ کُلَّ رعِیَّةٍ ... الامام الباقر علیه السلام 513

قال اللَّه عزّ وجلّ: انا خَیرُ شریکٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 40

کثرت علیَّ الکذّابة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 166

کفی بالمَرءِ فِقْهاً اذا عَبدَ اللَّه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 34

کُلُّکم راعٍ وکلُّکم مَسؤولٌ عن رعِیّتِه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 63

کَلِمَةُ حَقٍّ یُرادُ بِها باطِلٌ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 492

لَا اکَادُ اصِلُ الَیْکَ ... الامام الرضا علیه السلام 477

لا أکاد أصِلُ إلیک عن کلّ ما أحتاج إلیه ... الامام الرضا علیه السلام 106

لا بأس بذلک الیوم، إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إنّما ... امیرالمؤمنین علیه السلام 269

لا تُقسِروا اولادَکم علی آدابِکم فانّهم ... امیرالمؤمنین علیه السلام 271

لا تَکونُوا کَجُفاةِ الجاهِلیّةِ لا فِی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 36

لا رِبا بین الوالِدِ والوَلَدِ امیرالمؤمنین علیه السلام 176

لانَّهُ لمّا لَم یَکُنْ فی خلقِهم وقولِهم و ... الامام الرضا علیه السلام 34

لا یَفْقَهُ العَبْدُ کُلَّ الفِقْهِ حَتّی یَمْقُتَ ... معصوم علیه السلام 21

لا یقضی القاضی بین اثنین وهو غضبان رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 229

لَا یکونُ الرَّجُلُ مِنکُم فَقِیهاً حتّی ... الامام الصادق علیه السلام 23

لَا یَنْبَغِی نِکاحُ اهْلِ الکِتَابِ ... الامام الباقر علیه السلام 240

لسنا من: ارایت فی شی ءالامام الصادق علیه السلام 164

للمُؤمِنِ ثَلاثُ سَاعاتٍ: فَساعَةٌ یُناجِی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 66

لمّا بَعثَنی رسولُ اللَّهِ إلی الیَمن قال: ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 193

لمّا خلق اللَّه العقل ... قال: وعزّتی وجلالی ... الامام الباقر علیه السلام 187

لو أنّا حدّثنا برأینا ضَلَلنا کما ضَلّ مَن کان ... الامام الباقر علیه السلام 164

لو کان الدّینُ بالرأی لکانَ المَسحُ علی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 190

لولا ان اشُقَّ علی أُمّتی لأمرتُهُم بالسواک رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 184

ص: 640

الحدیث القائل الصفحة

لَوْ لَمْ یَبْقَ مِنَ الدُّنْیا الّا یَومٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 500

لَیْسَ ثَوابٌ عِندَ اللَّهِ سُبحانَهُ أعْظَمُ مِن ... امیرالمؤمنین علیه السلام 492

لیس شی ءٌ أَبعدُ من عقول الرّجال عن ... الامام الصادق علیه السلام 187

لَیْسَ شَی ءٌ مِمّا حَرَّم اللَّهُ الّا وقَدْ احَلَّهُ ... الامام الصادق علیه السلام 273، 458

لَیْسَ مِنّا مَنْ تَرَکَ دُنْیاهُ لآخِرَتِه ... الامام الصادق علیه السلام 66

لیسَ مِن عَملٍ یُقَرِّبُ الی الجنّةِ الّا ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 59، 241، 528

ما تَرک شَیْئاً یحتاج الَیهِ الامَّةُ الّا بَیَّنَهُ ... الامام الرضا علیه السلام 210

مَا خَلَقَ اللَّهُ حَلالًا ولا حَراماً إلّاولَهُ حَدٌّ ... الامام الصادق علیه السلام 241

ما عُبِد اللَّهُ تَعالی بِشَی ءٍ أفْضَلَ مِن الفِقْهِ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 24، 35

ما مِن أحَدٍ یَموتُ مِن المُؤمِنینَ أحَبُّ ... الامام الصادق علیه السلام 24

ما مِنْ شَی ءٍ الّا وفِیهِ کِتابٌ او سُنَّةٌالامام الصادق علیه السلام 59، 242

ما مِن شَی ءٍ یَحتاجُ الَیهِ وُلْدُ آدَمَ ... الامام الصادق علیه السلام 495

ما مِنْ شی ء یُقرّبُکُم إلی الجنَّةِ و یُباعِدکم من ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 163، 226

مَن احیا ارضاً مَواتاً فهی له رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 258

من استغنی بعقله زلّ امیر المؤمنین علیه السلام 187

مَن افْتی النَّاسَ بِغَیرِ عِلْمٍ ولا هدی ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 470

مَن حَفِظ عنّی أربعین حَدِیثاً من أحادِیثنا ... الامام الصادق علیه السلام 37

مَن حَفِظ مِن أُمّتی أربعینَ حَدِیثاً ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 37

مَن دانَ اللَّهَ بما لا یَعلَمُ فقَد ضادَّ اللَّهَ ... الامام الباقر علیه السلام 187

مَنْ دَانَ بِغَیرِ سَماعٍ الْزَمَهُ اللَّهُ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 474

مَنْ رَدَّ مُتَشابِهَ القُرآنِ إلی مُحْکَمِه... الامام الرضا علیه السلام 241

من صوّر التماثیل فقد ضادّ اللَّه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 337

مَنْ عَطَّلَ حَدّاً مِن حُدودِی فَقَد ... امیرالمؤمنین علیه السلام 504

مِنْ عَلاماتِ الفِقْهِ، الحِلْمُ، ... والصَّمْتُ الامام الرضا علیه السلام 21

مَنْ عَلَّمَ وَلَداً لَهُ القُرآنَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 465

مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ کَلامِه فیما لا یَعْنِیه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 21

مَن قال: لا اله الّا اللَّه فَلَن یَلِجَ مَلکوتَ ... الامام الباقر علیه السلام 38

مَنْ کُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَلِیٌّ مَوْلاهُ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 498

مَنْ لَمْ یَتَفَقَّهْ فِی دِیْنِهِ ثُمَّ اتَّجَرَ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 22

مَهْ، مَا اجَبْتُکَ فِیه مِنْ شَیْ ءٍ ... الامام الصادق علیه السلام 627

الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 449، 452 52، 320

الحدیث القائل الصفحة

نَعَمْ یَوْمَ اقَامَهُ للنّاسِ، نَصَبَه عَلَماً ... الامام الباقر علیه السلام 498

وَاجْلِسْ لَهُم العَصْرَیْن ... امیرالمؤمنین علیه السلام 469

واعْلَمُوا أنَّ رَأسَ طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ التَّسْلِیمِ ... الامام الرضا علیه السلام 386

والایمانُ دَعوی لا یَجوزُ الّا بِبَیِّنَةٍو ... الامام الصادق علیه السلام 39

والّذِی نَفْسِی بِیَدِهِ لَوْ انَّ رَجُلًا غَشِیَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 385

والصِّیامَ تثبیتاً للاخلاصِ الزهراء علیها السلام 34

واجلِسْ لهم العَصْرَیْن فأفْتِ المُستَفْتِی ... امیرالمؤمنین علیه السلام 105

وَحَرَّم اللَّهُ عزّوجلّ الدَّمَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 383

وکان الرأی من الرسول صلی الله علیه و آله صواباً ومن ... الامام الصادق علیه السلام 186

وَکُلُّ امرٍ یَکُونُ فِیهِ الفَسادُ ... الامام الصادق علیه السلام 383

وکلّ ما احدِّثک بهذا الاسنادالامام الباقر علیه السلام 165

ولا یؤدّی حقّه المجتهدون امیر المؤمنین علیه السلام 279

ولکِنَّ اللَّهَ سُبحانَهُ یُبْتَلَی خَلْقَهُ بِبَعْضَ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 386

ولن یَفتَرِقا حتّی یَرِدا علیَّ الحَوضَ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 315

وَمَن افتی النَّاسَ بِغَیرِ عِلْمٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 239

ومن الناسخ ما کان مثبتاً فی التوراة ... امیرالمؤمنین علیه السلام 331

وَیُمْکِنُ ان یَعُمَّ بِحَیثُ یَشْملُ الخَلْقَ ... الامام الصادق علیه السلام 380

هَل یَسألُ النّاسُ عن شَی ءٍ أفضَل من ... الامام الصادق علیه السلام 35، 36

یَا اباذَرّ اذا سُئِلْتَ عَنْ عِلْمٍ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 470

یا ایُّها النَّاسُ الَا انَّ رَبَّکُم واحِدٌ ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 512

یا ایُّها النّاسُ واللَّهِ مَا مِن شی ءٍ یُقَرِّبُکُم ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 210

یابَنِی عبد المُطلِّب ... فَایُّکُم یُبایِعنی ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 498

یا جابِرُ أیَکْتَفِی مَن ینتَحِلُ التشیُّعَ أن ... الامام الباقر علیه السلام 39

یا عِبادَ اللَّه أَنتُم کالمَرضی ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 382

یا مَعْشَرَ التُّجَّارٍ! الفِقْهُ ثُمَّ المَتْجَرُ ... امیرالمؤمنین علیه السلام 22

یا مَعْشَرَ الشَّبابِ! من استطاع ... رسول اللَّه صلی الله علیه و آله 383

یجری کما تَجری الشّمسُ والقمرالامام باقر علیه السلام 265

یُعرَف هذا واشباهه من کتاب اللَّه ... الامام الصادق علیه السلام 106

یَنْزِلُ بامَّتی فِی آخِرِ الزَّمانِ ... 500

ینظُر الی ما کان مِن روایتِهم عنّا فی ... الامام الصادق علیه السلام 172

ص: 641

فهرست انبیاء و المعصومین علیهم السلام

محمد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، 20، 21، 23، 24، 25، 33، 34، 36، 37، 39، 40، 42، 49، 52، 53، 59، 63، 64، 79، 95، 96، 97، 98، 99، 100، 101، 102، 113، 133، 138، 156، 157، 158، 159، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 178، 179، 180، 186، 187، 190، 193، 198، 199، 206، 210، 211، 215، 226، 228، 229، 230، 239، 241، 254، 256، 257، 266، 269، 270، 288، 295، 296، 298، 309، 314، 315، 316، 317، 325، 327، 329، 330، 332، 333، 335، 336، 337، 338، 340، 341، 345، 347، 352، 371، 372، 375، 380، 382، 383، 384، 385، 386، 388، 392، 414، 435، 437، 438، 441، 442، 443، 445، 446، 449، 450، 459، 464، 470، 472، 474، 476، 479، 482، 493، 495، 496، 497، 498، 499، 500، 503، 504، 507، 508، 509، 510، 512، 513، 516، 527، 528، 531، 532، 538، 627

الامام أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیها السلام، 7، 20، 22، 24، 37، 52، 60، 63، 66، 96، 97، 98، 99، 100، 101، 102، 103، 105، 129، 135، 164، 167، 169، 190، 211، 230، 239، 241، 266، 269، 270، 271، 295، 315، 316، 322، 331، 333، 336، 337، 364، 382، 386، 446، 465، 469، 476، 477، 492، 495، 497، 498، 504، 506، 507، 538، 627

فاطمة الزهراء علیها السلام، 34، 97، 315، 383

الامام المجتبی حسن بن علی علیه السلام، 97، 99، 164، 231، 266، 315، 346، 337، 499، 627

الامام سید الشهداء حسین بن علی علیه السلام، 97، 164، 231، 266، 315، 337، 499، 627

الامام علی بن الحسین السجاد علیه السلام، 101

الامام محمد الباقر علیه السلام، 20، 33، 36، 38، 39، 79، 88، 89، 99، 100، 101، 102، 105، 106، 137، 162، 164، 165، 231، 239، 240، 265، 269، 314، 383، 470، 477، 493، 498، 504، 513، 528

الامام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام، 21، 22، 35، 36، 37، 38، 39، 40، 59، 66، 78، 80، 97، 100، 102، 103، 105، 106، 137، 138، 139، 157، 164، 172، 187، 210، 231، 239، 240، 241، 242، 262، 265، 266، 269، 271، 314، 320، 331، 333، 335، 365، 370، 380، 382، 384، 465، 469، 474، 495، 503، 528، 627

الامام موسی بن جعفر الکاظم علیه السلام، 36، 59، 78، 103، 104، 164، 231، 242، 296، 495

الامام علی بن موسی الرضا علیه السلام، 34، 101، 104، 105، 106، 107، 210، 231، 239، 241، 269، 296، 382، 383، 384، 386، 387، 465، 469، 470، 477، 499، 509، 511، 528

ص: 642

الامام محمد بن علی الجواد علیه السلام، 104، 107

الامام علی بن محمّد التقی الهادی علیه السلام، 104، 107، 267، 469

الامام حسین بن علی العسکری علیه السلام، 105، 107، 101، 231، 465، 469

الامام الحجة بن الحسن العسکری علیه السلام، 105، 457

ادم علیه السلام، 251، 372، 555، 581

ابراهیم علیه السلام، 264، 374، 494، 555، 581

إسحاق علیه السلام، 555، 581

داود علیه السلام، 136، 191، 546، 550، 580

زکریا علیه السلام، 374

سلیمان علیه السلام، 546، 550

شعیب علیه السلام، 18

عیسی علیه السلام، 165، 166، 494، 535، 538، 537، 540، 541، 544، 545

مریم علیها السلام، 374

موسی علیه السلام، 556، 579، 580، 583، 584، 585، 586

نوح علیه السلام، 555، 581

یعقوب علیه السلام، 544، 555، 556، 579، 581، 583

یوسف علیه السلام، 546، 555، 556، 581، 583

یونس علیه السلام، 242

ص: 643

فهرس الأعلام

اباالأسود الدؤلی، 295

ابابکر الرازی، 174

ابا حنیفة، 182، 190

اباذر، 470

اباعبداللَّه العمانی، 109

اباعلیّ، 198

ابامحمّد، 99

ابان بن تغلب، 106، 241، 239، 334، 477

اباهاشم الجبّائی، 198

ابا یوسف، 328

ابراهیم بن داود، 569

ابراهیم بن محمّد بن ابی یحیی، ابو إسحاق، 231

ابراهیم بن محمّد بن ابی یحیی المدنی الأسلمی، 231

ابراهیم بن محمّد بن یحیی المدینی، 139

ابراهیم بن محمّد الثقفی، 231

ابراهیم بن موسی المالکی الشاطبی، 225

ابراهیم بن یزید بن قیس النخعی، 81، 134، 137، 334

السیّد إبراهیم القزوینی، 123

ابن ابی جمهور الإحسائی، 391

ابن ابی الحدید المعتزلی، 34، 383، 271، 508

ابن ابی طی الحلبی، 232

ابن الأثیر، 18، 110، 144، 498

ابن إدریس، 109، 114، 144، 171، 182، 234، 267، 342

ابن ادریس الکتانی، 497

ابن الإصبهانی، 231

ابن البرّاج الطرابلسی، القاضی عبدالعزیز الحلبی، 112، 171، 233، 234، 424، 525

ابن البزاز، حافظ الدّین محمّد، 145

ابن تیمیّة، 102، 147، 156، 179، 351، 471، 492

ابن جریح، 103

ابن الحاجب، 174، 407

ابن حبّان، 230، 239

ابن حجر، 134، 244

ابن حجر العسقلانی، احمد بن علی، 102، 145، 316، 480

ابن حجر الهیثمی، 103، 104، 316

ابن حزم الأندلسی، 133، 134، 136، 138، 168، 191، 192، 194، 210، 220، 244، 326، 372، 373، 402، 471، 472، 473، 493، 506

إبن حزم الأندلسی، 192

ابن خلدون، 77، 136، 138، 211، 492، 505، 618

ابن خلّکان، 102، 230

ابن داوود، 230

ابن رجب الحنبلی، 348

ابن الزبیر، 344

ابن زهرة، 171، 424

ابن زهرة الحلبی، 113

ص: 644

ابن السبکی، 300

ابن سریج، 483

ابن سعد، 96، 133، 135، 164

ابن سماعة، 190

ابن سیرین، 230، 346

ابن سینا، 486

ابن الصلاح، 223

السیّد ابن طاووس، 104

ابن عاشور، 26، 27، 169، 389، 390، 393

ابن عبّاس، 133، 134، 190، 315، 346، 347، 477

ابن عبد البرّ، 239، 244، 245

ابن عربی، 84

ابن العربی المعافری، ابوبکر محمّد بن عبداللَّه، 143

ابن عمر، 346

ابن فارس، 17، 279

ابن الفهد الحلّی، احمد بن محمّد بن فهد الحلّی، 115، 117

ابن قدامة الحنبلی، 178، 326، 328، 342، 428

ابن القیّم الجوزیة، 135، 147، 220، 244، 317، 471

ابن منظور، 279، 412

ابن میثم البحرانی، 371

ابن نجیم، 145، 349

ابن الندیم، 157، 231، 240

ابن واضح احمد بن ابی یعقوب، الیعقوبی، 134

ابن وهب، 230

ابواسحاق إبراهیم بن سیّار البصری المعتزلی، 351

ابوإسحاق إبراهیم بن موسی الشاطبی، 77، 168، 194، 243، 256، 317، 322، 374، 375، 389، 393، 409

ابوإسحاق الشیرازی، 268

ابوإسحاق المروزی، 18

ابوبکر احمد بن علیّ الجصّاص، 143

ابوبکر الباقّلانی، 178، 198، 209

ابوبکر الجصّاص، 317

ابوبکر الحضرمیّ، 271

ابوبکر الکاسانی، 211

ابوجعفر الطحاوی، 143

ابوجعفر محمّد بن الحسن بن علیّ الطوسیّ، 78، 110، 233

ابوجعفر محمّد بن علیّ الطوسی، ابن حمزة، 112، 233، 335

ابوحامد احمد بن بشر المروزی، 143

ابوحامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالی، 21، 41، 143، 174، 180، 194، 195، 209، 210، 268، 289، 293، 301، 317، 319، 320، 321، 327، 330، 349، 351، 376، 390، 428، 442، 466، 470، 473، 481، 485

آیة اللَّه السیّد ابوالحسن الأصفهانی، 125، 126، 128، 237

ابوالحسن عبیداللَّه الکرخیّ، 141، 317

ابوالحسن علی بن محمّد بن حبیب الماوردی، 78، 243

ابو الحسین الخیّاط، 174

ابو حفص، عمر بن محمّد بن احمد بن إسماعیل النسفی، 220

ابوحنیفة، 78، 103، 137، 138، 244، 320، 346

ابورافع، 100

ابوریّة، 503

الشیخ ابو زهرة، 85

ابوسلیمان داود بن علیّ بن خلف الظاهری، 136، 134، 326، 471

ابو سهل النوبختی، 296

ابو شعبة، 231

ابوطالب الیزدی، 79

ابوعبداللَّه، احمد بن حنبل بن هلال الشیبانی، 139

ابوعبداللَّه سفیان بن سعید الثوری، 136

ابو عبداللَّه محمّد بن ادریس بن عباس المطلّبی، 221

الشیخ ابوعلیّ الحائری، 122

ابوعلیّ الطوسی بن الشیخ الطوسی، 112

ابو علیّ محمّد بن احمد بن الجنید الإسکافیّ، 109

ابوعمرو عثمان بن سعید العمری، 107

ابوالفضل بن الحسن الطبرسی، 78، 105، 337، 498

آیة اللَّه السیّد ابوالقاسم الخوئی، 126، 128، 238

ص: 645

ابوالقاسم السمرقندی، 244

المیرزا ابوالقاسم القمّی، 123

ابومطیع البلخی، 190

ابوالمعالی عبدالملک بن عبداللَّه الجوینی، إمام الحرمین، 143

ابوالمقدام، 99

ابو المکارم حمزة بن علیّ بن ابی المحاسن، ابن زهرة، 113، 233، 424

ابومنصور الحسن بن یوسف الحلّی، 78

ابو موسی، 332

ابونصر، محمّد بن السائب بن بشر الکلبی، 157

ابو الوفاء، علیّ بن عقیل بن محمّد بن عقیل بن احمد البغدادی، 143

ابوهاشم داود بن قاسم الجعفری، 107

ابوالهذیل، 137

ابوهلال العسکری، 18

شیخ الإسلام ابویحیی زکریا بن محمّد الأنصاری، 145

ابو یوسف، 137، 190، 220، 267، 471

ابویوسف یعقوب بن إبراهیم بن حبیب الأنصاری، 41

ابی بصیر، 106، 239، 269، 465

ابی بکر، 48، 135، 317، 342

ابی بکر الباقلانی، 442

ابی بکر بن حزم، 98

ابی جحیفة، 100

ابی الحسن الأشعری، 183

ابی حمزة الثمالی، ثابت بن دینار، 334

ابی حنیفة، 21، 41، 87، 103، 134، 138، 139، 143، 147، 191، 194، 211، 220، 244، 267، 317، 318، 319، 326، 332، 333، 336، 342، 343، 348، 349، 353، 408، 471، 473

ابی خدیجة، 412

ابی الخطّاب، 167

ابی داوود، 500

ابی رافع، 101

ابی سعید الخدری، 316، 500

ابی عبداللَّه بن جلّاب، 110

ابی مطیع، 137

اجوست کنت، 600، 619

احمد، 331، 344، 346، 347، 352

احمد بن إسحاق الأشعری القمّی، 107

احمد بن الحسن بن احمد الکوذانی، 143

احمد بن حنبل، 136، 140، 147، 148، 192، 244، 267، 318، 348، 351، 471، 473، 483

احمد بن علی الطبرسی، 96، 113، 166

احمد بن فهد الحلّی الأسدی، ابن فهد، 234

الشیخ احمد بن متوّج البحرانی، 284

احمد بن محمّد ابی نصر البزنطی، 107

احمد بن محمّد الإردبیلی، المحقق الأردبیلی، 115، 116، 118، 144، 235، 254

احمد بن محمّد بن الحجّاج، 140

احمد بن محمّد بن علیّ بن حجر الهیثمی، 145

احمد بن محمّد بن عیسی الأشعری، 107

احمد بن محمّد الطحاوی، 78

احمد بن مفضّل الکوفی، 334

احمد بن موسی بن جعفر بن طاووس، 114

احمد جودت باشا، 146

آیة اللَّه السیّد احمد الخوانساری، 126

آیة اللَّه احمدی المیانجی، 100

الآخوند الخراسانی ل الشیخ محمّد کاظم الخراسانی

آیة اللَّه الأراکی، 125

المحقّق الاردبیلی ل احمد بن محمّد الأردبیلی

اردشیر درازدست، 587

استاملر، 597

استین، 604

اسحاق بن یعقوب، 105

اسحاق الفاسی، 552، 568، 569، 570، 571، 579

اسد بن فرات، 138

ص: 646

اسعدی مرتضی، 514

اسفندیار، 585

الإسکافی، 108، 118، 232

اسماعیل بن علیّ بن إسحاق، 296

اسماعیل بن یحیی، 139

اشر بن یحیئل، 570، 578

اشری، 571

الأشعری، 368

الشیخ اقا بزرگ الطهرانی، 157، 237

اقا ضیاءالدین العراقی، المحقّق العراقی، 125، 238، 289، 293

البرشت الت، 578

امام الحرمین، 268

الإمام الخمینی قدس سره، 47، 83، 125، 126، 128، 129، 130، 131، 132، 238، 255، 286، 287، 516

الإمام الشافعی، 244، 246، 268

امّ خالد العبدیة، 465

الآمدی، 195، 230، 317، 330، 351، 402، 468، 481، 482، 483، 484

امون، 588

امیل دورکایم، 619

امین الإسترابادی، 120

انتونی گیدنز، 69

اندریاس، 544

الشیخ الأنصاریّ، 125، 127، 238، 336، 406

المحقّق الأوّل ل نجم الدین جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الهذلی الحلّی

ایرینک، 601، 604

ایشماعل بن الیشاع، 566

ایّوب بن نوح، 107

ایّوب السجستانی، 103

باربارا روبرت، 69

باسکال، 599

المحدّث البحرانی، 296

بحر العلوم ل السیّد محمّد مهدی بن السیّد مرتضی الطباطبائی البروجردی

البخاری، 98، 100، 193، 315، 335، 427

بخت نصّر، 588

الدکتور بدران ابوالعینین، 85، 86، 89

برید، 36

برید بن معاویة العجلی، 106

البستانی، 103

بشیر المریسی، 190

البصری المعتزلی، 182

بطرس، 541، 542، 543، 544

بطلیموس، 49

بکر بن علاء القشیری، 143

بکر بن العلاء القشیری المالکی، 220

البلاغی، 158

بندیکت، 542، 544، 545

بوبکر احمد بن علیّ، الخطیب البغدادی، 335

بوفندروف، 597

بولس، 538، 539، 545، 544

بوند، 607

بوهمیل سینبال، 71

الشیخ بهاء الدّین محمّد بن الحسین عبدالصّمد العاملی الشیخ البهائی، 120، 121، 127، 235، 478

المحقّق البهبهانی ل العلّامة الوحید البهبهانی

بی ازر الشیرازی، 80

البیهقی، 241

تاج الدین ابونصر عبدالوهاب السُبکی، 376

الترمذی، 193

تقی الدّین ابوالحسن علیّ بن القاضی، 145

الشیخ تقی الدین، ابوعمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوری، ابن صلاح، 225

ص: 647

تیتوس، 588

جابر بن عبداللَّه الأنصاری، 33، 39، 99

جابر بن یزید الجعفی، 164، 165، 314، 334

جان استوارت میل، 604

جان جاک روسو، 598، 610

جان دیوی، 607

جبرئیل الأمین، 157

جرشوم، 568

جرمی بنتام، 602، 603، 604، 605

جروسیوس الهولندی، 597

جشتاسب، 585

الجصّاص، 180، 230

جعفر بن حرب، 191، 326

جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الحلّی، المحقّق الحلّی، 82، 109، 114، 115، 116، 117، 144، 183، 234، 236

الشیخ جعفر بن الشیخ خضر الجناحی النجفی، کاشف الغطاء، 122، 236، 237، 254

جعفر بن مبشّر، 191، 326

جعفر بن محمّد بن قولویه، 109

آیة اللَّه جعفر السبحانی، 263، 287

جلال الدین السیوطی، 98، 99، 145، 158، 193، 251، 315

السیّد جمال الدّین الأسدابادی، 146، 147

جمال الدّین بن الحسین الخوانساری، 120، 236

جمال عبدالناصر، 25، 83، 131، 136، 140، 477

جمیل بن درّاج، 370، 382

السیّد جواد العاملی، 123، 425

جون لوک، 597

جهمة بن الصلت، 503

حاتم الرازی، 239

الحارث بن عمرو، 193

الحافظ ابی نعیم، 162

الحافظ العراقی، 497

الحاکم النیسابوری، 59، 104

المیرزا حبیب اللَّه الرشتی، 124

حبیب بن ابی ثابت الأسدی الکاهلی، 334

الحجّاج بن یوسف الثقفی، 134، 338

الحجوی الثعالبی، 133

حذیفة، 496، 503

حزام بن عثمان، 334

حسن ابن زیاد اللؤلؤی، 220

حسن احمد مرعی، 246

الحسن البصری، الحسن بن ابی الحسن الیسار، 21، 135، 183، 331، 342، 344

حسن البنا، 79

الحسن بن الحسین بن بابویه، 233

الحسن بن زیاد، 137

الحسن بن زیاد اللؤلؤی، 220

حسن بن زین الدّین، صاحب المعالم، 116، 235

الحسن بن شعبة، 101

الحسن بن علیّ بن ابی عقیل العمانی، 108، 109، 232

الحسن بن محبوب، 231

الحسن بن منصور، 145

الحسن بن یوسف، 371

السیّد حسن الصدر، 230

الحسین بن جمال الدین محمّد، المحقّق الخراسانی، 236

الحسین بن روح، 108

الحسین بن سعید الأهوازی، 107

الحسین بن عبدالصمد الحارثی، 235

حسین السلیمانی، 568

حسین عزیزی، 334

السیّد حسین الکوه کمری، 124

العلّامة المیزرا حسین النوری، 230

الحصین بن المغیرة، 496

الحصین بن نمیر، 503

ص: 648

حفص بن غیاث، 503

المحقّق الثانی ل علیّ بن الحسین بن عبدالعالی العاملیّ الکرکیّ

حکم بن عتیبة، 99

حکم السرّاج، 271

العلّامة الحلّی، ابومنصور جمال الدین الحسن بن یوسف بن علیّ بن مطهّر الحلّی، 78، 109، 114، 115، 116، 120، 144، 178، 232، 234، 235، 254، 325

المحقّق الحلّی ل جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الحلّی

حمّاد، 59، 242

حمّاد بن ابی سلیمان الکوفیّ، 134، 137

حماد بن عثمان، 164، 314

حمّاد بن عیسی الجهنی، 334

حمران ابن اعین، 334

حیّون، 241

المحقّق الخراسانی ل الحسین بن جمال الدین محمّد

خضری بک، 144

الشیخ خضری بک، 98

الخطیب البغدادی، 137، 138

آیة اللَّه الخوئی، 107، 289

الخواجة نصیر الدین الطوسی، 370، 373

خیر الدّین المنیف الفاروقی، 145

الدئلی، 241

داود بن سموئیل هلوی، 553، 571

دورکیم، 619

دیوید ام. فلدمن، 568

الذهبی، 98، 102، 104، 106

رابُرت هوگوت جاکسون، 62

الرازی، 317

الراغب الاصفهانی، 18، 58، 279، 346، 407

الرافعی، 485

رامبام، 569، 587

راواحای کائون، 568

ربنوتام، 569

ربیع بن سلیمان بن عبدالجبار، 139

ربیعة بن سمیع، 100

ربیعة الرأی، ربیعة بن ابی عبداللَّه، 138

رواس طلعچی، 83

روبیه، 621

روسکو بوند، 607

ریبر، 601، 616، 622، 623، 624

الزبیر بن العوّام، 169، 335، 496، 503

زرارة، 21، 36، 106، 173، 239، 240، 269

الزرکشی، 18، 19

الزرکلی، 133، 134، 136، 138، 142، 220، 221

زفر بن هذیل بن قیس الکوفی، 137، 220

زکریا بن ادم، 107

الزمخشری، 493

الزهری، 87، 138

زید بن ارقم، 316

زید بن ثابت، 134، 342، 477

زین الدّین بن علیّ بن احمد العاملی، الشهید الثانی، 21، 115، 117، 144، 172، 225، 284، 289، 483، 525

زین العابدین المصری، 145

سان سیمون، 618

ساوینی، 600

آیة اللَّه الشیخ السبحانی، جعفر، 126

المحقّق السبزواری ل الملّا محمّد باقر بن محمّد المؤمن الخراسانی

سبط بن الجوزی، 104

سدید الدّین محمود بن علی الحمصی الرازی، 113

السرخسی، 193

سعدیا، 552

سعید بن جبیر، 134، 344، 477

سعید بن المسیّب، 134، 230، 342، 477

ص: 649

سعید بن هیثم الهلالی، 334

سفیان بن سعید الثوری، 103، 137، 138، 220، 244، 271، 327، 343، 471

سفیان بن عیینة الکوفی، 103

سقراط، 621

سلّار، 342

سلطان العلماء، 120

السلطان محمّد الفاتح، 145

سلمان الفارسی، 476

سلمة بن کهیل، 99

سلیمان ابن لوریا، 571

سلیمان بن إسحاق الراشی، 567، 568، 579

سلیمان بن صرد الخزاعی، 334

سلیمان بن هارون، 241

سلیمان کنز فرید، 571

سماعة، 59، 164، 242

سمرة، 215

سمرة بن جندب، 454

سموئیل، 583

سموئیل بن هوفنی، 552

سن توماس داکن، 596

سیّد المجاهد، 124

سیکستوس، 542، 545

الشافعی، 21، 22، 136، 139، 140، 142، 147، 157، 194، 221، 231، 267، 317، 318، 320، 321، 322، 326، 332، 338، 339، 342، 343، 344، 346، 348، 352، 368، 472، 504، 509، 510

الشافعی، ابی عبداللَّه، محمّد بن إدریس بن عبّاس بن عثمان بن شافع، 138

شاؤل/ طالوت، 583

شبتای بن مئیر هکوهن، 553، 571

شدّاد بن اوس، 21

شرف الدّین العاملی، 229

شرف الدّین الموسوی، 25

شریرا، 552

شریف العلماء المازندرانی، 124

شریک بن عبداللَّه بن سنان بن انس، 334

شریک بن عبداللَّه النخعی، 138

شعبة بن الحجّاج البصری، 103، 334

الشعبی، 346

الشلبی، 84، 85، 87، 133

الشیخ شلتوت، 84

شَمّای، 550، 551، 562، 584

شمس الأئمّة محمّد بن احمد السرخسی، 143

شمعون، 544، 583

شمعون قایرا، 568

شموئیل، 580

الشوکانی، 244، 317، 326، 464، 471، 472، 473، 480، 481، 500

الشهرستانی، 103، 298

الشهید الأوّل ل محمّد بن مکّی العاملی

الشهید الثانی ل زین الدّین بن علیّ بن احمد العاملی

الشیبانی محمّد بن الحسن، 328، 332، 343

الشیخ البهائی ل الشیخ بهاء الدّین محمّد بن الحسین عبدالصّمد العاملی

الشیخ الصدوق ل محمّد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی

الشیخ الطبرسی، 383، 403

الشیخ الطوسی ل شیخ الطّائفة محمّد بن الحسن الطوسی

الشیخ المفید ل محمّد بن محمّد بن النعمان

صاحب جواهر الکلام ل الشیخ محمّد حسن النجفی

صاحب المعالم، 22

صالح بن احمد بن حنبل، 140

الدکتور صبحی المحمصانی، 502

الصدر، السید حسن، 231، 233

ص: 650

الشهید المحقّق، آیة اللَّه السیّد الصدر، محمّد باقر، 47، 128، 130، 131، 215، 216، 415، 426، 501

صعصعة بن صوحان، 334، 465

صفوان بن یحیی البجلیّ، 231

صلاح الدین الأیّوبی، 112

طالوت، 580، 585

طاووس بن کیسان، 334

العلّامة الطباطبائی، صاحب المیزان، 19، 37، 38، 41، 286

الطبرسی، 171

الطحاوی، 194

طغرل بک، 112

طلحة، 169

الطوفی، 321

عائشة، 84، 133، 342، 347

عامر بن واثلة، 334

عبّاد بن عوام، 87

الشیخ عبّاس القمی، 104

عبدالأعلی، 106

عبدالأعلی مولی ال سام، 240

عبداللَّه بن احمد بن حنبل، 140

عبداللَّه بن ثعلبة بن ابی بصیر، 230

عبداللَّه بن جعفر الحمیری، 105، 107

عبداللَّه بن سنان، 331

الشیخ عبداللَّه بن صالح البحرانی، 297

عبداللَّه بن عباس، 137

عبداللَّه بن عدی، 24

عبداللَّه بن عطاء المکّی، 102

عبداللَّه بن عمر، 138، 342، 500

عبداللَّه بن المبارک بن واضح المروزی، 220، 221

عبداللَّه بن مسعود، 134، 137، 190، 194، 344، 346، 383، 477، 495

عبداللَّه بن وهب، 138

الشیخ عبداللَّه زید محمود، 88

عبدالرحمن الأوزاعی، 136، 220، 244، 341، 343، 471

عبدالرحمن بن ابی عبداللَّه، 242

عبدالرحمن بن الحجّاج، 187

عبدالرحمن بن رجب الحنبلی، 348

عبدالرحمن بن قاسم، 138

عبدالرحمن الجزیری، 78، 337، 429

عبدالعظیم الحسنی، 107

الشیخ عبد علی العروسیّ الحویزیّ، 121

آیة اللَّه الشیخ عبدالکریم الحائری الیزدی، 125، 126، 237، 238

الدکتور عبدالکریم النملة، 298

عبدالکریم النملة، 464، 468، 474

عبداللطیف عبداللَّه، 172

الشیخ عبدالمجید سلیم، 80، 82

عبد المطلب بن عبد مناف، 221، 498

عبدالملک بن عبدالحمید بن مهران، 140

عبدالملک بن مروان، 134

عبد مناف، 221

الدکتور عبدالوهاب ابوسلیمان، 89

عبدالوهاب ابوسلیمان، 88

عبدالوهاب عبدالسلام الطویلة، 342

عبدالوهّاب علیّ بن الکافی، 145

عبیداللَّه بن ابی رافع، 100

عبیداللَّه بن علیّ بن ابی شعبة، 231

عبیدة، 346

عثمان، 134، 342

عثمان البستی، 331

عثمان بن سعید الأهوازی، 107

عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوری، 225

عثمان بن عفان، 318

العِجْلی، 230

الشیخ عز الدین، 235

ص: 651

عزّ الدین عبدالسلام، 145

عزرا، 550، 582، 584، 585، 586، 588

عطاء، 137، 331، 346

عقبة بن عامر، 392

عقیوا، 551، 585، 586

علّال الفاسی، 389

علم الهدی، السیّد المرتضی، 78، 109، 110، 111، 171، 175، 232، 233، 284

علیّ ابن مهزیار، 107

علیّ بن ابی رافع، 100، 230

علیّ بن جعفر، 107

علی بن الحسین بن عبدالعالی الکرکی، المحقّق الثانی، المحقّق الکرکی، 115، 117، 144، 235، 254

علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، 108، 231، 232

الشیخ علی بن الشیخ جعفر کاشف الغطاء، 124

علیّ بن المسیب الهمدانی، 469

علی سایس، 80

السیّد علیّ الطباطبائی، 123

علی کریمی الجهرمی، 126، 238

العماد الحنبلی، 232

عمّار، 25، 333، 347

العُمانی، 108، 118

عمرام، 552

عمر بن الخطاب، 25، 98، 102، 133، 134، 135، 137، 190، 241، 342، 443

عمر بن حنظلة، 172، 173، 412

عمر بن عبدالعزیز، 98

عمرو بن میمون، 230، 552، 561

عیسی بن ابان، 175، 178

عیسی بن عمر، 17

غالیلو، 49

الفاضل الاصفهانی ل الشیخ محمّد بن الحسن بن محمّد الاصفهانی، الملقب ببهاء الدّین

الفاضل التونی، 120، 121

الفاضل المقداد، جمال الدین المقداد بن عبداللَّه السیوری الحلّی، 115، 116، 371، 391

الفاضل المقداد ل المقداد بن عبداللَّه بن محمّد بن الحسین بن محمّد السیوری الحلّی الأسدی

الفاضل الهندی، 120

الفتّال النیسابوری، 22

الفخر الرازی، 77، 97، 173، 180، 280، 282، 283، 285، 289، 290، 291، 293، 295، 299، 301

فخر المحقّقین محمّد ابن العلّامة الحلّی، 234

فردریک هیجل، 540، 610، 611، 612، 616

الفرید وجدی، 103

الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی، 112

الفضل بن شاذان النیسابوری، 107، 101، 387

الفضیل بن یسار، 162

الفیّومی، 279، 412

قابیل، 376

القاسم بن محمّد بن ابی بکر، 230

القاضی ابوبکر، 175

القاضی عبدالجبّار، 317

قاضی الکوفة، 138

قتادة، 346

قُثم بن العبّاس، 105، 239، 469

العلّامة القرافی، 256

العلّامة القرضاوی، 89

قطب الدین الراوندی، 113

قطب الدین سعید بن هبةاللَّه بن الحسن الراوندی، القطب الراوندی، 233

القطب الراوندی ل قطب الدین سعید بن هبة اللَّه بن الحسن الراوندی

القفّال، 268، 483

القلقشندی الشافعی، 338

ص: 652

المحقّق القمّی، 291

کابلان، 72

کاشف الغطاء ل جعفر بن الشیخ خضر الجناحی النجفی

کانت، 127

کبرنیک، 49

المحقّق الکرکی ل علیّ بن الحسین بن عبدالعالی العاملیّ الکرکیّ

الکشّی، 106

الشیخ الکلینی، 99، 101، 108، 212، 232

کوروش، 580، 585

کیفاس، 544

لبرشت الت، 558

اللیث، 142

لیث بن سعد الفهمی، 87، 136

لیث المرادی، 106

مئیر، 551، 585، 586

مارس بوازار، 81

مارکس، 611

المارکسیة، 213

مالک، 87، 98، 103، 136، 138، 139، 142، 147، 194، 195، 196، 230، 244، 268، 317، 320، 326، 342، 343، 344، 349

مالک الأشتر، 129

مالک بن انس بن ابی عامر الأصبحی، 102، 138، 139، 230، 267

مالک بن انس بن مالک المدنیّ، 244

المامون العباسی، 104، 499

المتّقی الهندی، 59

المتوکّل، 105

مجاهد، 342، 346

مجاهد، 344

مجد الدّین ابوالبرکات عبدالسّلام بن ابی القاسم ابن تیمیة، 143

العلّامة المجلسی ل العلّامة محمّد باقر المجلسیّ

آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم، 125، 128، 238، 483، 484

المحقّق العراقی ل اقا ضیاءالدین العراقی

الشیخ محمّد إبراهیم الکلباسی، 123

محمّد ابوزهرة، 194، 377، 388

المیرزا محمّد الإسترابادی، 117

محمّد امین الإسترابادی، 117، 118، 119، 235، 292، 295، 296

محمّد الأمین العبّاسی، 134

محمّد اورنیک زیب، 145

المحقّق آیة اللَّه السیّد محمّد باقر الصدر، 212

العلّامة محمّد باقر المجلسیّ، 119، 233، 239، 270، 365، 370، 380، 497

محمّد بخیت المطیعی، 317

محمّد بن إبراهیم ابن المنذر النیسابوری، 78

محمّد بن ابی عمیر، 242

محمّد بن احمد بن الجنید، ابوعلیّ، 232

محمّد بن احمد بن محمّد بن رشد القرطبی، 78، 143، 338، 375

محمّد بن إدریس الحلّی، 113، 233

محمّد بن إدریس الحنظلی المعروف بابن ابی حاتم، 241

محمّد بن إسماعیل بن بزیع، 107

محمّد بن جریر الطبری، 78، 136، 141، 174

محمّد بن الحسن، 220

محمّد بن حسن بن العربی بن محمّد الحجوی الثعالبی، 133

الشیخ محمّد بن الحسن بن محمّد الاصفهانی، الملقب ببهاء الدّین، الفاضل الاصفهانی، 236

محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، 119، 115، 234، 235، 313، 242، 474

محمّد بن الحسن الحلّی، ابن العلّامة الحلّی، 115

محمّد بن الحسن الشیبانی، 78، 137، 139

محمّد بن الحسن الصفّار، 107

شیخ الطّائفة محمّد بن الحسن الطوسی، 22، 36، 82، 96، 100، 101، 105، 108، 109، 110، 111، 112، 113، 114، 118، 127، 171، 233، 258، 267، 313، 337، 342، 348، 383، 424، 478، 503، 505، 509، 510

محمّد بن زید الطبری، 269

ص: 653

محمّد بن سعد بن احمد بن مسعود الیوبی، 389

محمّد بن عبداللَّه الإسکافی، 191، 326

محمّد بن عبدالرحمن ابن ابی لیلی، 135، 138

محمّد بن عبدالوهّاب، 147

محمّد بن عذافر الصیرفی، 99

محمّد بن عفیفی الباجوری، المعروف ب «الخضری»، 133

محمّد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، الشیخ الصدوق، 108، 100، 101، 162، 174، 232، 100، 101، 335، 385، 387، 389، 424

محمّد بن علیّ بن الحسین الموسوی العاملی، صاحب المدارک، 116

محمّد بن علیّ بن محمّد بن عبداللَّه المعروف بالشوکانی، 244

محمّد بن محمّد بن النعمان، الشیخ المفید، 96، 109، 110، 118، 232، 342، 510

محمّد بن مسلم، 21، 36، 106، 269

محمّد بن المعافی ابو جعفر، 231

محمّد بن مکّی العاملی، الشهید الأوّل، 115، 117، 144، 173، 183، 234، 254، 333، 370، 390، 425، 470

المیرزا محمّد تقی الحائری الشیرازی، 237

المیرزا محمّد تقی الشیرازی، المیرزا الثانی، 130، 237

محمّد تقی المجلسی (المجلسی الاول)، 119، 235

الشیخ محمّد جواد مغنیة، 78، 82

الشیخ محمّد حسن الآشتیانی، 124

الشیخ محمّد حسن بن الشیخ باقر النجفی، 236

الشیخ محمّد حسن النجفی، صاحب جواهر الکلام، 41، 120، 123، 124، 127، 132، 236

الشیخ محمّد حسین الاصفهانی، 125

آیة اللَّه محمّد حسین الطباطبائی البروجردی، 79، 80، 82، 97، 125، 237، 238، 255، 478

العلّامة السیّد محمّد حسین الطباطبائی، 125

المیرزا محمّد حسین النائینی، 125، 127، 130، 237، 238

الشیخ محمد خضری بک، 133، 141

محمّد خضری بک، 143

محمّد رشید رضا، 90

محمّد رضا الحکیمی، 146

آیة اللَّه السیّد محمّد رضا الکلبایکانی، 125، 126، 238

الشیخ محمّد رضا المظفر، 123، 125

الشیخ محمّد رضا الهمدانی، 124

الشیخ محمّد زکریا البردیسی، 87

محمّد سعید البانی، 245

السیّد محمّد العاملی، 351

الشیخ محمّد عبدالفتاح الغنائی، 223

الشیخ محمّد عبده، 147

الشیخ محمّد علی الکاظمی، 125

محمّد فرید وجدی، 147

الشیخ محمّد کاظم الخراسانی، 124، 125، 127، 130، 237، 238، 324، 417

آیة اللَّه السیّد محمّد کاظم الیزدی، 125، 127، 128، 237، 238

السیّد محمد الکلانتر، 237

السیّد محمّد المجاهد، 301

الشیخ محمّد محمّد المدنی، 80

محمّد محیی الدین، 87

محمد المراغی الکبیر، 80

محمّد مصطفی الزّرقاء، 256

محمّد مصطفی الشلبی، 132

محمّد المنتصر الکتانی، 97

السیّد محمّد مهدی بن السیّد مرتضی الطباطبائی البروجردی، بحرالعلوم، 111، 122، 232، 236

آیة اللَّه السیّد محمّد هادی المیلانی، 125

الشیخ محمود شلتوت، 78، 82، 83، 85، 97، 147، 353، 354

محمود شلتوت، 80

محیی الدّین بن شرف النووی، 64، 332

المدرس، 233، 236

الشیخ المراغی، 223

المراغی، 224

ص: 654

الشیخ مرتضی بن الشیخ محمّد امین، الشیخ الأنصاری، 124، 236، 324

آیة اللَّه المرعشی، 118

مسروق، 96

مسعدة بن صدقة، 187

المحقّق المشکینی، 285

مصطفی احمد الزرقا، 89، 133، 142، 145، 502

الشیخ مصطفی الزرقاء، 88

المطهّری، الشهید مرتضی المطهری، 129، 130، 131، 255، 270، 366، 371

المظفّر، 192، 272

معاذ بن جبل، 193، 330، 476

معاویة، 134، 169

معاویة بن قرّة، 500

معبد، 239

المعتصم العبّاسی، 104

المغیرة، 133

المغیرة بن سعید، 167

المغیرة بن شعبة، 496، 503

مفضّل بن مزید، 240

المقداد بن عبداللَّه بن محمّد بن الحسین بن محمّد السیوری الحلّی الأسدی، الفاضل المقداد، 234

المقدّس الاردبیلی ل احمد بن محمّد الأردبیلی

آیة اللَّه مکارم الشیرازی

الملّا احمد النراقی، 123، 124، 291، 303

الملّا محسن الفیض الکاشانی، 119

الملّا محمّد باقر بن محمّد المؤمن الخراسانی، المحقّق السبزواری، 116، 117، 118، 236

الملّا مهدی النراقی، 122، 286، 288

منتسکیو، 597

منصور الدوانیقی، 98

المنصور العباسیّ، 137، 138

موسی ایسرلس، 552، 571، 584، 587، 553

موسی بن بکر، 241

موسی بن میمون، 569، 570، 571، 576، 578، 587

الشیخ موسی الخوانساری، 125

مونتسکیو، 618

المیرزا الثانی ل المیرزا محمّد تقی الشیرازی

آیة اللَّه المیرزا خلیل الکمره ای، 82

المیرزا الشیرازی الکبیر ل المیرزا محمّد حسن الشیرازی

المیرزا القمّی، 123، 301، 478

المیرزا محمّد حسن الشیرازی، المیرزا الشیرازی الکبیر، 124، 130، 215، 237، 261، 453، 454، 457

میشنه تورا، 569، 570، 578، 587

نائلة علوبة، 88

المحقّق النائینی، 126

آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، 83، 116، 129، 130، 132، 131، 148، 188، 262، 324، 348، 438، 456

النجاشی، 99، 100، 109، 231، 232، 233، 240

النجاشی، ابوالعباس احمد بن علیّ بن عباس، 230

نجم الدین جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الهذلی الحلّی، المحقّق الأوّل، 234

نحمیا، 550، 582، 584، 585، 587، 588

النخعی، 344، 346

نظام الملک، 143

الدکتور النعیمی، 246

المحدّث النوری، 236

النووی، 181، 246، 485

واعظزادة الخراسانی، 157

العلّامة الوحید البهبهانی، المحقّق البهبهانی، 120، 121، 122، 123، 124، 126، 158، 284

وسلیمان جنرفرید، 553

وکیع بن الجرّاح، 220

الولید بن عبدالملک، 134

ص: 655

الولید بن عقبة، 168

وهبه الزُحیلی، 37، 88، 337، 256

ویلیام جیمز، 606، 607

هابیل، 376

هارت، 604، 605

هارون، 104

هارون الرشید، 137

هارون کیدانوور، 553

السیّد هاشم البحرانی، 121

هانس کلسن، 604، 607، 615، 617

الهروی، 18

هشام بن سالم، 164، 239

المحقّق الهمدانی، 127

هومز، 607

الهیثمی، 315

هیلل، 550، 551، 562، 573، 584، 588

الیافعی، 232

یحیی بن اکثم، 104، 105

یحیی بن سعید، 103

الشیخ یحیی بن سعید بن احمد بن یحیی بن الحسن بن سعید الهذلی، 234

یحیی النوری، 585

یزید الکناسیّ، 498

یعقوب بن إبراهیم الکوفی، 137

یعقوب بن اشر، 552، 570، 578، 584

یعقوب بن عبدالوهاب، 348

یعقوب بن میئر، 569

یوحنّا، 544

یوحنا بطرس غوری، 541

الشیخ یوسف البحرانی، 119، 120، 121، 123، 298، 313

یوسف بن یحیی، 139

یوسف حامد العالم، 389

یوسف قارو، 552، 553، 570، 571، 583، 584، 588

یوسف القرضاوی، 88

یوشع بن نون، 546، 583

یوشیا، 580، 588

یونس بن عبدالرحمن، 101، 106، 296، 470، 477

یهودا، 546، 583

یهودا هناسی، 551، 562، 584، 586، 587

یهودای بن نحمان، 568

ییشماع، 573

ص: 656

ص: 657

فهرس الطواف و القبائل و الفرق

آل أبی شعبة، 231

آل بویه، 112

الإباضیة، 471

ابی الصلاح، 335

الأحناف، 344

الأشاعرة ل الأشعریة

الأشعریة، 112، 117، 183، 210، 317، 330، 350، 364، 365، 366، 367، 370، 371، 372، 373، 374، 377، 378، 389، 390، 393، 480

الامامیة ل الشیعة

الأمویة، 138، 266

بنی اسرائیل، 376، 493، 537، 549، 550، 555، 556، 557، 558، 579، 580، 581، 582، 583، 585، 586، 588

بنی العبّاس، 103، 105، 106، 134، 138، 141، 499، 513

بنی امیّة، 106، 221، 336، 337، 499، 513

بنی هاشم، 102

الحنابلة ل الحنبلیة

الحنبلیة، 137، 140، 141، 143، 148، 192، 194، 319، 320، 323، 324، 331، 340، 343، 346، 347، 477

الحنفیة، 81، 83، 86، 87، 103، 134، 137، 138، 139، 141، 143، 145، 146، 148، 194، 211، 323، 325، 340، 343، 346، 347، 349، 377، 402، 418، 477، 509

الخوارج، 345، 465، 492

الزرادشتیة، 518

الزیدیّة، 194

السلفیین، 53

السنّة، 22، 41، 78، 80، 81، 82، 84، 85، 87، 88، 89، 95، 102، 104، 105، 111، 112، 117، 122، 131، 132، 133، 135، 137، 139، 140، 141، 142، 144، 146، 147، 155، 156، 158، 160، 163، 165، 166، 168، 169، 170، 171، 172، 174، 175، 178، 179، 180، 181، 182، 185، 190، 191، 193، 194، 195، 196، 198، 208، 209، 210، 211، 219، 224، 229، 230، 232، 241، 243، 245، 246، 255، 256، 261، 264، 272، 273، 280، 281، 283، 292، 298، 313، 314، 315، 316، 320، 321، 324، 325، 326، 327، 334، 336، 337، 338، 339، 340، 341، 342، 344، 345، 346، 348، 349، 350، 351، 352، 365، 367، 368، 369، 372، 373،

ص: 658

375، 376، 377، 378، 380، 382، 385، 388، 392، 393، 400، 402، 409، 414، 423، 427، 428، 429، 441، 442، 459، 463، 466، 468، 470، 471، 472، 477، 478، 479، 483، 485، 492، 498، 500، 501، 502، 504، 506، 509، 510، 528، 529، 530، 593

الشافعیة، 87، 137، 141، 319، 323، 325، 327، 329، 331، 340، 341، 343، 346، 347، 349، 351، 377، 402، 428، 477، 483

الشیعة، 22، 36، 41، 78، 79، 80، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 89، 90، 96، 97، 98، 101، 102، 103، 104، 105، 107، 108، 110، 111، 112، 113، 114، 115، 117، 119، 120، 122، 123، 124، 125، 126، 128، 129، 130، 131، 139، 147، 157، 158، 160، 161، 162، 163، 164، 166، 170، 171، 172، 173، 174، 175، 178، 181، 182، 186، 190، 194، 196، 209، 210، 211، 229، 230، 231، 232، 233، 234، 236، 237، 238، 254، 255، 261، 262، 272، 280، 281، 283، 292، 297، 311، 312، 313، 314، 316، 317، 319، 320، 321، 322، 323، 324، 325، 327، 329، 330، 331، 333، 334، 335، 336، 337، 338، 339، 340، 341، 342، 343، 344، 345، 346، 347، 348، 349، 350، 351، 352، 353، 354، 385، 390، 392، 393، 400، 402، 413، 414، 423، 427، 441، 442، 443، 466، 470، 471، 478، 483، 485، 486، 492، 500، 504، 509، 529، 530

الصفویّة، 117، 129

الصلیبیّین، 144

الصوفیّة، 53

الصهیونیة، 90، 554

الظاهریة، 136، 171، 191، 194، 298، 318، 326، 327، 339، 372، 377، 471، 473

العباسیة، 144، 221، 337

العثمانیون، 79، 137، 145، 146

العدلیة، 183

القاجاریة، 130

القدریة، 171

المالکیة، 83، 86، 87، 102، 133، 136، 137، 138، 139، 141، 143، 195، 323، 325، 329، 340، 341، 346، 347، 375، 402، 477، 504

المالکیّة، 331، 343

المرجئة، 39، 492

المسیحیة ل النصاری

المصوبّة، 209

المعتزلة، 174، 182، 191، 317، 326، 330، 351، 366، 367، 368، 372، 375، 442، 470، 480، 492

المغول، 144، 145

النصاری، 26، 54، 81، 90، 515، 516، 518، 519، 535، 538، 539، 540، 543، 544، 545، 546، 582، 598، 624

الوهابیة، 147، 148، 192

الیهود، 26، 90، 266، 329، 331، 386، 518، 538، 539، 544، 545، 546، 547، 549، 550، 551، 552، 553، 554، 555، 556، 558، 559، 560، 561، 562، 564، 565، 567، 568، 570، 571، 572، 573، 574، 575، 576، 577، 578، 579، 580، 581، 582، 583، 584، 585، 586، 587، 588

ص: 659

فهرس الأماکن و البلدان

آسیا، 70

آسیا الصغری، 589، 635

آسیا الصغری، 571

آسیا الوسطی، 137

آفریقا، 138

الأردن، 81، 83، 85، 83، 139

اروبا، 553، 627

ازبکستان، 72

اسبانیا، 72، 552، 569، 570، 571، 587

استرالیا، 625

إسرائیل، 261، 553، 554، 579، 580

إصفهان، 136

افریقیا، 136، 568، 579

افغانستان، 146

افیق، 580

اکد، 557

الألمان، 602، 610، 612

المانیا، 70، 571، 611، 616

الامارات، 81، 83، 85، 156

امریکا، 62، 69، 70، 71، 261، 604، 606، 607، 625

الأندلس، 136

اندنوسیا، 139

اورشلیم، 546، 550، 565، 579، 580، 581، 583، 585، 587، 588

اوروبا، 70

ایران، 64، 79، 80، 82، 117، 129، 130، 131، 146، 438، 447، 519، 585، 587

ایطالیا، 611

بابل، 551، 552، 557، 565، 568، 578، 580، 582، 586، 587، 588

البحرین، 138

البرتغال، 571

بریطانیا، 69، 130، 602، 606، 625

البصرة، 134، 139

ص: 660

بغداد، 108، 109، 110، 112، 136، 137، 139، 140، 144، 332، 470

بلاروسیا، 72

بولندا، 571

بیت المقدس، 177، 386

بین النهرین، 557، 558، 586

ترکیا، 137، 571

تونس، 79، 137

جامعة الأزهر، 80، 81، 82، 97، 147، 223

الجب، 583

جبعون، 583

جبل اوریا، 546

جبل سیناء، 549، 556، 557، 581

جزیرة العرب، 269، 519

الجیب، 583

الحجاز، 79، 117، 118، 140، 279

حلب، 112، 470

حمص، 193

الحیرة، 103، 303

خراسان، 109، 125، 139

دمشق، 79، 81، 544

دیکارت الفرنسی، 597

روسیا، 69، 70

رومرو، 569

ری، 108

الریاض، 246

سامراء، 124

السعودیة، 79، 83، 88، 89

سمرقند، 220، 367

السودان، 81

سوریة، 81، 83، 139

سومر، 557، 586

السوید، 69

شاطبة، 243

الشام، 78، 134، 136، 137، 139، 140، 271، 332

شوش، 587

شوکان، 244

شیکاغو، 607

شیلی، 70

صفد، 571

صفّین، 169

الصین، 518

الطائف، 163، 316

العراق، 82، 121، 130، 136، 137، 139، 237، 238، 267، 338، 465

فارس، 136، 269

فاس، 568، 579

فرنسا، 90، 518، 568، 569، 597، 599، 602، 606، 616، 618، 621، 623، 624، 626

فلسطین، 140، 546، 550، 551، 553، 554، 565، 571، 578، 579، 580، 583

القاهرة، 79، 87، 133، 147، 246

قرطبة، 569، 587

ص: 661

القسطنطنیة، 145

قطر، 81، 138، 140

قم، 80، 105، 108، 118، 125، 237، 238، 246، 478

کربلاء، 79، 121

الکعبة، 79، 177، 386

کنعان، 583

الکوفة، 78، 134، 136، 137، 139، 190، 231، 267، 333، 499

کولومبیا، 607

الکویت، 138، 220

لبنان، 85، 87، 139، 518

ماوراء النهر، 79، 139

المدینة، 78، 79، 98، 103، 117، 134، 138، 139، 163، 180، 181، 190، 230، 239، 244، 264، 267، 269، 316، 332، 333، 339، 341، 352، 353، 392، 476، 496، 497، 518، 573

المسجد الحرام، 79، 177

مصر، 72، 79، 80، 81، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 97، 112، 136، 137، 139، 143، 147، 224، 267، 332، 353، 549، 550، 555، 556، 581، 583

المغرب، 133، 243

مکّة، 79، 97، 105، 118، 134، 139، 180، 239، 246، 264، 269، 270، 339، 392، 438، 469

منی 89، 269

الموصل، 136

النجف، 79، 108، 110، 121، 124

النمسا، 72، 616

نیسابور، 143

هاروارد، 607

همدان، 146

الهند، 70، 139، 145، 446، 518، 574

هولندا، 81، 571

الیمن، 136، 137، 139، 193، 244، 330

الیونان، 574، 598

ص: 662

ص: 663

فهرس المصادر

فهرس المصادر(1)

1. معرفة الأدیان الکبیرة، حسین التوفیقی.

2. آلاء الرحمن فی تفسیر القرآن، الشیخ محمّدجواد البلاغی.

3. إبطال القیاس، ابن حزم الأندلسی.

4. إتحاف ذوی البصائر (شرح روضة الناظر) فی أصول الفقه، الدکتور عبدالکریم بن علی بن محمّد النملة.

5. الاتقان فی علوم القرآن، جلال الدین السیوطی.

6. أثر الاختلاف فی القواعد الأصولیة فی اختلاف الفقهاء، الدکتور مصطفی سعید الخُنّ.

7. الاجتهاد أصوله وأحکامه، محمّد بحرالعلوم.

8. الاجتهاد الجماعی، الدکتور شعبان محمّد إسماعیل.

9. الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیّة، الدکتور محمّد فوزی فیض اللَّه.

10. الاجتهاد فی الشریعة الإسلامیة، محمّد صالح موسی حسین.

11. الاجتهاد فی علم الحدیث وأثره فی الفقه الإسلامی، الدکتور علی نایف.

12. الاجتهاد والتقلید، الإمام الخمینی.

13. الاجتهاد والتقلید والاتباع والنظر، یحیی محمّد.

14. الاجتهاد والسیرة التاریخیة فی نظر أهل السنّة، أحمد نعمتی.

15. الاجتهاد ومقتضیات العصر، محمّد هشام الأیّوبی.

16. أجوبة المسائل، آیةاللَّه مکارم الشیرازی وآیة اللَّه جعفر السبحانی.

17. أجود التقریرات، آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی.

18. الاحتجاج، أبومنصور أحمد بن علی الطبرسی.

19. احقاق الحق، القاضی نوراللَّه التستری.

20. الأحکام السلطانیة، الماوردی.

21. الإحکام فی أصول الأحکام، الآمدی.

22. الإحکام فی أصول الأحکام، علی بن حزم الأندلسی.

23. أحکام القرآن، أبوبکر أحمد بن علی الرازی الجصّاص.

24. إحیاء العلوم، محمّد الغزالی.

25. الاختصاص للشیخ المفید.

26. الاختیار، الموصلی، بمساعی محمّد عدنان درویش.

27. أدوار علم الفقه وأطواره، الشیخ علی آل کاشف الغطاء.

28. الأدلة العقلیة وعلاقتها بالنقلیة، الدکتور محمّد سعید شحّاته.

29. الأدیان العالمیة الکبیرة، هاشم الرضی.

30. الإرشاد، محمّد بن نعمان (الشیخ المفید).

31. إرشاد الفحول إلی تحقیق الحق من علم الأصول، محمّد بن علی الشوکانی.

32. إرشاد النقاد إلی تیسیر الاجتهاد، محمّد بن إسماعیل الصنعانی.


1- من الجدیر بالذکر، یذکر هنا اسم الکتاب والمؤلّف فقط، وأمّا سائر الخصوصیات فقد وردت فی نهایة کلّ مقالة.

ص: 664

33. أسباب اختلاف الفقهاء، الدکتور عبداللَّه بن عبدالمحسن الترکی.

34. استفتاءات الجدیدة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی.

35. الاستیعاب فی معرفة الأصحاب، یوسف بن عبداللَّه بن محمّد بن عبدالبر القرطبی.

36. أسد الغابة، ابن الأثیر.

37. الإسلام سیاسة وعقیدة، ماکسیم رودنسون.

38. الإسلام ومقتضیات الزمان، العلّامة الشهید مرتضی المطهری.

39. الإصابة فی تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلانی.

40. اصطلاحات الاصول، آیة اللَّه علی المشکینی.

41. الاصطلاحات الفقهیّة فی الرسائل العملیة، الشیخ یاسین عیسی العاملی.

42. الأصول الإسلامیة منهجها وأبعادها، الدکتور رفیق العجم.

43. أصول الجصاص، أحمد بن علی الجصاص الرازی.

44. أصول السرخسی، محمّد بن أحمد بن أبی سهل السرخسی.

45. الأصول العامة للفقه المقارن، السیّد محمّدتقی الحکیم.

46. أصول الفقه الإسلامی، الدکتور وهبة الزحیلی.

47. أصول الفقه الإسلامی، محمّد مصطفی الشلبی.

48. أصول الفقه الإسلامی، محمّد أبوزهرة.

49. أصول الفقه، الشیخ محمّد الخضری.

50. أصول الفقه، الشیخ محمّدرضا المظفر.

51. أصول الفقه فی نسیجه الجدید، الدکتور مصطفی إبراهیم الزلمی.

52. أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الدکتور عبداللَّه بن عبدالمحسن الترکی.

53. أصول مذهب الشیعة الاثنی عشریة، الدکتور ناصر بن عبداللَّه بن علی القفاری.

54. أضواء علی السنّة المحمدیة، محمود أبوریة المصری.

55. الاعلام، خیر الدین الزرکلی.

56. أعلام الموقعین عن ربّ العالمین، ابن قیّم الجوزی.

57. أعلام النساء، عمر رضا الکحّالة.

58. أعلام الوری، فضل بن الحسن الطبرسی.

59. أعیان الشیعة، السیّد محسن الأمین.

60. اقتصادنا، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر.

61. الإقناع فی فقه الإمام أحمد، الشربینی.

62. الأمالی، الشیخ المفید.

63. الأمالی، محمّد بن الحسن الطوسی.

64. امل الآمل، محمّد بن حسین الحرّ العاملی.

65. الإمام الشافعی فی مذهبیه القدیم والجدید، الدکتور أحمد غراوی عبدالسلام.

66. الإمامة والسیاسة، ابن قتیبة الدینوری.

67. الانتصار، السیّد المرتضی علم الهدی.

68. انجیل لوقا.

69. انجیل متّی.

70. انجیل یوحنّا.

71. الأنساب، عبدالکریم بن محمّد السمعانی.

72. أنوارالاصول، أحمد القدسی، تقریرات درس آیة اللَّه مکارم الشیرازی.

73. الأنوار البهیّة، الحاج الشیخ عباس القمی.

74. أنوار الفقاهة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی.

75. أوائل المقالات، الشیخ المفید.

76. أهداف الدین فی نظر الشاطبی، أحمد الریسونی.

77. بحار الأنوار، العلّامة محمّد باقر المجلسی.

78. البحر الرائق، ابن نجیم.

79. البحر المحیط فی أصول الفقه، بدرالدین محمّد بن بهادر بن عبداللَّه الشافعی الزرکشی.

ص: 665

80. بحوث فی الاصول، تقریرات درس الشهید محمد باقر الصدر، السیّد محمود الهاشمی.

81. بدایع الصنایع فی ترتیب الشرائع، ملک العلماء أبوبکر بن مسعود.

82. بدایة المجتهد، ابن رشد القرطبی.

83. بدایة المعارف الإلهیة فی شرح عقائد الإمامیة، محسن الخرازی.

84. دراسة اجمالیة لمبانی الاقتصاد الاسلامی، العلّامة الشهید مرتضی المطهری.

85. البرهان القاطع، محمّد حسین خَلَف التبریزی.

86. بصائر الدرجات، أبوجعفر محمّد بن حسن بن فروخ الصفار القمی.

87. بلاغات النساء، أحمد بن أبی طاهر المعروف ب «ابن طیفور».

88. بلغة السالک لأقرب المسالک علی الشرح الصغیر، أحمد الصاوی.

89. البنایة فی شرح الهدایه، أبومحمّد العیننی.

90. البیان فی تفسیر القرآن، السیّد أبوالقاسم الخوئی.

91. بیدارگران اقالیم قبله، محمّد رضا الحکیمی.

92. التاج الجامع للاصول، الشیخ منصور ناصف.

93. تاج العروس، الزبیدی محمّد مرتضی.

94. تاریخ ابن خلدون، دارالکتاب اللبنانی.

95. تاریخ ابن عساکر.

96. تاریخ أسماء الثقات، عمربن أحمد أبوحفص الواعظ.

97. تاریخ بغداد، أبوبکر أحمد بن علی (الخطیب البغدادی).

98. تاریخ التشریع الإسلامی، الشیخ محمّد الخضری بک.

99. تاریخ حقوق کیفری بین النهرین، النجفی ابرندآبادی.

100. تاریخ الخلفاء، جلال الدین السیوطی.

101. تاریخ دمشق (تاریخ ابن عساکر)، أبوالقاسم علی بن الحسن.

102. تاریخ الطبری، محمّد بن جریر الطبری.

103. تاریخ الفقه الإسلامی، بدران أبوالعینین بدران.

104. تاریخ الفلسفة السیاسیة، بهاءالدین بازارجاد.

105. تاریخ فلسفة الغرب، برتراندراسل، ترجمة نجف دریابندری.

106. تاریخ قوم یهود، کلابرمن، جیلبرت ولیبی.

107. التاریخ الکبیر، البخاری، أبوعبداللَّه إسماعیل بن إبراهیم الجُعفی.

108. تاریخ الیعقوبی، ابن واضح أحمد بن أبی یعقوب (الیعقوبی).

109. تأسیس الشیعة، السیّد حسن الصدر.

110. تأویل مختلف الحدیث، عبداللَّه بن مسلم بن قتیبة.

111. التبیان فی تفسیر القرآن، الشیخ الطوسی.

112. تبیین الحقایق، عثمان بن علی، الزیعلی.

113. تجزیة وتحلیل لحیاة الإمام الشافعی، عبداللَّه أحمدیان.

114. تحریر تقریب التهذیب، الدکتور بشار عواد المعروف- ب (الشیخ شعیب ارنووط).

115. تحریر المجلة، کاشف الغطاء.

116. تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی قدس سره.

117. تحف العقول، الحسن بن علی بن شعبة.

118. التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، حسن المصطفوی.

119. تدریب الراوی فی شرح تقریب النواوی، جلال الدّین السیوطی.

120. تذکرة الحفاظ، شمس الدین محمّد بن أحمد الذهبی.

121. تذکرة الفقهاء، الحسن بن یوسف (العلّامة الحلّی).

122. التراتیب الاداریة، ابن إدریس الکتانی.

123. تعارض الأدلة الشرعیه، تقریرات درس آیةاللَّه السیّد محمّدباقر الصدر، السیّد محمود الهاشمی.

124. التعریفات، علی بن محمّد الجرجانی.

ص: 666

125. تعلیل الأحکام، الدکتور مصطفی الشلبی.

126. تفسیر آیات الأحکام من القرآن، محمّد علی الصابونی.

127. تفسیر ابن عاشور، محمّد الطاهر ابن عاشور.

128. تفسیر الأمثل، آیةاللَّه مکارم الشیرازی ومعاونوه.

129. تفسیر البرهان، السیّد هاشم البحرانی.

130. تفسیر البیضاوی، ناصرالدین أبوسعید عبداللَّه بن عمر بن محمّد الشیرازی البیضاوی.

131. تفسیر التبیان، محمّد بن الحسن (الشیخ الطوسی).

132. تفسیر الخازن، علی بن محمّد بن إبراهیم البغدادی.

133. تفسیر العیاشی، أبونصر محمّد بن مسعود بن عیّاش السمرقندی.

134. تفسیر القاسمی (محاسن التأویل)، محمّد جمال الدین القاسمی.

135. تفسیر القرآن بالقرآن عند العلّامة الطباطبائی، الدکتور خضیر جعفر.

136. تفسیر القرطبی (الجامع لأحکام القرآن)، محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی.

137. التفسیر الکبیر، الإمام الفخر الرازی.

138. التفسیر المنیر، الدکتور وهبة الزحیلی.

139. تفسیر المیزان، العلّامة السیّد محمّدحسین الطباطبائی.

140. تفسیر المراغی، أحمد مصطفی المراغی.

141. تفسیر نورالثقلین، عبد علی بن جمعة الحویزی.

142. تنقیح العروة الوثقی، علی غروی التبریزی.

143. تنقیح المقال، العلّامة الشیخ عبداللَّه المامقانی.

144. توحید الصدوق، أبوجعفر محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی.

145. تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی.

146. تهذیب الأصول، آیة اللَّه جعفر السبحانی، تقریرات درس الإمام الخمینی.

147. تهذیب التهذیب، ابن حجر العسقلانی.

148. الثقات، محمّد بن حبّان.

149. جامع أحادیث الشیعة، إسماعیل معزی الملایری.

150. جامع الرموز، القهستانی.

151. الجامع الصغیر، جلال الدین السیوطی.

152. جامع المقاصد (مقدّمة تحقیق)، المحقّق الکرکی.

153. الجاهلیّة والإسلام، العلّامة یحیی النوری.

154. جوامع الجامع، أبوعلی فضل بن الحسن الطبرسی.

155. جواهرالفقه، القاضی ابن براج، تحقیق إبراهیم البهادری.

156. جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی.

157. الجوهر النقی، ابن الترکمانی.

158. حاشیة رد المختار علی الدرّ المختار، ابن عابدین.

159. حجة اللَّه البالغة، شاه ولی اللَّه المحدث الدهلوی.

160. الحدائق الناضرة، الشیخ یوسف البحرانی.

161. الحقوق فی الإسلام، المجیدی خدوری وهربرت لیبسنی، ترجمة زین العابدین رهنما.

162. الخصائص، النسائی، تحقیق هادی الأمینی.

163. الخصال، الشیخ الصدوق.

164. الخلاف، الشیخ الطوسی.

165. دائرة المعارف الاسلامیة الشیعیة، حسن الامین.

166. دائرة المعارف بزرگ اسلامی، مرکز دائرة المعارف بزرگ اسلامی.

167. دائرة معارف البستانی، بطرس البستانی.

168. دائرة معارف القرن العشرین، محمّد فرید وجدی.

169. الدر المختار، علاءالدین الحصفکی.

170. الدرّ المنثور، جلال الدین السیوطی.

171. دراسات فی علم الأصول، تقریرات درس آیة اللَّه السیّد أبی القاسم الخوئی.

ص: 667

172. الدرایة فی علم مصطلح الحدیث، زین الدین العاملی (الشهید الثانی).

173. درر الأحکام، ملاخسرو.

174. الدرر النجفیة، الشیخ یوسف البحرانی.

175. در غرب چه می گذرد، السیّد منوچهر دبیر السیاقی (بالفارسیة).

176. دروس فی علم الأصول، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر.

177. دعائم الإسلام، نعمان بن محمّد.

178. دلیل السالک للمصطلحات والأسماء فی فقه مالک، الدکتور حمدی عبدالمنعم الشلبی.

179. ذخیرة المعاد، السبزواری.

180. الذریعة، العلّامة الشیخ آقا بزرگ الطهرانی.

181. ذکری الشیعة فی أحکام الشریعة، أبوعبداللَّه محمّد بن مکی العاملی.

182. الرجال، ابن داوود، (الحسن بن علی الحلّی).

183. رجال الکشی، (اختیار معرفة الرجال)، الکشی.

184. الرسائل، الإمام الخمینی.

185. رسائل فقهیة، الشیخ مرتضی الأنصاری.

186. الرسالة، الإمام الشافعی، تصحیح وشرح أحمد محمّد شاکر.

187. رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، عبدالوهاب السُبَکی.

188. روضات الجنات، محمّد بن باقر الخوانساری.

189. الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زین الدین العاملی (الشهید الثانی).

190. روضة الناظر، عبداللَّه بن أحمد بن قدامة.

191. روضة الواعظین، محمّد بن فتال النیسابوری.

192. ریاض العلماء، المیرزا عبداللَّه الأفندی الاصفهانی.

193. السرائر، ابن ادریس الحلی.

194. سفینة البحار، الشیخ عباس القمی.

195. سلم الوصول فی شرح نهایة السؤول، محمّد بخیت المطیعی.

196. سنن ابن ماجة، حافظ أبوعبداللَّه محمّد بن یزید القزوینی.

197. سنن أبی داود، سلیمان بن أشعث السجستانی.

198. سنن الترمذی، محمّد بن عیسی الترمذی.

199. سنن الدارقطنی، علی بن عمر الدارقطنی.

200. سنن الدارمی، عبداللَّه بن بهرام الدارمی.

201. السنن الکبری، حافظ أبوبکر أحمد بن حسین بن علی البیهقی.

202. سنن النسائی، أحمد بن شعیب النسائی.

203. سیر أعلام النبلاء، شمس الدین محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبی.

204. سیر الحکمة فی اوربا، محمّد علی الفروغی.

205. السیر فی فلسفة الأحکام، السید فضل اللَّه التهامی.

206. سیرة پیشوایان، مهدی پیشوائی.

207. سیمای فرزانگان، آیةاللَّه جعفر السبحانی (بالفارسیة).

208. الشافعی، حیاته وعصره، محمّد أبوزهرة.

209. الشافی فی الإمامة، السید المرتضی علم الهدی.

210. شذرات الذهب، أبوالفلاح عبدالحیّ ابن العماد الحنبلی.

211. شرائع الإسلام، المحقق الحلّی.

212. شرح الأزهار، أحمد المرتضی.

213. شرح التجرید، الحسن بن یوسف (العلّامة الحلّی).

214. شرح التهذیب، المحدّث الجزائری.

215. شرح جمع الجوامع، جلال الدین محمّد بن أحمد المحلّی.

216. شرح الصدور ببیان بدع الجنایز والقبور، عبداللَّه محمّد الحمادی.

ص: 668

217. الشرح الکبیر، عبدالرحمن بن أبی عمر محمّد بن أحمد بن قدامة.

218. شرح کفایة الأصول، علی محمّدی الخراسانی.

219. الشرح المختصر، الحاجبی.

220. شرح المعالم فی أصول الفقه لابن التلمسانی، عبداللَّه محمّد بن علی شرف الدین أبومحمّد الفهری المصری.

221. شرح المقاصد، التفتازانی، تحقیق الدکتور عبدالرحمن عمیرة.

222. شرح النووی، مسلم، محیی الدین النووی.

223. شرح نهج البلاغة، ابن أبی الحدید المعتزلی.

224. شریعة حمورابی واصل التشریع فی الشرق القدیم، جماعة من المؤلفین.

225. شمس الفقهاء، علی الکریمی الجهرمی.

226. صحاح اللغة، إسماعیل بن حماد الجوهری.

227. صحیح البخاری، أبوعبداللَّه محمّد بن إسماعیل البخاری.

228. صحیح الترمذی، أبوعیسی محمّد بن عیسی الترمذی.

229. صحیح مسلم، أبوالحسین مسلم بن حجّاج النیسابوری.

230. الصحیح من السیرة، السید جعفر مرتضی العاملی.

231. الصحیفة السجادیة، الإمام زین العابدین علیه السلام.

232. صحیفة الإمام، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی.

233. صحیفة النور، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی.

234. الصواعق المحرقة، ابن حجر هیتمی المالکی العسقلانی.

235. طبقات أعلام الشیعة، الشیخ آقابزرگ الطهرانی.

236. طبقات الفقهاء، آیة اللَّه جعفر السبحانی.

237. الطبقات الکبری محمّد بن سعد (ابن سعد).

238. عاشوراء الجذور، والأهداف والحوادث، سعید الداودی- مهدی رستم نژاد.

239. عدالة العقوبة فی الدیانة الیهودیة، حسین السلیمانی.

240. العدل الإلهی، الشهید العلّامة مرتضی المطهری.

241. عدّة الأصول، شیخ الطائفة أبوجعفر محمّد بن الحسن الطوسی.

242. عدّة الداعی، أحمد بن فهد الحلی.

243. العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الیزدی (مع حاشیة طائفة من مراجع الدین).

244. علل الشرائع، الشیخ الصدوق.

245. عنایة الأصول، السیّد مرتضی الحسینی، فیروزآبادی.

246. العهود المحمدیة، الشعرانی.

247. عوالی اللئالی، ابن أبی جمهور الاحسائی، تحقیق السیّد المرعشی ومجتبی العراقی.

248. عین الأصول، ملا أحمد النراقی.

249. عیون أخبار الرضا، الشیخ الصدوق.

250. عیون الحکم والمواعظ، علی بن محمّد لیث الواسطی.

251. الغدیر، الشیخ عبدالحسین الأمینی.

252. غررالحکم، کلمات أمیرالمؤمنین علیه السلام.

253. الغیبة، محمّد بن الحسن الطوسی.

254. الفتاوی، الشیخ محمود شلتوت.

255. الفتاوی الواضحة، الشهید محمّد باقر الصدر.

256. فتح الباری، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی.

257. فتح العزیز فی شرح الوجیز، عبدالکریم بن محمّد الرافض.

258. فتح القدیر، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی.

259. الفتح المبین فی طبقات الاصولیین، عبداللَّه مصطفی المراغی.

260. فتوح ابن اعثم، دارالندوة الجدیدة.

261. الفتوحات المکیّة، محیی الدّین العربی.

262. فرائد الأصول (رسائل)، الشیخ مرتضی الأنصاری.

ص: 669

263. الفروق اللغویة، أبوهلال العسکری.

264. الفصلیة، فقه أهل البیت، السنة الأولی العدد الأوّل.

265. الفصلیة، کتاب نقد، العدد 29 و 31.

266. الفصول المهمّة فی أصول الأئمّة، الشیخ الحر العاملی.

267. الفقه الإسلامی وأدلّته، الدکتور وهبة الزحیلی.

268. الفقه علی المذاهب الأربعة ومذهب أهل البیت علیهم السلام، السیّد محمّد الغروی والشیخ یاسر مازح.

269. الفکر السامی فی تاریخ الفقه الإسلامی، محمّد بن حسن حجوی الثعالبی.

270. فلسفة الحقوق، الدکتور ناصر کاتوزیان.

271. الفوائد الحائریة، محمّد باقر بن محمّد أکمل (وحید البهبهانی).

272. الفلسفة العامة أو ما بعد الطبیعة، بیل فولکیه، ترجمه الدکتور یحیی المهدوی.

273. الفهرست الشیخ الطوسی، محمّد بن الحسن الطوسی.

274. فوائد الأصول، میرزا محمّد حسین النائینی.

275. الفهرست، فی أخبار العلماء المصنفین من القدماء والمحدثین وأسماء کتبهم، محمّد بن اسحق الندیم.

276. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (حاشیة کتاب المستصفی)

277. قاعدة الفراغ والتجاوز، السیّد محمود الهاشمی.

278. قاموس الرجال، العلّامة الشیخ محمّد تقی التستری.

279. قاموس عمید، حسن عمید، مؤسّسة انتشارات أمیرکبیر، طهران.

280. قاموس الکتاب المقدّس، مسترهاکس.

281. قاموس لاروس، مؤسّسة انتشارات أمیرکبیر.

282. قاموس اللغة، فیروزآبادی.

283. قانون حمورابی، میک، تئوفیل، ترجمة کامیار العبدی.

284. القواعد، ابن لحام.

285. القواعد الفقهیّة، آیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی.

286. القواعد فی الفقه الإسلامی، أبوالفرج عبدالرحمن بن رجب.

287. القواعد والفوائد، محمّد بن مکّی (الشهید الأوّل).

288. قواعد المرام فی علم الکلام، ابن میثم البحرانی.

289. قوانین هیتیون، لائحة من آسیا الصغیری هافنر، هری، ترجمة فرناز أکبری الرومنی.

290. قوانین الأصول، آیة اللَّه المیرزا أبوالقاسم القمی.

291. القوانین الفقهیة، ابن جُزَیّ القرناطی.

292. القول المفید، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی.

293. الکافی، ابوجعفر محمّد بن یعقوب الکلینی.

294. الکامل فی التاریخ، ابن الأثیر.

295. کتاب الاعتصام، ابواسحاق ابراهیم بن موسی الشاطبی.

296. کتاب الامّ، الإمام الشافعی.

297. کتاب البیع، الإمام الخمینی.

298. کتاب مقدّس، به همت انجمن پخش کتب مقدّسه.

299. الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل و عیون الاقاویل فی وجوه التأویل، جاراللَّه محمود بن عمر الزمخشری.

300. کشف الارتیاب فی اتباع محمّد بن عبدالوهاب، السیّد محسن الأمین.

301. کشف الظنون عن اسامی الکتب و الفنون، ملا کاتب شلبی المعروف بالحاج خلیفة.

302. کشف الغطاء، الشیخ جعفر کاشف الغطاء.

303. کشف الغمة، علی بن عیسی الاربلی.

304. کشف اللثام، محمّد بن حسن الاصفهانی (فاضل هندی).

305. کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد، جمال الدین حسن بن یوسف بن علی بن مطهر (العلّامة الحلّی).

ص: 670

306. کفایة الاصول، آخوند الملا محمّد کاظم الخراسانی.

307. کلیات حقوق، الدکتور ناصر کاتوزیان.

308. الکنی و الألقاب، الشیخ عباس القمی.

309. کنز العرفان فی فقه القرآن، جمال الدین مقداد بن عبداللَّه السیوری.

310. کنزالعمّال، میر متّقی هندی.

311. کنز الفوائد، الإمام أبوالفتح الشیخ محمّد بن علی بن عثمان الکراجکی الطرابلسی.

312. کیهان اندیشه، رقم 29 (بالفارسیة).

313. کیهان فرهنگی (بالفارسیة).

314. گنجینه ای از تلمود، ا. کهن، راب، ترجمه امیر فریدون الجرجانی (بالفارسیة).

315. اللباب فی أصول الفقه، صفوان عدنان الداوودی.

316. لسان العرب، ابن منظور الأفریقی.

317. لسان المیزان، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی.

318. لغت نامه دهخدا، علی أکبر دهخدا.

319. اللوامع الإلهیة فی المباحث الکلامیة، فاضل مقداد.

320. مبادی الوصول الی علم الاصول، العلّامة الحلی.

321. المبسوط، شمس الدین السرخسی.

322. مجلة فقه.

323. مجلة فقه أهل البیت.

324. مجلّة نور العلم، جامعة المدرسّین الحوزة العلمیة قم.

325. مجمع البحرین الطریحی.

326. مجمع البیان، أبوعلی فضل بن الحسن الطبرسی.

327. مجمع الزوائد و منبع الفوائد، ابن حجر الهیثمی.

328. مجمع الفائدة و البرهان، المحقق الاردبیلی.

329. المجموع فی شرح المهذب، ابوزکریا النووی.

330. مجموعة الشرع الکَنَسی، تدوین وترجمة حنانیا الیاس کسّاب.

331. مجموعه فتاوی ابن تیمیه، تقی الدین أحمد بن تیمیة الحرّانی الدمشقی الحنبلی.

332. مجموعه مؤلفات الاستاذ الشهید العلّامة مرتضی المطهری رحمه الله.

333. مجموعه مقالات کنگره فاضلین نراقی، گروهی از نویسندگان.

334. المحجة البیضاء، ملا محسن الفیض الکاشانی.

335. المحصول فی علم أصول الفقه، فخرالدین محمّد بن عمر بن الحسین الرازی.

336. المحلی، ابن حزم الأندلسی.

337. مختصر اللاهوت الأدبی، یوحنا بطرس غوری.

338. مختصرالنافع، المحقّق الحلّی.

339. مختلف الشیعة، العلّامة الحلّی.

340. مدارک الأحکام، السیّد محمّد بن علی الموسوی العاملی.

341. المدخل الفقهی العام، محمّد مصطفی الزرقاء.

342. المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی، محمّد مصطفی الشلبی.

343. مرآة الاصول فی شرح مرقاة الوصول.

344. مرآة الجنان فی تاریخ مشاهیر الأعیان (تاریخ یافعی).

345. مرآة العقول، العلّامة محمّدباقر المجلسی.

346. المراجعات، السیّد شرف الدین العاملی.

347. مسالک الافهام، زین الدین بن علی العاملی (الشهید الثانی).

348. مستدرک الصحیحین، محمّد بن محمّد الحاکم النیسابوری.

349. مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری.

350. المستصفی، ابوحامد محمّد بن محمّد الغزالی.

351. مستمسک العروة الوثقی، السیّد محسن الحکیم.

352. مستند الشیعه، الملا أحمد النراقی.

353. مسند أحمد، أحمد بن حنبل.

ص: 671

354. مصباح الاصول، تقریرات درس أصول آیةاللَّه السید أبی القاسم الخوئی، بقلم السیّد محمّد سرور البهسودی.

355. مصباح الفقاهة، آیة اللَّه الخوئی.

356. مصباح الفقیه، الحاج رضا الهمدانی.

357. مصباح المنیر، أحمد بن محمّد الفیّومی.

358. المعالم الجدیده، الشهید السیّد محمّد باقر الصدر.

359. معالم الدین، ابومنصور جمال الدین حسن بن زین الدین (ابن الشهید الثانی).

360. معتبر، العلّامة الحلّی.

361. معترک الأقران، جلال الدین السیوطی.

362. المعتمد فی أصول الفقه، أبوالحسن البصری المعتزلی.

363. المعجم الاوسط، سلیمان بن أحمد الطبرانی.

364. معجم رجال الحدیث، آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی.

365. المعجم الصغیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی.

366. معجم فقه السلف، محمّد المنتصر الکتانی.

367. المعجم الکبیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی.

368. معجم المصطلحات والالفاظ الفقهیّه، محمود عبدالرحمن عبدالمنعم.

369. المعجم الوسیط، مجمع اللغة العربیة.

370. مغنی ابن قدامة، أبومحمّد عبداللَّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة.

371. المغنی و الشرح الکبیر، عبدالرحمن بن قدامة.

372. مفاتیح الأصول، السیّد محمّد مجاهد.

373. مفتاح دارالسعادة ومنشور ولایة العلم والارادة، ابن قیم الجوزیة.

374. مفتاح الکرامة، السیّد جواد العاملی.

375. المفردات، الراغب الاصفهانی.

376. مقائیس اللغة، أبوالحسین أحمد بن فارس.

377. مقدّمة ابن خلدون، ابن خلدون الاندلسی.

378. مقدمة علی الحقوق الإسلامیة، نشر سازمان مطالعه وتدوین کتب العلوم الإنسانیة دانشگاهها (سمت).

379. مقدمة علم الحقوق، الدکتور ناصر کاتوزیان.

380. مقدمة علم الحقوق، الدکتور محمّد جعفر الجعفری النگرودی.

381. مقدّمة مرآة العقول، السید مرتضی العسکری.

382. المقنعة، محمّد بن نعمان (الشیخ المفید).

383. مقیاس الهدایة فی علم الدرایة، الشیخ عبداللَّه المامقانی.

384. مکاتیب الرسول، آیة اللَّه أحمدی میانجی.

385. المکاسب، الشیخ مرتضی الأنصاری.

386. ملخص ابطال القیاس، سعید الافغانی.

387. الملل و النحل، عبدالکریم بن أبی بکر أحمد الشهرستانی.

388. منابع استنباط الحقوق الإسلامیة، الدکتور ابوالحسن المحمّدی.

389. من لا یحضره الفقیه، أبوجعفر محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی.

390. المنار، محمّد رشید رضا.

391. مناهل العرفان فی علوم القرآن، الشیخ محمّد عبدالعظیم الزرقانی.

392. المنتظم فی تاریخ الأمم والملوک، عبدالرحمن بن علی بن محمّد بن الجوزی.

393. منتهی الأصول، آیةاللَّه السیّد المیرزا حسین البجنوردی.

394. منتهی المطلب، العلّامة الحلّی.

395. منتهی المقال فی أحوال الرجال، أبوعلی الحائری (الشیخ محمّد بن اسماعیل المازندرانی).

396. المنثور فی القواعد، بدر الدین الکشی.

397. المنجد، لویس معلوف.

398. المنطق، محمّدرضا المظفر.

399. منع الموانع عن جمع الجوامع، عبدالوهاب بن علی السبکی.

ص: 672

400. منهاج السنة النبویة فی نقض کلام الشیعة والقدریة، أبوالعباس أحمد بن تیمیة الحرانی الدمشقی الحنبلی.

401. منهاج الصالحین، آیة اللَّه السیّد أبوالقاسم الخوئی.

402. منهاج الصالحین، السیّد محسن الحکیم مع تعلیقات الشهید السیّد محمّد باقر الصدر.

403. منیة الطالب فی شرح المکاسب، تقریرات آیة اللَّه المیرزا حسین النائینی.

404. منیة المرید، زین الدین العاملی (الشهید الثانی).

405. الموافقات، إبراهیم بن موسی الشاطبی.

406. الموسوعة الفقهیّه المیسّرة، الشیخ محمّد علی الأنصاری.

407. الموسوعة الفقهیة الکویتیة، وزارة الأوقاف الکویت.

408. موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمین، الدکتور رفیق العجم.

409. موسوعة الإمام الخوئی، تقریرات بحث آیة اللَّه السیّد أبی القاسم الخوئی.

410. موسوعة الفقه الإسلامی (موسوعة جمال عبدالناصر)، وزارة الأوقاف مصر.

411. موسوعة الفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامی.

412. موقف الرافضة فی القرآن، مامادوکا رامبیری.

413. مهذّب الأحکام، آیة اللَّه السیّد عبدالأعلی السبزواری.

414. المهذب، القاضی ابن البراج.

415. المهذب فی أصول الفقه المقارن، الدکتور عبدالکریم بن علی النملة.

416. میزان الاعتدال، أبوعبداللَّه محمّد بن أحمد الذهبی.

417. میزان الحکمة، محمّد ری شهری.

418. نصب الرایة، جمال الدین الزیلعی.

419. النص والاجتهاد، السیّد عبدالحسین شرف الدین العاملی.

420. نظرات فی أصول الفقه، الدکتور عمر سلیمان الأشقر.

421. النظریة العامة للقانون، مصطفی محمّد الجمال وعبدالحمید محمّد الجمال.

422. نفائس الأصول فی شرح المحصول، الإمام القرافی.

423. نفحات القرآن، آیة اللَّه مکارم الشیرازی ومعاونوه.

424. نقباء البشر، الشیخ آقابزرگ الطهرانی.

425. نهایة الأصول، تقریرات آیة اللَّه الحاج حسین البروجردی.

426. نهایة الأفکار، تقریرات درس أصول آیة اللَّه آقا ضیاء الدین العراقی.

427. نهایة الحکمة، العلّامة الطباطبائی.

428. النهایة فی غریب الحدیث والأثر، ابن الأثیر.

429. النهایة فی مجرد الفقه والفتوی، الشیخ الطوسی.

430. نهایة المحتاج إلی شرح المنهاج، شمس الدین محمّد بن أبی العباس أحمد بن حمزة.

431. نهایة الوصول إلی علم الأصول، العلّامة الحلّی.

432. نهج البلاغة (تحقیق الدکتور صبحی الصالح).

433. نهج الحق وکشف الصدق، الحسن بن یوسف (العلّامة الحلّی).

434. نیل الأوطار، محمّد بن علی بن محمّد الشوکانی.

435. نیل المأرب فی تهذیب شرح عمدة الطالب، آل بسّام.

436. الوجیز فی أصول التشریع الإسلامی، الدکتور محمّد حسین هیتو.

437. وسائل الشیعة، الشیخ الحرّ العاملی.

438. الوسیلة، ابن حمزة.

439. وسیلة الوسائل، السید محمّد باقر الیزدی.

440. وفیات الأعیان، ابن خلکان أبوالعباس أحمد بن محمّد.

441. هدایة الأبرار إلی طریق الأئمة الأطهار علیهم السلام، حسین بن شهاب الدین الکرکی العاملی.

442. ینابیع المودّه لذوی القربی علیهم السلام، سلیمان بن إبراهیم الحسینی البلخی القندوزی الحنفی .. 344.

ص: 673

Encyc lopaedia Judaice( EJ ).," Israel, Legaland Judicial System", A. F. L./ S. Lev v. Decennial Book) 3891- 2991 (, pp. 512- 81.

444.

A Beginner's Guide to the Steinsaltz Talmud, Abrams, Judith Z. Jason Aronson Inc, 9991.

544." Baraita",

EJ., B. D. V., v. 4, pp. 981- 39. 644." Savoraim",

EJ., D. S., v. 41, pp. 029- 12. 744. D. S.," Tanna, Tannaim",

EJ., v. 51, pp. 897- 308. 844.

The Cambridge History of Judaism, Davies, egdirbmaC, 2. v: ). de( nietslekniF siuoL dna. D. W University Press, 1 st published, 9891.

944. Do. L.," Israel, Legal and Judicial System",

EJ., v. 71, pp. 163- 3.

054. Ed.," Zugot",

EJ., v. 61, pp. 2321- 4. 154.

The Oxford Companion to the Bible, Ehrlich, Carl S.:" Law, Israelite Law", Bruce M.

Metzger and Michael D. Coogan( ed. ), Oxford University Press, New York, 3991.

, slov 17

, aciaduJ aideapo lcycnE. 254. Encycl opaedia Judaica Jerusalem, corrected ed., 6991( Peusd.:

EJ. ). 354.

Code of Jewish Law, Kitzur Shulh

anArukh Ganzfried, Rabbi Solomon: Translated by Hyman E. Goldin, LL. B., revised ed., Hebrew Publishing Company, New York, 1691.

454. H. E. Ba.," Israel, Legal and Judicial System",

EJ., v. 9, pp. 826- 55.

554.

Divine Command Ethics, Jewish and Christian Persp ectives, Harris, Michael J.:

Routledge Curzon, 1 st published, 3002.

654.

The Cambridge History of Judaism, Horbury, William and W. D. Davies, v. 3, Cambridge University Press, 1 st published, 9891.

754. I. T. S.," Rishonim",

EJ., v. 41, pp. 291- 3. 854.

Harper's Bible Dict ionary, J. U.:" Torah", Paul J. Achtemeir( ed. ), Harper San Francisco, 5891.

954.

Harper's Bible Dicti onary, J. U.:" Torah", Paul J. Achtemeir( ed. ), Harper San Francisco, 5891.

064. L. J.," Herme neutics",

EJ., v. 8, pp. 663- 27. 164. M. D. H.," Midreshei Halakhah",

EJ., v. 11, pp. 1251- 3.

264. M. D. H.," Tosefta",

EJ., v. 51, pp. 3821- 5. 364. M. D. H./ M. E.," Minhag",

EJ., v. 21, pp. 4- 52. 464. M. E.," Codification of Law",

EJ., v. 5, pp. 826- 656. 564. M. E.," Interp retation",

EJ., v. 8, pp. 3141- 92. 664. M. E.," Ma'aseh",

EJ., v. 11, pp. 146- 9. 764. M. E.," Mishpat Ivri"

EJ., v. 21, pp. 901- 15. 864. M. E.," Sevarah",

EJ., v. 41, pp. 5911- 8. 964. M. E.," Takkanot",

EJ., v. 51, pp. 217- 82. 074. M. Man.," Pharisees",

EJ., v. 31, pp. 363- 6. 174. M. Man.," Saducees",

EJ., v. 41, pp. 026- 22. 274.

Maimonides' Introdu ction to the Talmud, Maimonides: A Translation of the Rambam's Introduction to His Commentary on the Mishna, Translated by Zvi Lampel, the Judaica Press, Inc., U. S. A., revised ed., 8991.

374.

Maimonides' Introduction to the Talmud, Maimonides:

A Translation of the Rambam'sIntro duction to His Comm entary on the Mishna, Translated by Zvi Lampel, the Judaica Press, Inc., U. S. A., revised ed., 8991.

474. Mo. W./ L. I. R.," Pentateuch",

EJ., v. 31, pp. 132- 46. 574.

Comp aring Religions Through Law,

ص: 674

Judaism and Islam, Neusner, Jacob and TamaraSonn: Routledge, London and New York, 9991.

674.

Comparing Religions Through Law, Judaism and Islam, Neusner, Jacob and Tamara Sonn: Routledge, London and New York, 9991.

774. Sh. S.," Amoraim",

EJ., v. 2, pp. 568- 57. 874. Si. A./ J. Br.," Gaon",

EJ., v. 7, pp. 513- 81. 974. St. Sch./ Sa. B.," Noachide Laws",

EJ., v. 21, pp. 9811- 19.

084.

The Talmud, The Steinsaltz Edition, AReference Guide, Steinsaltz, Rabbi Adin: Random House, New York, 9891.

184.

The Talmud, The Steinsaltz Edition, AReference Guide, Steinsaltz, Rabbi Adin:

RandomHouse, New York, 9891.

284.

The Babylo nian Talmud, 81 vols, ed.: Rabbi Dr. J. Epstein, the Soncino Press, London, 5391- 2591.

384.

The Bab ylonian Talmud, 81 vols, ed.: Rabbi Dr. J. Epstein, the Soncino Press, London, 5391- 2591.

484.

The Jewish Bible TANAKH, the Jewish Publication Society, 5891.

584.

The Jewish Bible TANAKH, the Jewish Publication Society, 5891.

684. Y. D. G.," Soferim",

EJ., v. 51, pp. 97- 18. 784. Y. Ho.," Aharonim",

EJ., v. 71, pp. 531- 8 ..

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.